الهداية الإلهية تشير إلى الدلالة والإرشاد نحو الحق والسبيل المستقيم، وهنا نستكشف خصائص الهداية الإلهية العامة التي تشمل جميع الكائنات، بالإضافة إلى الهداية التكوينية والتشريعية، وسنتناول أيضا الهداية الإلهية الخاصة، وكيف أنها تتجلى في توفيق الله للعباد الذين يسعون في سبيل الحق، من خلال استعراض الآيات القرآنية والأدلة، نهدف إلى توضيح أبعاد هذا المفهوم الجليل وأثره في حياة الإنسان.
المبحث الأوّل: معنى الهداية
معنى الهداية في اللغة: الهداية: الدلالة والإرشاد وبيان الطريق[1].
معنى الهداية في الاصطلاح العقائدي: إنّ للهداية ـ في دائرة الاصطلاح العقائدي ـ العديد من المعاني التي سنذكرها خلال البحث مع بيان المعاني التي تصح نسبتها إلى اللّه تعالى والمعاني التي لا تصح نسبتها إليه تعالى.
المبحث الثاني: خصائص الهداية الإلهية العامة
1- تشمل الهداية الإلهية العامة كلّ الموجودات، وتعمّ جميع الكائنات من دون تبعيض أو تمييز.
2- تتجسّد الهداية الإلهية العامة لكلّ موجود بما يتناسب ويتلاءم مع الغاية التي من أجلها خلقه اللّه تعالى.
أقسام الهداية الإلهية العامة: 1ـ الهداية التكوينية، 2ـ الهداية التشريعية.
1- الهداية التكوينية
أودع اللّه تعالى في ذات كلّ موجود ما يهديه إلى الغاية التي خلقه من أجلها، وتسمّى هذه الهداية بالهداية التكوينية.
خصائص الهداية التكوينية: 1- تتمّ الهداية التكوينية عن طريق القوى التي يخلقها اللّه تعالى في كلّ موجود لتهديه إلى الغايات التي خُلق لأجلها، 2- تتحقّق الهداية التكوينية في كلّ موجود بصورة خاصة تتناسب وتنسجم مع ذلك الموجود.
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التكوينية
1ـ قال الله تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى[2]، 2- قال عز وجل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى[3]، أي: كلّ ما يخلقه اللّه تعالى إنّما يخلقه بتقدير خاص تتبعه الهداية التكوينية العامة.
أمثلة الهداية التكوينية
أوّلاً ـ الهداية التكوينية في الإنسان: خلق اللّه تعالى الإنسان مختاراً ليصل عن طريق عبادته للّه تعالى[4]، وكدحه في سبيل اللّه عزّ وجلّ[5] إلى ما يستحق به الرحمة الإلهية[6]، فيبلغ بذلك أعلى درجات الكمال من خلال تقرّبه إلى اللّه تعالى، وقد أعدّ اللّه تعالى للإنسان كلّ ما يحتاجه في هذا السبيل من أجل وصوله إلى الغاية التي خلقه لأجلها، وهذا ما يسمّى بالهداية الإلهية التكوينية العامة للإنسان.
قال سبحانه وتعالى: وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها[7]، أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ[8].
نماذج من قوى الهداية التكوينية في الإنسان: إنّ من القوى التي خلقها اللّه تعالى في الإنسان ليهتدي بها إلى غاية خلقه:
1ـ قوى نمو النطفة والجسم: جعل اللّه تعالى في النطفة قوى تهديها وترشدها عند توفّر الشروط المطلوبة إلى النمو بصورة صحيحة من أجل تكوين الإنسان بالشكل المطلوب، كما أنّ جسم الإنسان مليء بالأجهزة التي تهديه إلى حفظ حالة التوازن فيه.
2ـ العقل: إنّ العقل هو الجهاز الذي يرشد الإنسان إلى الخير والصلاح، وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود هذه الهداية العامة في جميع المكلَّفين، وحثّ الباري عزّ وجلّ الإنسان على التعقّل والتفكّر والتدبّر لينتفع من هذه الهداية العامة في حياته.
ملاحظة: إنّ الذين يهملون عقولهم ولا ينتفعون بها عن طريق التفكّر والتدّبر والتأمّل، فإنّهم ـ في الواقع ـ يحرمون أنفسهم من هذه الهداية الإلهية العامة، وإنّهم سيتحمّلون بأنفسهم مسؤولية عدم انتفاعهم من هذه الهداية.
3ـ الفطرة: جعل اللّه تعالى الذات البشرية بصورة تنسجم مع التشريعات الإلهية. وعرّف اللّه تعالى النفس البشرية طريق الفجور وطريق التقوى، بحيث جعلها قادرة على التمييز بين الخير والشر بصورة فطرية، وهذا ما يعدّ من أنواع الهداية التكوينية الإلهية للعباد، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها[9]، وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها[10].
ثانياً: الهداية التكوينية في الحيوانات: خلق اللّه تعالى الحيوانات لغايات معيّنة، ثمّ هدى كلّ صنف منها إلى نظام وجودها وحياتها الطبيعية لتحقّق الغاية التي خُلقت من أجلها، وقد سمّى اللّه تعالى هذه الهداية التكوينية في بعض الموارد باسم الوحي فقال الله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ[11]، وهذه الهداية عامة لجميع أفراد النحل بلا استثناء.
نماذج من الهداية التكوينية في الحيوانات: إنّ اللّه تعالى هدى الحيوان إلى توفير أسباب العيش لنفسه، من قبيل: الأكل والشرب، والبحث عن القوت، والبناء أو البحث عن مأوى لنفسه، والهروب من كلّ ما يضرّه أو يؤلمه، والاتّجاه نحو كلّ ما يحفظ له وجوده ويحقّق له غاية حياته.
ثالثاً: الهداية التكوينية في النباتات: جهّز اللّه تعالى النباتات بقوى تهديها إلى كمالها المطلوب.
رابعاً: الهداية التكوينية في الجمادات: جهّز اللّه تعالى كلّ ذرة من الجمادات بأجهزة تسيّرها وفق قانون طبيعي منظّم يمنحها التماسك والتفاعل مع المؤثّرات الخارجية.
2- الهداية التشريعية
إنّ الهداية التشريعية عبارة عن إرشاد اللّه العباد إلى الحقّ عن طريق إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، ليتعرّف كلّ إنسان على ربّه وعلى كيفية عبادته وعلى المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يتّبعه في هذه الحياة ليصل به إلى الكمال المنشود.
خصائص الهداية التشريعية
1- تكون الهداية التشريعية من قبيل إراءة الطريق، ويقوم الأنبياء بهذه الهداية عن طريق إرشاد الناس إلى التشريعات الإلهية وإيضاح سبيل الخير والسعادة لهم وتحذيرهم من سلوك سبيل الشر والغواية.
2- تشمل الهداية التشريعية جميع المكلَّفين، وهي لا تختص بفرد أو جماعة دون غيرها، ولا بطائفة دون طائفة، ولا بجيل دون جيل، بل هي عامة شاملة، ويكون بوسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها.
3- إنّ عمومية الهداية التشريعية لكلّ مكلَّف تنفي الجبر وتثبت الاختيار في الإنسان; لأ نّها تبيّن بأنّ كلّ إنسان مختار في الاهتداء بهداية الأنبياء والرسل والكتب السماوية، وهو غير مجبور في هذا السبيل، وله أن يهتدي أو يضل وفق إرادته واختياره.
4- تعتبر الهداية التشريعية من شروط ومستلزمات التكليف، بحيث لا يصح التكليف من دونها، لأنّ الإنسان غير قادر على طاعة اللّه تعالى ما لم يهديه اللّه تعالى ويرشده إلى المنهج الديني الذي ينبغي السير على ضوئه.
بعض الآيات القرآنية الدالة على الهداية التشريعية
1ـ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَـلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[12]، 2ـ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا[13]، 3ـ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ[14]، 4ـ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراط مُسْتَقِيم[15]، 5ـ وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى[16]، 6ـ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى[17].
المبحث الثالث: الهداية الإلهية الخاصة
إنّ الهداية الإلهية الخاصة عبارة عن التوفيق والمعونة والتسديد الإلهي للعباد ومنحهم المزيد من الثبات في طريق الحقّ.
مستحقي الهداية الإلهية الخاصة: إنّ الهداية الإلهية الخاصة تكون وفق مشيئته تعالى، وإنّ اللّه تعالى يهدي من يشاء بهدايته الخاصة، ولهذا ورد في القرآن الكريم: 1ـ ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ[18]، 2ـ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[19]، 3ـ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[20].
ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم، وهو لا يشاء جُزافاً أو عبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله، وقد بيّن اللّه عزّ وجلّ في القرآن الكريم موازين مشيئته تعالى في هداية العباد بهدايته الخاصة.
موازين المشيئة الإلهية في هداية عباده بالهداية الخاصة
أوّلاً ـ الإيمان باللّه والعمل الصالح ـ الانتفاع من الهداية التكوينية كالعقل والفطرة واتّباع الهداية التشريعية ـ، ولهذا قال تعالى: 1ـ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ[21]، 2ـ إِنَّ اللّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراط مُسْتَقِيم[22]، 3ـ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[23]، 4ـ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً[24].
ثانياً ـ المجاهدة في سبيل اللّه، قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا[25]، أي: إنّ الذين يجاهدون أهواءهم النفسية في سبيل اللّه تعالى، ويقفون بصلابة أمام التيارات المعاكسة للحق، فإنّ اللّه تعالى وعدهم بالهداية الخاصة.
ثالثا ـ الإنابة، قال تعالى: إِنَّ اللّهَ … وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ[26]، وقال تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[27]، أي: إنّ من ينيب إلى اللّه تعالى ويرجع إليه ويُقبل عليه، فإنّ اللّه تعالى يهديه بهدايته الخاصة، فعلّق اللّه تعالى الهداية على من اتّصف بالإنابة والتوجّه إليه سبحانه وتعالى.
النتيجة: تكون الهداية الإلهية الخاصة فقط للذين يجاهدون ليستضيئوا بنور الهداية التكوينية والتشريعية العامة، فهؤلاء هم المستحقون لهذه الهداية، وهم الذين تشملهم العناية الربانية، فتعينهم في سيرهم على جادة الصواب، وتسدّد خطاهم في اتّباعهم للحق، وتثبّت أقدامهم على الصراط المستقيم.
الآيات القرآنية الدالة على عدم مشيئة اللّه إجبار العباد على الهداية: 1ـ وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها[28]، 2ـ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ[29]، 3ـ وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى[30]، 4- وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا[31].
تبيّن هذه الآيات بأنّ اللّه تعالى قادر على سلب اختيار الإنسان وإجباره على الهداية، ولو كان كذلك لآمن واهتدى كلّ من في الأرض، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك، وإنّما شاء أن يجعل الإنسان مختاراً في سلوكه سبيل الهداية أو الضلال، لأنّ قيمة الهداية تكمن في كونها مستندة إلى الاختيار لا إلى الجبر.
الرد الإلهي على المشركين الذين نسبوا شركهم إلى مشيئة اللّه: قال تعالى:
1ـ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ[32].
2ـ وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ[33].
توضيح: ادّعاء المشركين: شاء اللّه تعالى لنا الإشراك به وشاء لنا عبادة غيره.
استنتاج المشركين: لذلك أشركنا باللّه في الصعيد العقائدي والعبادي.
احتجاج المشركين: لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا، لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ.
الموقف الإلهي إزاء هؤلاء المشركين
1- كذّبهم اللّه في هذا الادّعاء والاحتجاج، وقال الله تعالى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
2- أوعدهم اللّه بعذاب، فقال تعالى: حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا، بسبب هذا الكذب الذي كذّبوه على اللّه تعالى.
3- طالبهم اللّه تعالى بالدليل على ما ادّعوه، فقال تعالى لنبيه (ص): قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ، أي: إنّ كان عندكم دليل أو برهان فأخرجوه، ولكنكم ـ في الواقع ـ لا تعتمدون في ادّعاءاتكم على مستند علمي، وإنّما تتبعون الظنون الكاذبة التي هي أوهام بعيدة عن الحقيقة.
4- ردّ اللّه سبحانه وتعالى على احتجاجهم بقوله: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ، أي: شاء اللّه تعالى أن يمنحكم الاختيار، ولو شاء اللّه إجباركم، لأجبركم على الهداية، ولم يجبركم على الشرك به، وفي هذا حجّة تبلغ صميم الحقيقة، وللّه الحجّة البالغة.
الآيات القرآنية الدالة على حرّية مشيئة الإنسان في اختيار الإيمان أو الكفر
1ـ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ[34]، 2ـ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً[35]، 3ـ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[36]، 4- إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ[37]، أي: إنّكم تمتلكون اختيار الإيمان أو الكفر بمحض إرادتكم، وإنّكم غير مسلوبي الإرادة في التلبّس بأيّهما شئتم.
فلو اخترتم الكفر وكفرتم باللّه، فإنّ اللّه غني عنكم، ولكن الكفر سيقودكم إلى الشرّ، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا لا يرضى اللّه لعباده الكفر، ولو اخترتم سبيل الشكر للّه تعالى، فإنّ اللّه أيضاً غني عنكم، ولكن هذا الشكر سيقودكم إلى الخير، واللّه يريد لكم الخير، فلهذا إن تشكروا يرضه لكم، وهذا ما يدلّ بصراحة على امتلاك الإنسان الاختيار في سلوكه وتصرّفاته.
معاني الهداية التي يصح نسبتها إلى اللّه تعالى
المعنى الأوّل: الإثابة
1ـ قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ[38]، فقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ، أي: يثيبهم بإيمانهم ويهديهم طريق الجنة.
2ـ قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ[39]، فقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ، أي: سيثيبهم، لأنّ الهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة.
3- قال عز وجل: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ[40]، أي: من يرد اللّه أن يثيبه بإيمانه وطاعته التي فعلها، فإنّ اللّه تعالى يشرح صدره ليطمئن قلبه بالإيمان ويثبت عليه، لأنّ المؤمن إذا انشرح صدره عند قيامه بعمل عبادي، فإنّ هذا الانشراح سيدفعه إلى مواصلة ذلك العمل والتثبّت عليه.
4ـ قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[41]، أي: ليس عليك يا رسول اللّه إثابتهم، ولكن اللّه يثيب من يشاء وفق موازين حكمته وعدله.
5- قال سبحانه وتعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[42]، أي: إنّك يا رسول اللّه لا تثيب من أحببت، ولكن الإثابة بيد اللّه تعالى، وأنّه تعالى يثيب وفق مشيئته الحكيمة والعادلة.
المعنى الثاني: إثبات الهداية والحكم بها: قد تعني عبارة هدى اللّه هؤلاء أ نّه تعالى أثبت أ نّهم مهتدون وحكم عليهم بهذا الوصف.
المعنى الثالث: الإرشاد إلى الجنة: قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً[43].
قال الإمام جعفر الصادق (ع) حول هذه الآية: إنّ اللّه تبارك وتعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنته، كما قال عزّ وجلّ: وَيُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ[44]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ[45]…[46].
معاني الهداية التي لا يصح نسبتها إلى اللّه تعالى
المعنى الأوّل: ايصال الإنسان إلى الهداية إجباراً: إنّ تفسير الهداية الإلهية بمعنى إجبار اللّه الإنسان على الهداية وحمله عليها بالقسر والغلبة يتنافى مع اختيار الإنسان في أفعاله ولا ينسجم مع مبدأ التكليف ومبدأ استحقاق الإنسان الثواب والعقاب.
المعنى الثاني: خلق الهداية في الإنسان: لا يصح القول بأنّ اللّه تعالى يخلق الهداية في الإنسان من غير أن يكون للإنسان القدرة على الامتناع.
للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابط التالي: معنى الإضلال ونسبة إضلال العباد إلى الله
الاستنتاج
تتناول المقالة مفهوم الهداية من منظورين: الهداية الإلهية العامة والخاصة، في البداية، تُعرّف الهداية بأنها إرشاد وتوجيه من الله لكل الكائنات لتحقيق أهدافها، وتُقسم الهداية إلى نوعين: التكوينية، التي تشمل القوى الفطرية والعقلية التي تهدي الإنسان والحيوانات والنباتات إلى تحقيق أغراضها، والتشريعية، التي تتمثل في إرشاد الأنبياء والرسل للناس، كما تُبرز المقالة أهمية الاختيار الحر للإنسان في الاهتداء أو الضلال، مشيرةً إلى أن الهداية الخاصة تُعطى لمن يسعى بجد، في النهاية، توضح أن الله لا يجبر أحدًا على الهداية، مما يعكس حكمة العدالة الإلهية.
الهوامش
[1] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة هَدَيَ.
[2] طه، 50.
[3] الأعلى، 1 – 3.
[4] قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ، الذاريات، 56.
[5] قال تعالى: يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، الانشقاق، 6.
[6] قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، هود، 118 ـ 119.
[7] الشمس، 7 ـ 8.
[8] البلد، 8 ـ 10.
[9] الروم، 30 .
[10] الشمس، 7 ـ 8.
[11] النحل، 68 ـ 69.
[12] النساء، 165.
[13] الأنبياء، 73.
[14] الفتح، 28.
[15] الشورى، 52.
[16] فصّلت، 17.
[17] النجم، 23.
[18] الزمر، 23.
[19] القصص، 56.
[20] البقرة، 213.
[21] يونس، 9.
[22] الحجّ، 54.
[23] التغابن، 11.
[24] محمّد، 17.
[25] العنكبوت، 69.
[26] الرعد، 27.
[27] الشورى، 13.
[28] السجدة، 13.
[29] النحل، 9.
[30] الأنعام، 35.
[31] الأنعام، 107.
[32] الأنعام، 148.
[33] النحل، 35.
[34] الكهف، 29.
[35] الإنسان، 29.
[36] فصّلت، 40.
[37] الزمر، 7.
[38] يونس، 9.
[39] محمّد، 4 ـ 5.
[40] الأنعام، 125.
[41] البقرة، 272.
[42] القصص، 56.
[43] الكهف، 17.
[44] إبراهيم، 27.
[45] يونس، 9.
[46] الصدوق، التوحيد، باب 35، ح1، ص236.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه.
3ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الحسون، علاء، العدل عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، طبعة 1432ه.