ظاهرة النبي يوسف وارتباطها بالإمام المهدي (ع)

ظاهرة النبي يوسف وارتباطها بالإمام المهدي (ع)

2025-02-05

101 بازدید

هل ترتبط قصة النبي يوسف (ع) التي وردت في سورة القصص بقضية الإمام المهدي (ع)، من حيث غيبته في صغره، والإعلان عن ظهوره، والتمكين له في الأرض، فضلاً عن عرض أعمال البشر عليه خلال فترة غيبته؟ هذه قضايا سنستعرضها ونتناولها في بحثنا هنا.

ظاهرة النبي يوسف وارتباطها بالمصلح الإلهي

تحمل ظاهرة النبي يوسف الكثير من المعالم لظاهرة المصلح المنجي المنقذ، وهنا وقفات تستحقّ التأمّل والتدبّر.

قال تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ[1].

وهذا نوع من الفتح الربّاني يُبشّر به النبي يوسف (ع)، نوع من التمكين والسلطة والقدرة، هذه فاتحة قصَّة النبي يوسف، وهو أنَّ هناك وعداً بالفتح، وعداً بالظهور، وعداً بالتمكين في الأرض، قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[2].

يعني هذه النبوءة الإلهية بأنَّ يوسف سوف يظهر، وسوف يمكّن له الله في الأرض، هذه البشارة الإلهية بنفسها تستدعي الحسد والمكيدة من الأقرباء للنبي يوسف فضلاً عن البُعداء من الأصدقاء، وفضلاً عن الأعداء.

فإذا كان هذا حال الإخوة وحال الأصدقاء، فكيف بحال البُعداء والأعداء؟! لأنَّهم أولى لأن يكيدوه، فإن طالعت ظاهرة النبي يوسف التي يحدّثنا عنها القرآن تجد البشارة بظهوره وبتمكينه في الأرض، وأنَّ هذه البشارة بنفسها تستدعي لأن تتحسَّب القوى لتدبير مكائد للحيلولة دون تحقّق تلك البشارة الإلهية، وللوقوف دون وصوله إلى مثل تلك المكانة وذلك الاجتباء والتمكين في الأرض، كما هو الحال فيما ورد في الإمام المهدي (ع) أنَّه يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً.

البشارة هنا كانت ليوسف (ع)، وهناك بشارة للنبي محمّد (ص) بشَّره الله بها، أنَّه مهما تقدَّم الزمن وطال فسيُظهر الله هذا الدين على يدي رجل من ذرّيته (ص) وهو المهدي (ع)، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ[3]، للأرجاء كافّة، هذا الوعد وهو خاتمة الدين الإسلامي سوف يطبَّق على أرجاء الكرة الأرضية، ولم يتحقَّق إلى الآن، ولم يتسنَّ لأحد أن يحقّقه على يديه.

ظاهرة النبي يوسف وشبهها بغيبة الإمام المهدي

للنبي يوسف (ع) غيبة مع كونه حجّة من الله مبعوثاً للإصلاح في الأرض، له غيبة يستعرضها لنا القرآن، وقد اشتدَّت وتوغَّلت في الخفاء إلى درجة أن يخفى النبي يوسف (ع) حتَّى عن أبيه وعن ذويه وإخوته وأهله، فهذه شدّة المحنة، فالغيبة من وليّ الله وحجّته تتناول وتشمل حتَّى الخاصّة فضلاً عن العامّة، لِمَ؟

ذلك لأنَّ هذا المصلح يُعدّ لدور مهمّ خطير، فمن ثَمَّ يكون البرنامج الأمني الإلهي في حراسة له وضمانة خاصّة، لكي لا تصل إليه يد الطامعين ويد الأعداء، فيستهلُّ القرآن الكريم في بدء غيبة النبي عن أبيه وذويه وأهله وخاصّته بذكر المؤامرة التي دُبّرت وكيدت له من قِبَل إخوته الطامعين في إبادته وتصفيته، بما سوَّلت لهم أنفسهم في المخطَّط الذي دبَّروه، وهو جعله في البئر وغيابت الجُبّ.

بدأ مسلسل غيبة النبي يوسف (ع) عن ذويه بالجُبّ كمشهد تاريخي عندما حصلت المؤامرة والتواطؤ لتصفيته وإبادته، لذلك يذكرها القرآن كمشهد، وبدأت في تلك الحقبة، وهكذا الحال فيما يشاهد في سرداب الغيبة الموجود في حرم العسكريين (ع)، فإنَّ جلاوزة النظام العبّاسي قد كبسوا الإمام المهدي في سرداب بيت أبيه في تلك الآونة، فوصل إليهم الخبر أنَّ الإمام المهدي (ع) ابن الإمام العسكري في بيت أبيه في السرداب، فكبسوه بُغية تصفيته.

