- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
عاصر الإمام علي الهادي (ع) مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، حيث تولّى الإمامة في بقية ملك المعتصم الذي حكم منذ سنة (218 ـ 227 ه) ثمّ الواثق (227 ـ 232 ه) والمتوكل (232 ـ 247 ه) حيث قتل على يد الأتراك، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين ـ، ثم المستعين (248 ـ 252ه) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة المعتز (252 ـ 255ه) حيث كان استشهاد الإمام (ع) سنة (254ه)، وفي هذا العام تولى مهام الإمامة ابنه الحسن العسكري (ع).
وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العبّاسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً، إذ إنّها كانت تعد مؤشراً على ضعفها، وتشكل بدايةً لإنحلالها، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة أُخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى الى تولي المعتز وخلع الأوّل عام (252ه)[1]. كل واحد من هذه الصراعات كان له تأثيره المباشر في ايجاد الضعف والإنحلال.
وتمثّلت الأحداث الداخلية أيضاً بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مساور الشاري، وهناك أيضاً الثورات والإنتفاضات العلوية الى جانب نزاعات الطامعين في السلطة.
كما أنّ الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والإسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم، وفي أيام المتوكل قام المتوكّل بهدم قبر الإمام الحسين (ع)، ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته[2]، لأنّ المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم، ولم يرد تجاه تلك الأحداث أي تعليق من قبل الإمام علي الهادي (ع)، ويمكن أن يقال: «إنّه لم يرد إلينا من موقف الإمام (ع) مع الخلفاء ـ غير المتوكل ـ إلاّ أقل القليل».
«وكانت للإمام (ع) منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى بن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام (234ه) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال:
«فذهبت الى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (ع) ـ وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل الى الدنيا، فجعلت أُسكّنهم، وأحلف لهم أنّي لم أُؤمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب العلم، فعظم في عيني»[3].
وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام (ع) من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الأُمّة به كما كانت توصله بالأمة، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمام (ع) فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة الى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العبّاسيين أوّلاً، بالإضافة الى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه الى السيطرة والسلطة ثانياً.
مواقف الإمام علي الهادي (ع) تجاه الأحداث
يتّضح لنا من خلال الإجراءات التي قام بها المتوكل العبّاسي تجاه الإمام الهادي (ع) أنّ حركة الإمام وقيامه بمهامّه إزاء الأُمّة وخاصّته ـ وهي القواعد المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحيّة ـ كانت حركة محدودة تخضع لمدى الرقابة والضغط الموجه إليه والى خاصته.
فكان الإمام (ع) منتهجاً نفس السبيل الذي انتهجه آباؤه (ع)، وعلى وفق المصلحة العليا للرسالة الإسلامية وبمقدار ما تسمح به الظروف العامة والخاصة التي تحيط بالإمام (ع) في عصره وهي ضرورة الحفاظ على مفاهيم الرسالة الإسلامية أوّلاً ومنع خاصّته من الوقوع في الانحراف أو ما كان يكيده لهم السلطان العبّاسي من منزلقات ثانياً.
ويمكن أن نصور مواقف الإمام علي الهادي (ع) على منحيين:
المنحى الأوّل
هو إثبات الحقّ ونقد الباطل، على صعيد الأُمّة الإسلامية، سواء كان ذلك على مستوى جهاز الحكم، أو على مستوى القواعد الشعبية العامة.
حتّى إنّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل: «ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل ـ أي الإمام (ع) ـ عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»[4].
المنحى الثاني
هو المحافظة التامة على أصحابه ورعاية مصالحهم وتحذيرهم من الوقوع في أحابيل السلطة العباسيّة ومساعدتهم في إخفاء نشاطهم والحذر في التحرك بحسب الإمكان.
وتتّضح لنا مواقف الإمام (ع) من خلال استعراض بعض الحوادث التي واجهها وما اتّخذ من إجراءات إزاءها لِنحصل على صورة واضحة المعالم حينما نأخذ كل ظروفه بنظر الاعتبار فتتضح من خلالها الحركة العامة للأئمة الأطهار والمواقف الخاصّة بكل إمام.
الإمام علي الهادي (ع) والمتوكل العبّاسي
لقد سعى جماعة بالإمام (ع) إلى المتوكل، وأخبروه بأنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنّه يطلب الأمر لنفسه، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة، فلمّا باغتوا الإمام (ع) وجدوه وحده، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجّة يتعلّل بها على الإمام (ع). فناول المتوكل الإمام (ع) الكأس الذي في يده.
فقال الإمام (ع): يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني منه، فأعفاه، فقال المتوكل: أنشدني شعراً أستحسنه.
قال الإمام (ع): إنّي لقليل الرواية للأشعار.
قال المتوكل: لا بدّ أن تنشدني شيئاً. فأنشده الإمام (ع):
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ** غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ** فاُودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ** أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة ** من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا ** فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم ** ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا ** فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطَّلَةً ** وساكِنوها الى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلّت دموعه لحيته، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب، ثم قال يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال الإمام (ع): نعم، أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله مكرّماً[5].
فمواقف الإمام (ع) كانت تنسجم مع موقع الإمامة أوّلاً وتنسجم مع الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بالإمام (ع) وشيعته ثانياً.
وكان الإمام (ع) يحاول إتمام الحجّة وإقامة الحقّ كلما سمحت الفرصة بذلك، فقد روي أنّ نصرانيّاً جاء الى دار الإمام (ع) حاملاً إليه بعض الأموال، فخرج إليه خادمه وقال له: أنت يوسف بن يعقوب؟ فقال: نعم، قال: انزل. فنزل وأقعده في الدهليز، فتعجّب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه، وليس في البلد من يعرفه، ولا دخله قط.
ثم خرج الخادم وقال: المائة دينار التي في كمك في الكاغدة هاتها، فناولها إيّاها ثم دخل على الإمام (ع) وطلب منه ـ إلامام ـ أن يرجع الى الحقّ وأن يدخل في الإسلام فلما قال له الإمام: يا يوسف أما آن لك أنْ تسلم؟ فقال يوسف: يامولاي قد بان لي من البرهان ما فيه الكفاية لمن اكتفى، فقال له الإمام (ع): هيهات أما انك لا تسلم ولكنه سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا[6].
الإمام علي الهادي (ع) ووزير المنتصر
وروي أنّ الإمام (ع) كان يساير أحمد بن الخصيب في أثناء وزارته وقد قصُرَ أبو الحسن ـ أي الإمام الهادي (ع) ـ عنه فقال له ابن الخصيب: سر، جُعلت فداك، فقال له أبو الحسن (ع): «أنت المقدّم»، يقول الراوي فما لبثنا إلاّ أربعة ايام حتى وضع الدهق على ساق ابن الخصيب وقتل[7].
وابن الخصيب هذا من المتجبرين وقد استوزره المنتصر وندم على ذلك لما اشتهر بالظلم.
الإمام علي الهادي (ع) والتحدّي العلمي
لم تنحصر تحديات السلطة بإجراءاتها القمعية ضد الإمام (ع) بل كانت تعمد بين الحين والآخر الى إحراج الإمام في قضايا علميّة حيث تدفع بوعاظها الى محاججة الإمام (ع) بطرح أسئلة في مجالس عامة.
على أنّ عجز فقهاء السلطة عن إيجاد حلول لمشاكل فقهية مستجدّة كان يدفع الخليفة لطرح الأسئلة على الإمام (ع).
فقد روي أنّ رجلاً نصرانياً قدم الى المتوكل وكان قد فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم الحد عليه، فأسلم، فقال يحيى ابن أكثم ـ وهو قاضي القضاة ـ قد هدم إيمانُه شِركَه وفِعلَه، وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود، الى غير هذه الأقوال… فلمّا رأى المتوكل هذا الاختلاف بين الفقهاء أمر بالكتابة إلى الإمام (ع) لسؤاله عن هذا المشكل الذي اختلفوا فيه، فلما قرأ الإمام (ع) الكتاب كتب: «يضرب حتى يموت».
فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ـ أي سامراء ـ ذلك، فقالوا يا أمير المؤمنين: سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجىء به سنة.
فكتب المتوكل إلى الإمام قائلاً: إنّ الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا: لم يجىء به سنة ولم ينطق به كتاب، فبيّن لنا لم أوجبتَ علينا الضرب حتى الموت؟!
فكتب (ع): بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)[8]. فأمر به المتوكل فضرب حتى مات[9].
الإمام علي الهادي (ع) وفتنة خلق القرآن
وفي فترة حكم المأمون العبّاسي، اُثيرت من قبل السلطان العبّاسي قضية خلق القرآن من أجل إبعاد الأُمّة عن همومها وأهدافها بالإضافة إلى توسيع وتعميق شُقّة الخلاف بين أبناء الأُمّة، ليكون هذا الخلاف حاجزاً بينهم وبين السلطان المنحرف والبعيد في سلوكه ونشاطه عن الشريعة الإسلامية.
وهناك جهة ثالثة هي أنّ السلطة قد استغلت هذه القضية إذ جعلتها مصيدة لمعارضيها فكانت تتعرّف عليهم من خلالها ثم تقوم بتحجيم دورهم في أوساط الاُمّة.
وكتب الإمام (ع) إلى شيعته في بغداد لإبعادهم عن الخوض في مسألة خلق القرآن مع من يخوض فيها تجنّباً لهم من الآثار السلبيّة التي يمكن أن تلحق بهم وربما يكونون عرضة للوقوع تحت إجراءات قمعية ومطاردة من قبل السلطة، وقد روي عنه (ع) الكتاب الآتي:
عن محمّد بن عيسى بن عبيد بن اليقطين قال كتب عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا (ع) إلى بعض شيعته ببغداد: «بسم الله الرحمن الرحيم عصمنا الله وإياك من الفتنة فإن يفعل فاعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه وليس الخالق إلاّ الله، وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون»[10].
وقد شغلت هذه المسألة الذهنيّة الإسلامية فترة حكم المأمون والمعتصم والواثق، وكان جواب الإمام (ع) محدّداً وبليغاً، إبعاداً للشيعة عن الوقوع في حبائل السلطان والخروج من هذه الفتنة بسلامة في الدين، فكان الإمام الهادي (ع) يترصّد الأحداث والظواهر التي تكتنف الحياة الإسلامية عامة وما تتطلب من مواقف خاصّة فيما يتعلق بشيعته لتجنيبهم مزالق الانحراف من الخوض في كثير من المسائل التي لا طائل منها سوى الكشف عن هويّتهم، وبالتالي التعرض لحبائل السلطة من القمع والاضطهاد والسجن.
الإمام علي الهادي (ع) مع أصحابه وشيعته
لقد حفلت حياة الإمام (ع) بالأحداث المريرة إذ كان الصراع على السلطة على أشدّه بين أبناء الأسرة الحاكمة من جهة، وبين الاُمراء والقوّاد الأتراك وغيرهم من الطامحين في السلطة من جهة ثانية.
فكان نتيجة هذا الصراع أن ينال الإمام (ع) وأبناء عمومته وشيعته في هذه الظروف الكثير من الأذى والاضطهاد باعتباره زعيم الجبهة المعارضة لكل هؤلاء المتصارعين على السلطة من حكّام وامراء ووزراء. فبالرغم من وجود هذا الصراع الشديد فإنّ الحكام العباسيين كانوا يخافون الإمام (ع) ويرون أنّه سيد أهل البيت وإمام الأُمّة وصاحب الكلمة المسموعة بين الناس.
وكان الإمام (ع) يمارس دور التربية والتوجيه وإعداد المؤمنين بمرجعيته الفكرية والروحية من أجل تحصينهم ضد الانحرافات العقائدية والفكرية ويمنعهم من الخوض في كثير من المسائل التي يكون الخوض فيها كاشفاً عن هويتهم وارتباطهم بالإمام (ع) مما كان يؤدّي إلى أن يكونوا تحت طائل عقوبات واضطهادات السلطة فيما إذا علموا موالاتهم للإمام وأهل البيت (عليهم السلام) كما حصل ذلك لابن السكّيت وغيره، حيث كانت تقوم السلطة بقتلهم أو زجّهم في السجون.
إنّ دارسي هذه الفترة ـ وهي العصر العبّاسي الثاني ـ وإن وصفوها بالضعف السياسي والإداري للسلطة لكن حكّام الدولة لم يتهاونوا في تشديد الرقابة على الإمام وأصحابه، محاولين بذلك تحديد دائرة نشاط الإمام (ع) وحدّها من التوسع في تأثيرها على قطاعات الأُمّة المختلفة.
لذا نرى أنّ الإمام (ع) كان يكرّس جلّ وقته وتعليماته بخصوص شيعته ومواليه مع تحيّن الفرصة في اتّخاذ المواقف التي تعكس وجهة النظر الإسلامية في الوقائع والأحداث مع بيان ابتعاد الحكّام العباسيين عن تطبيق تعاليم الإسلام وهم في قمة انحرافهم وانغماسهم في اللهو والمجون.
وكانت مواقف الإمام الهادي (ع) تجاه الأحداث متناسبة مع تلك الظروف فكان يصدر توجيهاته وتعليماته بحذر ودقة وسرية تامة الى شيعته وأصحابه.
رعاية الإمام علي الهادي (ع) لشيعته وقضاء حوائجهم
كتب الإمام (ع) كتاباً حذّر فيه محمّد بن الفرج الرُخجي جاء فيه:
«يا محمّد! اجمع أمرك وخذ حذرك»، فلم يفهم ما أراده الإمام بكلامه هذا حيث قال محمّد: فأنا في جمع أمري لست أدري ما المراد بما كتب به إليّ حتى ورد عليَّ رسول حملني من مصر مصفّداً بالحديد، وضرب على كل ما أملك فمكثتُ في السجن ثماني سنين.
ونجد أنّ رعاية الإمام (ع) لم تنقطع عن محمّد هذا حتى كتب إليه وهو في السجن مبشّراً له بالخروج من السجن ثم أوصاه: يا محمّد بن الفرج لا تنزل في ناحية الجانب الغربي.
وقال محمّد: فقرأت الكتاب وقلت في نفسي: يكتب أبو الحسن إليّ بهذا وأنا في السجن، إنّ هذا لعجب، فما مكثت إلاّ أيّاماً يسيرة حتى أفرج عنّي وحلّت قيودي وخلي سبيلي[11].
فكان الإمام (ع) على إطلاع دائم على الوضع والظروف التي كان يعيشها أصحابه وشيعته وهو يعمل جادّاً من أجل تخفيف وطأة ذلك عنهم لما يعلمه من سوء ظروفهم الاقتصادية والسياسية، وما تقوم به السلطة العبّاسية من التضييق وخلق ظروف يصعب عليهم التحرك أو العمل فيها فضلاً عن محاربتهم اقتصادياً وسياسياً وربّما كان يتوخى الإمام (ع) من ذلك أُموراً مثل:
1ـ تقوية صلتهم وتوجههم للارتباط بالله سبحانه وحده.
2ـ قضاء حوائجهم الخاصة.
3ـ إعادة الثقة بأنفسهم لمداومة نصرة الحقّ وخذلان الباطل.
4ـ تقوية صلتهم به والأخذ عنه وعن الثقات الذين يشير الإمام إليهم للتعامل معهم.
الإمام علي الهادي (ع) والغلاة
ظهر في عصر الإمام (ع) أشخاص وبرزت مجموعات تدعو الى آراء وتوجهات خاصة بهم تحاول خداع السذّج من الناس لصرفهم عن قيادة الإمام (ع) وتشكيكهم في معتقداتهم لغرض تفتيت الحركة الشيعية وتحجيم دورها.
ولا يبعد أن تكون السلطة من وراء بعضها بواسطة أيادي كان يهمّها أن تضعف حركة الإمام (ع) وتضيق دائرة تأثيره فيما تبتدعه من أفكار هدّامة منافية للإسلام.
ومن هؤلاء الغلاة والمنحرفين عليّ بن حسكة والقاسم اليقطيني. ولما سئل الإمام (ع) من قبل أصحابه عن معتقداتهم قال الإمام (ع) عنها: «ليس هذا ديننا فاعتزله»[12].
وعن محمّد بن عيسى ـ أحد أصحاب الإمام (ع) ـ قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري ابتداءاً منه: لعن الله القاسم اليقطيني ولعن الله عليّ بن حسكة القمي، انّ شيطاناً تراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غروراً[13].
إلى غيرها من المواقف الكثيرة للإمام (ع) بهذا الخصوص لبيان وجه الحقّ وإثباتاً للعقيدة الحقة وتجنيباً لأصحابه وشيعته من الانحراف والزيغ.
الإمام علي الهادي (ع) والثورات في عصره
إنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة وظروف القهر والاستبداد السياسي التي عانت منها الأمة إبّان عصر الدولة العبّاسية الثاني حفّزت كثيراً من معارضي الدولة على الخروج المسلّح عليها فحدثت عدّة انتفاضات وثورات في أمصار الدولة كما كانت هناك حركات انفصالية قامت نتيجة لها دول وإمارات في أمصار مختلفة.
ولا ندعي شرعية جل هذه الحركات مع صعوبة معرفة موقف الإمام (ع) منها للحيطة والسرية التي كانت سمة تعامل الإمام وشيعته مع الأحداث إذ كانت وصاياه وتعليماته الى خاصته وشيعته تتّسم بأعلى درجات السرية، وكانت تلك الثورات والانتفاضات على نوعين:
1ـ الحركات والثورات التي تدعو إلى الرضا من آل محمّد (ص).
2ـ حركات معارضة لأسباب ودوافع متعددة منها الظلم والتعسّف السلطوي لحكام بني العباس وجور الولاة والاُمراء وقوّاد الجند الأتراك، لما امتازت به هذه الحقبة الزمنية من بروز دور واسع للأتراك في إدارة السلطة.
الإمام علي الهادي (ع) وأساليب مواجهة السلطة
إنّ إبعاد الإمام (ع) عن المدينة وإقامته قريباً من مركز الخلافة في سامراء ما كان إلاّ لتحصى عليه حركاته وسكناته ومن ثم إبعاده عن شيعته وأهل بيته ومحبّيه كمحاولة من السلطة العبّاسية لإضعاف نشاط الإمام وتحجيم دوره وبالتالي إخضاعه لرقابة مشددة للتعرف على مدى تحرّكه أوّلاً، ثم التعرف على شيعته وأصحابه ثانياً، واتّخاذ الإجراءات الكفيلة بإفشال تحرّكهم ومنع تأثير الإمام ومنع انتشار فكر الإمام (ع) بين أبناء الأُمّة الإسلامية التي عرفت الإمام الرضا ومدرسته وأبنائه الذين كانوا يشكّلون الجبهة الأساسية المعارضة للحكم القائم ثالثاً.
إذاً ثبات الحكم العبّاسي كان يتوقّف على شل أيّ تحرّك ضده، من هنا نجد أنّ تعليمات الإمام وتوجيهاته لشيعته وأصحابه كانت تمتاز بالدقة والعمق لشدة وحراجة الظرف الذي كانوا يعيشونه.
وتبرز لنا صعوبة الظرف الذي كان يحيط بالإمام (ع) وشيعته من قبل السلطة العبّاسية الغاشمة من خلال نوع التعليمات التي كان يراعيها الإمام وشيعته وهي:
1ـ اتخاذ أماكن سريّة للقاءات، فعن إسحاق الجلاب قال: اشتريت لأبي الحسن غنماً كثيرة، فدعاني فأدخلني من اصطبل داره إلى موضع واسع لا أعرفه[14].
2ـ الحذر من كتابة المعلومات وما يصدر عن الإمام (ع)، فعن داود الصرمي: أمرني سيدي ـ الهادي (ع) ـ بحوائج كثيرة فقال (ع) «قل: كيف تقول؟» فلم أحفظ مثل ما قال لي، فمدّ الدواة وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أذكره إن شاء الله والأمر بيد الله»[15].
3ـ استعمال الأسماء السرية.
4ـ استعمال القوة ضد العناصر التي كانت تشكّل خطراً.
5ـ الاعتماد على العناصر ذات الالتزام والإيمان والمخلصة في نقل الأخبار والرسائل.
هذا فضلاً عن أساليب أُخرى لإيصال المعلومات أو اتّخاذ المواقف إزاء الأحداث العامة أو غيرها عن طريق طرح الأفكار في مجالس عامّة أو خاصّة أو عن طريق الأدعية والزيارات للأئمة (ع) كما في الزيارة الجامعة الّتي تضمنت معاني سامية وأفكار عقائدية مهمّة.
الاستنتاج
أن للإمام الهادي (ع) مواقف تجاه الأحداث التي ظهرت في عصره، منها موقفه مع المتوكل ووعظه بأبيات من الشعر، وموقفه مع وزير المنتصر، وموقفه من فتنة خلق القرآن، وموقفه من الغلاة، والثورات التي حصلت في عصره وتعامله مع أصحابه وشيعته ورعايته لهم وقضاء حوائجهم.
الهوامش
[1] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص139.
[2] انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص55.
[3] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ج2، ص494.
[4] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص509.
[5] انظر: المسعودي، مروج الذهب، ج4، ص104.
[6] الراوندي، الخرائج والجرائح، ج1، ص396.
[7] الكليني، الكافي، ج1، ص501.
[8] غافر، 84 ـ 85.
[9] الكليني، الكافي، ج7، ص238.
[10] الصدوق، الأمالي، ص639.
[11] الكليني، الكافي، ج1، ص500.
[12] الكشي، رجال الكشي، ج2، ص802، ح994.
[13] الكشي، رجال الكشي، ج2، ص804، ح996.
[14] الكليني، الكافي، ج1، ص498.
[15] الحرّاني، تحف العقول، ص483.
مصادر البحث
1ـ ابن الأثير، علي، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، طبعة 1386 ه.
2ـ ابن الجوزي، يوسف، تذكرة الخواص، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
3ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
4ـ الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404 ه.
5ـ الراوندي، سعيد، الخرائج والجرائح، قم، مؤسّسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
6ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
7ـ الكشي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الأُولى، 1348 ش.
8ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
9ـ المسعودي، علي، مروج الذهب ومعدن الجوهر، قم، دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1404 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
المجمع العالمي لأهل البيت، أعلام الهداية، الإمام العسكري (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت، الطبعة الأُولى، 1422 ه، من ص50 إلى ص65.