ما هو طريق العلم بنبوة نبينا رسول الله (ص)

ما هو طريق العلم بنبوة نبينا رسول الله (ص)

کپی کردن لینک

المقالة تتناول طرق العلم بنبوة رسول الله (ص)، مستعرضةً الأدلة التي تثبتها من القرآن الكريم والمعجزات التي أظهرها، وتبرز أهمية القرآن كدليل قاطع من خلال تحدي الفصحاء بإنتاج مثله، مما يعكس إعجازه الفريد، كما تسلط الضوء على المعجزات مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه، التي تدل على قدرته الإلهية، وتستعرض أيضا الحجج العقلية التي تدعم النبوة، وتتناول مسألة النسخ في الشرائع، موضحةً أن ذلك لا يتعارض مع النبوة بل يعكس حكمة الله تعالى.

طرق العلم بنبوة رسول الله

وطريق العلم بنبوة رسول الله (ص) من وجهين: أحدهما: القرآن، والثاني: ما عداه من الآيات، كانشقاق القمر، ورجوع الشمس، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير باليسير من الطعام، وغير ذلك.

الأدلة القرآنية على نبوة رسول الله (ص)

والقرآن الكريم يدل على نبوة النبي محمد المصطفى (ص) من وجوه:

الوجه الأول

حصول العلم باختصاصه برسول الله (ص)، وتحديه الفصحاء به، وتقريعهم بالعجز عن معارضته، كما يعلم ظهور رسول الله (ص) ودعواه النبوة، وقد تضمن آيات التحدي بقوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ[1]، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ[2]، ثم قطع على مغيبهم فقال سبحانه: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[3]، ومعلوم توفر دواعيهم إلى معارضته، وخلوصها من الصوارف وارتفاعها.

فلا يخلو أن تكون جهة الإعجاز تعذر جنس الكلام، أو مجرد الفصاحة والنظم، أو مجموعهما، أو سلب العلوم التي معها تتأتى المعارضة، والأول ظاهر الفساد، لكون كل محدث سليم الآلة قادرا على جنس الكلام، ومن جملته القرآن، ولهذا يصح النطق بمثله من كل ناطق.

والثاني يقتضي حصول الفرق بين قصير سورة وفصيح الكلام على وجه لا لبس فيه على أحد أنس بموضع الفصاحة، لكون كل سورة منه معجزا وما عداه معتادا، كالفرق بين انقلاب العصا حية وتحريكها، وفلق البحر والخوض فيه، وظفر البحر وجدوله.

وفي علمنا بخلاف ذلك وأنا على مقدار بصيرتنا بالفصاحة نفرن بين شعر النابغة وزهير وشعر المتنبي فرقا لا لبس فيه، مع كونهما معتادين، ولا يحصل لنا مثل هذا بين قصير سورة وفصيح كلام العرب، مع وجوب تضاعف ظهور الفرق بينهما، لكون أحدهما معجزا والآخر معتادا، دليل على أنه لم يخرق العادة بفصاحته.

ولا يجوز كون النظم معجزا، لأنه لا تفاوت فيه، ولهذا نجد من أنس بنظم شئ من الشعر قدر على جميع الأوزان بركيك الكلام أو جيده، وإنما يقع التفاوت بالفصاحة، ولا يجوز أن يكون الإعجاز بمجموعهما من وجهين:

أحدهما: أنا قد بينا تعلق الفصاحة والنظم بمقدور العباد منفردين، وذلك يقتضي صحة الجمع بينهما، لأن القادر على إيجاد الجنس على وجهين منفردين يجب أن يكون قادرا على إيجاده عليهما مجتمعين، إذ كان الجمع بينهما صحيحا، لولا هذه لخرج عن كونه قادرا عليهما.

الثاني: أنه لو كان نظم الفصاحة المخصوصة يحتاج إلى علم زائد، لكان علمنا بأن العرب الفصحاء قد نظموا ما قارب القرآن في الفصاحة تسعرا وسجعا وخطبا دليلا واضحا على كونهم قادرين على نظم فصاحتهم في مثل أسلوب القرآن، لأنا قد بينا أن القدرة على نظم واحد تقتضي القدرة على كل نظم.

وإذا بطلت سائر الوجوه ثبت أن جهة الإعجاز كونهم مصروفين، وجرى ذلك مجرى من ادعى الإرسال إلى جماعة قادرين على الكلام والتصرف في الجهات، وجعل الدلالة على صدقه تعذر النطق بكلام مخصوص وسلوك طريق مخصوص، في أن تعذر ذين الأمرين مع كونهم قادرين عليهما قبل التحدي وبعد تقضي وقته من أوضح برهان على كونه معجزا، لاختصاصه بمقدوره تعالى وتكامل الشروط فيه.

إن قيل: بينوا جهة الصرف وحاله، وعن أي شئ حصل؟ قيل: معنى الصرف هو: نفي العلوم بأضدادها، أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لولا انتفاؤها لصحت منهم المعارضة، وهذا الضرب مختص بالفصاحة والنظم معا، لأن التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرف.

وأيضا فلو لا ذلك لكان القرآن معارضا، لأنا قد بينا عدم الفرق المقتضي للاعجاز بينه وبين فصيح كلامهم، وكون النظم والفصاحة والجمع بينهما مقدورا، ولأن رسول الله (ص) جرى في التحدي على عادتهم، ومعلوم أن معارض المتحدي بالوزن المخصوص لا يكون معارضا حتى تماثل في الفصاحة والوزن والقافية، وإنما وجب هذا لتعلق التحدي بالرتبة في الفصاحة والطريقة في النظم.

ولا يملان أحدا دعوى معارضة للقرآن، لأن رسول الله (ص) لو عورض مع ظهور كلمة المعارض وضعفه (ص) لكانت المعارضة أظهر من القرآن، وما وجب كونه كذلك لا يجوز إستاره فيما بعد على مجرى العادات.

ولأنه لو عورض لكانت المعارضة هي الحجة والقرآن هو الشبهة، وذلك يقتضي ظهورها، ليكون للمكلف طريق إلى النظر يفرق ما بين الحق والباطل.

وليس لأحد أن يقول: إنما لم يعارضوا لأنهم ظنوا أن الحرب أحسم، لأن الحرب لم تكن إلا بعد مضي الزمان الطويل الذي تصح في بعضه المعارضة بلا  مشقة ولا خطر وفيها الحجة، والحرب خطر بالأنفس والأموال ولا حجة فيها، والعاقل لا يعدل عن الحجة مع سهولتها إلى ما لا حجة فيه مع كونه خطرا إلا للعجز عن الحجة، ولهذا لو رأينا متحديا ذوي صناعة بشئ منها ومفاخرا لهم به، ومدعيا التقدم عليه فيها، ثم تحداهم به فعدلوا عن معارضته إلى شتمه وضربه، لم تدخل علينا شبهة في عجزهم عما تحداهم، ولا ريب في عنادهم، وهذه حال القوم المتحدين بالقرآن بلا قبح.

وببعض هذا تسقط شبهة من يقول: إن رسول الله (ص) شغلهم بالحرب عن معارضته، لأن الحرب لا تكن إلا بعد مضي أزمنة يصح في بعضها وقوع المقدور الذي صارف عنه مع خلوص الدواعي إليه، ولأن الحرب لا تمنع من الكلام، ولهذا اقترنت بالنظم والنثر ولم تنقص رتبة ما قالوه من ذلك في زمنها في الفصاحة عما قالوه في غيرها، على أن الحرب لم تستمر، وإنما كانت أحيانا نادرة في مدة البعثة ومختصة في حالها بقوم من الفصحاء دون آخرين.

الوجه الثاني

قول الله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا[4]، فقطع على عدم له، فكان كما أخبر، وهذا يقتضي اختصاص هذا الإخبار بالقديم تعالى المختص بعلم الكائنات القادر على منعهم من التمني بالقول، ويجري ذلك مجرى لو قال لهم: الدلالة على صدقي أنه لا يستطيع أحد منكم أن ينطق بكذا، مع كونهم قادرين على الكلام، في ارتفاع اللبس أن تعذره يقتضي كون ذلك معجزا.

الوجه الثالث

ما تضمنه من أخبار الأمم السالفة وقصص الرسل، مع حصول نشوء رسول الله (ص) بعيدا عن مخالطة أهل الكتب والكتابة أميا فيها، نائيا عن سماع أخبار الأنبياء.

الوجه الرابع

ما تضمنه من الإخبار عن بواطن أهل النفاق وإظهارهم خلاف ما يبطنون، والعلم في النفوس موقوف عليه تعالى، فيجب كونه دلالة على نبوته.

الوجه الخامس

ما تضمنه من الإخبار عن الكائنات، ومطابقة الخبر المخبر في قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[5]، وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ[6]، وقوله: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ[7]، وقوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ[8]، وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ[9]، وقوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[10].

وأمثال ذلك من الآيات والأخبار بما يكون مستقبلا، ووقوع ذلك أجمع مطابقا للخبر، مع علمنا بوقوف ذلك عليه تعالى، وهذه الأخبار إنما تدل على صدق المخبر بعد وقوع المخبر عنه، ولا يجوز أن يجعلها دلالة على افتتاح الدعوة، لتأخرها عنها.

وأما دلالة الآيات الخارجة من القرآن الدالة على نبوة رسول الله (ص)، فتفتقر إلى شيئين:

أحدهما: إثبات كونها.

الثاني: كونها معجزات.

والدلالة على الأول: أنا نعلم وكل مخالط لأهل الإسلام تعين الناقلين من فرق المسلمين وانقسامهم إلى شيعة وغيرهم، وبلوغ كل طبقة في كل زمان حدا لا يجوز معه الكذب، وإخبار من بينا من الفريقين عن أمثالهم، وأمثالهم عن أمثالهم، حتى يتصلوا بمن هذه صفته من معاصري رسول الله (ص).

وأنه انشق له القمر، وردت الشمس، ونبع الماء من بين أصابعه، وأشبع الجماعة بقوت واحد، مع حصول العلم بتميز أزمانهم ووجود من هذه صفته في كل زمان، وذلك يقتضي صدقهم، لأن الكذب لا يتقدر فيمن بلغ مبلغهم إلا بأمور:

إما باتفاق من كل واحد، أو بتواطؤ، أو بافتعال من نفر يسير وانتشاره فيما بعد.

والأول ظاهر الفساد، لأن العادة لم تجر بأن ينظم شاعر بيتا فيتفق نظم مثله لكل شاعر في بلده فضلا من شعراء أهل الأرض.

والثاني يحيله تنائي ديارهم واختلاف أغراضهم وعدم معرفة بعضهم لبعض، ولو جاز لوقع العلم به ضرورة، لأنه لا يكون إلا باجتماع في مكان واحد أو بتكاتب وتراسل، وكل منهما لو وقع من الجماعات المتباعدة الديار لحصل العلم به لكل عاقل، وافتعاله ابتداء بنفر يسير وانتشاره فيما بعد يسقط من وجهين:

أحدها: تضمن نقل من ذكرناه صفة الناقلين واتصالهم بالنبي لصفتهم المتعذر معها الافتعال في المنقول، فما منع من كذبهم في النقل للخبر يمنع منه في صفة الناقلين.

والثاني: أن النقل لهذه المعجزات لو كان مفتعلا من نفر يسير ثم انتشر لوجب أن نميزهم بأعيانهم، ونعلم الزمان الذي افتعلوه فيه، حسب ما جرت به العادات في كل مفتعل مذهبا: كملكا ويعقوب ونشطور ومنتحلي الإنجيل كمتا ولوقاوينا، وكمنشئي القول بالمنزلة بين المنزلتين من واصل وعمرو بن عبيد، وما أفتاه جهم بن صفوان، وما ابتدعه أبو الحسن الأشعري، وما اخترعه ابن كرام، وتميز الأوقات بذلك وتعين المحدث فيها.

وإذا وجبت هذه القضية في كل مفتعل، وفقدنا العلم والظن بمفتعل هذه الآيات وزمان افتعالها، بطل كونها مفتعلة، وإذا تعذرت الوجوه التي معها يكون الخبر كذبا في مخبر الناقلين لأيام النبي، ثبت صدقهم.

وأما الدلالة على الثاني فهو: أن كل متأمل يعلم تعذر رد الشمس وانشقاق القمر على كل محدث، وأما نبوع الماء من بين الأصابع فمختص بإيجاد الجواهر وما فيها من الرطوبات التي لا يتعلق بمقدور محدث، وكذلك القول في إشباع الخلق الكثير بيسير الطعام وهو لا محالة مستند إلى ما لا يقدر عليه غيره تعالى، لرجوعه إلى إيجاد الجواهر المماثلة للمأكول، مع علمنا بتعذرها على المحدثين.

ولا يقدح في نقل هذه الآيات اختصاصه بالدائنين به، لأن المعتبر في صدق الناقل وصحة المنقول ثبوت الصفة التي معها يتعذر الكذب وإن كان الناقل فاسقا، وقد دللنا على ثبوتها لناقلي المعجزات، فيجب القطع على صدقهم وسقوط السؤال.

على أن النقل مفتقر إلى داع خالص من الصوارف، ولا داعي لمخالف الإسلام الراكن إلى التقليد العاشق لمذهب سلفه لنقل ما هو حجة عليه مفسد لنحلته، بل الصوارف عنه خالصة من الدواعي، فلذلك لم ينقل مشاهدو المعجزات من مخالفي الله لما شاهدوه ونشأ خلفهم عن سلف لم ينقلوها إليهم، فانقطع نقلها منهم، ولا يقيم هذا عذرهم لثبوت الحجة بنقلها ممن بيناه، مع كونهم مخوفين من العذاب الدائم بجحدها.

ويقلب هذا السؤال على مثبتي النبوات من مخالفي الإسلام، بأن يقال: لو كانت المعجزات اللاتي يدعون ظهورها على إبراهيم وموسى وعيسى (ع) ثابتة لنقلها كل مخالف، فمهما انفصلوا به كان انفصالا منهم، وإذا ثبتت بنبوة نبينا (ص) وجب اتباعه والعمل بما جاء به على الوجه الذي شرعه، والحكم بفساد كل ما خالفه من النحل، وضلال مخالفه والقطع على كفره، لكون ذلك معلوما من دين رسول الله (ص).

في النسخ

ولا يقدح في ثبوت النبوة لرسول الله (ص) ما يقوله بعض اليهود: من أن النسخ يؤدي إلى البداء، لأن الفعل لا يكون بداء إلا أن يكون المأمور به هو المنهي عنه بعينه، وأن يكون المكلف واحدا، والوقت واحدا، والوجه واحدا، لأنه لا وجه للنهي عن المأمور به مع تكامل الشرائط المذكورة إلا أن الآمر ظهر له ما كان مستترا، وهذا مستحيل فيه تعالى، لكونه عالما لنفسه، ومتى اختل شرط واحد لم يكن بداء بغير شبهة، بل تكليف حسن.

وما أتى به رسول الله (ع) ليس ببداء، لأن المنهي عنه به (ص) غير المأمور به موسى (ع)، والمكلف غير المكلف، والوقت غير الوقت، والوجه والصفة غير الوجه والصفة، وإنما هو تكليف اقتضت المصلحة بيانه.

وقد بينا أن الوجه في البعثة بيان المصالح من المفاسد، وما هو كذلك موقوف على ما يعلمه سبحانه، فمتى علم اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من إسقاطه، وإلا كان نبوته مفسدة أو ظلما لا يجوزان عليه سبحانه.

ولذلك متى علم سبحانه في عمل معين كونه مصلحة لمكلف ومفسدة لآخر وجب أمر أحدها به ونهي الآخر عنه، وإن علم في فعل معين كونه مصلحة لمكلف وفي فعل آخر مفسدة له فلا بد من أمره بأحدهما ونهيه عن الآخر، وإن علم أن الفعل في وقت مصلحة وفي آخر مفسدة فلا بد من أمره به في وقت المصلحة ونهيه عن مثله في وقت المفسدة، وإن علم أن إيقاع الفعل على وجه يكون مصلحة وعلى آخر يكون مفسدة فلا بد من الأمر بإيقاعه على وجه المصلحة والنهي عن وجه المفسدة.

الدلالة على حسن التكليف مع هذه الوجوه قبح ذم من كلف مع تكاملها أو بعضها، ولأن تجويز قبح التكليف والحال هذه ينقض النبوات، لأنه لا وجه لها إلا ما ذكرناه، ولا انفصال من الملحدة والبراهمة فيما يقدحون به – من اختصاص الامساك بالسبت دون الأحد، ووجوب العبادة في وقت معين وقبحها في غيره، وتحليل مثل المحرم في وقتي الصوم والافطار وفي تحريمه مثل المحلل على كل حال، كالشحم والمختلط باللحم والمتميز منه، ووجوب السبت على من بعث إليه موسى دون غيره ممن تقدم أو عامر أو تأخر – إلا بإسناد ذلك إلى المصلحة الموقوفة على ما يعلمه سبحانه.

وإذا تقرر هذا، وكان ما أتى به رسول الله (ص) من الشرائع مغايرا لأعيان ما كلفوه، وفي غير وقته، وعلى غير وجهه، وبغير مكلفيه حسب ما بيناه ثبت حسنه ووجوبه، لكونه مصلحة معلومة بصدق المبين.

أما إن قيل: بينوا لنا ما النسخ لنعلم تميزه من البداء؟ قيل: هو كل دليل رفع، مثل الحكم الشرعي الثابت بالنص بدليل لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه، وقلنا: رفع مثله، لأن رفع عين المأمور به بداء، وقلنا: شرعي، لأنه لا مدخل للنسخ في العقليات، وقلنا: ثابتا، لأنه لا يرفع ما لم يجب مثله، وقلنا: بدليل، لأن سقوط التكليف بعجز أو منع أو فقد آلة أو غير ذلك من الموانع لا يكون نسخا.

وقلنا: مع تراخيه عنه، لأن المقارن لا يكون نسخا، لو قال تعالى: صل مدة سنة كل يوم ركعتين، لم يكن سقوط هذا التكليف بانقضاء الحول نسخا، ومتى تكاملت هذه الشروط كان نسخا، والمرفوع منسوخا، والرافع ناسخا، وتأمل كل ناسخ ومنسوخ في شرعنا يوضح عن تكامل هذه الشروط فيه.

وامتناعهم من النظر في دعوتنا وتحرزهم من تخويفنا – بدعواهم أن موسى (ع) أمرهم بإمساك السبت أبدا وتكذيب من نسخه – إخلال بواجب التحرز، واعتصام بغير حجة، لأنه لا طريق لهم إلى العلم بصحة هذا الخبر، بل لا طريق لهم إلى إثباته واحدا، وإنما يخبرون عن اعتقادات متوارثة عن تقليد، لافتقار ثبوت النقل المتواتر وما ورد من طريق الآحاد إلى العلم بأعيان الأزمنة وتعيين الناقلين في كل زمان، لأن الجهل بالزمان يقتضي الجهل بمن فيه وتعذر العلم به، وفقد العلم بثبوت الناقلين فيه يمنع من العلم بالتواتر والآحاد بغير إشكال.

وهذان الأمران متعذران على اليهود، لأنه لا يمكن أحدا منهم دعوى حصول النص بأعيان الأزمنة متصلة بوجود اليهود فيها إلى زمن موسى، وإن ادعاه طولب بالحجة، ولن يجدها بضرورة ولا دلالة، والأزمان المعلوم وجود اليهود فيها لا سبيل لمم إلى إثبات ناقلين من جملتهم آحاد فضلا عن متواترين.

وإذا تعذر الأمران لم يبق لاعتقادهم صحة هذا الإخبار إلا التقليد الذي لا يؤمن مخوفا ولا يقتضي تحرزا، ولأن وجوب التحرز من تخويفنا ضروري، والعلم بما تخوف منه ممكن لكل ناظر في الأدلة، وما يدعى على موسى إذا لم يكن إثباته على ما أوضحناه قبح التكليف معه، وهو سبحانه لا يكلف على وجه يقبح، فيجب لذلك القطع على سقوط تكليف شرعهم وفرض التمسك به بخبر غير ثابت بعلم ولا ظن، مع الخوف العظيم من المتمسك به.

على أن الخبر المذكور من جنس الأقوال المحتملة للاشتراط والتخصيص والتقييد والتجوز بغير إشكال، والمعجز بخلاف ذلك، فلو فرضنا صحته لوجب تخصصه أو اشتراطه أو تقييده أو نقله عن حقيقة إلى المجاز لثبوت النسخ لشرعهم بالمعجز الذي لا يحتمل التأويل، إذ لا فرق بين تخصيص القول أو اشتراطه أو نقله عن أصله بالدليل الأصلي واللفظ والعقلي، بل العقلي آكد، وإذا جاز نقل الألفاظ عن موضعها بمثلها، فبالأدلة العقلية أجوز، على أن موسى (ع) إن كان قال هذا لم يخل من أحد وجهين:

إما أن يريد الامتناع بالنسخ وتكذيب من أتى به وإن كان صادقا بالمعجز، أو يريد ذلك مع فقد علم التصديق.

وإرادة الأول لا يجوز لكونه قادحا في نبوته، بل في جميع النبوات، لوقوف صحتها على ظهور العلم بالمعجز وفساد كونه دالا في موضع دون موضع، فلم يبق إلا أنه (ع) إن كان قال ذلك فعلى الوجه الثاني الذي لا ينفعهم ولا يضرنا.

وليس لمم أن يتعذروا مما لزمناهم: بفقد دليل على نبوة من ادعى نسخ شرعهم، لأن فقد ذلك ليس بمعلوم ضرورة، فيجب عليهم أن يجتنبوا السكون إلى ما هم عليه حتى ينظروا فيما يدعوا إليه وبخوفوا منه، ومتى فعلوا الواجب عليهم علموا صحة نبوة رسول الله (ص) وفساد ما يدينون به، لأنا قد دللنا بثبوت الأدلة الواضحة على نبؤته (ص)، وإلا يفعلوا يؤتون في فقد العلم بالحق من قبل أنفسهم وبسوء اختيارهم والحجة لازمة لهم.

ثم يقال لهم: دلوا على نبؤة من تزعمون أنكم على شرعه، فإن فزعوا إلى ترتيب العبارة عن الاستدلال بالتواتر بمعجزات النبي موسى (ع)، طولبوا بإثبات صفات التواتر، فإنهم لا يجدون سبيلا إليها حسب ما أوضحناه، وإذا تعذر ذلك سقط دعواهم ولزمتهم الحجة.

ثم يسلم لهم دعوى التواتر وتقابلوا بالنصارى، فلا يجدون محيصا عن التزام النصرانية وتصديق عيسى، أو تكذيبه وموسى (ع)، إذ إثبات أحد الأمرين والامتناع من تساويهما لا يمكن.

وكل شئ يقدحون به في نقل النصارى يقابلون بمثله من البراهمة، وللنصارى أكبر المزية، لحصول العلم للأكل مخالط باتصال وجودهم في الأزمنة إلى من شاهد المعجزات وتعذر مثل ذلك فيهم، ولا انفصال لهم من النصارى بضلالهم في إلهية المسيح (ع)، أو القول بالنبوة، أو الاتحاد، لتميز النقل من الاعتقاد بصحة دخول الشبهة في الاعتقاد وارتفاعها عن التواتر، وثبوت صدق المتواترين وإن كانوا ضلالا أو اعتقدوا عند هذا النقل ضلالا.

ألا ترى إلى وجود كثير من العقلاء قد ضلوا عند ظهور المعجزات على الأنبياء والأئمة (ع)، فاعتقدوا لذلك إلهيتهم، ولم يمنع ذلك من صدقهم فيها، لانفصال أحد الأمرين من الآخر.

وإلزامهم على هذه الطريقة نبوة رسول الله (ص) لتواتر المسلمين في الحقيقة بالمعجزات الظاهرة عقيب دعواه أبلغ في الحجة، لأنه لا يمكنهم القدح في نقل المسلمين بشئ مما قدحنا به في نقلهم وما قدحوا به على النصارى.

الاستنتاج

أن هناك طريقتين رئيسيتين للعلم بنبوة رسول الله (ص)، وهما القرآن الكريم والمعجزات التي أظهرها، تتضمن الأدلة القرآنية تحديا للمعارضين بإنتاج مثل القرآن، مما يثبت إعجازه، كما تشير المعجزات مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه إلى كونه نبيا، حيث إن هذه الأمور تتعذر على البشر، توضح المقالة أيضا أن النسخ في الشرائع لا ينفي نبوة رسول الله (ص)، بل هو مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية في توجيه المكلفين، وتُبرز المقالة أهمية المعجزات والشهادات التاريخية كدلائل على صدق نبوة رسول الله (ص) وضرورة اتباعه.

الهوامش

[1] هود، 13.

[2] البقرة، 23.

[3] الإسراء، 88.

[4] البقرة، 94– 95.

[5] القمر، 45.

[6] الفتح، 27.

[7] الروم، 1– 3.

[8] الحشر، 12.

[9] النور، 55.

[10] النصر، 1.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحلبي، أبو صلاح، تقريب المعارف، قم، تحقيق ونشر فارس تبريزيان الحسون، طبعة 1417ه‍، ص156ـ 168.