- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 16 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
يتطرق الكاتب إلى ما عاناه الإمام موسى الكاظم (ع) من هارون العباسي خلال فترة حكمه، فيقول:
عانى الإمام الكاظم (ع) ألوانا قاسية من المحن والخطوب في عهد الطاغية هارون الذي جهد على ظلمه والتنكيل به ، فقد قضى زهرة حياته في ظلمات سجونه ، محجوبا عن أهله وشيعته ، ونقدم عرضا سريعا إلى ما لاقاه في عهد هارون .
القاء القبض على الامام :
وثقل الامام على هارون ، وورم أنفه منه ، وذلك لأنه أعظم شخصية في العالم الاسلامي يكن له المسلمون المودة والاحترام ، في حين أنه لم يحظ بذلك .
ويقول الرواة : ان من الأسباب التي أدت هارون لسجنه للامام انه لما زار قبر النبي (ص) وقد احتف به الاشراف والوجوه والوزراء ، وكبار رجال الدولة ، واقبل على الضريح المقدس ، ووجه له التحية قائلا : ” السلام عليك يا بن العم . . . ” .
ولقد أفتخر على من سواه برحمه الماسة من النبي (ص) فإنه انما نال الخلافة بهذا السبب ، وكان الإمام موسى (ع) إلى جانبه فسلم على النبي العظيم قائلا : ” السلام عليك يا أبت . . ” .
وفقد الرشيد صوابه ، وورم أنفه وانتفخت أوداجه ، فان الإمام ( عليه السلام ) أقرب منه إلى النبي ، والصق به من غيره فاندفع الطاغية بنبرات تقطر غضبا قائلا : ” لم قلت : إنك أقرب إلى رسول الله (ص) منا ؟ . . ” .
فأدلى الامام بالحجة القاطعة التي لا يمكن انكارها قائلا : ” لو بعث رسول الله حيا ، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك ؟ ” .
وسارع هارون قائلا : ” سبحان الله ! ! واني لأفتخر بذلك على العرب والعجم . . . ” .
وانبرى الإمام (ع) يقيم عليه الدليل انه أقرب إلى النبي (ص) منه قائلا : ” ولكنه لا يخطب مني ، ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم . . ”
وأقام الامام دليلا آخر على قوله فقال لهارون : ” هل يجوز لرسول الله (ص) أن يدخل على حرمك وهن كاشفات ؟ ” .
فقال هارون : لا وقال الامام : لكن له أن يدخل على حرمي ، ويجوز له ذلك ، فلذلك نحن أقرب إليه منكم . . ” (1) .
وثار الرشيد ، ولم يجد مسلكا ينفذ منه لتفنيد حجة الإمام (ع) ، وانطوت نفسه على الشر فجاء إلى قبر النبي (ص) وقال له :
” بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه اني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دماءهم . . ” .
لقد حسب أن اعتذاره إلى النبي ( ص ) من ارتكاب الجريمة يجديه وينفي عنه المسؤولية في يوم يخسر فيه المبطلون .
وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على الامام ، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلي عند رأس جده النبي (ص) فقطعوا عليه صلاته ، ولم يمهلوه لا تمامها ، فحمل من ذلك المكان الشريف ، وقيد وهو يذرف أحر الدموع ، ويبث شكواه إلى جده قائلا : ” إليك أشكو يا رسول الله . . ” .
وحمل الامام وهو يرسف في القيود ، فمثل أمام الطاغية هارون فجفاه ، وأغلظ له في القول (2) .
سجنه في البصرة :
وحمل الامام مقيدا إلى البصرة ، وقد وكل حسان السري بحراسته ، والمحافظة عليه وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي ، فدفع له الامام كتبا ، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا (ع) ، وعرفه بأنه الامام من بعده (3) .
وسارت القافلة تطوي البيداء حتى انتهت إلى البصرة وذلك قبل التروية بيوم (4) فسلم حسان الامام إلى عيسى بن جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس وأقفل عليه أبواب السجن ، فكان لا يفتحها إلا في حالتين : إحداهما خروجه إلى الطهور والأخرى لادخال الطعام إليه .
واقبل الامام على العبادة والطاعة فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل ، ويقضي عامة وقته في الصلاة والسجود والدعاء وقراءة القرآن ، واعتبر تفرغه للعبادة من نعم الله تعالى عليه ، فكما يقول : ” اللهم انك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت فلك الحمد ” (5) .
الايعاز لعيسى باغتياله :
وأوعز هارون إلى عيسى عامله على البصرة باغتيال الإمام (ع) وثقل الامر على عيسى . فاستشار خواصه بذلك فمنعوه وخوفوه من عاقبة الامر ، فاستجاب لهم ، ورفع رسالة إلى هارون ، جاء فيها :
” يا أمير المؤمنين كتب إلي في هذا الرجل ، وقد اختبرته طول مقامه بمن حبسته معه عينا عليه ، لينظروا حيلته وأمره وطويته ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الانسان مجرى الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تطلع إلى ولدية ، ولا خروج ، ولا شئ من أمر الدنيا ، ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فان رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفذ من يتسلمه مني ، وإلا سرحت سبيله ، فاني منه في غاية الحرج ” (6) .
ودلت هذه الرسالة على خوف عيسى من الاقدام على اغتيال الامام ، وقد بقي في سجنه سنة كاملة (7) .
سجنه في بغداد :
واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى ، فأمره بحمل الامام إلى بغداد ، فحمل إليها ، تحف به الشرطة والحرس ، ولما انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه عند الفضل بن الربيع ، فأخذ الفضل ، وحبسه في بيته ، ولم يحبسه في السجون العامة وذلك لسمو مكانة الامام ، وعظم شخصيته ، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام .
واقبل الإمام (ع) على العبادة والطاعة ، وقد بهر الفضل بعبادته فقد روى عبد الله القزويني قال : دخلت على الفضل بن الربيع ، وهو جالس على سطح داره فقال لي : ادن مني فدنوت حتى حاذيته ، ثم قال لي : ” أشرف على الدار . . ”
وأشرف عبد الله على الدار ، فقال له الفضل :
– ما ترى في البيت ؟
– أرى ثوبا مطروحا .
– انظر حسنا .
فتأمل عبد الله ، ونظر مليا فقال :
– رجل ساجد .
– هل تعرفه ؟
– لا .
– هذا مولاك .
– من مولاي ؟
– تتجاهل علي ؟ – ما أتجاهل ، ولكن لا اعرف لي مولى .
– هذا أبو الحسن موسى بن جعفر .
وكان عبد الله ممن يدين بإمامته ، وأخذ الفضل يحدثه عن عبادته قائلا :
” إني أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها ، إنه يصلي الفجر ، فيعقب ساعة في دبر صلاته ، إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس ، وقد وكل من يترصد له الزوال فلست أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ؟
إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فاعلم أنه لم ينم في سجوده ، ولا أغفى فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة ، فإذا صلى العتمة أفطر على شوى يؤتى به ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم ، فلا يزال يصلي حتى يطلع الفجر ، فلست أدري متى يقول الغلام إن الفجر قد طلع ؟
إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول لي ” وهكذا كان الامام سيد المتقين ، وامام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى ، وهام بعبادته وطاعته . ولما رأى عبد الله الفضل للامام حذره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلا له : ” اتق الله ، ولا تحدث في أمره حدثا يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنه لم يفعل أحد سوء إلا كانت نعمته زائلة ” .
فانبرى الفضل يؤيد ما قاله عبد الله .
” قد أرسلوا إلي غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك ” (8) .
لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة ان اغتال الامام ، أو تعرض له بمكروه .
نصه على امامة الرضا :
ونصب الإمام موسى (ع) ولده الإمام الرضا (ع) علما لشيعته ومرجعا لامته وقد خرجت من السجن عدة ألواح كتب فيها ” عهدي إلى ولدي الأكبر ” (9) .
وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماما من بعده ، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من اعلام شيعته كان من بينهم ما يلي :
1 – محمد بن إسماعيل :
روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر ، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له : ” أسأل الله أن لا يريناه – أي فقدك – فإلى من ؟ ” قال (ع) : ” إلى ابني علي ، فكتابه كتابي ، وهو وصيي ، وخليفتي من بعدي ” (10) .
2 – علي بن يقطين :
روى علي بن يقطين ، قال : كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ، وعنده علي ابنه ، فقال : يا علي هذا ابني سيد ولدي ، وقد نحلته كنيتي ، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته ، وقال : إنا لله نعى والله إليك نفسه (11).
3 – نعيم بن قابوس :
روى نعيم بن قابوس ، قال : قال أبو الحسن (ع) : علي ابني أكبر ولدي ، واسمعهم لقولي : وأطوعهم لامري ، ينظر في كتاب الجفر والجامعة ، ولا ينظر فيهما إلا نبي أو وصي نبي (12) .
4 – داود بن كثير :
روى داود بن كثير الرقي ، قال : قلت لموسى الكاظم : جعلت فداك ، إني قد كبرت ، وكبر سني ، فخذ بيدي ، وأنقذني من النار ، من صاحبنا بعدك ؟
فأشار (ع) إلى ابنه أبي الحسن الرضا ، وقال : هذا صاحبكم بعدي (13).
5 – سليمان بن حفص :
روى سليمان بن حفص المروزي ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجة على الناس بعده ، فلما نظر إلي ابتداني ، وقال : يا سليمان إن عليا ابني ووصيي ، والحجة على الناس بعدي ، وهو أفضل ولدي ، فان بقيت بعدي فاشهد له تذلك عند شيعتي وأهل ولايتي ، المستخبرين عن خليفتي بعدي (14) .
6 – عبد الله الهاشمي :
قال عبد الله الهاشمي : كنا عند القبر – اي قبر النبي (ص) – نحو ستين رجلا منا ومن موالينا ، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفر (ع) ويد علي ابنه في يده فقال : أتدرون من أنا ! قلنا : أنت سيدنا وكبيرنا ، فقال : سموني وانسبوني ، فقلنا : أنت موسى بن جعفر بن محمد ، فقال : من هذا ؟ – وأشار إلى ابنه – قلنا : هو علي بن موسى بن جعفر ، قال : فاشهدوا أنه وكيلي في حياتي ، ووصيي بعد موتي (15).
7 – عبد الله بن مرحوم :
روى عبد الله بن مرحوم قال : خرجت من البصرة أريد المدينة ، فلما صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم ، وهو يذهب به إلى البصرة ، فأرسل إلي فدخلت عليه فدفع إلي كتبا ، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة ، فقلت : إلى من ادفعها ؟ جعلت فداك قال : إلى علي ابني ، فإنه وصيي ، والقيم بأمري ، وخير بني (16).
8 – عبد الله بن الحرث :
روى عبد الله بن الحرث ، قال : بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ! قلنا : لا ، قال : اشهدوا إن عليا ابني هذا وصيي ، والقيم بأمري ، وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا ، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه ، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلا بكتابه (17).
9 – حيدر بن أيوب :
روى حيدر بن أيوب ، قال : كنا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي ، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له : جعلنا الله فداك ما حبسك ؟ – أي ما أخرك عن المجئ – قال : دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلا من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته ، وإن أمره جايز – أي نافذ – عليه ، وله ، ثم قال محمد : والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم ، وليقولن الشيعة به من بعده ، قلت : بل يبقيه الله ، وأي شئ هذا ؟ يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة (18).
10 – الحسين بن بشير :
قال الحسين بن بشير : أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليا ، كما أقام رسول الله (ص) ، عليا يوم غدير خم ، فقال : يا أهل المدينة أو قال : يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي (19) .
11 – جعفر بن خلف :
روى جعفر بن خلف قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول : سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف ، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه – يعني الرضا – (20).
12 – نصر بن قابوس :
روى نصر بن قابوس قال : قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفر (ع) ، إني سألت أباك من الذي يكون بعدك ؟ فأخبرني أنك أنت هو ، فلما توفي أبو عبد الله ذهب الناس يمينا وشمالا ، وقلت : أنا وأصحابي بك ، فأخبرني من الذي يكون بعدك ؟ قال : ابني علي (21) .
13 – محمد بن سنان :
روى محمد بن سنان قال : دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة ، وعلي ابنه بين يديه ، فقال لي : يا محمد ، فقلت : لبيك ، قال : انه سيكون في هذه السنة حركة ، فلا تجزع منها ، ثم أطرق ، ونكت بيده في الأرض ، ورفع رأسه إلي وهو يقول : ويضل الله الظالمين ، ويفعل الله ما يشاء قلت : وما ذاك ؟ قال : من ظلم ابني هذا حقه ، وجحد إمامته من بعدي ، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب (ع) حقه ، وجحد إمامته من بعد محمد (ص) فعلمت أنه قد نعى إلى نفسه ، ودل على ابنه ، فقلت :
والله لئن مد الله في عمري لأسلمن إليه حقه ، ولأقرن له بالإمامة ، وأشهد انه من بعدك حجة الله تعالى على خلقه ، والداعي إلى دينه ، فقال لي : يا محمد يمد الله في عمرك ، وتدعو إلى إمامته ، وامامة من يقوم مقامه من بعده ، فقلت : من ذاك جعلت فداك ، قال :
محمد ابنه ، قال : قلت : فالرضا والتسليم ، قال : نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء ثم قال : يا محمد ان المفضل كان انسي ومستراحي ، وأنت أنسهما ومستراحهما (22) حرام على النار أن تمسك أبدا (23) .
هذه بعض النصوص التي أثرت عن الإمام موسى ( عليه السلام ) على امامة ولده الإمام الرضا (ع) ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع ، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته ، وابطال شبههم ، وتحذير المسلمين منهم .
وصية الامام :
وأقام الإمام موسى (ع) ولده الرضا وصيا من بعده ، وقد أوصاه بوصيتين ، وهما يتضمنان ولايته على صدقاته ، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة ، والزام أبنائه باتباعه ، والانصياع لأوامره ، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا لأنه اعرف بالكفؤ من غيره ، فينبغي أن لا يتزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن .
اما الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسى (ع) فلا حاجة لذكرها فاني لا أحب أن أذكر شيئا قد كتبته .
سجن السندي :
وأمر الرشيد بسجن الامام في سجن السندي بن شاهك وهو شرير لم تدخل الرحمة إلى قلبه ، وقد تنكر لجميع القيم لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقارا ، فقابل الامام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه ، وكبله بالقيود ، ويقول الرواة انه قيده بثلاثين رطلا من الحديد .
واقبل الامام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلي لربه ، ويقرأ كتاب الله ، ويمجده ويحمده على أن فرغه لعبادته .
كتابه إلى هارون :
وأرسل الامام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصها : ” انه لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعا إلى يوم ليس فيه انقضاء ، وهناك يخسر المبطلون ” (24) .
وحكت هذه الرسالة ما ألم بالامام من الجزع والأسى من السجن وانه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون .
اغتيال الامام :
وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الامام ، فدس له سما فاتكا في رطب ، وأجبره السندي على تناوله ، فأكل منه رطبات يسيرة ، فقال له السندي : ” زد على ذلك . . ” .
فرمقه الامام بطرفه ، وقال له : ” حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه . . ” (25) .
وتفاعل السم في بدن الامام ، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفت به الشرطة القساة ، ولازمه السندي ، فكان يسمعه مر الكلام وأقساه ، ومنع عنه جميع الاسعافات ليعجل له النهاية المحتومة .
لقد عانى الامام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب ، فقد تقطعت أوصاله من السم ، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته .
إلى الرفيق الاعلى :
وسرى السم في جميع اجزاء بدن الإمام (ع) ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام ، واستدعى الامام السندي فلما مثل عنده أمره ان يحضر مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى تجهيزه ، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى ، وقال : إنا أهل بيت مهور نسائنا ، وحج صرورتنا ، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني (26) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه .
ولما ثقل حال الامام ، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة ، وقال له : ” اني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عز وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت ، واصفر لوني واحمر ، واخضر ، وأتلون ألوانا ، فأخبر الطاغية بوفاتي . . . ” .
قال المسيب : فلم أزل أراقب وعده ، حتى دعا (ع) بشربة فشربها ، ثم استدعاني فقال :
” يا مسيب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ، ودفني ، وهيهات ، هيهات أن يكون ذلك أبدا فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات ، ولا تأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به فان كل تربة لنا محرمة الا تربة جدي الحسين بن علي فان الله عز وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا . . ” .
قال المسيب : ثم رأيت شخصا أشبه الأشخاص به جالسا إلى جانبه ، وكان عهدي بسيدي الرضا (ع) وهو غلام فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي موسى وقال : أليس قد نهيتك ، ثم انه غاب ذلك الشخص ، وجئت إلى الامام فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة ، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد (27) .
لقد سمت روح الامام إلى خالقها العظيم تحفها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنة ، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفون الأخيار .
سيدي أبا الرضا : لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أديت رسالتك ، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض ، ونافحت عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، وقاومت الطغيان والاستبداد ، فما أعظم عائدتك على الاسلام والمسلمين . سيدي أبا الرضا : لقد تجرعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه ، وضيق عليك في كل شئ ، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك ، لأنك لم تسايره ولم تبرر منكره ، فقد تزعمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان ، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين ، وانفاقها في ملذاته ، ولياليه الحمراء ، فسلام الله عليك غادية ورائحة وسلام الله عليك يوم ولدت ، ويوم مت ويوم تبعث حيا .
تحقيق الشرطة في الحادث :
وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الامام ، وقد بذلت قصارى جهودها في أن الامام مات حتف أنفه لتبرئ ساحة الطاغية هارون ، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك ، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد ، قال : ارسل إلي السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت ان يكون لسوء يريده لي ، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه ، وقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم ركبت إليه ، فلما رآني مقبلا قال :
” يا أبا حفص لعلنا أرعبناك وأزعجناك ؟ . . ”
” نعم ” . .
” ليس هنا الا الخير . . . ”
” فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري . . ”
” نعم ” . .
ولما هدأ روعه ، وذهب عنه الخوف ، قال له السندي :
” يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك ؟ . . ” .
” لا ” .
” أتعرف موسى بن جعفر ؟ . . ”
” أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر . . ”
هل ببغداد ممن يقبل قوله تعرفه أنه يعرفه ؟ . . ”
” نعم ” .
ثم انه سمى له أشخاصا ممن يعرفون الامام ، فبعث خلفهم فقال لهم : هل تعرفون قوما يعرفون موسى بن جعفر ؟ فسموا له قوما فأحضرهم ، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح ، ولما كمل عنده من الشهود نيف وخمسون رجلا ، امر باحضار كاتبه ، ويعرف اليوم بكاتب الضبط ، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم واعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محله ، والتفت إلى عمرو فقال له : قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر ، فكشف عمرو الثوب عن وجه الامام ، والتفت السندي إلى الجماعة ، فقال لهم : انظروا إليه ، فدنا واحد منهم بعد واحد ، فنظروا إليه جميعا ثم قال لهم :
” تشهدون كلكم أن هذا موسى بن جعفر ؟ . . ” .
” نعم ” .
ثم أمر غلامه بتجريد الامام من ملابسه ، ففعل الغلام ذلك ، ثم التفت إلى القوم فقال لهم :
” أترون به أثرا تنكرونه ؟ . . ”
فقالوا : ” لا ” .
ثم سجل شهادتهم وانصرفوا (28) . كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها ، وفيهم الهيثم بن عدي فسجل شهادتهم بان الامام مات حتف أنفه (29) وفعل هارون مثل ذلك من الاجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة ، ونفي المسؤولية عنه .
وضعه على الجسر :
ووضع جثمان الامام سليل النبوة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد ، وتتفرج عليه المارة ، وقد احتفت به الشرطة ، وكشفت وجهه للناس ، وقد حاول الطاغية بذلك اذلال الشيعة والاستهانة بمقدساتها وكان هذا الاجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم يقول الشيخ محمد ملة :
من مبلغ الاسلام أن زعيمه * قد مات في السجن الرشيد سميما
فالغي بات بموته طرب الحشا * وغدا لمأتمه الرشاد مقيما
ملقى على جسر الرصافة نعشه * فيه الملائك احدقوا تعظيما
وقال الخطيب المفوه الشيخ محمد علي اليعقوبي :
مثل موسى يرمى على الجسر ميتا * لم يشيعه للقبور موحد
حملوه وللحديد برجليه هزيج * له الأهاضيب تنهد (30)
النداء الفظيع :
يا لهول المصاب ، يا لروعة الخطب ، لقد انتهك السندي جميع حرمات الاسلام ، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم ، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك ، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر ، وأمرهم ثانيا أن ينادوا بنداء آخر :
” هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتا..” (31).
قيام سليمان بتجهيز الامام :
وكان سليمان مطلا على نهر دجلة في قصره ، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع ، والناس مضطربة ، فزعة ، فهاله ذلك ، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلا : ” ما الخبر ؟ ؟ ” .
فقالوا له : ” هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر . . . ” .
وأخبروه بندائه الفظيع ، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه ، وصاح بولده : ” انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فان مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد – وهو لباس الشرطة والجيش – ” (32) .
وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحراسهم إلى الشرطة ، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم ، ولم تبد الشرطة أيه مقاومة معهم ، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية .
وحمل جثمان الامام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي ، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء : ” ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ” .
وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان امام المسلمين وسيد المتقين والعابدين ، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم ، وهن يندبن الامام ، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه .
وسارت مواكب التشييع وهي تجوب في شوارع بغداد ، وتردد أهازيج اللوعة والحزن ، وأمام النعش المقدس مجامير العطور ، وانتهى به إلى موضع في سوق سمى بعد ذلك بسوق الرياحين ، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلا تطأه الناس بأقدامهم تكريما له (33) وانبرى شاعر ملهم فأبن الامام بهذه الأبيات الرائعة :
قد قلت للرجل المولى غسله * هلا أطعت وكنت من نصائحه
جنبه ماؤك ثم غسله بما * أذرت عيون المجد عند بكائه
وأزل أفاويه الحنوط ونحها * عنه وحنطه بطيب ثنائه
ومر الملائكة الكرام بحمله * كرما الست تراهم بأزائه
لاتوه أعناق الرجال بحمله * يكفي الذي حملوه من نعمائه (34)
وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن ، وقد ساد عليها الوجوم والحزن ، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر ، وانزله فيه سليمان بن أبي جعفر ، وهو مذهول اللب ، فواراه فيه وارى فيه الحلم والكرم والعلم ، والإباء .
وانصرف المشيعون ، وهم يعددون فضائل الامام ، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي مني بها المسلمون ، فتحيات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها .
الهوامش
(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 456 – 457 .
(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 465 .
(3) تنقيح المقال .
(4) منتخب التواريخ ( ص 518 ) .
(5) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 466 .
(6) الفصول المهمة .
(7) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 468 .
(8) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 – 471 .
(9) نفس المصدر .
(10) كشف الغمة 3 / 88 .
(11) كشف الغمة 3 / 88 .
(12) كشف الغمة 3 / 88 .
(13) الفصول المهمة ( ص 225 ) .
(14) عيون أخبار الرضا 1 / 26 .
(15) عيون أخبار الرضا 1 / 26 – 27 .
(16) عيون أخبار الرضا .
(17) عيون أخبار الرضا .
(18) عيون أخبار الرضا .
(19) عيون أخبار الرضا .
(20) عيون أخبار الرضا 1 / 30 .
(21) عيون أخبار الرضا 1 / 31 .
(22) الضمير برجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد .
(23) عيون أخبار الرضا 1 / 32 – 33 .
(24) البداية والنهاية 10 / 183 .
(25) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 – 500 .
(26) مقاتل الطالبين ( ص 504 ) .
(27) حياة الإمام موسى 2 / 514 – 515 .
(28) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519 .
(29) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519 .
(30) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521 .
(31) حياة الإمام موسى بن جعفر .
(32) حياة الإمام موسى بن جعفر .
(33) الأنوار البهية ( ص 99 ) .
(34) الاتحاف بحب الاشراف ( ص 57 ) .
المصدر: حياة الإمام الرضا (ع) / الشيخ باقر شريف القرشي
الخلاصة:
يتطرق الكاتب في كتابه إلى ما عاناه الإمام موسى الكاظم (ع) من هارون العباسي خلال فترة حكمه، من سجن واغتيال وغير ذلك.