- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .
سرٌ ما في عاشوراء ووشاحها الأسود ،يشدُنا إلى عالم من جمال النور المكون من بركات مصباح الهدى وسفينة النجاة، ونجمة الحسين المضيئة في العالم المسكون بنار الطاغوت ووحشية ظلمه، ونار الجهل وشجرته الخبيثة.
لتبقى شجرة فاطمة مضيئة ولو من دون نار، ولتشع دار علي منيرةً بنورانيات المعرفة وبطولات المواقف، وإن على الباب نار، أشعلوها بظلم، ولكنها لا تمس الباب, ولا تحرق المدينة…
وهنا تبرز قيمة المعرفة، كمصدر حقيقي للسعادة، فالمعرفة بما هي بصيرة توقد من عنصرين اثنين: العقل والشوق، فالأول نور، والآخر حركة، فإذا شف الحق بينهما فهما يتمخضان عن الشغف والإيمان، فلا انفصال بين العقل والحس ولا انفصال بين العلم والإيمان، .
وذلك أن السعي إلى الحقيقة هو دين، وحقيقة بلا عبادة إنما هي علم وفلسفة،وعبادة بلا معرفة هي الشهوة أو عبادة الأصنام…
هكذا تفتح نوافذ العبادة والمعرفة والثقافة على بعضها،في معابد تضيئها الصلاة، وبيوت يضيئها العلم وشعائر يضيئها ذكر الحسين.وكلها تسبيح يتضوأ بنورين:
بنور الله، أي الحقيقة وبنور الحسين، أي في عمارة الفعل وبناء الموقف.
ففي السبر التاريخي العام لترقب ولادات الحقائق الموصولة بعرفان الحقيقة ، نتلمس رجالاً كانوا الى معنى المعجزة أقرب من حيث كانت ولادتهم إنبعاثاً من الضمير والكرامة ، وإشراقة من النور والحقيقة ،من عقليات الإمام علي بن أبي طالب الى روحانيات الإمام زين العابدين ،ومن دم الإمام الحسين الشهيد الى مداد الإمام علي بن موسى الرضا ،وما يتفاعل بينهم من تأصيل للفكر والعبادة وتواصل مع الأمة على معنى الحرية والإنعتاق وتكاليف الإستقامة وعقيدة التوحيد ، رجالٌ كانوا المعجزة في أقرب مفاهيمها، وأصدق معاييرها، وفي أسنى تألّقها، وأبهى تجلّيها.
لا شكّ في أنّها كانت آية ظاهرة، تهدي إلى قوّة قاهرة وراء الغيب لتنير الكون، وتدفعه إلى سبله المستقيمة، تدعو إلى التصديق الواعي، بحقيقةٍ أخرى من غير هذه المادة، ومن غير نشأة الملك وملابساتها الظاهريّة، تلك هي حقيقة الخالق العليم (بنا عُرِف الله).
وليس من شكّ في أنّ للمسلمين أوفر النصيب من هذا النمط البالغ في سنائه وبهائه حدّ المعجزة الخارقة من الأبطال البارعين.
فالنبي الأكرم محمّد(ص) وأهل بيته الأطهار(ع) قِممٌ لا شكّ في مجدها وسموّها، سلسلة شاهقة من جبالٍ لا يرقى إليها الطير.حتى لكأنها نجوم في السماء لا تُطاول ،كانت تحمل أمانة النور وشرف الحقيقة وأوتاد صعيد الفكر، ولولاهم لتزلزل وماد، إذ أنّهم سفن محيط الشكّ الذي لولاهم لغُمِر كلّ حيّ ونزل القعر البعيد، وغاب في غياهب ظلمات الجهل ومهاوي التسيب بين الأنا والشيطان .
ومن قِمم هذه السلسلة المباركة كان الإمام الحسين بن علي (ع) الذي استقرّ في أشمخ قمّة وأروعها، بعد السعة الوجودية لجده النبي(ص) والنفس الرحماني لأبيه الوصي (ع).
ونحن في ذكرى استشهاد أبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين(ع) نطرح سؤالاًحول ماهية رسالة الحسين(ع)؟ ومنطق ثورته المباركة ؟ .
ونلاحظ في مورد الإجابة ، أن إمامنا الحسين(ع) رفع ثلاثة عناوين كشعارات أساسية ، كانت خير عنوان لرسالته، وهذه الشعارات تتمحورحول : المسؤوليّة ، والتصميم ، والعزّة .
أمّا المسؤوليّة: فقد حددها الإمام الحسين(ع) منذ البداية بقوله : (إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمد(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ..) وهذه الكلمات مشاعل تضيء الطريق لكل السالكين، وبها يحدّد سيّد الشهداء أغراض نهضته: إنّه لم يخرج طمعاً لمنصب أو عن انحراف،إنّما خرج يطلب الإصلاح في دين جدّه خاتم الرسل (ص)، يريد أمراً بمعروف ونهياً عن منكر. ولقد كان(ع) حيثما سار وثار، نموذجاً مثالياً للمسلم حين تحيق بعقيدته مدلهمات الآفات والأخطار.
ثمّ قال(ع): ( فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين )، إنّه(ع) ينادي: أيّها الناس لا يكن ميزان قبولكم إيّاي هو البعد الذوقي المتعلق في شخصي، إنّما اقبلوني لأنّي أمثّل حقاً، فمن قبلني فإنّما يقبل الحقّ، ومن ردّ عليّ فإنّه يردّ على الحق .. هكذا ترتفع المبادئ فوق الأشخاص ، وحين ذاك تذوب النفوس وحاجاتها، ويبقى المبدأ القائم البارز .. ويبقى الشخص بمقدار ما يمثّل من مبدأ .
أمّا التصميم: فقد أشار اليه الإمام الحسين(ع) بقوله : (ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركّز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدودٌ طابت، وحجورٌ طهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
ها هو الحسين(ع) الراسخ في عزمه ، يعلن تصميمه على أداء رسالته، وأنّه لن يتراجع، وأنّه يؤثر أن يموت ميتة الكرام في سبيل رسالته، على أن يطيع اللئام. ولكن لماذا ؟ ومن أين ينبع هذا التصميم ؟ .
هذا التصميم من الله ورسوله، ومن تربيته ومن نفسه، فلا الله يرضى له التراجع ولا رسوله ولا حتّى من ربّوه ولا هو نفسه، مزيجٌ من الدوافع لا أشمل ولا أكمل، الدين والتربية والنفس، كلّها تدفعه لأن يعلنها صريحة مدوّية: أنّه لن يتراجع عن أداء رسالته، ولو كلّفه ذلك مصرعه .. والدين في المقدّمة.
وأمّا العزّة في منطق الثائر الأبي ، فيرسمها الإمام الحسين(ع) بريشة ناعمة إذ يقول عن عنفوان قلبه الخاشع لله : (لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد) .
هذه الكلمات تنضح بالعزّة ، إنّه لن يسكت ذليلاً، ولن يسكت عبداً، وقد أرادوه ذليلاً وعبداً معاً، ولو أنّه ذلّ واستعبد لربّما أنالوه ما يرضيه بحسب منطقهم، ولكن الحسين عزّ، وإذ عزّ ثار .. ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ).
ومن هنا تعدّ ثورة الإمام الحسين بن علي(ع) من أهمّ الأحداث في تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسول(ص)، بإعتبار خصائصها ومميزاتها ، وشعاراتها المرفوعة ،وظروفها ، ونمط تسلسلها السياسي والإجتماعي، ذلك أنّ هذه الثورة هدفت إلى استعادة الإسلام الحقيقي، بعد أن حوّلته السلطة الأمويّة إلى مجرّد شكل خارجي بدون مضمون أو محتوى .ولمّا كانت هذه الثورة بهذه الأهميّة في نظرالإسلام ، ونظراً لما تترجمه قيم الإسلام على مستوى الإنعتاق الإنساني، فإنّ هذه الثورة تصبح ذات أهميّة بالغة في الربط بين الكلمة والإسلام ووعي الصلة العميقة بين القول والفعل في حياة المجاهدين الشرفاء .
فالإعلان الذي شكّل البرنامج الفكري العام لثورة الإمام الحسين هو قوله: (إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا مفسِداً وظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد(ص) وأبي علي بن أبي طالب(ع)) .
بهذا البرنامج استطاع الحسين (ع) أن يتابع مسيرة جدّه وأبيه وما كرّسا من اهتمامهما من هدف الإسلام المنشود وهو تحرير الإنسان من حياته الماديّة والفكريّة في هذا العالم .
ذلك التحرير الذي رفع الفرد والجماعة من درك العبوديّة الشاملة للإنسان إلى رحاب عبادة الله بكل ما يعنيه ذلك من انعتقاق.
إنّ الإنسان في الإسلام حر لا قيد على سلوكه إلاّ أحكام الله وحدوده التي فصّلها في القرآن وبلّغها النبي الكريم محمّد(ص)، وهي الحدّ الأدنى الضروري لضمان استمرار المجتمع البشري أوّلاً وازدهاره ثانياً .
ولقد تحرك الإمام الحسين بثورته وسار بسيرة جدّه وأبيه، ليترجم موقف القرآن نظريّاً وعمليّاً من الجور والانحراف المتمثّل بالسلطة الأمويّة وضلالها الذي هتك حجاب الهدى من حرمة الإسلام والمسلمين .
فلمّا وجد الإمام الحسين(ع) شروط التكليف متوفّرة، قام بتحرّكه التاريخي، وهذه الشروط هي: حكم منافق وجائر ومناصرون للحركة ضدّه، فبدأ الحسين(ع) تحرّكه ضدّ السلطة الأمويّة موضحاً للناس في البداية أخطار هذا الظلم على الإسلام كما حدّد لهم واجباتهم الشرعيّة تجاه هذه المفاسد، كل ذلك قطعاً للعذر ودفعاً للشبهة.
وتابع الإمام الحسين مهمّته الإرشاديّة دون أن يترك أي مجال للالتباس موضحاً:
أولاً :سبب اضطلاعه هو شخصيّاً بقيادة الثورة، وذلك لكونه من آل البيت وأنّ لهم ولاية الأمر والإمامة، وهذا صريح بالنص الإلهي وبصريح إبلاغ الرسول في غدير خم.
ثانياً : أسباب الثورة وواجب المسلمين بمساندتها وهي أسباب قد ذكرت في أكثر من مرّة حيث تتمثّل في جور الجائر “يزيد” وانحرافه ومخالفته للأحكام الإسلاميّة … الأمر الذي دعا الحسين(ع) إلى رفض إعطاء البيعة له، والرضوخ لشروطه التعسّفيّة .
ولقد كان الإمام الحسين(ع) يسعى من وراء ذلك كله، الى إقامة مجتمع الإنعتاق على الأرض، وهذا المجتمع هو مجتمع الحريّة والمساواة والكفاية وفق ما شرّعه الله وسنّة الرسول الكريم(ص).
وإذا كان الإمام الحسين(ع) لم يستطع تحقيق كل هذه الأهداف، فقد أودع ما كان يسعى إليه في الضمير الإسلامي للقيام بما كان يسعى لتحقيقه على الأرض الإسلاميّة ذلك أنّ ذكراه لن تموت وستبقى سرّ الحياة في رسالة سيّد الأنبياء المتألّقة في جهاد الحسين ممّا يعطي إضاءة واضحة لمغزى حديث الرسول(ص): (حسينٌ منّي وأنا من حسين) .
ويبقى السؤال حول أسس الإستفادة من أيام عاشوراء وإحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) في حركتنا الإسلامية الواعدة، فكيف نستفيد من هذه الذكرى حتى نبقى معها كما هي أو ننطلق بها لنحيا إيحاءاتها المتنوعة، كما لو كانت حدثاً مفتوحاً على الحاضر في تطلعاته المستقبلية .
وهي حتماُ كذلك ، إذ لا يمكن حبسها ضمن الزمن القصير والمكان المحدد .
وتأتي الإجابة على هذا السؤال من القاعدة القرآنية الإسلامية في قوله تعالى: .. ?وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون … ?
ومن هنا تأتي قيمة التاريخ في الإسلام، والتي تكمن في العبرة التي تفتح لنا الحدث على الفكرة وترصد الثوابت، لتتجاوز القصص التاريخي وإن كان مفعماً بأروع مشاهدات البطولة والفداء الى حيث الواقع وطبيعة الموقف من تحدياته وأحداثه ، الأمر الذي يجعلنا نرتبط بالشخصيات الإسلامية القيادية في الإسلام الذين جسدوا حركة الرسالة في خطواتها الفكرية والروحية والعلمية، فكانوا مثلاً يحتذى به ونوراً يشق الظلمة للكشف عن الحقيقة التي يحاول الكثيرون طمسها واخفاءها .
وفي ضوء ذلك يمكن القول إن حركة الإمام الحسين (ع) لم تكن مجرد حركة سياسية في معنى الثورة، بل هي حركة إسلامية في معنى الإسلام في الثورة ، بحيث نلتقي فيها بالأبعاد الرسالية في خطوطها التفصيلية الواضحة ، التي تحدد لنا شرعية النهج الثوري المتحرك في نطاق التضحية حتى درجة الاستشهاد.
الأمر الذي يجعلها حالة تطبيقية للخط الإسلامي النظري في الصراعات الداخلية التي يعيشها الواقع الإسلامي بين خط الاستقامة وخط الانحراف في الموقع القيادي أو الموقع المتمرد على الشرعية.
ومن هنا كان الإمام الحسين مسلماً في ثورته وتمرده ،فكان على خط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثورة على السلطان الجائر الظالم المستبد لتغييره وتبديل الانحراف بالاستقامة، فكانت الثورة الاستشهادية هي بداية هذا التغيير لتحقيق الحق والعدل والعزة والكرامة للإنسان والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل، ورغم تقادم الأوضاع وتآلب الظروف فقد بقي الحسين (ع) رمزا ًللتوحيد وشعاراً للإنعتاق ، ورمزاً لعنفوان الشهادة وقداسة الشهداء، ونبراساً للمظلومين وهم يحطمون قيود الذل والعبودية .
أما في واقعنا الحاضر وفي ظروفنا المعاصرة فلابد أن يكون كل واحد منا مشروعاً ثائراً في الخط والحركة والمعاناة ، أما حركية الثورة في الفعل وشرعية التغيير في النهج فقد نحتاج إلى دراسة ظروف واقعنا العملي لنخطط ونعرف كيف نواجه التحدي وكيف تنتصر القضية فينا.
فليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أسلوبنا، ولكن لابد أن تكون الروح الحسينية هي التي تمثل معنى روحيتنا حتى يبقى الهدف حياً في أفكارنا وتطلعاتنا وخططنا الثورية والفدائية التضحوية ، وفي خطواتنا العملية لنجعل الحياة كلها بما فيها حركة نحو الهدف الكبير.
وهذه هي إيحاءات عاشوراء في خط الثورة، أما في خط الدعوة إلى الله فهي تنطلق من خلال مبدأ الإصلاح في أمة رسول الله، الإصلاح بجميع وجوهه لنجذب الناس على الإسلام كله حتى لا يثقلهم الانحراف فيبعدهم عن الاستقامة ،كما اننا نحتاج إلى عدم الاستغراق في المعنى السياسي في الثورة بل لابد لنا أن نعيش التكامل في خطواتنا بكل أشكاله ووجوهه العملية المنتجة وفق طبيعة الظروف والمراحل من أجل أن يكون الدين كله لله.
فلم يكن الإمام الحسين عليه السلام طالب سلطة أو جاه بل طالب عزة وكرامة وحرية ، وهي الشروط الصعبة لإسلام الوجه لله تعالى ، وبدونها لا يستقيم إيمان ولا إسلام.
ويبقى الحسين كما كان منذ ولادته قضية يتحدى ضجيج الزمن وطغاة العروش المستبدة عبر القرون ، مجدداً لدين جده ومجداً لأبناء أمة جده ، لتبقى الرسالة وأجيالها تترا تقاوم أعاصير المسخ والفناء والإبادة .
إن الحسين يسمو على الموت ، ويترفع عن النسيان ، لأنه قضية ارتبطت بالقوانين الإلهية المودعة في الكون .. فهو سر استمرار الشريعة وخلودها ، إننا نراه يتجدد في كل مناسبة من مناسبات إحياء يوم مولده الأغر ، ويتجدد كذلك أيضاً في كل مناسبة من مناسبات إحياء يوم مصرعه العظيم ..
وليس كل قضية تستحق الإحياء والذكر ، كما ليس كل قضية هي قضية حقاً تستحق هذا العنوان المقدس ، ولا كل قضية في الأرض هي قضية في السماء ، وحينما نقول إنها قضية ، نقصد بذلك عنوانها الذي استأثر باهتمام السماء ، فهي قضية محورية جوهرية كانت بكل تفاصيلها بعين الله تبارك وتعالى .
وها هي اليوم تطل علينا من جديد، لنبدأ في رحاب معطياتها الرسالية هجرة جديدة مع الحسين بن علي(ع) الذي هاجر مع قلّة مؤمنة في لحظة من لحظات التاريخ الخالدة، فاستطاع أن يغيّر مجرى الحياة، وأن يفتح في سجلّ الخلود باب الأمل في الحياة بعد اليأس، وباب الحركة الهادفة إلى الغاية بعد طول الركود.
وإذا كانت الهجرة النبويّة تعتبر بحق من أروع الأحداث التي سجلّها التاريخ الإسلامي، فإنّ الهجرة الحسينيّة تطالعنا بأروع مأساة عرفها التاريخ الإنساني، وهي مأساة كربلاء … وهي الرمز الذي يزورنا في كلّ عام ليبدّد حالة التآلف التي نعيشها مع الأشياء والعالم، وليبعد عنّا حالات الاستسلام التي تعتري الكثيرين منّا أمام جبروت الطاغوت الصهيوني وبشاعة الشيطان الأكبر.
إنّ أيّام الحسين(ع) تعيد إلى عيوننا براءتها الأولى، وتكحّلها بالمجد وتمنعنا أن نعقد صلحاً مع الواقع المزيّف، لتظلّ عيوننا وعيون أطفالنا المفتوحة من أثر المقاومة والإنتفاضة، شاهد صدق على وحشيّة عدوّنا ، وقسوة العالم من حولنا. ونسأل أنفسنا: كيف نواكب أيّام الحسين(ع) ؟ وكيف نكون مهاجرين مع الحسين(ع) ؟
والجواب المطروح هو أن لا نعيش الهزيمة النفسيّة أمام واقعنا، بل علينا أن نحمل روح التحرّر والفداء وروحية الإنعتاق. ونهاجر في أقطار الأرض من أجل السلام الذي سنبنيه بدمائنا وفكرنا ومدادنا وقدراتنا، لا سلام الاستسلام للأمر الواقع .إننا بحاجة الى هجرة من الإنهزامية أمام معاناة الرسالة ، والى استمداد الثقة من الله ، والشعور باللذة أمام الموقف الصعب .
إن الهزيمة الكبرى التي حلّت بنا كانت عندما انهزمنا نفسياً واستحوذ علينا الشعور بالشلل التام مما سمح لأظافر الصهيونيّة أن تنفذ في أجسادنا . وذلك لأن أخطر ما تُمنى به الأمم من هزائم، هو الهزائم النفسية، ولا يمكن لأي هزيمة عسكرية أن تصبح هزيمة حقيقية إلا عندما تتحول إلى هزيمة نفسيّة، والهزيمة النفسية في بدايتها شعور يدفع للإستسلام في مواجهة الواقع .. إنها إحساس بالمهادنة، بضرورة الصلح مع الواقع كيفما كان الواقع، بإيثار السلامة والدعة على مواقف التحدي والمواجهة .
من هنا تبرز أهمية الحدث التاريخي ، والموقف التاريخي ، بل حدث الحياة ومواقفها التي تتجلى فيها مفاهيم البطولة والفداء وأثرها في حياة الأمة .
ومن هنا تبرز أهمية الرمز الكربلائي في حياة أمتنا كأنقى الرموز القرآنية ، وأكثرها احتشاداً بصور البطولة والفداء ، وأشدها قدرة على الدفع والتحريك لإرادة التصدي في مواجهة الإنحراف .
وإن أعظم ما في هذا الحدث المتفوق في تاريخنا ، أن الهزيمة العسكرية فيه لم تمنعه أن يتحول الى أروع الإنتصارات في تاريخ الإنسان ، وأكثرها قدرة على الخلود والتجدد ، وذلك أن الهزيمة العسكرية فيه لم تتحول الى هزيمة نفسية ، لأن الطرف ( المنتصر ) أخفق في فرض الواقع الذي يريد ، والطرف ( المنهزم ) رفض الإستسلام لهذا الواقع ، ولم يأخذه اليأس في ظرف المواجهة ، بل تصدى وقارع وانتصر في النهاية .
وهنا تبرز قيمة المسلم الرسالي ، الذي يعيش بقلب حسيني يعمر بتوحيد الله ، وينبض بروح التصدي للباطل ، وبشجاعة المقارعة للظلم ، فلا ييأس ولا يستكين ، ولا ينكفئ على عذابات الضعفاء في العالم من حوله .
فإن أخطر ما تصاب به الأمة اليائسة هو عندما تبلغ ذروة الطغيان والفساد فيها الى ضياع الحقوق وهدر الكرامة ومصادرة الحرية وسحق المقدس بأقدام الرذيلة وتزوير الولاء بفعل التصالح بين الشهود والمجرمين ، فإن هذا التصالح الذي نجده اليوم متفشياً في واضحة النهار ، في عالمنا العربي والإسلامي ، سيعطي الطواغيت من ورثة يزيد الفرص الكثيرة والذرائع الواسعة لمزيد من اغتصاب الحقوق والمقدسات واستباحة الحرمات ، وسيغريهم بالمزيد من سفك الدماء البريئة .
إذن … فلابد في مواجهة ذلك من هزة شاملة ، تحرك هذه الأمة اليائسة ، وتبعث ضميرها الحي حتى لا يموت على أعتاب البصرة ومشارف بغداد ، وحتى لا يسحق تحت ضغط العهود والمواثيق الكاذبة ، ليعلن النفير العام ويصّعد الجهاد ضد الإستكبار والإحتلال وحكام الجور أيضاً كما هو درس الحسين في كربلاء .
إذن … فخليق بنا ونحن نعيش اليوم ذكرى الحسين(ع) ونخوض معركة المصير ضدّ أعداء الله والإنسان، أن يهاجر كل منّا إلى نفسه ويسألها: ماذا قدّمت لخوض هذه المعركة؟ وبماذا ضحّت في سبيلها ؟ .
ولقد آن للمسلمين أن يتّصلوا بالحسين(ع) اتصالاً عقائديّاً لا اتّصالاً عاطفيّاً فحسب، وذلك بأن يستعيدوا إلى أذهانهم ذكرى عاشوراء ليأخذوا من معطياتها الدروس والعِبَر وأن يأخذوا من هذه الأيّام الحسينيّة روحاً حسينيّة تقودهم في مواجهة التحديات وسائر ساحات معركة الشرف والإباء.
كما آن للمسلمين أن يدرسوا علاقاتهم مع الغرب، ليجدوا أنها صفحات مليئة بالإجحاف، ومملوءة بالحيف، مشبعة بالشجون .. إذ كانت وما زالت وستبقى ـ كما هي ـ علاقة استعلاء ودمار، وسخرية وإذلال واحتقار.
فالمسلمون دائماً مدعوون للإنسحاق تحت أقدام الأجانب، والمشكلة انهم استجابوا من خلال حكامهم، لذلك فهم اليوم مدعوون للإنعتاق … للنهوض واليقظة.لضرورة الإنتقال من واقع الإرهاب الفكري الذي فرضته عليهم العقلية الغربية ومفاهيم الإستشراق الى العقلية المتحررة التي تفكر من خلال محيطها وواقعها وروح فطرتها السليمة بعيدأ عن كل التأثيرلت المسبقة ،وهم مدعوون أيضاً للهجرة من روح النفاق في القيادة الى روحية القيادة التي أرادها الإسلام ، الى روح الصفاء القيادي الذي تمثله شخصية الحسين في إلتآم الشعار بالهدف ، وفي حس الإرتباط بالله عز وجل ، والدعوة مفتوحة لعموم العرب والمسلمين من قِبل الإسلام الحنيف.
ولقد حذّر الإمام الحسين (ع) تحذيراً شديداً متكرراً من مخاطر هذه الغفلة المتفشية ، علماً بأنه (ع) كان ضحية انسحاق الأمة في الماضي، حيث ضحّى ليوقظها، فصار بذلك أقدس قرابين نهضتها المستقبلية. وكان تحذير الإمام الشهيد من الانحدار نحو هاوية الذل والعبودية واضحاً. وإذا كان الغرب المستكبر لا يريد فهم لغة الرسول (ص) ولا فهم منطق الرسالة وأبجدية القرآن ،ولا يتمكن من تصور تاريخنا وثقافتنا ، فلماذا لا نريد نحن ـ كمسلمين ـ فهم ذلك ؟!
فالأمة التي تفقد ثقافتها وتنقطع عن جذورها التاريخية سوف تفقد حتماً حاضرها ومستقبلها وكل خصائصها الحضارية .. فهل نعلن حالة الطوارىء لإعادة الإعتبار لقيم الرسالة التي كانت ولا تزال إحدى الضمانات الأساسية لصوغ التاريخ ومجراه الصحيح ؟! ..