هناك من التشابه بين ظاهرة النبي يوسف والإمام المهدي (ع) حتَّى في بدء الغيبة، فقد بدأت غيبة النبي يوسف عندما ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ[4].

هنا إلتفاتة جميلة وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ إلى النبي يوسف: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، ماذا يعني؟ يعني هذه الغيبة التي ستبدأ للنبي يوسف من البئر، ويغيب عن إخوته وعن أبيه، ليست انطماراً في الأرض، وإنَّما يخفى على شعورهم، الغيبة ليست غيبة وجود ولا غيبة حضور، إنَّما غيبة شعور، يعني الأطراف الأخرى لا يشعرون به، غيبة هوية، غيبة خفاء، واستتار وسرّية، لذلك رُكّز أيضاً في غيبة النبي يوسف التي فيها تشابه مع غيبة الإمام المهدي المنتظر (ع).

إذن الغيبة في المصطلح القرآني هي أنَّ الغيبة بمعنى عدم الشعور بالغائب، لا عدم وجود الغائب، عدم الشعور بوليّ الله المصلح، عدم المعرفة بوليّ الله المنقذ المنجي مع كونه حاضراً في ساحة الحدث، إذن الغيبة يتابعها القرآن بإمعان وعمق ودقّة ليُفهمها المسلمين ويفهمها القرّاء للقرآن، أنَّ معنى الغيبة لأولياء الله والحجج بمعنى عدم شعوركم بهم، عدم معرفتكم بهويتهم، لا عدم وجودهم، لا مزايلتهم لساحة الحدث، لا مزايلتهم لتدبير الأمور، هم حاضرون، لكن أنتم لا تشعرون بهم، لا تشعرون بهويتهم.

ويوسف حصلت له الغيبة وهو في صغره، قبل أن يبلغ أشدّه، وهذا ما حصل للإمام المهدي (ع)، وهذا تدبير الله لوليّه المصلح المنقذ الذي يريد أن يظهره الله على الدين كلّه ولو كره المشركون.

حجّية الإمام مع غيبة شخصه

أنَّ القرآن يذكّر المسلمين بأنَّ جهل البشرية بوجود النبي يوسف (ع) لم يزعزع ولم يزلزل عنوان نبوّته، ولم يبعده عن الاضطلاع بمسؤولية الرسالة والإمامة، وأنَّه معدّ مصلحاً ومنقذاً بشرياً في تلك الحقبة.

وكلّ هذه المقامات كان يزاولها النبي يوسف في غيبته، ويقوم بتلك الأدوار الخطيرة في مسار البشرية التي تعصف بالنظام البشري، والتي ربَّما تؤدّي به إلى سحيق الهاوية، وهو ينتشلها ويقوم بهذا الدور الإلهي من دون أن يعرفوا نبوّته ولا رسالته ولا حجّيته، ولا كونه الموعود المُبشّر من قبل الله، ولا إمامته ولا كونه خليفة لله في أرضه، لكن ذلك لم يُبطل حجّيته وإمامته ونبوّته ورسالته، ولم يكن هناك أيّ شرطية وأيّ توقّف بين معرفة الناس له بنعت الحجّة ونعت النبي ونعت الرسول بالنبوّة والرسالة والحجّية والإمامة والخلافة، وقيامه بتلك الأدوار من قبل الله تعالى.

والخفاء في النبي يوسف أشدّ ممَّا هو عليه الحال في الإمام المهدي (ع)، الإمام المهدي يُعرف بشخصه الذي هو الثاني عشر من ذرّية النبي (ص) من ولد علي وفاطمة (ع)، وهو ابن الإمام الحسن العسكري (ع)، واعترف كثير من علماء المسلمين بولادته، ومنهم الذهبي في تاريخ الإسلام، وغيره من علماء الجمهور ممَّن اعترفوا وسلَّموا بولادته (ع).

ويعرفونه باسمه وشخصه، وأنَّه المرشّح لأن يكون مصلحاً إلهي، وأنَّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الذي على يديه يظهر الدين على الأرجاء كافّة، والموعود ببشارة سيّد الأنبياء، يعرفون هذه المواصفات، ولكن لا يعرفونه بتشخّص وجوده، ولا يميّزون من هو المنعوت بهذه المواصفات، لذا كانت حال الإمام المهدي أهون في الخفاء.

فالإمام المهدي (ع) يتردَّد فيما بين الناس ويتصدّى للأحداث ولمصير البشرية ولا نعرفه حتَّى يأذن الله له أن يعرّف نفسه لن، كما أذن ليوسف أن يعرّف نفسه لإخوته.

الجهل بالغيبة على مستوى النظرية والتطبيق

هذه المحطّة التي وصلنا إليها من ظاهرة النبي يوسف وصلتنا بالعقيدة بالإمام المهدي (ع)، حيث إنَّ النبي يوسف رغم نبوّته ورسالته وإمامته وخلافته لله في الأرض، وكونه الموعود المصلح المنقذ المنجي، إلاَّ أنَّ من كان يحيط به لم يكن يعرفه لا بنعت النبوّة ولا بنعت الرسالة، ولا بنعت الإمامة ولا بنعت الخلافة، ولا بنعت الموعود والمصلح والمنقذ والمنجي للبشرية في تلك الحقبة، حتَّى أنَّهم كانوا يجهلون تلك النعوت على مستوى النظرية ويجهلونها على مستوى التطبيق.

اللقاء بين يوسف وأخيه

قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، فانظر كم بلغ من الرتبة وموقعية التأثير وهو في مقام من الفضل والرفعة البشرية ومع ذلك لا يعرفوه بهويته، فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‎* قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ.

بعد ذلك يحدّثنا القرآن فيقول: وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا[5]، أنظر إلى ذلك التدبير، فإنَّه يوصل الخير للبشر من دون أن يشعروا به، من دون أن يعرفوا ممَّن وصلهم، كما قيل: أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها، وإذا أراد الله شيئاً هيَّأ أسبابه، فوصول الخيرات للناس له أسباب، وسُنّة الله اقتضت بأن تجري هذه الخيرات عبر الأسباب التي وضعها الله.

ومن ضمن تلك الأسباب شبكة وليّ الله في غيبته، حيث يوصل الخيرات للناس عبرها من دون أن يشعروا ممَّن وصلهم هذا الخير، مع أنَّ الرزق والخير كلّه من الله، لكن الله جعل لتلك الخيرات ووصولها قنوات وأسباب، كما جعل المطر والماء لإحياء الأرض، فأصل الخير كلّه من الله، ولكن الله يجري الخير على أيدي أوليائه.

معنى التشرّف برؤية الإمام الغائب

تتعرَّض الآية في سورة يوسف إلى ستار الغيبة للنبي يوسف باعتبار أنَّ موقعية الموعود المصلح ومقامه فرض عليه أن يغيب حتَّى عن أبيه، ويختفي عنه اختفاء علم في تلك البرهة من الغيبة، وقد أذن الله للنبي يوسف أن يشرّف أخاه بمعرفته فقط، ممَّا يدلُّ على أنَّ في السُنّة الإلهية يمكن أن يؤذن لوليّ الله وللإمام ولحجّة الله الغائب في تعريف شخصه إلى البعض، قال تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ، وهذا الإعلام بأنَّه يوسف الغائب الموعود وكونه المصلح المنجي المنقذ الذي كان من قِبَل النبي يوسف، إنَّما هو ممَّا أذن الله له، ولم يكن بمعرفة سابقة، وإنَّما تشرّف، قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[6].

وهذا التشرّف حصل لأخيه من دون بقيّة الناس حتَّى من دون النبي يعقوب.

هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّية؟

من الواضح التشرّف لبعض المؤمنين أو العلماء لا يدوم، وإنَّما يكون مقدار لقاء وفترة وجيزة، فهل هذا بالنسبة إلى بقيّة الناس له مؤدّى اعتبار وحجّية كأن يقوم بدعوى الوساطة مثلاً بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة الناس؟

كلا، فهذا الأمر منفي، يعني لا حجّية ولا موقعية وساطة بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة البشر؛ لأنَّ سُنّة الله جرت، من نفي أيّ صلاحية سفارة أو وساطة أو تمثيل أو نيابة خاصّة، لأنَّ هذه الغيبة ستارها الأمني مستفحل، وهذه الوساطة من وإلى الحجّة لا يدّعيها إلاَّ مفترٍ كذّاب، لأنَّه لا يُخوّل لتلك الموقعية أحد، لاسيّما بعد تصرّم الغيبة الصغرى ودخولنا في الغيبة الكبرى إلى أن يأذن الله بالظهور.

والآيات القرآنية في تجويز هذا التشرّف ليس نطاقها إلاَّ إمكان حصول التشرّف، أمَّا أن يكون للمتشرّف برؤية الغائب دور الوساطة فهذا ممَّا لا تثبته الآيات القرآنية، بل وينفيه متواتر روايات أهل البيت (ع) في أنَّ من ادّعى الرؤية في زمن الغيبة الكبرى فهو كذّاب مفتر.

والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرّف المقصود؛ لأنَّ الذي يدّعي الرؤية يريد أن يدّعي الوساطة، ويريد أن يدّعي أنَّه جسر، أو أنَّه سفير، أو أنَّه نائب خاصّ، وما شابه ذلك، فهذه كلّها دعاوى وأكاذيب ليس أمامها إلاَّ الأدلّة المبطلة لها.

عرض الأعمال على وليّ الله

قال الله تعالى: قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ[7]، إذن يتفاعل وليّ الله الغائب في غيبته وحجّته ودوره محوري مع الأمور والأحداث، يصله ما يحزنه وما يفرحه، لا أنَّه قاصي متفرّج لا يتفاعل مع الأحداث ولا يتأثّر بها سلباً وإيجاباً.

فقد ورد الخبر بأنَّ أعمالنا تُعرض على رسول الله (ص) فيحزنه إذا رآى اقتراف الطالح منه، ويسرّه إذا رأى الصالح منه، فكيف بوليّ الله الحيّ، أي في دار الدنيا، وإلاَّ رسول الله (ص) حيّ عند ربّه، فالحال هنا كذلك.

الغيبة والتدبير الإلهي

بما أنَّ تدبير الله يفوق تدبير البشر، حيث إنَّه تعالى يزوّد البشر بالعلم والإحساس والشعور والإدراك، فخالق الإدراك والإحساس والشعور يحيط بتلك الأمور بما لا تحيطه يد البشر، ومن هذا المنطلق فإنَّ التدبير الإلهي ومن خلال رجال الغيب يقوم بإصلاح وإدارة البشر في ظلّ ستار غيبة الشعور بهم وستار حجاب العلم بهم من دون أن يكون هناك ستار عن أصل وجود الحاضر.

فالإمام يتعاطى الحدث وإدارة وتدبير البشر والنظام البشري، وهو معنا من دون علم أو معرفة به لكن بهويته وبكيفية دوره، هذا الأمر يؤكّد عليه القرآن دائماً كما مرَّ بنا في سورة القصص وسور أخرى حول ظاهرة النبي موسى، وكذلك في سورة يوسف وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[8].

دروس تربوية من سورة يوسف

النبي يعقوب (ع) كان أمله وطيداً وشديدا، وذلك ليقينه بروح الله وبقدرته وأنَّه لا يخلف وعده.

ونلاحظ هناك درساً تربوياً آخر يذكره القرآن في مواقف النبي يعقوب، ألا وهو شدّة تعلّقه وانشداده بابنه الغائب الموعود بكونه المصلح المنجي المنقذ للبشرية، فمن شدّة تعلّقه به أن وصل به الأمر إلى كثرة البكاء، وكثرة البكاء جرَّت إلى ابيضاض العين وهو عمى العين، ممَّا يدلّل على أنَّه يُفتدى في حبّ الأولياء والحجج، ويُسترخَص في سبيل الفضيلة كلّ غالٍ ونفيس.

بل ويعظم ويكرم من شأنه أن يبذل في سبيل الفضيلة، فكيف بمن حثَّ الله على مودّتهم وهم قربى النبي (ص) وجعَلَها عدل أجر الرسالة كما مرَّت بنا الآية الكريمة، ممَّا يدلّل على أنَّ هذه الشدّة من التعلّق مؤكّدة وموطّد لها كما في سنن الأنبياء هو هذا التعلّق من النبي يعقوب بالنبي يوسف ليس تعلّقاً لمجرَّد قدرة الخيال ومراحل الواهمة أو إسطورية الخيال وما شابه ذلك، بل هذه عبر وسنن أرادها الله أن يستنّ بها الآخرون.

إذ هو أن نقتدي بها من النبي يعقوب في كيفية تعلّقه وحبّه بالوليّ الغائب الموعود وهو وليّ الله وحجّته في ذلك الزمن وفي تلك الحقبة لإنجاء البشرية، وهذا درس تربوي، وهو أنَّ هذا الإنشداد ولو بلغ إلى ابيضاض العين فهو محمود وهذه فضيلة وهذه مكرمة وكرامة، فكيف بالمودّة التي قد أعظم الله في بيانها حيث جعلها عدل الرسالة التي فيها التوحيد والنبوّة والمعاد وأصول الدين حيث جعلها في كفّة وجعل مودّة أهل البيت (ع) في كفّة.

الظهور بعد الغيبة للنبي يوسف

قال تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[9].

هذه المحطّة من ظاهرة النبي يوسف (ع) التي هي نهاية الغيبة وبداية الظهور المعلن واكبت مرفقاً مهمّاً جرى بين النبي يوسف وإخوته والملأ العامّ، حيث إنَّ النبي يوسف استهلَّ ظهوره وابتدأه بتذكير إخوته بالذي جرى منهم من قبل، هذا التعبير يشاكل ما ورد في الروايات عن ظهور المهدي (ع)، حيث يذكّر الأمّة بما قد جرى على سيّد الشهداء وما جرى على أهل البيت (ع) من ظلامات وجرائم ونهب حقوق وجرأة على مقامهم ودفعهم عن المقامات التي رتَّبها الله لهم، واستعراض لمصائب وظلامات أهل البيت (ع).

هذا الواقع يسطّره لنا القرآن عن يوسف وعن الإمام المهدي، وما ورد في الروايات هو نوع من بيان أنَّ الاستحقاقات تستوفى في ظلّ ظهور المصلح المنجي المنقذ.

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ، فهم لم يكونوا ليعرفوا أنَّه يوسف، رغم تعاطيهم معه ومداولة الحديث معه وتأثّرهم بتدبيره ودوره العصيب الخطير المهمّ، ومع ذلك لم يكونوا ليعرفوه لولا أن عرَّفهم هو بنفسه وبشخصيته وهويته، فكانت غيبة ظهور لشخصيته، غيبة ظهور لهويته، بالنسبة إليهم هو حاضر بين أيديهم يمارس دوره، لكنَّهم لم يكونوا يعرفونه، فهويته لهم كانت غائبة.

الأسباب الملكوتية

قال تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ[10]، يبيّن القرآن هنا أنَّ النبي يوسف وأولياء الله يقومون بتدبير أدوارهم في جملة من المواقع بالأسباب الطبيعية، لكنَّه بتدبير نظمي ربّاني يفوق وعي البشر وعلمهم، ولكنَّه بأسباب طبيعية وبأسباب مجريات كما قيل: أبى الله أن يجري الأمور إلاَّ بأسبابها، ولكن لهم أيضاً في جملة تدبيرهم من الأسباب الخفية أو ربَّما يطلق عليها بأسباب الملكوت، فهنا ليست بمقام الإعجاز أو في مقام الاحتجاج، بل هي كرامة، لكنَّها كرامة تدبيرية في أدوار النبي يوسف خارجة عن ظاهر الأسباب الطبيعية.

مجمل سيرة النبي يوسف تريد أن تعطي هذا الدرس، وهو أنَّ الأمل الموعود من قِبَل الله في بشائره، كما هو بشارة لهذه الأمّة الإسلاميّة أن يظهر هذا الدين على الكرة الأرضية كافّة، ولن يتحقَّق هذا الوعد على يد أحدٍ غير أهل البيت، حيث إنَّ الدين بدأ بأهل البيت (ع) بالنبي ونصرة علي، وتدبير النبي وابن عمّه علي، بهم بدأ الإسلام وبهم يختم، هذا الوعد الإلهي لأن يظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون مهما طال الأمد.

هذه سُنّة يريد أن يركّز مفهومَها القرآن في مجمل سيرة النبي يوسف (ع)، من ظاهرة غيبة المصلح وظهوره بعد ذلك، ثمّ بعد ذلك عند الظهور يأتي كلّ البأس الإلهي على المجرمين المعاندين المكابرين المكذّبين المفسدين الظالمين، يأتي البأس الإلهي ويطهّر الأرض من بأسهم ويعمّ ربوعها الإصلاحُ والعدل والقسط، فهذه سُنّة إلهية إذن، وما دام الإنسان يؤمن بالله لا ييأس من روح الله، وأنَّ الإيمان بالفرج وبالأمل الموعود وبالبشارة الإلهية هو من الإيمان بالله تعالى، وبالإيمان بصدق قول الله وصدق وعده، فهذه سُنّة مهمّة يؤكّدها القرآن في غياب المصلحين الموعود بظهورهم، والمبشّر بإصلاحهم للأرض وإنقاذهم البشرية، أن يكون الإيمان بهم في امتداد الإيمان بقول الله ووعده ونصره، فهذا إذن من ثوابت وأركان الإيمان بما كان يؤكّده القرآن الكريم.

