مراتب الطهور وأثرها في الآداب القلبية للمصلي

مراتب الطهور وأثرها في الآداب القلبية للمصلي

2025-02-15

94 بازدید

اعلم، أنه ما دامت حقیقة الصلاة هي العروج إلى مقام القرب وبلوغ مقام الحضور بین یدی الحق جلّ وعلا، فإن تحقیق هذا الهدف الأكبر والغایة القصوی یستلزم طيّ مراتب الطهور وهي أسمی من هذه الطهارة الشكلیة.

موانع السلوك وطهارة القلب

فأشواك هذا الطریق والموانع في هذا العروج، قذارات لا یستطیع السالك -إن لم یسع في إزالتها- الصعود بهذه المرقاة والعروج بهذا المعراج، وكل الموانع من الصلاة وأرجاس الشیطان هي من هذه القذارات، في حین أن شروط حقیقة الصلاة هي كل ما یعین السالك في هذا السیر ویعدّ من آداب الحضور.

فعلی السالك أن یزیل الموانع والقذارات أولا، لكی یتیسر له الإتصاف بالطهارة وتحصیل الطهور، الذي یتصل بعالم النور. فالسالك لن یحظی بالمحضر المقدس أوالحضور فيه ما لم یتطهر –بمراعاة مراتب الطهور- من جمیع القذارات الظاهریة والباطنیة، العینیة والساریة منها.

وأول درجة من القذارات، هي القذارات التي تلوث أدوات النفس وقواها الظاهریة بلوث الذنوب وأقذار المعاصی وأدران التمرّد علی أوامر ولیّ النعم، وغیر ذلك مما هو من مكائد إبلیس الشكلیة التي تحرم الإنسان الواقع فيها من فيض المحضر والحصول علی القرب الإلهی.

ولا یظنن أحد أن بإمكانه الفوز بمقام حقیقة الانسانیة أو تطهیر باطن القلب دون تطهیر ظاهر مملكة الإنسانیة، فإن هذا من تغریر الشیطان ومكائد إبلیس الكبری؛  ذلك لأن الكدورة والظلمات القلبية إنما تزداد بازدیاد المعاصی التي تمثل حالة غلبة الطبیعة علی الروحانیة، وما دام السالك عاجزا عن فتح مملكة الظاهر فسیظلّ محروما بالكامل من الفتوحات الباطنیة، التي تعدّ الهدف الأكبر، ولن یفتح له سبیل إلى السعادة.

إذن، فإحدی العقبات الكبری في هذا السلوك، هي القذرات والمعاصی التي یجب التطهر منها بماء التوبة النصوح، الطاهر المطهر.

واعلم أن جمیع القوی الظاهریة والباطنیة التي أنعم الحق تعالى بها علینا وأنزلها من عالم الغیب هي أمانات إلهیّة، كانت طاهرة مطهرة من جمیع القذارات بل متألقة بنور الفطرة الإلهیة، بعیدة عن ظلمة وكدورة تسلط إبلیس علیها، ثمّ إنها تلوثت بعد أن طالتها ید شیطان الواهمة وأرجاس إبلیس بعد نزولها إلى ظلمة عالم الطبیعة، فانتفت عنها حینئذ الطهارة الأصلیة والفطرة الأولیة، وتلوثت بأنواع القذارات والأرجاس الشیطانیة.

إذن، فإن السالك إلى اللّه إذا تمكن -وبعد التمسك بأذیال لطف ولیّ اللّه- من حفظ مملكة الظاهر طاهرة وبعیدة عن سلطة الشیطان، وردّ الأمانات الإلهیة علی الحالة التي استلمها دون نقص ولم یخن الأمانة، شمله بذلك الغفران والستر، واطمأنّ باله إلى سلامة الظاهر، في عمد بعد ذلك إلى القیام بإزالة الأرجاس والأخلاق الفاسدة من الباطن.

وهذه هي الدرجة الثانیة من القذارات التي یكون فسادها أشدّ وعلاجها أصعب، وأهمیتها أكبر عند المرتاضین؛ ذلك لأن الخلق الباطني للنفس مادام فاسدا وما دامت النفس محاطة بالقذارات المعنویة، فإنها لن تكون أهلا لمقام القدس وخلوة الأنس، بل قد یكون منبع فساد مملكة الظاهر هو باطن النفس وأخلاقها الفاسدة وملكاتها الخبیثة، وما لم یبدل السالك تلك الملكات السیئة بالملكات الحسنة فلن یأمن من شرور الأعمال، بل إنه حتی إن وفّق للتوبة فلن تتیسر له الإستقامة فيها مما یعدّ من مهمات الأمور.

فتطهیر الظاهر رهین بتطهیر الباطن أيضا، فضلا عن أن القذارات الباطنیة ذاتها تعدّ السبب في الحرمان من السعادة ومنشأ «جهنم الأخلاق»، التي یقول عنها أهل المعرفة بأنها أخطر من «جهنم الأعمال» وأشدّ منها إحراقا، والإشارات إلى هذا المعنی كثیرة في الأخبار المأثورة عن أهل بیت العصمة علیهم السّلام؛ لذا وجب علی السالك أن یبادر -وبعد تطهیر صفحة النفس من الأخلاق الفاسدة بماء العلم النافع والإرتیاض الشرعی الصالح الطاهر المطهر- إلى تطهیر القلب «أم القری»، الذي تصلح بصلاحه الممالك كافّة وتفسد جمیعها بفساده.

فقذارات عالم القلب هي المنشأ لجمیع القذارات، كالتعلق بغیر الحق، والتوجه إلى النفس والدنیا، مما یعدّ نتائج لحب الدنیا هو رأس كلّ خطیئة، وحب النفس الذي هو أمّ الأمراض كلها. فما دامت جذور هذین الحبین متغلغلة في قلب السالك، فلن یحصل فيه أثر لمحبة اللّه، ولن یجد سبیلا إلى المقصد والمقصود، كما أن وجود بقایا من هذین الحبین في قلب السالك یجعل من سیر السالك سیرا إلى النفس وإلى الدنیا وإلى الشیطان، ولیس سیرا إلى اللّه.

إذن، فالتطهر من حب الدنیا والنفس هو في الحقیقة أول مراتب الطهور وتطهیر السلوك إلى اللّه، وقبل هذا التطهیر لا یعدّ السلوك سلوكا إلى اللّه، وإطلاق صفة «السالك» و«السلوك» إنما یتمّ تسامحا.

وبعد هذا المنزل منازل أخرى ینبغی اجتیازها حتی یتوقع تنسّم نسیم من مدن العشق السبع «للعطار» [1] ، وذلك القائل الذي یری نفسه -وهوالسالك-  في منعطف أحد أزقتها، في حین أننا ما زلنا خلف الأسوار والحجب الثقیلة، نتوهم أن تلك المدن ووجهاءها لا تعدو إلاّ نسیجا من خیال. ولا شأن لی بالشیخ العطار أومیثم التمّار ولكني لا أنكر أصل المقامات، وأرغب من أعماق روحي وقلبي أن أكون من أصحابها، ولي الأمل أن تعینني هذه الرغبة في الوصول إلى مرتبة ما. أما أنت -یا عزیزی- فكن ما شئت والتحق بمن شئت:

أراد المدّعی الدخول إلى مشهد الحبیب

فجاءت ید الغیب وضربت صدر الأجنبي[2]

غیر أني لا أبخل في الأخوة الإیمانیة مع الأحباء العرفانیین، ولا أدخر النصیحة التي تعتبر حقا متبادلا بین المؤمنین؛ لذا أقول بأن أشدّ القذارات المعنویة التي لا تطهرها البحور السبعة والتي وقف أمامها الأنبیاء العظام (ع) عاجزین، هي قذارة (الجهل المركب) منبع الداء العضال المتمثل في إنكار مقامات أهل اللّه وأرباب المعرفة، ومبدأ سوء الظن بأصحاب القلوب.

والإنسان مادام ملوّثا بهذه القذارة، ولم يقدر المقاومة عليها بالتمسك بجميع مراتب الطهور، فلن یتقدم خطوة باتجاه المعارف، بل قد تطفئ هذه الكدورة نور الفطرة الذي یمثل نبراس طریق الهدایة، وتخمد نار العشق التي تعدّ براق العروج إلى المقامات، فتجعل الإنسان یخلد إلى أرض الطبیعة.

علی الإنسان إذن أن یطهّر باطن قلبه من هذه القذارات، وذلك بالتفكر في حال الأنبیاء والأولیاء الكمّل (ص) واستذكار مقاماتهم، وأن لا یكتفي بالمرتبة التي یكون علیها، فالوقوف في مرتبة معینة والقناعة بدرجة من المعارف تلبیس من التلبیسات الخطیرة التي یقوم إبلیس والنفس الأمّارة بالسوء بها، نعوذ باللّه منهما.

أكتفي بهذا القدر وأترك الحدیث عن «التطهیرات الثلاث» للأولیاء، لما ألزمنا به أنفسنا من تصنیف هذا الكتاب بما ینسجم وذوق العامّة، والحمد للّه.

مراتب الطهور

اعلم، أن الإنسان مادام في عالم الطبیعة ومنزل المادة «الهیولانیة» فهو في معرض تسلّط الجنود الإلهیین وجنود إبلیس.

والجنود الإلهیون هم جنود الرحمة والسّلام والسعادة والنور والطهارة والكمال، أما جنود إبلیس فهم كل ما یضّاد ذلك.

ولما كانت الجوانب الربانیة تغلب علی الجوانب الإبلیسیة، كان لفطرة الإنسان في البدایة نورانیة وسلامة وسعادة فطریة إلهیة، كما أشارت إلى ذلك الأحادیث الشریفة صراحة، والكتاب الإلهي الشریف تلمیحا.

1. من مراتب الطهور: الطاعة

الإنسان مادام في هذا العالم، فهو قادر علی اختیار الإنصیاع لأحد هذین النوعین من الجنود.  فإذا لم یكن لإبلیس سلطة علی الإنسان منذ أول الفطرة إلى آخر حیاته، كان إلهیا لاهوتیا، یرفل في باحة من النور والطهارة والسعادة، وأمسی قلبه مفعما بنور الحق وانصرف عن التوجه لسوی الحق تعالى، وكانت قواه الباطنة والظاهرة نورانیة وطاهرة لا سلطة لسوی الحق علیها، ولیس فيها نصیب لإبلیس ولا سلطة لجنوده فيها، لما استفاد من جميع مراتب الطهور.

وحینها یكون هذا الموجود الشریف، موجودا طاهرا مطلقا ونورا خالصا، مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو صاحب الفتح المطلق ومقام العصمة الكبری (بالأصالة)، والمعصومون (بالتبعیة). وحضرته یتسنم مقام الخاتمیة وهوالكمال المطلق، كما أن أوصیاءه، ولأنهم من طینته، متصلون بفطرته، فهم أصحاب العصمة المطلقة تبعا له، تبعیتهم له كاملة تماما.

أما بعض المعصومین من الأنبیاء والأولیاء علیهم السّلام فلیسوا أصحاب عصمة مطلقة ولا یخلون من سلطة الشیطان، كما في انشغال آدم علیه السّلام بالشجرة، الأمر الذي یعدّ من مظاهر تسلط إبلیس الأكبر -إبلیس الأبالسة- ورغم أن الشجرة كانت شجرة إلهیة من شجرة الجنة، إلاّ أنها كانت تنطوي علی كثرةٍ أسمائیةٍ تنافي مقام الآدمیة الكاملة، وهذا أحد معاني أو أنّها إحدی مراتب الشجرة المنهي عنها.

أما إذا تلوّث نور الفطرة بالقذارات الصوریة والمعنویة، فإنه یبتعد عن فناء القرب وحضرة الأنس بنفس مقدار ما أصابه من التلوث، حتی یبلغ الأمر انطفاء نور الفطرة بالكامل، وتحوّل مملكة الوجود الإنساني إلى مملكة شیطانیة، وخضوع ظاهرها وباطنها، سرّها وعلنها، لسلطة الشیطان وخلو مراتب الطهور. فيصبح الشیطان قلب الإنسان وسمعه وبصره ویده ورجله وسائر أعضائه. والإنسان، إذا بلغ -والعیاذ باللّه- هذا المقام، أصبح شقیا مطلقا، وحرم رؤیة وجه السعادة أبدا.

وبین هاتین المرتبتین مقامات ومراتب لا یحصیها إلاّ الحق تعالى، یكون القریب فيها من أفق النبوة من أصحاب إليمین، والقریب من أفق الشیطنة من أصحاب الشمال.

ولا بد من القول هنا، بأن الفطرة مما یمكن تطهیرها بعد تلوّثها، فالإنسان مادام في هذا العالم، فإن خروجه من سلطة الشیطان أمر ممكن ومیسور، كما هوالحال أيضا في الدخول تحت سلطة جنود ملائكة اللّه -الجنود الرحمانیین الإلهیین-. وهذا الخروج من سلطة جنود إبلیس والانضواء تحت سلطة جنود اللّه، هوالذي یصفه الرسول الأكرم صلّی اللّه علیه وآله بأنه الجهاد الأكبر، وأنه أفضل من جهاد أعداء الدین.

إذن، فأول مرتبة في الطهارة، هي الالتزام بالسنن الإلهیة وإطاعة أوامر الحق تعالى.

2. من مراتب الطهور: الأخلاق

هي التحلّی بفضائل الأخلاق والملكات.

3. من مراتب الطهور: طهارة القلب

هي الطهور القلبي، وهو عبارة عن تسلیم القلب للحق تعالى، لیصبح بعد هذا التسلیم نورانیا، بل قد یصبح هو ذاته من عالم النور ومن درجات النور الإلهي، وتسري نورانیته إلى سائر الأعضاء والجوارح والقوی الباطنة فتصبح مملكة الوجود الإنساني نورا بأسرها، بل نورا علی نوره، وهكذا حتی یصبح القلب إلهیا لاهوتیا، في تجلی حضرة اللاهوت في جمیع مراتب الباطن والظاهر.

وحینئذ تفني العبودیة وتختفي بالكامل، وتظهر الربوبیة وتتجلی، فتشمل قلب السالك الطمأنینة والأنس، ویصبح العالم بأسره محبوبا له، وتحصل له الجذبات الإلهیة، وتصیر الخطایا والزلات مغفورة في نظره، ویستتر بظل تجلیات الحب، وتتحقق له بدایات الولایة، ویحصل علی لیاقة الوفود إلى محضر الأنس. وهكذا یظل یرتقي إلى منازل أخرى یخرج ذكرها عن حدود موضوعنا في هذه الصفحات.

آداب السالك في مراتب الطهور القلبية

لنفتتح هذا الفصل بنقل الحدیث الشریف المروي عن الصادق علیه السّلام كما ورد في مصباح الشریعة، لتتنور به قلوب أهل الإیمان الصافية.

قال الصادق علیه السّلام: «إذا أردت الطهارة والوضوء، فتقدم إلى الماء تقدّمك إلى رحمة اللّه، فإن اللّه قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته ودلیلا إلى بساط خدمته. وكما أن رحمة اللّه تطهّر ذنوب العباد، كذلك النجاسات الظاهرة یطهّرها الماء لا غیر، قال اللّه تعالى: {هُوالذي أَرْسَلَ الرِّیٰاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ، وأَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً}[3] وقال اللّه تعالى: {وجَعَلْنٰا مِنَ الْمٰاءِ كلَّ شَیْءٍ حَیٍّ أَفَلاٰ یُؤْمِنُونَ}[4]. فكما أحیی به كلّ شیء من نعیم الدّنیا، كذلك برحمته وفضله، جعل حیاة القلوب الطاعات».

في الحدیث الشریف إشارات ودقائق وحقائق تحیي قلوب أهل المعرفة، وتفيض الحیاة علی الأرواح الصافية لأصحاب القلوب.

وأحد أسرار تشبیه الماء في هذا الحدیث برحمة الحق تعالى، هو كون الماء من المظاهر الكبری لرحمته تعالى، فقد أنزله في عالم الطبیعة، وجعله أصل حیاة الموجودات، بل إنّ أهل المعرفة یعبّرون بالماء عن الرحمة الإلهیة الواسعة النازلة من سماء رفيع الدرجات لحضرة الأسماء والصفات لتحیي أراضی تعیّنات الأعیان[5].

ولما كان تجلّي الرحمة الإلهیة الواسعة في ماء عالم الملك الظاهري هذا، أشدّ من تجلیها في سائر الموجودات الدنیویة، جعل الحق تعالى الماء للتطهیر من القذارات الصوریة، بل إن ماء رحمة الحق حیثما ینزل ویظهر وفي أیة نشأة من نشآت الوجود وفي كلّ مشهد من مشاهد الغیب والشهادة، یقوم بتطهیر ذنوب عباد اللّه وبما ینسجم وتلك النشأة، وما یناسب ذلك العالم.

إذن فبماء الرحمة النازل من سماء (الأحدیة)، تطهّر الذنوب العینیة لتعیّنات الأعیان، وبماء الرحمة الواسعة النازل من سماء (الواحدیة)، تطهّر ذنوب عدمیّة «الماهیّات الخارجیة». وهكذا في كل مرتبة من مراتب الوجود وبما یناسب تلك المرتبة.

كذلك فإن لماء الرحمة في مراتب النشآت الإنسانیة ظهورا متفاوتا، فبالماء النازل من حضرة الذات إلى التعیّنات الجمعیة البرزخیة تطهّر ذنوب «السرّ الوجودی» «وجودك ذنب لا یقاس به ذنب».

وبالماء النازل من حضرات الأسماء والصفات وحضرة التجلّي الأفعالي یتمّ تطهیر رؤیة الصفة والفعل، وبالماء النازل من سماء حضرة الحكم العدل یتم تطهیر القذارات الخلقیة الباطنیة، وبالماء النازل من سماء الغفاریة یتم تطهیر ذنوب العباد، وبالماء النازل من سماء الملكوت یتم تطهیر القذارات الصوریة.

إذن، یتضح أن الحق تعالى جعل الماء مفتاح قربه ودلیل سعة رحمته.

بعد ذلك، یعطي الحدیث الشریف أمرا آخر ویفتح طریقا أخرى لأهل السلوك والمراقبة فيضیف علیه السّلام:

« وتفكر في صفاء الماء ورقته وطهره وبركته ولطیف امتزاجه بكل شیء، واستعمله في تطهیر الأعضاء التي أمرك اللّه بتطهیرها [وتعبدك بأدائها]، وإیتِ بآدابها في فرائضه وسننه، فإنّ تحت كل واحد منها فوائد كثیرة، فإذا استعملتها بالحرمة، انفجرت لك عیون فوائده عن قریب».

فالحدیث یشیر هنا إلى مراتب الطهارة علی نحو العموم، فقد أوضح مراتبها العامة الأربع، إحداها ذكرت في المقطع المتقدم من الحدیث، وهي مرتبة تطهیر الأعضاء.

كذلك یشیر الحدیث إلى أن علی أهل المراقبة والسلوك إلى اللّه والمُهتمين بـ(مراتب الطهور) أن لا یقفوا عند صور الأشیاء وظواهرها، بل علیهم أن یعتبروا الظاهر مرآة الباطن، ویكتشفوا الحقائق من خلال الصور، وأن لا یكتفوا بالتطهیر الصوری، فهذا فخّ إبلیسی.

وعلیهم أن یفكروا في تصفية الاعضاء من خلال التفكر في صفاء الماء، فيعمدوا إلى جلیها وإضفاء الصفاء علیها وذلك بأداء الفرائض والسنن الإلهیة.

وإلى جعلها تتمتع برقة وشفافية كرقة وشفافية الماء، ویخرجوها من غلظة العصیان، فيجعلوا بذلك، الطهور والبركة، ساریین في جمیع الأعضاء.

كذلك، فإن علیهم أن یسعوا -من خلال التأمل في لطف امتزاج الماء بالأشیاء- لإدراك كیفية امتزاج القوی الملكوتیة الإلهیة بعالم الطبیعة، فلا یسمحوا لقذارات الطبیعة أن تؤثر فيها. فإن الاعضاء ما إن تجعل ملتزمة بالسنن والفرائض الإلهیة وآدابها، حتی تأخذ الآثار الباطنیة بالظهور تدریجیا، وتتفجر ینابیع الأسرار الإلهیة وتنكشف للإنسان لمحة من أسرار العبادة والطهارة.

ثم ینتقل الإمام علیه السّلام -وبعد أن وضّح المرتبة الأولی من مراتب الطهور وأسلوب التطهّر- إلى الأمر الثانی فيقول: «ثم عاشر خلق اللّه كامتزاج الماء بالأشیاء، یؤدّی كل شیء حقه ولا یتغیر عن معناه، معتبرا لقول رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: مثل المؤمن المخلص [الخاص خ. ل] كمثل الماء». 

فالأمر الأول مرتبط بتعامل السالك مع قواه الداخلیة وأعضائه، أما الأمر الثانی -وهوالوارد في الفقرة أعلاه من الحدیث الشریف- فيتعلق بتعامل الإنسان مع خلق اللّه. وهو یمثّل منهاج عمل جامع یوضح كیفية معاشرة السالك للخلق.

