إنَّ مفهوم البداء يمثل أحد الجوانب العميقة في العقيدة الإسلامية، ويتناول هذا البحث صلة البداء بالقضاء الإلهي، ويستعرض أقسام القضاء بين المحتوم وغير المحتوم، كما يستعرض البحث أهمية البداء في تأكيد حرية الله في أفعاله، ودور الإنسان في تغيير مصيره من خلال أفعاله، بالإضافة إلى ذلك، يتناول البحث الرد على الشبهات التي أثيرت حول البداء، خاصةً في سياق إخبار الأنبياء بالمغيبات، موضحا كيفية توافق ذلك مع الحكمة الإلهية.
المبحث الأول: صلة البداء بالقضاء الالهي
أقسام القضاء الإلهي:
1ـ القضاء المحتوم:
وهو القضاء القطعي الذي لا يقبل المحو والتبديل والتغيير.
2ـ القضاء غير المحتوم:
وهو القضاء غير القطعي الذي جعل الله تحقّقه متوقّفاً على توفّر بعض الشروط وانتفاء بعض الموانع.
ولهذا يقع التبديل والتغيير في هذا القضاء فيما لو لم تتوفّر بعض شروطه أو فيما لو لم تنتف منه بعض الموانع.
صلة البداء بالقضاء الإلهي
البداء يكون في القضاء غير المحتوم دون المحتوم.
ولهذا قال الشيخ المفيد: فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطاً في التقدير[1].
مثال للقضاء الإلهي المحتوم وغير المحتوم: الأجل.
معنى الأجل: هو المدّة المعيّنة للإنسان ليعيش في الحياة الدنيا.
أقسام الأجل
1ـ الأجل المحتوم (المقضي) (المسمّى): وهو الأجل الذي قضاه الله وقدّره بصورة حتمية بحيث جعله لا يقبل التقديم والتأخير.
2ـ الأجل غير المحتوم (الموقوف) (غير المسمّى): وهو الأجل الذي جعل الله فيه قابلية التقديم والتأخير.
أقوال أهل البيت (ع) حول قول الله تعالى: ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ [2].
قال الإمام جعفر الصادق (ع): هما أجلان: أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، وأجل محتوم[3].
وقال الصادق (ع) أيضاً: الأجل الذي غير مسمّى موقوف يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء[4].
وأمّا الأجل المسمّى… [ فهو محتوم، ومنه ] قول الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [5].
سأل حمران بن أعين الإمام محمّد الباقر (ع) حول هذه الآية، فقال (ع): إنّهما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف.
قال حمران: ما المحتوم؟
قال (ع): الذي لا يكون غيره.
قال: وما الموقوف؟
قال (ع): هو الذي لله فيه المشيّة ـ أي: يقدّم أو يؤخّر منه ما يشاء ـ…[6].
المبحث الثاني: البداء ولوح المحو والاثبات
قال الله تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [7].
أنواع اللوح
1ـ اللوح المحفوظ (أم الكتاب)
وهو اللوح الذي يُكتب فيه القدر والقضاء الإلهي المحتوم، ولهذا يكون هذا اللوح مصوناً من المحو والإثبات والتغيير والتبدّل، ولا يطرأ البداء على ما تمّ تدوينه في هذا اللوح.
2ـ لوح المحو والإثبات
وهو اللوح الذي يُكتب فيه القدر والقضاء الإلهي غير المحتوم، أي: القدر والقضاء الذي جعل الله تحقّقه متوقّفاً على توفّر بعض الشروط وانتفاء بعض الموانع.
ولهذا يقع التغيير والتبديل في ما تمّ تدوينه في هذا اللوح.
ويمحو الله سبحانه وتعالى في هذا اللوح ما يشاء ويثبت ما يشاء.
توضيح: يكتب الله في لوح المحو والإثبات ما قدّر تحقّقه في المستقبل.
وبما أنّ لأفعال ومواقف العباد دوراً في تغيير ما قدّره الله لهم، فلهذا إذا غيّر العباد سلوكهم وتصرّفاتهم فإنّ الله سيغيّر ما قدّره لهم، وسيمحو ما كتبه في لوح المحو والإثبات ويبدل ذلك بتقدير آخر.
صلة البداء بعلم الله الذاتي
وقوع التغيير في التقدير الإلهي لا يوجب وقوع التغيير في العلم الإلهي الذاتي؛ لأنّه تعالى كما هو عالم بالتقدير الأوّل فإنّه كذلك عالم من الأزل بأنّه سيغيّر هذا التقدير بتقدير آخر.
المبحث الثالث: أسباب أهمية البداء
1ـ التأكيد على حرّية الله تعالى في أفعاله.
إنّ الله سبحانه وتعالى غير مقيّد بحدود معيّنة مقدّرة منه تعالى منذ الأزل بحيث يكون الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ عاجزاً عن تخطّيها أو تجاوز حدّها، بل الله تعالى قادر على تغيير ما قدّره مسبقاً بتقدير آخر، ومجرّد تقديره لشيء لا يحدّد أفعاله ولا يمنعه من تغيير ذلك.
بعبارة أخرى: إذا قدّر الله تعالى شيئاً فإنّه غير مقيّد بالعمل وفق ما قدّره مسبقاً، بل له الحرّية والقدرة على تغيير هذا التقدير واستبداله بتقدير آخر.
2- التأكيد على هيمنة الله عز وجل وسلطانه على أمور العالم كلّها، وتصرّفه المباشر فيها حسب مشيئته وإرادته الحكيمة.
3- التأكيد على مسألة اختيار الإنسان ودوره في تغيير مصيره بأفعاله وأعماله.
وهذا ما يحثّ الإنسان على الجدّ والاجتهاد لرفع مستواه والوصول إلى ما هو الأفضل عن طريق تمسّكه بالأسباب المادّية المتاحة له والأسباب المعنوية كالدعاء والتوسّل والصدقات وأنواع البرّ والطاعات.
وهذا بعكس ما لو كانت عقيدة الانسان بأنّ التقدير كلّه بيد الله من دون أن يكون للإنسان أيّ أثر في ذلك، وقد كُتب مصير كلّ إنسان، وجفّ القلم، والإنسان غير قادر على تغيير ما قُدّر له.
فهذه العقيدة تبعث الإنسان نحو الإحباط واليأس والقنوط، وتشلّ قدرته وتسلب منه القوّة والعزم الإرادة على تغيير مصيره نحو الأفضل.
وبصورة عامّة: الاعتقاد بالبداء يعني الاعتقاد بامتلاك القدرة على تغيير المصير المقدّر من قبل الله تعالى، وهذا ما يحثّ الإنسان على العمل الدؤوب والجاد من أجل تغيير مصيره بيده نحو الأفضل.
4ـ التأكيد على أنّ إرادة الله تعالى حادثة وليست قديمة.
وتنقسم إرادة الله عز وجل إلى قسمين:
أوّلاً: إرادة وقوع فعل معيّن في نفس الوقت.
ثانياً: إرادة وقوع فعل معيّن في المستقبل.
فالقسم الأوّل: إرادة وقوع فعل معيّن في نفس الوقت.
تتجسّد هذه الإرادة عن طريق تحقّق الفعل المقصود في الواقع الخارجي.
قال الله تعالى: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [8].
والقسم الثاني: إرادة وقوع فعل معيّن في المستقبل.
تتجسّد هذه الإرادة عن طريق الكتابة في الألواح.
فتتجسّد إرادة الله الحتمية في لوح أم الكتاب.
وتتجسّد إرادة الله غير الحتمية في لوح المحو والإثبات.
المبحث الرابع: البداء والردّ على مقولة اليهود
قال الشيخ الصدوق (ره): البداء هو ردّ على اليهود؛ لأنّهم قالوا: إنّ الله قد فرغ من الأمر، فقلنا: إنّ الله كلّ يوم في شأن، يحيي ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء[9].
عقيدة اليهود
ذهب اليهود إلى أنّ الله قدّر أمور العالم منذ الأزل، وفرغ من الأمر، فلا تغيير ولا تبديل فيما قدّر الله، فقد جفّ القلم.
ولازم هذا القول أن يكون الله عاجزاً عن تغيير ما جرى به قلم التقدير فيما سبق.
ردّ عقيدة اليهود
جاءت عقيدة البداء ردّاً على ماذهب إليه اليهود لتؤكّد بأنّ الأمر بيد الله، وأنّه تعالى لم يفرغ من الأمر، بل يمكن إيقاع التغيير في كلّ قضاء وقدر إلهي غير حتمي.
عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) حول قول الله عزّ وجلّ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [10].
قال (ع):… قالوا قد فرغ من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص.
فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [11]، ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [12].[13]
قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع): قالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، يعنون: أنّ الله تعالى قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئاً.
فقال الله عزّ وجلّ: غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا..[14]..
فكيف قال تعالى: يزيد في الخلق ما يشاء.
وقال الله عزّ وجلّ: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.
وقد فرغ من الأمر[15]؟!
ولهذا قال الإمام جعفر الصادق (ع) لأحد أصحابه: ادع ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه[16].
المبحث الخامس: البداء ومشكلة عدم تحقّق اخبار الانبياء بالمغيّبات
قد يشكل البعض على البداء، ويقول بأنّه يستلزم تكذيب الأنبياء والرسل وعدم الوثوق بهم، لأنّ هؤلاء قد يخبروا عن تحقّق حدث معيّن، ثمّ لا يتحقّق ذلك نتيجة وقوع البداء الإلهي فيه.
الجواب: تنقسم الأمور التي يريد الله تحقّقها في المستقبل إلى قسمين:
1ـ أمور حتمية
وهي الأمور التي تعلّقت إرادة الله بها على أن تقع حتماً، وهي من القضاء والقدر الإلهي الذي لم يجعل الله فيه قابلية المحو والإثبات والتبديل والتغيير.
2 ـ أمور غير حتمية
وهي الأمور التي تعلّقت إرادة الله تعالى بها على أن يكون تحقّقها مشروطاً بتوفّر بعض المتطلّبات وانتفاء بعض الموانع، ولهذا فهي أمور فيها قابلية المحو والإثبات والتبديل والتغيير.
نوعية إخبارات الأنبياء
أغلب إخبارات الأنبياء والرسل تكون من الأمور الحتمية التي لا يكون فيها البداء، ولهذا ورد في الحديث الشريف:
قال الإمام محمّد بن علي الباقر (ع): من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدّم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء، لم يطلّع على ذلك أحداً، يعني الموقوفة، فأمّا ما جاءت به الرسل، فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته[17].
قال (ع) أيضاً: العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلّع عليه أحداً من خلقه وعلم علّمه ملائكته ورسله فأمّا ما علّمه ملائكته ورسله، فإنّه سيكون، ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدّم فيه ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويثبت ما يشاء[18].
تنبيه: ليس المقصود من قوله (ع): لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ورسله، إنكار وقوع البداء في إخبارات الأنبياء؛ لأنّ القرآن الكريم يدل على وقوع مثل هذا البداء كقصّة النبي يونس (ع)، بل المقصود أنّه تعالى لا يفعل البداء الذي يؤدّي إلى تكذيب نفسه أو ملائكته أو رسله، وسنبيّن كيفية ذلك لاحقاً.
حل مشكلة إخبار الأنبياء عن الأمر غير الحتمي ووقوع البداء فيه:
وقوع البداء في ما أخبر عنه الأنبياء لا يؤدّي إلى تكذيبهم أو عدم الوثوق بهم؛ لأنّه تعالى جعل دائماً القرائن الواضحة الدالة على صدق إخبار الأنبياء، ولهذا نجد أكثر حالات البداء المروية في الأحاديث مقرونة بما يفيد التصديق وصحة إخبار الأنبياء، منها:
1ـ رفع العذاب عن قوم يونس (ع)
قرينة صحة إخبار النبي يونس (ع) بوقوع العذاب: شاهد قومه آثار العذاب الإلهي، ويكفي هذا في صحة خبر النبي يونس(ع).
2ـ قصّة المسيح (ع) وإخباره بموت العروس
قرينة صحّة إخباره (ع): وجود الأفعى تحت ثياب العروس، ثمّ قال (ع) لها: بما صنعت ـ أي: نتيجة مساعدتك لذلك السائل ـ صرف عنك هذا.
3ـ قصّة النبي محمّد (ص) وإخباره بهلاك اليهودي
قرينة صحّة إخباره (ص)، أنّه (ص) أمر اليهودي بوضع الحطب، فإذا أفعى أسود في جوف الحطب عاض على عود، ثمّ قال (ص): بها ـ أي: بالصدقة التي أعطيتها للمسكين ـ دفع الله عنه.
النتيجة: الأمور التي يخبر الأنبياء (ع) بوقوعها، ثمّ لا تقع نتيجة البداء الإلهي، فإنّه تعالى يجعل فيها القرائن الدالة على صحّة إخبارهم، والهدف من تبيين هذا البداء هو التأكيد على حريّة الله في أفعاله والتأكيد على دور الإنسان في تغيير مصيره بأفعاله.
المبحث السادس: مستثينات البداء
تستلزم الحكمة الإلهية عدم وقوع البداء في موارد، منها:
1ـ الأمور التي يصرّح النبي عند إخباره عن تحقّقها أو عدم تحقّقها بأنّها من الأمور الحتمية؛ لأنّ البداء يشمل الأمور غير الحتمية فقط، وأمّا الأمور الحتمية فلا يشملها البداء أبداً، ولهذا فإنّ وقوع البداء في ما يصرّح النبي بوقوعه حتماً يؤدّي إلى توصيف النبي بالكذب وخلف الوعد وغيرها من الأمور التي تؤدّي بالناس إلى عدم الوثوق بكلامه وإخباره.
2ـ الأمور التي يخبر النبي عن وقوعها على نحو الإعجاز، من قبيل قول المسيح عيسى (ع): وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [19]، فإنّه يلزم أن يكون هذا الإخبار من الأمور الحتمية، وإلاّ ينتفي الغرض فيما لو كان هذا الإخبار من الأمور غير الحتمية التي يقع فيها البداء بعد ذلك.
3ـ الأمور الأساسية المرتبطة بصميم الدين، من قبيل الأمور المتعلّقة بالنبوّة والإمامة؛ لأنّ وقوع البداء في هذه الأمور يؤدّي إلى إضلال العباد وإخلال نظام التشريع.
ولهذا ورد في الحديث الشريف عن أئمة آل الرسول (ص): مهما بدا لله في شيء فإنّه لا يبدو له في نقل نبي عن نبوّته، ولا إمام عن إمامته…[20].
تنبيه: ولهذا أخطأ من ظنّ بأنّ البداء الذي حصل لإسماعيل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)[21] كان حول مسألة الإمامة[22]، بل كان هذا البداء حول مسألة أخرى بيّنها الإمام الصادق (ع) بقوله: كان القتل قد كتب على إسماعيل مرّتين، فسألت الله في دفعه عنه فدفعه[23].
أي: كان في تقدير الله أن يُقتل إسماعيل مرّتين، ولكن بسبب دعاء أبيه الإمام الصادق (ع) غيّر الله تعالى هذا التقدير.
المبحث السابع: المشابهة والفرق بين البداء والنسخ
تعريف النسخ: النسخ عبارة عن زوال حكم شرعي واستبداله بحكم شرعي آخر.
قال الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [24].
أمثلة للنسخ:
1ـ تعلّقت إرادة الله تعالى بأن يحلّ الطيّبات لبني إسرائيل، ثمّ تغيّرت إرادة الله في هذا المجال، فحرّم الطيّبات عليهم، وتبيّن الآية التالية أسباب هذا التغيير:
قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [25].
2ـ كتب الله على المسلمين الاتّجاه نحو بيت المقدس حين الصلاة، ثمّ نسخ الله هذا الحكم، وأبدله بالاتّجاه نحو الكعبة.
3ـ قال الله تعالى: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ [26].
ثمّ نسخ الله هذا الحكم بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [27].
بيان أهم موارد الشبه والفرق بين البداء والنسخ
المورد الأوّل: في البداء: تتعلّق إرادة الله التكوينية أن يفعل الله كذا، ثمّ تتغيّر هذه الإرادة، وتأتي مكانها إرادة أخرى[28].
في النسخ: تتعلّق إرادة الله التشريعية أن يفعل “العبد” كذا، ثمّ تتغيّر هذه الإرادة، وتأتي مكانها إرادة أخرى.
المورد الثاني: في البداء: يكون تغيير الإرادة والقدر والقضاء الإلهي في التكوينات.
في النسخ: يكون تغيير الإرادة والقدر والقضاء الإلهي في التشريعات.
المورد الثالث: يكون البداء في قضايا تكوينية قدّر الله لها أن تتحقّق، ثمّ يمحو الله ما قدّره ويستبدله بقدر آخر.
يكون النسخ في قضايات شرعية تحقّقت ـ أي: أحكام تمّ تشريعها ـ، ثمّ يزيلها الله تعالى ويستبدلها بحكم آخر.
أقوال العلماء حول المشابهة بين البداء والنسخ
قال الشيخ الصدوق (ره): يجب علينا أن نقرّ لله عزّ وجلّ بأنّ له البداء، ومعناه… لا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلاّ وهو يعلم أنّ الصلاح لهم في ذلك الوقت أن يأمرهم بذلك، ويعلم أنّ في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم.
فمن أقرّ لله عزّ وجلّ بأنّ له أن يفعل ما يشاء، ويَعْدم ما يشاء، ويخلق مكانه ما يشاء، ويقدّم مايشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويأمر بما يشاء كيف يشاء فقد أقرّ بالبداء[29].
قال الشيخ المفيد (ره): أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله، من الافتقار بعد الإغناء، والإمراض بعد الإعفاء، والإماته بعد الإحياء، وما يذهب إليه أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال[30].
قال الشيخ الطوسي (ره): إذا أضيفت هذه اللفظة ـ أي: البداء ـ إلى الله تعالى: فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز، فأمّا ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه…
وأمّا ما لا يجوز من ذلك فهو حصول العلم بعد أن لم يكن[31].
تنبيه: إنّ الله تعالى منزّه عن الجهل أو الندم عند نسخه لبعض الأحكام الشرعية واستبدالها بأحكام أخرى، بل يعود سبب ذلك إلى لحاظ الله مصالح العباد في التشريع، وقد تتغيّر مصالح العباد نتيجة حدوث بعض التغييرات في الواقع الخارجي، فيؤدّي هذا الأمر إلى نسخ الله للحكم الشرعي واستبداله بحكم آخر أكثر انسجاماً مع المتطلّبات الجديدة.
حديث شريف: قال الإمام محمّد بن علي الباقر (ع): جاء قوم من اليهود إلى رسول الله (ص) فقالوا: يا محمّد، هذه القبلة بيت المقدس قد صلّيت إليها أربعة عشر سنة ثمّ تركتها الآن، أفحقّاً كان ما كنت عليه؟ فقد تركته إلى باطل، فإنّما يخالف الحق الباطل، أو باطلاً كان ذلك؟ فقد كنت عليه طوال هذه المدّة، فما يؤمننا أن تكون الآن على الباطل؟
فقال رسول الله (ص): بل ذلك كان حقّاً، وهذا حقّ يقول الله: قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [32]، إذا عرف صلاحكم ـ يا أيّها العباد ـ في استقبال المشرق أمركم به.
وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به.
وإذا عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به.
فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده، وقصده إلى مصالحكم[33].
الاستنتاج
أن مفهوم البداء في العقيدة الإسلامية يعكس قدرة الله المطلقة على تغيير ما قدّره، مما يبرز الفرق بين القضاء المحتوم وغير المحتوم، يوضح البحث أن البداء يتعلق بالأمور غير الحتمية التي يمكن أن تتغير بناءً على أفعال البشر وظروفهم، مشددا على أن البداء لا يتعارض مع صدق الأنبياء، بل يثبت قدرة الله في تغيير التقديرات الإلهية، وأخيرا يبرز الفرق بين البداء والنسخ في الإرادة الإلهية المتعلقة بالتكوينات والتشريعات.
الهوامش
[1] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، فصل في معنى البداء، ص67.
[2] الأنعام، 2.
[3] العياشي، التفسير، ج1، ح7، ص355.
[4] العياشي، التفسير، ج1، ح5، ص354.
[5] الأعراف، 34.
[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج52، باب 25، ح133، ص249.
[7] الرعد، 39.
[8] يس، 82.
[9] الصدوق، التوحيد، باب 54، ذيل ح9، ص327.
[10] المائدة، 64.
[11] المائدة، 64.
[12] الرعد، 39.
[13] الصدوق، التوحيد، باب 25، ح1، ص163.
[14] الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، باب 13، ح1، ص161.
[15] الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، باب 13، ح1، ص161.
[16] الكليني، الكافي، ج2، كتاب الدعاء، ح3، ص466.
[17] العياشي، التفسير، ج2، ح65، ص217.
[18] البرقي، المحاسن، ج1، باب 24، ح235، ص378.
[19] آل عمران، 49.
[20] المفيد، المسائل العكبرية، المسألة 37، ص100.
[21] قال الإمام جعفر الصادق (ع): ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني، الصدوق، التوحيد، باب 54، ح10، ص327.
[22] أي: ليس المقصود أنّ الله اختار إسماعيل للإمامة ثمّ أعرض عنه واختار موسى بن جعفر لذلك.
[23] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، فصل في معنى البداء، ص66.
[24] البقرة، 106.
[25] النساء، 160 ـ 161.
[26] الأنفال، 65.
[27] الأنفال، 66.
[28] لا يخفى بأنّ إرادة الله حادثة، والمقصود من إرادته فعله، والمراد من استبدال الله إرادة مكان إرادة أخرى، أي: استبدال فعل مكان فعل آخر.
[29] الصدوق، التوحيد، باب 54، ذيل ح9، ص327.
[30] المفيد، أوائل المقالات، القول 58، ص80.
[31] الطوسي، العدّة في أُصول الفقه، ج2، باب 7، فصل 1، ص495.
[32] البقرة، 142.
[33] الطبرسي، الاحتجاج، ج1، الاحتجاج رقم 25، ص83.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ البرقي، أحمد، المحاسن، تصحيح وتعليق جلال الدين محدّث، قم، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1371 ه.
3ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
4ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
5ـ الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه.
6ـ الطوسي، محمّد، العدّة في أُصول الفقه، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، قم، نشر محمّد تقي علاقبنديان، الطبعة الأُولى، 1417ه.
7ـ العياشي، محمد، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، بلا تاريخ.
8ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
9ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
10ـ المفيد، محمّد، المسائل العكبرية، تحقيق علي أكبر الإلهي الخراساني، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولى، 1413ه.
11ـ المفيد، محمّد، أوائل المقالات في المذاهب المختارات، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ه.
12ـ المفيد، محمّد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تحقيق حسين درگاهي، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه.