- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
إن واقعة الغدير من الوقائع التاريخية المهمة التي حصلت في زمن رسول الله (ص) بعد رجوعه من حجة الوداع إلى المدينة المنورة، وقد حضرها الآلاف من المسلمين، وفيها خطب رسول الله (ص) خطبة أثبت فيها الولاية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، والحديث عن ثبوت واقعة الغدير يقع في نقاط:
النقطة الأولى: الاتفاق على ثبوت واقعة الغدير
لا شك لدى علماء المسلمين في ثبوت واقعة الغدير وأصل ما جاء فيها من عقد الولاء للإمام علي (ع)، فأوردها عامة أهل السير في أحداث السيرة النبوية في أحداث شهر ذي الحجة من السنة العاشرة، وتلقاه الجميع تلقي حدث تاريخي ظاهر ومعلوم في عداد الأحداث التاريخية الكبيرة من هذا القبيل.
وكذلك قد نقلها أهل الحديث في كتبهم وصححها عامة علماء الحديث ونقاده فيما اهتموا به من السيرة أو ألفوه في فضائل الإمام علي (ع).
هذا وقد انفرد نادر من أهل السيرة والمحدثين بإهمال هذه الواقعة، ولكن الإهمال لا يعني النفي كما هو مقرر لدى أهل العلم كافة، ولذلك فهو لا يعني وجود خلاف في الموضوع ولا ينفي وضوح ثبوت الحديث وفق المقاييس المعتمدة.
فمن النادر بين أهل السير ما صنعه ابن هشام في السيرة النبوية التي هي اختصار لسيرة ابن إسحاق، فحذفها من سيرته بعنوان التخليص والإيجاز، فأوجب التعجب من صنيعه هذا، رغم أن الإعراض في مثله لا يعتبر إنكاراً لهذه الواقعة عند علماء التاريخ، لكن ذلك أمر لا يجوز مثله بحال، فإنه إخلال بالمنهج وبمقتضيات الأمانة.
ولا يصح إهمال مثل واقعة الغدير والخطبة، وهي حدث جماهيري عام حضره الآلاف من المسلمين، لا سيما أن بناء التاريخ على ذكر الأحداث المعهودة دون المشاحة في رجال الإسناد كما هو دأب المحدثين من أصحاب الصحاح كما هو معلوم لأهل الممارسة.
ومن النادر بين أهل الحديث إعراض البخاري عن إيراد هذا الحديث من دون قدح صريح، وقد استدركه عليه جماعة من النقاد المتقدمين كالذهبي والمتأخرين كالألباني[1]، وقالوا إنّ الحديث صحيح على شرطه، بمعنى أن الرجال الذين رووه قد روى لهم البخاري في صحيحه، ولم يكن له أن يهمل هذا الحديث بتاتاً.
وينبغي الالتفات في هذا السياق إلى أن عدم ذكر واقعة الغدير لا يدلّ على إنكارها ونفي صحتها كما هو معروف عند أهل فنّ الحديث، إذ قد علم من خلال المقارنة والممارسة والتأمل أن للإعراض عن ذكر الحديث أسباباً لدى بعض أهل الحديث كالبخاري غير الشك في صحته مثل تجنّب تمسّك أهل البدع به، وكانت خطبة الغدير هي المستمسك الأهم لإمامة أهل البيت (ع) التي اعتبرت بدعة لدى مدرسة الخلافة.
وأياً كان، فإن إهمال واقعة الغدير حالة نادرة لكنها لا تعني ـ كما ذكرنا ـ إنكار صدورها ممّن أهملها عند أهل العلم.
نعم، ربما وقع موقف شاذ صريح في التشكيك في ثبوت أصل الواقعة، وهو ما صدر من ابن تيمية في بعض كلماته فوقع موضعاً للنقد في هذا الموقف[2]، واعتبر خروجاً ظاهراً عن الموازين العلمية، واعتبر سببه ضرباً من التسرع، وقد يكون منشأه التحوّط لسلامة الاعتقاد بمدرسة الخلافة.
وقد عهدت من ابن تيمية زلات متعددة من هذا القبيل في شأن الروايات التي ترد في فضائل أهل البيت (ع)، وذلك معروف لمن سبر منهجه، وقد انتقده العديد من أهل العلم من بعده.
هذا، وقد انقرض مثل هذا الموقف النادر والشاذ ـ فيما أعلم ـ في أوساط المسلمين، فقد اتفق جميع علماء الحديث وأهل الفن فيه على صحة واقعة الغدير وخطبتها وفق الموازين العامة للجرح والتعديل.
ولذلك يمكن القول إنّ هذا الأمر لهو متفق عليه بين علماء الحديث ممن تعرض لتقييم رواية واقعة الغدير بنحو ما فهناك من أوردها في كتابه الذي ألفه في الأحاديث الصحيحة والحسنة، ومن قيّمها في التعليق على كتب الحديث وشرحها، أو من تطرّق لها ضمن مباحثه الكلامية، فلا تجد أحداً أنكر اعتبار هذا الحديث عدا شاذ صرح علماء الفن بأنه غير جارٍ على الموازين العلمية، ونشأ إنكاره من عدم المراجعة والاطلاع على طرق الحديث.
وليس في عدم رواية البخاري لهذه الواقعة شهادة نافية لثبوتها لدى أحد من صيارفة الحديث ونقاده، وإنّما ذلك مما يظنه عوام الناس أو بعض المبتدئين، أو يتمسك به بعض أهل العصبية والجدال، لأنّ من الواضح للغاية بالمتابعة والمقارنة أن البخاري ومسلم لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة على شرطهما وتركا بعضها.
والدليل القاطع الواضح على ذلك هو ورود كثير من الأحاديث التي تركاها بعين الأسانيد التي رويا بها الأحاديث التي صححاها وأورداها وبرواية الرواة الذين رووا لهم بأعيانهم وواقعة الغدير من مصاديق هذه الحالة، فإن العديد من طرقها صحيحة وفق شروط البخاري ومسلم كما صرّح به جماعة من أهل العلم ومنهم الذهبي والألباني من المتأخرين[3].
النقطة الثانية: ثبوت واقعة الغدير بالثبوت التاريخي والمتواتر والصحيح
إن مستوى اعتبار هذا الحديث ليس مقصوراً على الخبر الصحيح باصطلاح علماء الحديث، بل يرقى إلى مستوى الحدث التاريخي المشهور، بل إلى الخبر المتواتر كما صرح بذلك جماعة من المحدثين النقاد من أهل السنة.
وينبه على ذلك أن بعض المحدثين وأصحاب السير خصه بكتاب مفرد منهم:
١. الطبري صاحب التاريخ والتفسير، وهو من أئمة الفقه، حيث بلغه تشكيك بعضهم في هذا الحديث، فاهتم بإثباته وألف فيه كتاباً مفرداً في جزأين[4].
٢. ابن عقدة الزيدي وهو حافظ مشهور، فقد قيل إنه استوعب طرق الحديث، وقد وقف عليه ابن حجر العسقلاني وقال عن طرقه: (منها صحاح ومنها حسان)[5].
واهتم جماعة من أهل النظر والتتبع برصد طرق رواية واقعة الغدير ورواتها وشواهدها في التاريخ والأدب[6].
الطرق المعهودة لثبوت الوقائع والأقوال
إن هناك ثلاثة أنواع من الطرق معهودة لثبوت الوقائع والأقوال ـ وقد ثبتت واقعة الغدير بها جميعاً ـ:
الطريق الأول: هو الطريق التاريخي
والمراد به أن الواقعة الاجتماعية العامة يحصل الوثوق برواتها وفق المعتاد في رواية التاريخ ما لم يكن هناك معارض لها، بالنظر إلى أن خلق واقعة واسعة بهذا الحجم التي حضرها عشرة آلاف من الرجال على أقل تقدير، وقيل بل عشرات الألوف، وفيهم جمهور المهاجرين والأنصار من غير أن تكون قد وقعت أصلاً، أو تحريف نصوصها إلى غير وجهها، مظنة للانكشاف أو الريبة في شأن الراوي، وذلك مما يتجنبه الرواة حتى كثير من الضعفاء منهم، وليس هناك من حديث معارض ينفي هذه الواقعة.
وعلى هذا الطريق يُعوّل عموماً في إثبات أحداث السيرة النبوية، فإنّها لم تُرْوَ رواية مسندةً ثقةً عن ثقة غالباً، بل هي أخبار مراسيل رواها الإخباريون المعنيون بالسيرة في سياق حكاية التاريخ.
وهذا الطريق يتحقق بوضوح في شأن خطبة الغدير، لأن من غير الوارد أن تكون حكاية واقعة استثنائية وقعت في أثناء الطريق بهذا الحجم الواسع الذي يدعى فيها حضور ألوف من الناس بما فيهم عامة الوجوه والقادة من رجال المهاجرين والأنصار حكاية ملفقة لأمر لم يقع بتاتاً، وهذا أمر ظاهر وفق قواعد إثبات التاريخ، فهذه الواقعة إنما هي من قبيل الوقائع الكبيرة التي لا يتأتى تزويرها في عصر قريب منها كما هو الحال في الحروب والغزوات الكبرى.
والواقع أن حديث الغدير أولى بالثقة من كثير من حوادث السيرة النبوية التي يعتمدها عامة المؤرخين والمحدثين وأصحاب السير، لأنّ حجم واقعة الغدير أوسع، ومؤشرات كذبها لو كانت كاذبة ستكون أوضح من الوقائع الأخرى، لا سيما أنها تضمّنت موضوعاً حساساً وخطيراً لدى جمهور المسلمين.
هذا، وينتمي الطريق التاريخي في الحقيقة إلى نوع أعم، وهو الطريق الذي يعوّل فيه على احتفاف الخبر بالقرائن المؤكدة بأنواعها المختلفة من الاعتبارات التاريخية وتعدد الرواة وإذعان المؤرخين غير المتهمين والشواهد الأخرى.
الطريق الثاني: هو الطريق الروائي المنقول على سبيل التواتر
والمراد به أن تتعدد حكاية الخبر من طرق متعددة يوثق بأنها لا تنشأ عن أصل واحد، وقد اقتفى بعضهم أثر بعض آخر.
ومعرفة تحقق التواتر في أحداث السيرة النبوية وأقوال النبي (ص) نوعاً بحاجة إلى الاطلاع على تاريخ الحديث ومصادره وأحوال الرواة في الجملة، وإلا احتمل الناظر البعيد عن مثل ذلك ـ في بادي النظر ـ وضع الحديث ابتداء من قبل واحد، ثم اقتفاء الضعفاء إياه وإسناده إلى آخرين حتى تراءت له طرق ليست كذلك، بل الأصل فيها شخص واحد قد وضع الحديث.
وقد ثبت تواتر حديث الغدير في جملة (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) عند جماعة من النقاد من محدثي أهل السنة[7]، الذين اطلعوا على سعة طرقه ومصادره، وهو أمر ظاهر شريطة أن يكون الباحث مجهزاً بمعرفة علوم الحديث وتاريخه ومصادره وطبقات الرواة وأحوالهم كما أشرنا.
الطريق الثالث: وهو الطريق الروائي المعتمد ويوصف بالصحيح أو الحسن
وهو عند المحدثين على ضربين:
١. الطريق المعتمد على الثقة بآحاد الرواة في جميع طبقات الإسناد المتصل حتى ينتهي إلى النبي (ص).
ومن البديهي عند المحدثين النقاد تمامية هذا الطريق في شأن واقعة الغدير، مهما تشدّد الباحث في قبول الرواية واعتبر شروطاً أشد في قبولها، ولذلك صرح جماعة من النقاد بثبوت واقعة الغدير على شروط البخاري ومسلم في الصحيحين[8]، بل هذا الحديث أولى بالثقة من جلّ روايات الصحيحين حسب أدنى مقارنة بين طرقها وأوصاف رجالها، ولذلك صرّح غير واحد من أهل العلم كالذهبي وابن حجر[9] بصحة العديد من طرق الرواية، بينما توقف بعضهم في صحة بعض أحاديث الصحيحين.
٢. الطريق المعتمد على تقوية الطرق الحسنة بعضها بعضاً من خلال الشواهد والمتابعات وفق ضوابط محددة في علم دراية الحديث.
وهذا طريق معروف عند المحدثين ولا يندرج به الحديث عندهم في عنوان الصحيح لذاته، ولكنه يوصف بأنه (صحيح لغيره)، فهم قد يعتمدون على حديث الراوي من جهة اقترانه بغيره أو ورود طريق آخر يشهد له ويساعد عليه.
وجملة من طرق واقعة الغدير هي طرق حسنة واجدة لشرائط الثقة بالتقوية والمتابعات كما ذكره النقاد.
النقطة الثالثة: متن الحديث
لقد اشتملت خطبة النبي (ص) في واقعة الغدير على أجزاء متعددة بعضها ممهدات أو متممات ولواحق وبعضها أركان، والأركان فقرتان:
إحداهما: فقرة الولاء
وهي: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، وهذا هو المحور الأساس للحديث.
وثانيتهما: فقرة التمسك بالثقلين
وهذه أيضاً فقرة أساسية جاءت في الحديث قبل فقرة الولاء.
وقد اختلفت طرق الحديث فيما تضمنت حكايته من ركني الخطبة وهما فقرة الثقلين وفقرة الولاء وسائر ممهداتهما ومتمماتهما.
فاقتصر بعضها على فقرة الثقلين في الحديث التي تتضمن الأمر بالتمسك بالكتاب والعترة للوقاية من الضلالة.
واقتصر بعضها الآخر على فقرة الولاء (من كنت مولاه فهذا علي مولاه).
واشتمل بعضها على جمل إضافية تصف ابتداء الخطبة ومقدماتها ونهايتها.
والقاعدة المعروفة عند كافة أهل العلم أنّ ما اشتمل على زيادة يعتبر أكمل مما خلا عنها ويكون حجة على إثباتها، ولا يكون عدم اشتمال بعض آخر عليها نافياً لوجود الزيادة، لأنّ اقتصار الرواة على إيراد بعض الكلام أمر متعارف، ونقل شيء لا يدل على نفي ما عداه، لاسيما أن من المعلوم أنّ ما صدر من النبي (ص) في غدير خم كان خطبة خطب بها ولم يكن جملة أطلقها، فكان مؤلفاً من جمل عديدة بطبيعة الحال.
هذا، وقد يكون للاقتصار على بعض الحديث دواع طبيعية للإيجاز والتلخيص، إلا أنّ من الملفت إهمال بعضهم – مثل مسلم في صحيحه تبعاً لبعض مشايخه ـ لفقرة الولاء التي هي لب الحديث ومركزه والغاية التي أراد النبي (ص) الانتهاء إليها في الخطبة بحسب سياقها، وتلك هي قوله (ص):
(من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، فاقتصر مسلم على رواية فقرة حديث الثقلين منه رغم أنه رواه من طريق زيد بن أرقم، الذي روى عنه جماعة هذا الحديث مشتملاً على هذه الزيادة وفق شروط مسلم في الصحيح، على أنه روى هذه الفقرة بلفظ ذكر فيه الثقلين، ولكن استبدل التمسك بأهل البيت بالتذكير بأهل البيت فقط، رغم أنّ المشهور في رواية زيد بن أرقم وغيرها في لفظ الحديث الأمر بالتمسك، وهو الأنسب بسياق الحديث.
وقد صح ذلك من رواية زيد بن أرقم من طرق أخرى صحيحة على شرط مسلم، ولكنه لم يشأ أن يورد الرواية بتلك اللفظة.
والواقع أن تغييب أهل البيت (ع) عن الموقع الملائم لهم ـ وفق ما تشير إليه نصوص الكتاب وتدلّ عليه نصوص السنة من التميز العلمي والمعنوي والسياسي ـ أدى إلى ظاهرة محسوسة بسهولة ويسر في شأن النصوص والوقائع بهم، وهي إهمال النصوص المتعلقة بهم، وقلّة طرقها، وتقطيعها، المتعلقة وتخفيف صياغاتها.
لكن مع ذلك بقيت جملة من تلك الوقائع والنصوص محفوظة بطرق معتبرة تقوم بها الحجة على المسلم.
النقطة الرابعة: عوامل حفظ واقعة الغدير رغم مساعي كتمانها وتحريفها
إن هناك عدة عوامل ساعدت على حفظ واقعة الغدير وأخواتها من الأحاديث المهمة الواردة في مكانة أهل البيت (ع) في هذه الأمة، وساعدت على بقائها في مقابل التحديات التي واجهتها من قبل الخلفاء والساسة بعد الرسول (ص) من المنع من تدوين الحديث ونشره على وجه عام، ثمّ ما يختص بفضائل الإمام علي (ع) على وجه خاص، ومن أهم تلك العوامل:
الأول:
وقوع بعض أحاديث النبي محمد (ص) عن أهل البيت (ع) في وقائع تاريخية جماهيرية، وهو فيما يبدو كان أمراً مخططاً له من قبل النبي (ص) لأجل بقائها.
ومن مصاديق تلك الوقائع واقعة الغدير، فقد كانت هذه الواقعة جزءاً مشهوداً من سيرة النبي (ص)؛ إذ كانت حدثاً جماهيرياً ذا ملابسات فارقة، ولم یکن قولاً حدث به بعض أصحابه، ولا حدثاً اعتيادياً في المسير، بل كان حدثاً مفاجئاً قيل إنه غير لأجله الطريق بعض الشيء، وجمع لإلقائه من حضر حتى عرف المكان وهو غدير خم بهذه الواقعة في التاريخ، ويبدو في خصوص واقعة الغدير أنه (ص) كان معنياً بهذا النوع من الاهتمام الخاص ليكون حدثاً تاريخياً يتعذر محوه من ذاكرة الحاضرين ومن بعدهم، وإذا كان نادر من أصحاب السير كابن هشام في السيرة النبوية قد تجرأ على حذفه فقد ارتكب خطأ فاحشاً.
الثاني:
إحياؤها من قبل أهل البيت (ع)؛ كما تصدى لذلك أمير المؤمنين علي (ع) بعد توليه الخلافة في خطبه التاريخية التي ألقاها على جمهور أهل الكوفة المجموعة في نهج البلاغة، ومثل ذلك فعل ذريته (ع) إذ رووا هذه النصوص وأكدوا عليها.
ولو نظرنا إلى واقعة الغدير فإننا نجد بالنظر في كتب الحديث عند جمهور المسلمين أن الإمام (ع) كان أبرز رواة واقعة الغدير، وقد استشهد عليها في واقعة معروفة بالرحبة[10] من كان يحضره من الصحابة فشهد له العديد منهم، فعد هؤلاء كلهم من جملة رواة الحديث، على أنّ الراوي للحديث لم يذكر أسماء أكثر من شهد له (ع)، ولذلك قل عدد من تعلم أسماءهم من الصحابة بالقياس إلى من كان يشهد بذلك.
على أن من المعلوم أن واقعة الغدير كانت في حجة الوداع التي حج فيها جماهير المسلمين من المدينة وسائر الأقطار وكان فيها من المهاجرين والأنصار فكانوا ألوفاً، بل قيل إنهم كانوا يبلغون عشرات الألوف.
ومن ثم فإنّه مهما تعدد الرواة فإنهم لا يبلغون عدد شهود الواقعة، على أن ذِكْرَ الإمام (ع) لهذه الواقعة أدى إلى تحرّي بعض الناس عنها بسؤال بعض الصحابة، وهذا من أسباب رواية بعض الرواة للواقعة عن زيد بن أرقم، فإنها جاءت في سياق التأكد منها بعد رواية الإمام (ع) لها.
الثالث:
إن نصب الأمويين العداء لأهل البيت (ع) مبكراً ـ من خلال سبهم، وتكفيرهم، وسعيهم إلى إكراه الصحابة وسائر المسلمين على ذلك ـ أدى إلى ردّ فعل من بعض الصحابة لاحقاً، ومن المتوقع أن ذلك من أسباب رواية سعد بن أبي وقاص لهذا الحديث، فقد طلب معاوية من سعد أن يسبّ الإمام (ع) فامتنع ذاكراً بعض ما شهده من أقوال النبي (ص) المميزة في حقه، كما يظهر مما أورده مسلم في صحيحه وأحاديث أخرى، وكذلك الحال في رواية عبد الله بن عباس فقد جاء في مقام إنكار سبه (ع) الذي أشاعه معاوية وبنو أمية من بعده بين جمهور المسلمين[11].
الرابع:
وجود روح الإنصاف والالتزام والتحري في فريق من أهل العلم من الجمهور أبوا معه أن ينفوا أصل هذه الحادثة أو يشككوا فيها، أو يتوسعوا في المبررات المذهبية لكتمان الأحاديث الواردة في شأن أهل البيت (ع) كما كان شائعاً ومحموداً في أوساط جماعة واسعة من أهل الحديث؛ لأنهم وجدوه إنكاراً غير مقبول للتراث التاريخي والحديثي المحفوظ عن السيرة النبوية، وخروجاً صارخاً عن الموازين العلمية في رواية الأحاديث وتوثيقها، ومخالفاً مع ما اتفق عليه المسلمون من الأمر بمودة النبي (ص) في قرباه وأهل بيته (ع).
فإن ذكر ما ورد من النبي (ص) في حقهم وفي مكانتهم من جملة مصاديق المودة، حتى أن بعض أهل العلم تحملوا أذى كثيراً من المجتمع المتعصب للخلفاء بالجهل، لكنهم لم ينثنوا عن رواية واقعة الغدير وحكايتها.
على أن هؤلاء العلماء الذين اهتموا برواية واقعة الغدير قد صرفوها ونحوها مما جاء في بيان مكانة أهل البيت (ع) عن مفادها مضطرين؛ كي لا تمس شرعيّة الخلافة التي اعتبروها أمراً لا يجوز المساس به بحال.
وأياً كان، فقد بقيت واقعة الغدير التاريخية على مر التاريخ من طرق جمهور المسلمين وثبتت ثبوتاً واضحاً لمن وقف على مداركها، واتفق عليها أهل العلم جميعاً، رغم عناية فريق من الحكام والرواة وأهل العلم بإخفائها لغايات سياسية أو مذهبية خاصة، وودوا لو أنها لم تكن.
ولذلك اقتصرنا في توضيح ثبوت الحديث على هذا الإيجاز تعويلاً على وضوح الأمر وجهود أهل العلم في إيضاح ذلك، ولو اقتضى الأمر أمكن أن نعقد له قسماً برأسه نفصل فيه الطرق التاريخية والروائية لإثبات الحديث وفق الضوابط العقلائية العامة والضوابط المعروفة لدى أهل الحديث وعلماء الجرح والتعديل.
الاستنتاج
اثبت الكاتب في مقالته هذه واقعة الغدير وذلك من خلال نقاط أربع، الأولى الاتفاق على ثبوت هذه الواقعة، والثانية ثبوت واقعة الغدير بالثبوت التاريخي والمتواتر والصحيح، والثالثة تطرق إلى متن حديث الغدير والرابعة ذكر اربعة عوامل حفظت لنا واقعة الغدير رغم مساعي الأعداء وخاصة بني أمية على كتمانها وتحريفها.
الهوامش
[1] لاحظ: الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص330.
[2] لاحظ كلام الألباني في موقف ابن تيمية في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
[3] وربما تصدى بعض المبتدئين في العلم ممن لا ممارسة له في شيء، أو لا يتحرج من القول بغير علم، لبيان عدم اعتبار هذا الحديث اعتماداً على منهج خاطئ وواهم لم يستكمل أدوات العلم، وذلك من جهات عديدة:
أولاً: أنه يهمل تصريحات أئمة الحديث بصحة الحديث تعيناً، بل تواتره، حتى الذين يستعين بأقوالهم في تضعيف بعض طرق الحديث ورجاله كالمحدث الألباني.
وثانياً: أنه يعوّل على عدم رواية واقعة الغدير في صحيح البخاري وعلى عدم وجود لفظة (ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه) في صحيح مسلم، وهذا التعويل خطأ فاحش عند النقاد؛ لأنّ من الواضح لديهم بالممارسة أن ترك الحديث لا يدل على أي مؤشر سلبي عليه بالضرورة لدى البخاري ومسلم، بدليل تركهما روايات مروية بأسانيدهما ورجالهما مما لا مجال للشبهة فيها بوجه يعتمد عليه عند النقاد، والحال في واقعة الغدير كذلك فقد صحح النقاد قديماً وحديثاً واقعة الغدير ببعض طرقها وفق شروط الشيخين.
[4] لاحظ: ابن كثير، البداية والنهاية، ج5، ص227.
[5] لاحظ: المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج6، ص282.
[6] ومن أبرز هؤلاء صاحب عبقات الأنوار، ثم العلامة الأميني صاحب كتاب الغدير المعروف.
[7] يلاحظ تفصيل تواتر حديث الغدير عند علماء أهل السنة في كتاب الغدير، ج1، ص294.
[8] وهذه الشروط هي كما يلي:
الأول: شرط نص عليه الشيخان وهو ثبوت اللقاء عند البخاري، والاكتفاء بالمعاصرة مع إمكان اللقاء عند مسلم.
الثاني: شهرة الراوي بطلب الحديث والعناية به، وهو شرط حدس به من خلال الاستقراء.
الثالث: اعتبار حفظ الراوي وملازمته لشيخه ولو مدة يسيرة عند مسلم، وينتقي البخاري ممن التقى مدة يسيرة بعضاً دون بعض من دون استيعاب للجميع ولا ترك للجميع، وهو شرط حدس به بالاستقراء أيضاً.
الرابع: أن الثقة إذا انفرد عن الكثيرين ينظر إلى إتقانه وكثرة روايته، وما إذا كان يتحمل تفرده أم لا، وهو أيضاً شرط عرف بالاستقراء.
[9] لاحظ : الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص330، المؤيدي، التحف شرح الزلف، ص٤٣٢.
[10] لاحظ مثلاً: ابن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص119، وصححه الألباني بمجموع طريقيه.
[11] لاحظ مثلاً: مسلم، صحيح مسلم، ج7، ص120.
مصادر البحث
1ـ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1416 هـ.
2ـ ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
3ـ الألباني، محمد، سلسلة الأحاديث الصحيحة، الرياض، مكتبة المعارف، طبعة 1415 هـ.
4ـ الأميني، عبد الحسين، الغدير، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 1397 هـ.
5ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
6ـ المناوي، محمد، فيض القدير شرح الجامع الصغير، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
7ـ المؤيدي، محمّد، التحف شرح الزلف، صنعاء، مكتبة بدر، الطبعة الثالثة، 1417 هـ.
مصدر المقالة
السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 هـ.
مع تصرف بسيط