الظواهر القرآنية في الغيبة

هنا ظواهر قرآنية أخرى دالّة على ظاهرة غياب حجج الله، وهي غياب ظهور لا غياب حضور، وهم يظهرون بعد مضي أمد مقدَّر من الله، ونؤكّد أنَّ ما استعرضه القرآن من ظواهر عديدة، ركَّز على جانب من جوانب الحجج الموعودين بالظهور وإنقاذ البشرية، وإحدى الزوايا المهمّة التي تركّز عليها العدسة القرآنية هي ظاهرة غيبتهم وقيامهم بالأدوار في ظلّ الغيبة، الأدوار الخطيرة العصيبة المهمّة في مصير البشرية، رغم عدم معرفة البشرية بهويتهم، وبعد ذلك يصل قدر الله المقدور حين أوان ظهورهم.

نعم هذه الظواهر التي يستعرضها القرآن دواليك لا يفتأ يركّز عليها، ممَّا يدلّل على أنَّ الظاهرة المهدوية والغيبة _ غيبة المهدي في هذه الأمّة _ من السنن الإلهية المهمّة التي تحدث في هذه الأمّة على نسق ووتيرة ما حدث من هذه السُنّة الإلهية في الأمم السابقة، فحينئذٍ ليس من المصادفة وليس من عدم الحسبان في التقدير الإلهي أن يكرّر ويركّز في السور القرآنية العديدة على هذه الظاهرة _ ظاهرة غيبة الحجج _ لاسيّما المبشّرين الموعودين بالظهور.

وأنَّهم في ظلّ هذه الغيبة يقومون بأدوار ثمّ يظهرون، هذا التركيز من القرآن ليس مصادفة، بل عبرة كما في ظاهرة البشارة للنبي يوسف  (ع) بأنَّه يظهره الله في الأرض ويمكّن له ليكون مصلحاً وقد غاب غيبة طويلة الأمد إلى أن ظهر.

نعم، هذا الوعد الإلهي محتم في القرآن، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ[11].

إذن هناك سُنّة إلهية دائمة تتكرَّر في الأمم هي: أنَّ المستضعفين الصالحين يستخلفهم الله ويجعلهم الوارثين، هذا يدلّل على الظاهرة المهدوية.

وقد كتب الله أنَّ الظلم والفساد لا يدوم، بأمد ظهور المصلح المنجي، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ[12]، أنَّ من السنن الإلهية أنَّ المراحل المتوسّطة من عهود وأزمنة الأمم دوماً يكون المتغلّب فيها كفّة الظالمين والمفسدين، ولكن العقبى تكون للمصلح المنجي، وهذه سُنّة فيها بصائر قرآنية جمّة.

الاستنتاج

أن قصة النبي يوسف (ع) تحمل دلالات عميقة على ظهور المصلح المنجي وتمكينه في الأرض، إن غيبة الإمام المهدي تشبه غيبة النبي يوسف (ع)، حيث غاب كلاهما عن أعين الناس رغم وجودهما الفعلي، فغيابهما هو غياب ظهور وليس غياب حضور، مما يعني أن وجودهما يبقى حاضراً في قلوب المؤمنين وعقولهم، كما أن غيبة الأنبياء لا تؤثر على حجيتهم أو رسالتهم، وإن الظلم لا يدوم.

الهوامش

[1] يوسف، 4.

[2] يوسف، 5.

[3] الفتح، 28.

[4] يوسف، 15.

[5] يوسف، 59 ـ 62.

[6] يوسف، 69.

[7] يوسف، 77.

[8] يوسف، 21.

[9] يوسف، 88 ـ 90.

[10] يوسف، 93.

[11] القصص، 5 و 6.

[12] يونس، 73.

مصدر المقالة (مع تصرف)

السند، محمّد، الإمام المهدي (ع) والظواهر القرآنية، تحقيق مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (ع)،  النجف، بقية العترة، الطبعة الثالثة، 1444 ه‍، ص70ـ 129.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *