البداء: خصائصه وأهميته وكيفية وقوعه في أفعال الله

البداء: خصائصه وأهميته وكيفية وقوعه في أفعال الله

يُعتبر مفهوم البداء من الجوانب المحورية في مذهب أهل البيت (ع) ويثير جدلاً عميقاً بين الشيعة وأهل السنة، ويُفهم عادة على أن البداء تغيير تقدير الله تعالى بناءً على أفعال العباد، مما يثير تساؤلات حول صفات الله وعلمه الأزلي، وسنستعرض خصائص البداء، أهميته، معانيه اللغوية والعرفية، وكيفية وقوعه في أفعال الله، بالإضافة إلى توضيح الأسباب التي تدعو الله لتغيير تقديراته، كما سيتم تناول أمثلة واقعية من التاريخ لتوضيح هذه العقيدة وكيفية تجلّيها في الأحداث.

المبحث الأوّل: خصائص مسألة البداء

1ـ وقعت مسألة البداء موقع سوء الفهم عند أهل السنة، وفهم هؤلاء من البداء ما لم يقصده أتباع مذهب أهل البيت (ع)، ولهذا جعل هؤلاء مسألة البداء ذريعة لشنّ الهجمات ضدّ مذهب أهل البيت (ع).

2ـ أدّى الصراع العقائدي بين الشيعة ومخالفيهم حول مسألة البداء إلى اشتهار هذه المسألة، وتسليط المزيد من الأضواء عليها في الساحات العلمية وغير العلمية.

3ـ الأمر الباعث على الاستغراب حول مسألة البداء أنّها مسألة: يعتبرها أتباع مذهب أهل البيت (ع) من صميم الدين! ويعتبرها أتباع مذهب أهل السنة عقيدة هدّامة للدين!

4ـ أكّد أهل السنة على إنكار عقيدة البداء؛ لأنّهم ظنّوا بأنّها تستلزم اتّصاف الله تعالى بالجهل وخفاء الأمور عليه، ويعود هذا الظن إلى عدم فهمهم الصحيح لهذه المسألة، واكتفائهم بالمعنى اللغوي الظاهري لمصطلح البداء.

المبحث الثاني: أهمية الاعتقاد بالبداء

أكّد أئمة أهل البيت (ع) على أهمية الاعتقاد بالبداء أشدّ التأكيد بحيث ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع):

1ـ قال (ع): لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه[1].

2- وقال (ع): ما عُظِّم الله بمثل البداء[2].

3ـ وقال (ع): ما عُبد الله بشيء مثل البداء[3].

4ـ وقال (ع): ما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً حتّى أخذ عليه ثلاث خصال: أنّ الله يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء[4].

وسيتبيّن لاحقاً ـ بعد بيان معنى البداء ـ أسباب أهمية الاعتقاد بالبداء والفوائد المترتبة على الإيمان به.

المبحث الثالث: معنى البداء

معنى البداء[5] في الاصطلاح اللغوي: البداء يعني الظهور[6].

قال الشيخ الصدوق: البداء… هو ظهور أمر، يقول العرب: بدا لي شخص في طريقي، أي: ظهر[7].

قال الشيخ المفيد: الأصل في البداء هو الظهور[8].

قال الشيخ الطوسي: البداء حقيقة في اللغة هو الظهور[9].

المعنى اللغوي للبداء في آيات القرآن الكريم

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ[10]، أي: ظهر لهم.

ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ [11]، أي: ظهر لهم.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [12]، أي: يعلم ما تظهرون.

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [13]، أي: ظهر لهم.

فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا[14]، أي: ظهرت لهما.

معنى البداء في الاصطلاح العرفي

اكتسب البداء في الاستعمال العرفي معنىً آخر له صلة بالظهور، وهو كما أشار إليه الشيخ المفيد: إنّ لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقّب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة[15].

توضيح ذلك: يقال: بدا له.

ويُقصد: أراد أن يقوم بفعل معيّن، فظهر له أمراً دفعه إلى تغيير موقفه الذي كان يقصده فيما سبق.

وعلى ضوء هذا المعنى يكون المقصود من البداء المنسوب إلى الله هو: أن يقدّر الله شيئاً في المستقبل بالنسبة إلى العباد، فيصدر بعد ذلك من العباد شيئاً يدعو الله إلى تغيير ما قدّره لهم.

المبحث الرابع: بيان كيفية وقوع البداء في أفعال الله

إذا أراد الله وقوع فعل من أفعاله في المستقبل، فستتجلّى هذه الإرادة الإلهية في الواقع الخارجي على شكل تقدير، يتمّ تثبيته في لوح المحو والإثبات.

وبعد ذلك: توجد مرحلة بين ما قدّر الله وقوعه وبين تحقّق هذا التقدير وفي هذه المرحلة لا يلزم على الله أن يحقّق ما قدّر وقوعه، بل الله مخيّر بعد ذلك: بين تحقّق هذا التقدير، وبين عدم تحقّق هذا التقدير.

فإذا حقّق الله ما قدّره، وأبقاه على ما كان عليه، ولم يغيّره بتقدير آخر، سُمّي هذا الأمر بالإمضاء.

وإذا لم يحقّق الله ما قدّره، ولم يبقه على ما كان عليه، وغيّره بتقدير آخر، سُمّي هذا الأمر بالبداء.

بعبارة أخرى: الإمضاء، عبارة عن إبقاء التقدير الأوّل على ما كان عليه، وعدم استبداله بتقدير آخر، وإيصال التقدير الأوّل إلى مرحلة التنفيذ.

والبداء، عبارة عن عدم إبقاء التقدير الأوّل على ما كان عليه، بل استبداله بتقدير آخر، وإيصال التقدير الثاني إلى مرحلة التنفيذ.

فقوله تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [16].

يمحو الله ما يشاء، هو البداء، ويثبت، هو الإمضاء، وإذا أمضى الله شيئاً فلا بداء بعد ذلك.

إذ لا معنى بعد وقوع الفعل أن نقول بأنّ هذا الفعل هل سيقع أو لا يقع.

ولهذا قال الإمام علي الرضا (ع): فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء[17].

أسباب تغيير التقدير الإلهي إزاء العباد

لا يتعامل الله مع العباد وفق مشيئة أو إرادة محدّدة مسبقاً، أو قضاء وقدر غير قابل للتغيير، بل يتّخذ الله دائماً إزاء العباد المواقف المنسجمة مع المتطلّبات الجديدة.

وقد جعل الله لأفعال العباد الدور الكبير في كيفية تعامله معهم.

ومن هذا المنطلق يغيّر الله ما قدّره للعباد بموازات تغييرهم لسلوكهم وتصرّفاتهم.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [18].

مثال ذلك:

1ـ يشاء الله أن يرزق أحد العباد مالاً، فيقدّر له أن يحصل على هذا الرزق بعد يومين، وفي اليوم التالي يصدر من العبد فعلاً شيئاً، فيغيّر الله تعالى تقديره السابق وفق المتطلّبات الجديدة، ويقدّر حرمان هذا العبد من هذ الرزق أو يقدّر وصول هذا الرزق إلى هذا العبد بعد أربعة أيام.

2ـ يشاء الله أن ينزل البلاء على أحد العباد، فيقدّر أن يتحقّق نزول هذا البلاء بعد يومين، وفي اليوم التالي يتوسّل هذا العبد بالدعاء ويسأل الله أن يرحمه برحمته الواسعة، فيغيّر الله تبعاً لذلك ما قدّره لهذا العبد، ويستبدل تقديره السابق بتقدير جديد منسجم مع المتطلّبات الجديدة.

ولهذا: قال الإمام الصادق (ع): الدعاء يردّ القضاء بعد ما أُبرم إبراماً[19].

قال الإمام الرضا (ع): عليكم بالدعاء، فإنّ الدّعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلاّ إمضاؤه[20].

المبحث الخامس: أسباب التسمية بالبداء

الرأي الأوّل: نسبة البداء إلى الله نسبة مجازية.

والمقصود من البداء هو الإبداء بمعنى الإظهار، أي: يظهر من أفعال الله للعباد ما كان خافياً عنهم، وما لم يتوقّعوه، ولم يكن في حسبانهم لعدم اطّلاعهم على علله وأسبابه.

قال الشيخ المفيد: إنّ اللام في مقولة بدا لله بمعنى من، أي: بدا من الله للناس.

يقول العرب: قد بدا لفلان عمل حسن أو بدا له كلام فصيح، كما يقولون: بدا من فلان كذا، فيجعلون اللام مقام من.

فقولهم: بدا لله، أي: بدا من الله سبحانه.

قال الشيخ الطوسي: إنّ البداء في اللغة هو الظهور، فلا يمتنع أن يظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنّا نظن خلافه أو نعلم ولا نعلم شرطه.

يلاحظ عليه: هذا المعنى بحدّ ذاته صحيح.

ولكن يستبعد أن يكون هذا المعنى هو المقصود من البداء الذي اهتمّ به أئمة أهل البيت (ع)، وأكّدوا عليه أشدّ التأكيد، كما اتّضح من أحاديثهم الشريفة.

دليل ذلك: إنّ ظهور ما لم يتوقّعه العباد من الله شيء طبيعي، وذلك لقصور معرفة العباد وقلّة إلمامهم وعلمهم، وقد قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[21].

ويتبيّن من هنا بأنّ المعنى المقصود من البداء أرفع شأناً من هذا المعنى الذي لا يدل إلاّ على قلّة مستوى علم الإنسان بالأفعال الإلهية.

الرأي الثاني

البداء عبارة عن تغيير الله ما قدّره للعباد، وقد سمّي البداء بالبداء؛ لأنّ هذا التغيير لا يتحقّق إلاّ بعد أن يظهر لله تعالى في الواقع الخارجي أمراً من العباد يدعوه إلى هذا التغيّر في التعامل معهم. وسيتبيّن في المبحث اللاحق المقصود من الظهور لله تعالى.

المبحث السادس: المقصود من الظهور لله

معنى الظهور الذي لا يصح نسبته إلى الله تعالى: الظهور بعد الخفاء بمعنى العلم بعد الجهل.

دليل تنزيه الله تعالى عن هذا الظهور

يتضمّن هذا المعنى اتّصاف الله بالجهل، وخفاء الأمور عنه تعالى، وعدم معرفته بعواقب الأمور، ولكنّه عزّ وجلّ منزّه عن هذه الأمور، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو بكلّ شيء عليم.

قال الإمام الصادق (ع): ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له[22].

قال (ع): إنّ الله لم يُبد له من جهل[23].

قال (ع): ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له من جهل[24].

سُئل (ع): هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال (ع): لا، من قال هذا فأخزاه الله[25].

قال (ع): من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه[26].

قال (ع): من زعم أنّ الله بدا له في شيء بداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم[27].

معنى الظهور الذي يصح نسبته إلى الله

الظهور بعد الخفاء بمعنى أن يجد الله تحقّق الشيء في الواقع الخارجي بعد عدمه.

توضيح ذلك: ينقسم ظهور الأشياء لله إلى قسمين:

1ـ ظهور في مقام العلم الذاتي لله تعالى، وجميع الأشياء ـ على ضوء هذا المعنى ـ ظاهرة لله، ولا يمكن استثناء شيء منها.

2ـ ظهور في مقام العلم الفعلي لله تعالى، والعلم الفعلي عبارة عن ظهور الأشياء لله بعد تحقّقها في الواقع الخارجي.

والأشياء ـ على ضوء هذا المعنى ـ لا تكون ظاهرة لله في مقام الفعل إلاّ بعد تحقّقها في الواقع الخارجي، أمّا الأشياء التي لم توجد بعد، ولم يكن لها وجود في الواقع الخارجي فهي لا تتّصف بالظهور في مقام الفعل، بل لا معنى للقول بأنّها ظاهرة في مقام الفعل وهي بعد معدومة وليس لها وجود في الواقع الخارجي.

بعبارة أخرى: إنّ الأشياء الموجودة والمتحقّقة في الواقع الخارجي: يعلمها الله تعالى بالعلم الذاتي، ولها عنده تعالى ظهور في الواقع الخارجي.

إنّ الأشياء غير الموجودة والتي ستتحقّق في الواقع الخارجي، يعلمها الله تعالى بالعلم الذاتي، ولكن ليس لها عنده ظهور إلاّ بعد تحقّقها.

النتيجة: نستنتج من التقسيم الذي تمّ بيانه حول مصطلح الظهور بأنّ قولنا في البداء: ظهر لله كذا بعد أن لم يكن ظاهراً.

أي: وجد الله كذا في الواقع الخارجي بعد أن لم يجده.

مثال هذا الظهور في القرآن: قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [28].

أي: حتّى نعلم جهادكم موجوداً؛ لأنّ قبل وجود الجهاد لا يُعلم الجهاد موجوداً، وإنّما يُعلم كذلك بعد حصوله.

قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ[29].

أي: لنعلم ذلك في مقام الفعل وفي الواقع الخارجي، وإلاّ فالله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه الذاتي الأزلي.

وإنّما المقصود هنا هو العلم الفعلي الذي هو عبارة عن وجود وتحقّق الشيء في الواقع الخارجي.

المبحث السابع: أمثلة وقوع البداء لله

البداء الأوّل: رفع العذاب عن قوم يونس

قال تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ [30].

خطوات تحقق البداء الإلهي بالنسبة إلى قوم يونس

1ـ أرشد النبي يونس (ع) قومه إلى الهدى والإيمان.

2ـ أصرّ قوم يونس على الكفر والعصيان.

3ـ أيس النبي يونس (ع) من دعوة قومه، فطلب من الله أن ينزل عليهم العذاب.

4ـ استجاب الله دعاء النبي يونس (ع) على قومه.

5ـ قضى الله قضاءً غير حتمياً بإنزال العذاب على قوم يونس (ع).

6- أخبر الله النبي يونس (ع) بأنّه سينزل على قومه العذاب في يوم كذا.

7- أخبر النبي يونس (ع) قومه بتعلّق الإرادة الإلهية بإنزال العذاب عليهم في يوم كذا.

8- خرج النبي يونس(ع) في اليوم المحدّد من المنطقة التي يسكنها قومه.

9- ظهرت آثار نزول العذاب الإلهي على قوم يونس (ع) في الوقت المحدّد.

10- ندم قوم يونس (ع) على عصيانهم لله، فتابوا وفزعوا إلى الله تعالى.

11- ظهر لله في الواقع الخارجي ندم وتوبة قوم يونس (ع) واستغاثتهم به لرفع العذاب.

12ـ غيّر الله ما قدّره من العذاب على قوم يونس (ع) بعد توبتهم.

13- محا الله تقديره الأوّل بإنزال العذاب على قوم يونس (ع) واستبدله بتقدير آخر.

14ـ كان التقدير الإلهي الثاني أن يرفع عنهم العذاب ويمتّعهم إلى حين.

15ـ وهنا وقع البداء، وكذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب.

البداء الثاني: بداء آخر بالنسبة إلى النبي يونس

قال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ[31].

خطوات تحقّق هذا البداء

1ـ استاء النبي يونس (ع) لعدم نزول العذاب على قومه، فلم يرجع إليهم.

2ـ قدّر الله وقضى أن تبلع الحوت النبي يونس (ع)، وأن يلبث في بطنها إلى يوم القيامة.

3ـ أكثر النبي يونس (ع) في بطن الحوت من ذكر الله وتسبيحه.

4ـ ظهر لله في الواقع الخارجي توسّل النبي يونس (ع) بالذكر والتسبيح.

5- غيّر الله ما قدّره للنبي يونس (ع) في خصوص بقائه في بطن الحوت إلى يوم القيامة.

6- استبدل الله تقديره الأوّل بتقدير آخر، وهو إخراج النبي يونس (ع) من بطن الحوت.

7- أخرج الله النبي يونس (ع) من بطن الحوت، وقال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [32].

البداء الثالث: تغيير مدّة ميقات النبي موسى

قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[33].

خطوات تحقّق هذا البداء

1ـ قدّر الله أن يستدعي النبي موسى (ع) لميقاته مدّة ثلاثين ليلة.

2- أخبر النبي موسى (ع) قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، وقال لهم: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه[34].

3ـ ذهب النبي موسى (ع) إلى ميقات ربّه وناجى الله ثلاثين ليلة.

4ـ غيّر الله تقديره الأوّل في خصوص مدّة بقاء النبي موسى (ع) في الميقات، واستبدله بتقدير آخر، وهو أن يزيد الميقات عشرة ليال أخرى.

5ـ قد يكون سبب هذا التغيير ما ظهر لله من أحوال قوم موسى (ع)، فأراد أن يختبرهم ويرى ما هو موقفهم عند تأخير عودة النبي موسى (ع) من الميقات.

البداء الرابع: إبعاد الله الموت عن العروس

روي أنّ المسيح عيسى بن مريم مرّ بقوم مُجلَبين[35].

فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح الله، إنّ فلانة بنت فلان تُهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال: يجلبون اليوم ويبكون غداً. فقال قائل منهم: ولِمَ يارسول الله؟

قال: لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه…

فلمّا أصبحوا جاؤوا، فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء، فقالوا: ياروح الله إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميّته لم تمت!

فقال عيسى (ع): يفعل الله ما يشاء، فاذهبوا بنا إليها.

… قالت: … كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة، فننيله ما يقوته إلى مثلها، وأ نّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري، وأهلي بمشاغيل، فهتف فلم يجبه أحد، ثمّ هتف فلم يجب حتّى هتف مراراً، فلمّا سمعت مقالته قمت متنكّرة حتّى أ نَلْتهُ كما كنّا نُنيله.

فقال عيسى (ع) لها: تنحّي عن مجلسك، فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جَذَعة عاض على ذنبه.

فقال (ع): بما صنعتِ صرف الله عنكِ هذا[36].

البداء الخامس: إبعاد الله الموت عن اليهودي

عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: مرّ يهودي بالنبي (ص)، فقال: السّام عليك.

فقال رسول الله (ص): عليك!

فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، قال: الموت عليك، فقال رسول الله (ص): وكذلك رددت.

ثمّ قال النبي (ص): إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً، فاحتمله ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله(ص): ضعه.

فوضع الحطب، فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود.

فقال (ص): يا يهودي ما عملت اليوم؟

قال: ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين.

فقال رسول الله (ص): بها دفع الله عنه.

وقال (ص): إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان[37].

البداء السادس: التأجيل والتأخير في النصر الإلهي

ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع): كان في بني إسرائيل نبي وعده الله أن ينصره إلى خمس عشرة ليلة، فأخبر بذلك قومه.

فقالوا: والله إذا كان ليفعلن وليفعلن! فأخّره الله إلى خمس عشرة سنة.

وكان فيهم من وعده الله النصرة إلى خمس عشرة سنة، فأخبر بذلك النبي قومه.

فقالوا: ما شاء الله، فعجّله الله لهم في خمس عشرة ليلة[38].

البداء السابع: تأجيل الله أجل المَلِك

قال الإمام علي بن موسى (ع): لقد أخبرني أبي عن آبائه أنّ رسول الله (ص) قال: إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه: أن أخبر فلان المَلِك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا.

فأتاه ذلك النبي فأخبره، فدعا الله المَلك وهو على سريره حتّى سقط من السرير، فقال: ياربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي وأقضي أمري.

فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي: أن ائت فلان المَلِك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله، وزدت في عمره خمس عشرة سنة.

فقال ذلك النبي: ياربّ إنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: إنّما أنت عبد مأمور، فأبلغه ذلك، والله لا يسأل عمّا يفعل[39].

الاستنتاج

أن مسألة البداء تمثل عنصراً مركزياً في العقيدة الإسلامية، خاصة في مذهب أهل البيت (ع)، وعلى الرغم من أن البداء يُعتبر من أركان الإيمان لدى الشيعة، إلا أنه يُعاني من سوء فهم لدى أهل السنة، الذين يرون فيه تهديداً لعقيدة صفات الله، كما تُبرز المقالة أهمية الدعاء وتأثيره في تغيير الأقدار، وتستشهد بأمثلة تاريخية من القرآن والسنة لتوضيح كيفية وقوع البداء وأثره في حياة الأنبياء والعباد.

الهوامش

[1] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح123، ص146.

[2] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح12، ص146.

[3] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح12، ص146.

[4] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح12، ص146.

[5]البداء مصدر بدا، يبدو، بدواً (من الناقص الواوي)، وليس من بدا بالهمز (الذي يعني الابتداء).

[6] تنبيه: لا يكون الظهور إلاّ بعد الخفاء، ولهذا فالمعنى الأدق للبداء هو الظهور بعد الخفاء.

[7] الصدوق، التوحيد، باب 54، ذيل ح9، ص327.

[8] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص65.

[9] الطوسي، الغيبة، ذيل ح418، ص429.

[10] الأنعام، 28.

[11] يوسف، 35.

[12] المائدة، 99.

[13] الجاثية، 33.

[14] الأعراف، 22.

[15] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص67.

[16] الرعد، 39.

[17] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح16، ص149.

[18] الرعد، 11.

[19] الكليني، الكافي، ج2، باب: إنّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء، ح7، ص470.

[20] الكليني، الكافي، ج2، باب: إنّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء، ح8، ص470.

[21] الإسراء، 85.

[22] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح9، ص148.

[23] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح10، ص148.

[24] المجلسي، بحار الأنوار، ج4، باب 3، ح63، ص121.

[25] الكليني، الكافي، ج1، باب البداء، ح11، ص148.

[26] المجلسي، بحار الأنوار، ج4، باب 3، ح30، ص111.

[27] الصدوق، الاعتقادات، باب الاعتقاد في البداء، ص41.

[28] محمّد، 31.

[29] البقرة، 142.

[30] يونس، 98.

[31] الصافات، 143ـ 144.

[32] الصافات، 143ـ 144.

[33] الأعراف، 142.

[34] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص175.

[35] مجلبين، أي: في حالة صياح وصخب.

[36] الصدوق، الأمالي، المجلس 75، ح816، ص589.

[37] الكليني، الكافي، ج1، باب أنّ الصدقة تدفع البلاء، ح3 ، ص5.

[38] ابن بابويه، الإمامة والتبصرة، ح86 ، ص95.

[39] الصدوق، التوحيد، باب 66، ح1، ص430.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ ابن بابويه، علي، الإمامة والتبصرة من الحيرة، قم، مدرسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1404ه‍.

3ـ الصدوق، محمّد، الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق عصام عبد سيّد، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ه‍.

4ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

5ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

6ـ الطوسي، محمّد، الغيبة، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1425 ه‍.

7ـ القرطبي، محمّد، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1405 ه‍.

8ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

9ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

10ـ المفيد، محمّد، تصحيح اعتقادات الإمامية، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولى، 1314ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه‍.