ویستفاد منه ضمنیا أيضا معرفة حقیقة الخلوة، وذلك بعدم ترك السالك الحقوق الإلهیة وعدم تضییعه معناها المتمثل في العبودیة للحق تعالى والتوجّه إليه في نفس الوقت الذي یعاشر فيه كلّ طائفة من الناس بالمعروف وأدائه حقوق الخلق، وتعامله معهم جمیعا بما یناسب حال كل واحد منهم. فهو إذن، في ذات الوقت الذي یقع فيه في «الكثرة» یعیش «الخلوة» مع الحق أيضا، وقلبه خال من الأغیار فارغ من كل صورة ورسم.

بعد ذلك ینتقل الإمام علیه السّلام لتوضیح الأمر الثالث المتمثل في كیفية تعامل السالك مع اللّه تعالى، فيقول: «ولتكن صفوتك مع اللّه تعالى، في جمیع طاعتك كصفوة الماء حین أنزله من السماء وسماه طهورا» أی، ینبغي أن یكون السالك إلى اللّه متحررا من سلطة الطبیعة، وأن لا یسمح لكدورتها وظلماتها أن تتخذ إلى قلبه سبیلا، فيجعل عبادته كلها نقیة من جمیع أشكال الشرك الظاهریة والباطنیة.

ومثلما أن الماء حین نزوله من السماء یكون طاهرا ونقیا لم تمسّه القذارات، كذلك ینبغی للسالك أن لا یترك قلبه -الذي نزل من سماء غیب الملكوت طاهرا نقیا- یتلوث بالقذارات، ویقع تحت سلطة الشیطان والطبیعة.

ثم یبیّن علیه السّلام الأمر الأخیر الذي یمثل منهاجا جامعا لأهل الریاضة والسلوك، فيقول «وطهّر قلبك بالتقوی واليقین عند طهارة جوارحك بالماء» [6]. وفي هذا إشارة إلى المقامین الشامخین لأهل المعرفة: مقام التقوی؛ وكماله ترك من سوی الحق تعالى، ومقام إليقین؛ وكماله مشاهدة حضور المحبوب.

 

النتيجة

فإنك قد عرفت أنّ لباطن الصلاة كما لظاهرها آدابا وشروطا يجب على السالك مراعاتها لتتحقّق له حقيقة الصلاة، ويبلغ بها مقام الحضور بين يدي الخالق عز وجل، ولا بدّ في تحقيق ذلك الهدف أن يستلزم جميع مراتب الطهور، بتطهيره كل قذارات وأشواك هذا الطريق.

 

الهوامش

[1] – الرومي، یشیر ببیت شعر بالفارسیة إلی رؤیة نفسه في أحد الأزقة فیها (العطار) دار مدن العشق السبع.

[2]–  مضمون بیت بالفارسیة للشاعر حافظ الشیرازي.

[3] – الفرقان: 48.

[4] – الأنبیاء: 30.

[5] – تعینات الأعیان: التعیّن عند العرفاء عبارة عن التشخّص، ویقول القیصری: التعیّن به یمتاز كل شیء عن غیره. والأمر الذي یتحقق به التعین، تارة یكون عین الذات، كتعیّن واجب الوجود الذي یتمیز بالذات، وكتعین الأعیان الثابتة في علم الحق الذي هوعین ذاتها. وتارة یكون ما به التعیّن زائدا علی ذات التعیّن، كامتیاز الكاتب عن غیر الكاتب. وتارة یكون ما به التعیّن وما به الامتیاز عبارة عن عدم حصول أمر، یعنی أمرا عدمیا مثل امتیاز الكاتب بعدم الكتابة. والعین: الحقیقة، والذات أو الماهیة.

[6] – الإمام جعفرالصادق، مصباح الشریعة، الباب العاشر(في الطهارة).

 

مصادر البحث

  1. القرآن الكريم
  2. الرومي، جلال الدين، محمد بن محمد بن أحمد الخطيبي.
  3. الشیرازي، حافظ، صلاح الصاوي، ديوان العشق، طهران، مركز النشر الثقافي (رجاء)، 1367 ش/ 1989م.
  4. الإمام جعفرالصادق، مصباح الشریعة، تفاصيل المنشور، بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1402هـ -1983م، الطبعة الثانية.

 

مصدر المقالة (مع تصرف)

الموسوي، الإمام الخميني، آداب الصلاة، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، الشؤون الدولية، الطبعة السادسة، 2003م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *