- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 14 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
الحمد لله الذي يصعد إليه العمل الخالص ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله المخلص ، سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله المعصومين الطاهرين(1).
قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( وَمَا اُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (۲) .
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى : ( فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (۳) . وركّبه من سرّ وعلن ، وروح وبدن ، وبدنه من تراب وروحه من أمر ربّه : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (۴) . فأودعه أسرار خلقه . وجِرمه وإن كان صغيراً ولكن انطوى فيه العالم الأكبر . فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فعلّمه الأسماء الحسنى ، وفهّمه البيان الأتم ، وأناله الله تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ ، فإنّ العبودية جوهرة كنهها الربوبيّة ، وأنطقه بأقواله سبحانه ، ومَن أصدق من الله قيلا ، وأصبغه بصبغته ، ومَن أحسن من الله صِبغة ، وهداه النجدين : نجد الخير ونجد الشرّ ، وجعله مختاراً في سلوك الطريقين ، فإمّا شاكراً وإمّا كفوراً .
وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات ، وآلام ولذّات ، ومنجيات ومهلكات ، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية ، وملائماته الصحّة واللذات الجسمانية . والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض ، وكيفية علاجها هو (علم الطب) ، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه ، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين ، فيكون كالأنعام بل أضلّ سبيلا ، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة .
والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقية ومعالجاتها هو (علم الأخلاق) .
أمّا صحّة الروح فتتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتسعده في الدارين ، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحقّ ، عند مليك مقتدر في مقعد صدق وصفاء . وإنّما بعث الله رسوله خاتم النبيّين محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ليتمّم مكارم الأخلاق ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » وقد مدحه ربّه في قوله تعالى : ( وَإنَّكَ لَعَلى خُـلُق عَـظِيم ) (۵) .
وقد أقسم الله سبحانه في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنّه : ( قَدْ أ فْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (۶) . حتّى قيل : أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة . ثمّ البدن مادّي فان ، وكلّ من على الأرض فان ، والروح مجرّد باق ، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية ، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً .
فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه ، ويزكّي أخلاقه ، ويعالج أمراضه ، قبل فوات الأوان . كما أنّ المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحّته . وكلّ شيء إنّما يعالج بضدّه ، فإنّ علاج اليابس بالرطب ، والرطب باليابس ، والحارّ بالبارد والبارد بالحارّ .
وهكذا أمراض الأخلاق ، فإنّ الجهل يُعالج بالعلم ، والبخل بالسخاء ، والكبر بالتواضع ، والشره بالكفّ عن الشهوات ، ومرض الرياء بالإخلاص . وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة ، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه فعليه أن يتحمّل مرارة الدواء ، وأن يصبر عن المشتهيات ، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها فلا بدّ له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق .
فيصبر على فعل الطاعات والعبادات ، وترك المعاصي والآثام ، ليداوي بالصبر أمراض القلوب . وإنّ علاجها أولى من علاج الأبدان ، فمرض البدن يخلّص الإنسان منه بالموت ، ولكن مرض الروح ـ والعياذ بالله ـ يدوم حتّى بعد الموت . فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه ، أن يباشر المعالجة قبل الموت ، فإنّه سيندم ، يوم لا ينفعه الندم .
ثمّ أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه ، ويرى عيوبها ومهلكاتها . فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته ، لم تخف عليه عيوبه . ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها . ولكنّ أكثر الناس جهلوا عيوب أنفسهم ، فيرون القذى في أعين الآخرين ، ولا يرون الجذع في عيونهم . ولا بدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق ، فهما الصحّة للقلب والنفس والروح .
أمّا الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال ، فهما المرض والسقم الذي يخاف منه . وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها ، يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة ، كما أنّ تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة ، وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة ، يجعل الروح أكثر جلاءً ، ويصقلها حتّى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار الله وكونه .
ثمّ الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال ، وإنّما تعتريه العلل المغيّرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال . وكذلك الروح ، فكلّ مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة ، وإنّما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام ، أو الفضائل والمحامد . ولمّـا كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملا ، وإنّما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء ، فكذلك النفس تخلق ناقصة ، إلاّ أ نّها قابلة للتكامل المنشود في جبلته ، والذي خُلق الإنسان من أجله ، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلى كماله ، وأن يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته .
وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق ، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ . وإذا كان البدن صحيحاً ، فشأن الطبيب حينئذ تمهيد القانون وبيانه للصحّة والمحافظة عليها ، وإن كان البدن مريضاً ، فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحّة إليه . فكذلك النفس ، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق ، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحّتها وبقائها ، واكتساب زيادة صفائها وجلائها ، وإن كانت عديمة الكمال ، فاقدة للصفاء الروحي ، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحّة النفسيّة إليها .
الإخلاص والرياء :
هذا ومن أمراض القلب الخطرة جدّاً هو الرياء في النوايا والعمل ، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء ، فمَن يحسّ بدبيبها ؟ ! وإنّ الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضلّ الناس ويغويهم : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ) (۷) . ويقابل الرياء الإخلاص ، « والأعمال بالنيّات » ـ كما ورد في الخبر ـ « ولكلّ امرئ ما نوى » ، والنيّة من عمل الجوانح ، وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود إتيانه والمنشود فعله .
ولو كانت النيّة خالصة لله سبحانه ، فإنّها توجب قبول الأعمال ، فإنّ الكلم الطيّب ـ وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر ـ يصعد إلى الله سبحانه ، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين ، والإخلاص أساس التقوى . والإخلاص من جنود العقل ، كما أنّ الرياء من جنود الجهل ، ولا يجتمعان في قلب واحد للتضادّ ، كما في النور والظلام .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : طوبى للمخلصين اُولئك مصابيح الهدى ، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء(۸) .
وقال (صلى الله عليه وآله) : العلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى ، إلاّ المخلصون ، والمخلصون على خطر .
وقال (صلى الله عليه وآله) : إذا عملت عملا فاعمل لله خالصاً ، لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلاّ ما كان خالصاً .
وقال (صلى الله عليه وآله) : ليست الصلاة قيامك وقعودك ، إنّما الصلاة إخلاصك ، وأن تريد بها وجه الله .
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : العمل كلّه هباء إلاّ ما اُخلص فيه . وقال (عليه السلام) : ضاع من كان له مقصدٌ غير الله . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : ولا بدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون ; لأنّه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلا ، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال : ( إنْ هُمْ إلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلا) (۹) . وقال : ( اُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) (۱۰) .
قال الله تعالى عن لسان نبيّه: ( قُلْ إنِّي اُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَاُمِرْتُ لاِنْ أكُونَ أوَّلَ المُسْلِمِينَ) (۱۱).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ لكلّ حقّ حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل لله .
وقال (صلى الله عليه وآله ) في حديث آخر : « أمّا علامة ] علامات [ المخلص فأربع : يسلم قلبه ، وتسلم جوارحه ، وبذل خيره ، وكفّ شرّه . وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال : مَن لم يختلف سرّه وعلانيته ، وفعله ومقالته ، فقد أدّ الأمانة وأخلص العبادة .
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين في بيان حقيقة الإخلاص ـ بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها ـ : الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة ، وإنّما البيان الشافي بيان سيّد الأوّلين والآخرين ، إذ سُئل عن الإخلاص فقال : « هو أن تقول ربّي الله ثمّ تستقيم كما اُمرت » أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلاّ ربّك ، وتستقيم في عبادته كما أمرك ـ إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ـ وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ من مجرى النظر ، وهو الإخلاص حقّاً .
ثمّ من آثار الإخلاص في حياتنا الفردية والاجتماعية ، وفي العلمية والعملية ، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه وفي كلماته ، فيخرج من القلب ويدخل في القلوب . وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قال الله عزّ وجلّ : لا أطّلع على قلب عبد فاعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلاّ تولّيت تقويمه وسياسته .
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : غاية الإخلاص الخلاص . والمخلص حريّ بالإجابة ، وعند تحقّق الإخلاص تستنير البصائر ، وبالإخلاص ترفع الأعمال ، وفي إخلاص النيّات نجاح الاُمور ، ومَن أخلص بلغ الآمال ، أخلص تنل .
حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور ، فما أروع قوله (عليه السلام) : أخلص تنل ، كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق ، فإنّ الإنسان إنّما ينال ما ينال بالإخلاص .
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ المؤمن ليخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء ، ثمّ قال : إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كلّ شيء حتّى هوام الأرض وسباعها وطير السماء .
ثمّ يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود ؟ وقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما بين الحقّ والباطل إلاّ قلّة العقل ـ أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله ـ قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ قال : إنّ العبد يعمل الذي هو لله رضىً فيريد به غير الله ، فلو أ نّه أخلص لله ، لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك (۱۲) .
هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل ، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل ، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (۱۳) .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) لابن مسعود : يا بن مسعود ، إيّاك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين ، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصرّ على المعاصي والذنوب . يقول الله تعالى : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (۱۴) .
وقال : أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أنّ فيه خيراً ولا خير فيه (۱۵) . قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاك والرياء ، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له .
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ : اجعلوها في سجّين ، إنّه ليس إيّاي أراد به . وفي حديث آخر : تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأون الحجب كلّها حتّى يقوموا بين يدي الله فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء ، فيقول الله تعالى : أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ، إنّه لم يردني بهذا العمل ، عليه لعنتي .
وقال (صلى الله عليه وآله ) : إنّ المرائي يُنادى يوم القيامة : يا فاجر ! يا غادر ! يا مرائي ؟ ضلّ عملك وبطل أجرك ، إذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له . وقال الصادق (عليه السلام) : ما على العبد إذا عرفه الله أ لاّ يعرفه الناس ؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله ، وإنّ كلّ رياء شرك .
ولا يخفى أنّ الشرك على نحوين : شرك في العقيدة يوجب النجاسة ، فإنّ المشرك نجس ، وشرك في العمل كالرياء يوجب بطلان العمل وهلاك النفس . قال الله عزّ وجلّ : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريءٌ فهو للذي أشرك .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله تعالى لا يقبل عملا فيه مثقال ذرّة من رياء . وقال (صلى الله عليه وآله) : يا بن مسعود ، إذا عملت عملا من البرّ وأنت تريد بذلك غير الله ، فلا ترجُ بذلك منه ثواباً ، فإنّه يقول : ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً) (۱۶) .
وعن شدّاد بن أوس قال : رأيت النبي (صلى الله عليه وآله ) يبكي ، فقلت : يا رسول الله ! ما يبكيك ؟ فقال : إنّي تخوّفت على اُمّتي الشرك أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ، ولكنّهم يراؤون بأعمالهم . وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول : يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك فيقال له : بل صلّيت ليقال ما أحسن صلاة فلان ، اذهبوا به إلى النار .
ولكلّ شيء علامة ، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أمّا علامة ] علامات [ المرائي فأربع : يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحرص في كلّ أمره على المحمدة ، ويحسن سمته بجهده » .
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : الإبقاء على العمل أشدّ من العمل . قال الراوي : وما الإبقاء على العمل ؟ قال : يصل الرجل بصلة ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) في وصف المؤمن : لا يعمل شيئاً من الخير رياءً ، ولا يتركه حياءً ، وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : كلّ حسنة لا يراد بها وجه الله تعالى ، فعليها قبح الرياء ، وثمرها قبح الجزاء . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً ، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً ، فأفضله أن يعلن به(۱۷) ، فالرياء حرام ، والمرائي عند الله سبحانه ممقوت ومغضوب عليه ، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا .
هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما وما يترتّب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة .
الإخلاص في الحج :
وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة ، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي ، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء ، وإنّ القلب منشؤهما ومحطّهما ، فإنّه العالم بالله وهو العامل لله ، والساعي والمخلص والمتقرّب إليه ، وهو الكاشف بما عند الله ولديه ، وإنّما الجوارح أتباع له ، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة ، وهو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله ، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير الله ، وهو المخاطب وهو المطالب ، وهو المثاب والمعاقب.
فيفلح الإنسان إذا زكّاه ، ويشقى ويخيب إذا دَنّسهُ ودسّاه ، وهو المطيع لله بالحقيقة ، وإنّما التي تظهر على الجوارح الظاهريّة من العبادات أنواره ، فهو سلطان البدن ، وهو العاصي المتمرّد على الله ، وإنّما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره ، وبظلمانيّته ونورانيّته تتجلّى المحاسن الظاهريّة ومساويها ، فإنّ كلّ إناء بما فيه ينضح ، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، ومن عرف نفسه عرف ربّه ، فتارةً يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلا ، وقلبه كالحجارة أو أشدّ قسوة ، واُخرى يصعد إلى أعلى علّيين ، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين .
ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه ، فهو ممّن قال الله تعالى فيه : ( وَلا تَـكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأنْسَاهُمْ أ نْفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) (۱۸) . فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه ، أصل الدين ، وأساس السالكين ، فلا تغفل (۱۹) .
فلا بدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله ، وحركاته وسكناته ، حتّى يلقى الله وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم ، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون . والمؤمن الحاجّ ، والمؤمنة الحاجّة لا بدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما ، وفي حجّهما وعمرتهما ، فإنّ الحجّ من فروع الدين ومن العبادات ، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة ، متقرّباً بها إلى الله سبحانه وتعالى .
والحجّ من العبادات الدينية والسياسية والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة ، روحياً وبدنياً ، فردياً واجتماعياً ، في جميع جوانب الحياة من العبادة ، والاقتصاد والسياسة ، والثقافة والحضارة ، والاخوّة الإسلامية وغير ذلك .
ويكفي في شرافة الحجّ ، ومقامه الشامخ في الدين الإسلامي الحنيف ، أنّه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام ، فهو من الاُسس الاُولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم .
وتتجلّى في الحجّ روح المحبّة والاخوّة والصفاء ، وحكومة الروحانيّات على المادّيات . وكلّ مسلم متحمّس لدينه قد يرى في حجّه وعمرته ، أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، وأنّ هذا الدين القيّم لو تمسّك به أهله حقّ التمسّك ، وطبّقوه في كلّ زوايا حياتهم لحكم العالم ، ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ، ولو كره المشركون .
فإنّ الإنسان الضائع ، والبشرية التائهة تجد اُنشودتها وسعادتها في هذا الدين ، فهو يتكفّل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة . فالحجّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه ، وكرامة المسلمين وشرفهم ، فليس لاُمّة وملّة من الاُمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم ، والمشهد السنوي الكبير ، الحافل بالخيرات والبركات ; ليشهدوا منافع لهم ; ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم ، وطوائفهم ، وأشكالهم وألوانهم ولغاتهم ، ولا يتميّز غنيّهم عن فقيرهم ، ورئيسهم عن مرؤوسهم ، وكلّ واحد منهم وقد اتّزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر ; ليلبّي دعوة الله ، التي يدوّي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) في قوله تعالى : ( وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأ تُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق) (۲۰) .
فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من أقامه ، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به ، وإنّما ركّز القرآن الكريم ، ورسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) على الحجّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي ، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات ، والفضائل الأخلاقية ، والخير والإحسان الاجتماعي ، والثواب الاُخروي ، فإنّه من بين أركان الإسلام ومبانيه ، عبادة العمر وختام الأمر ، وتمم الإسلام وكمال الدين فيه . قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً » (۲۱) .
فهو نقلة اجتماعية ، ورحلة جماهيرية يتّجه فيها الناس من كلّ صوب ومكان ; لأداء فريضة إلهية واجبة ، في مكان مقدّس واحد هو من أشرف بقاع الأرض : مكّة المكرّمة . وفي زمان واحد من الأشهر الحرم ، ذي الحجّة المبارك ; ليمارسوا شعائر موحّدة ، ومناسك دينيّة ، وطقوساً خاصة ، تجرّد الإنسان عن عالم الماديات ، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية ، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى .
ولكن نوايا الناس مختلفة ، والإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره وأستاره . فقد روي في خبر من طريق أهل البيت (عليهم السلام) : « إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجّ أربعة أصناف : سلاطينهم للنزهة ، وأغنياؤهم للتجارة ، وفقراؤهم للمسألة ، وقرّاؤهم للسمعة » (۲۲) .
فليس كلّ من أدّى فريضة الحجّ نال الكمال وبلغ العلى ، بل بشرطها وشروطها ، والإخلاص في النوايا والمناسك أوّل شروطها . قال الإمام الصادق (عليه السلام) : الحجّ حجّان : حجّ لله وحجٌّ للناس ، فمن حجّ لله كان ثوابه على الله الجنّة ، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة (۲۳) .
لا يخفى أنّ من يدخل الجنّة فهو من السعداء لقوله تعالى : ( وَأمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا) (۲۴) . فمن كان سعيداً في حجّه ، إنّما يخلص لله في مناسكه وأفعاله ، ويبتغي وجه الله في أعماله ، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة ، فإنّ الدنيا الدنيّة دار ممرّ ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم ، وفي الآخرة كلّ ينادي وا نفساه ، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه .
فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير الله سبحانه وتعالى ، كما ورد في الخبر . قال الإمام الصادق (عليه السلام) : مَن حجّ يريد به الله ، ولا يريد به رياءً وسمعة ، غفر الله له البتّة(۲۵) ـ أي قطعاً ـ .
فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي : يا حاج فلان ، يا حاجّة فلانة ، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم ، لم يصبه من حجّه إلاّ التعب والنصب . والأعمال العبادية تبطل بالرياء ، فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذ . فهل بعد هذا إلاّ الإخلاص في النوايا والعمل ؟ ! وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث يذكر علامات ظهور المهدي (عليه السلام) : … ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير الله … فكن على حذر واطلب من الله النجاة (۲۶) .
ختامه مسك :
ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في أسرار الحجّ ودقائقه ، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه : روي في مصباح الشريعة عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين ـ أنّه قال :
« إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب ، وفوِّض اُمورك كلّها إلى خالقك ، وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك ، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، ودع الدنيا والراحة والخلق ، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك ، وقوّتك وشبابك ومالك ، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالا ، فإنّ من ادّعى ] ابتغى [رضا الله ، واعتمد على ما سواه ، صيّره عليه وبالا وعدوّاً ; ليعلم أ نّه ليس له قوّة وحيلة ، ولا لأحد إلاّ بعصمة الله وتوفيقه .
فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع ، وأحسن الصحبة ، وراعِ أوقات فرائض الله وسنن نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، وما يجب عليك من الأدب ، والاحتمال والصبر ، والشكر والشفقة ، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات ، ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك ، والبس كسوة الصدق والصفا ، والخضوع والخشوع ، وأحرم من كلّ شيء يمنعك عن ذكر الله ، ويحجبك عن طاعته ، ولبِّ تلبية صادقة صافية ، خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك ، متمسّكاً بالعروة الوثقى.
وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش ، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت ، وهرول هرولة من هواك ، وتبرّأ من حولك وقوّتك ، واخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى منى ، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه ، واعترف بالخطايا بعرفات ، وجدّد عهدك عند الله تعالى بوحدانيّته وتقرّب إليه ، واتّقه بمزدلفة ، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل ، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات ، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك ، وادخل في أمان الله ، وكنفه ، وستره وكلاءته ، من متابعة مرادك بدخولك الحرم ، ودُر حول البيت محقّقاً لتعظيم صاحبه ، ومعرفة جلاله وسلطانه ، واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته ، وودّع ] ودع [ ما سواه بطواف الوداع ، واصف ] وصفِّ [ روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا.
وكن بمرأىً من الله ، نقيّاً ] ونقِّ [ أوصافك عند المَروة ، واستقم على شرط حجّتك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك ، وأوجبته له إلى يوم القيامة . واعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لم يفرض الحجّ ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى : ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلا) (۲۷) . ولا شرع نبيّه سنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه ، إلاّ للاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة ، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها ، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لاُولي الألباب واُولي النُهى(۲۸) ، انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه .
اغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن وعباد الله ، ويا حجّاج بيت الله الحرام ، واعلموا إنّما يتقبّل الله من المتّقين المخلصين . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
ـــــــــــــــــ
([۱]) طبعت الرسالة في مجلة (الميقات) العربية الصادرة من منظمة الحجّ في إيران ، العدد الثاني .
(۲) البيّنة : ۵ .
(۳) المؤمنون : ۱۴ .
(۴) الحجر : ۲۹ .
(۵) القلم : ۴ .
(۶) الشمس : ۹ ـ ۱۰ .
(۷) ص : ۸۲ ـ ۸۳ .
(۸) كنز العمّال : الحديث ۵۲۶۸ ، الدرّ المنثور ۲ : ۲۳۷ .
(۹) الفرقان : ۴۴ .
(۱۰) الأعراف : ۱۷۹ .
(11) الزمر : ۱۱ ـ ۱۲ .
(12) الروايات نقلناها من « ميزان الحكمة » ، المجلّد الثالث ، فراجع .
(13) الأنفال : ۴۷ .
(14) المؤمن : ۱۹ .
(15) كنز العمّال : الحديث ۷۴۸۵ .
(16) الكهف : ۱۰۵ .
(17) نقلنا الروايات من ميزان الحكمة ۴ : ۲۲ ، فراجع .
(18) الحشر : ۱۹ .
(19) لقد ذكرت تفصيل حالات القلب في (حقيقة القلوب في القرآن الكريم) ، فراجع.
(۲۰) الحجّ : ۲۷ .
(21) تفسير ابن كثير ۱ : ۳۸۶ .
(۲۲) المحجّة البيضاء ۲ : ۱۸۹ ، أخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه ، ورواه أبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني .
(۲۳) كتاب ميزان الحكمة ۲ : ۲۷۶ .
(۲۴) هود : ۱۰۸ .
(۲۵ ميزان الحكمة ۲ : ۲۷۶ .
(۲۶) ميزان الحكمة ۲ : ۲۷۶ .
(۲۷) آل عمران : ۹۷ .
(۲۸) المحجّة البيضاء ۲ : ۲۰۷ .
الكاتب: السيد عادل العلوي