- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 30 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
الثقافة الوعظية
كان لحكومة بني أميّة دور واسع- كما ذكرنا- في إشاعة الترف والفساد واللهو المحرّم في الأوساط الإسلاميّة في هذه الفترة… وقد أثّر ذلك أثراً بليغاً في إبعاد الناس عن الله والقيم الإسلاميّة الروحيّة، والأخلاق وعن التفكير في الحياة الآخرة، وكان له أثر بالغ في فساد القلوب وإفراغها من الحالات الإيمانيّة والمعرفيّة التي يؤكّد عليها الإسلام.
واجه الإمام عليّ بن الحسين (ع) هذه الحالة المجافيّة لروح الإسلام وتشريعاته وقيمه، وأخذ بنظر الاعتبار في بناء الجماعة الصالحة مكافحة حالة الترف واللهو والفساد والانغماس في اللّذات والشهوات والبعد عن الله …
وكان منهج الإمام عليّ بن الحسين (ع) في مكافحة هذه الحالة من الانغماس في شهوات الحياة الدنيا ولذّاتها … هو إشاعة (الدعاء) و (الوعظ) في المجتمع، بشكل عامّ وفي أوساط هذه الجماعة بشكل خاصّ.
خطاب الدعاء والوعظ:
و (الدعاء) و (الوعظ) خطابان مؤثّران في نفس الإنسان وتربيتها وتذكيرها.
خطاب (الدعاء) خطاب صاعد إلى الله، يرقى بالنفس الإنسانيّة إلى الله تعالى يناجيه ويخاطبه، ويتضرّع إليه، ويطلب منه، ويلتمس لديه، ولهذا الخطاب الصاعد أثر في انتزاع النفس من الدنيا وتشبّثاتها بها والانغماس في الشهوات واللّذات.. فإن خطاب الدعاء نحو من العروج إلى الله، بدرجة من الدرجات، وجوهر هذا العروج هو التحرّر من الدنيا وعلائقها.
والخطاب الثاني هو (الخطاب الوعظيّ). ولهذا الخطاب تأثير كبير في ترقيق القلوب القاسية، وتزهيد النفوس المتعلّقة بالدنيا وتحريرها منالتعلّق بالدنيا، ويزيل بشكل واضح الدين الصدأ المتراكم على النفوس.
فإن الانغماس في الذات الدنيا ومتاعها، والتعلّق بها يترك على نفس الإنسان صدأً كثيراً، وريناً، يحجبه عن الله تعالى، ويسلبه الشفّافيّة التي هي أعظم خصائص القلب. وللموعظة تأثير كبير في إزالة هذا الصدأ والرين عن القلوب، وإعادة الشفّافيّة إلى القلوب وترقيقها.
ومن مهام الخطاب الوعظيّ التذكير بالموت وتنبيه الناس إلى عدم وفاء الدنيا بالإنسان، وأنَّ الأجل ينغض عليه لا محالة، فينتزعه من كلّ تعلّقاته بالدنيا في لحظة واحدة.
وهذا التذكير يقصّر أمل الإنسان في الدنيا، وهو دواء ناجع لكثير من الأمراض النفسيّة… فإن طول الأمل في الدنيا من أكبر مصائب الإنسان، ولا يحرّره منه إلا التذكير المتصل بالموت، وتقريبه إلى الإنسان.
فإن (الموت) كما هو هادم اللّذات، كذلك التفكير والتذكير به يكفكف جماح أهواء النفس ويقصّر أمله في الحياة الدنيا.
الخطاب الدعائي- الوعظيّ المزدوج:
وعندما يتألّف الخطاب الواحد منهما، فيكون دعاءً ويكون وعظاً في وقت واحد فإن أثره في تهذيب النفس وترقيقها يتضاعف …
وفي التراث الدعائيّ الذي ورثناه من أهل البيت (عليهم السلام) كثير من هذا الخطاب الدعائيّ الوعظيّ المزدوج.
ومن ذلك الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد (رضوان الله عليه): (اللهمّ عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقصرت بي أعمالي، وقعدت بي أغلالي، وحبسني عن نفعي بعد آمالي، وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بخيانتها، ومطالي يا سيّدي. فأسألك بعزتك ألا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي).
دعاء كميل نموذج:
(إلهي وسيّدي، لأيّ الأمور إليك أشكو، ولما منها أضجّ وأبكي، لأليم العذاب وشدّته، أم لطول البلاء ومدّته … فهبني يا إلهي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك).
ومن ذلك الدعاء الذي علّمه عليّ بن الحسين (ع) لأبي حمزة الثماليّ (رحمه الله):
(وَانْقُلْني إلى دَرَجَةِ الَّتوْبَةِ الَيْكَ، وَاعِنّي بِالْبُكاءِ عَلى نَفْسي، فَقَدْ افْنَيْتُ بِالتَّسْويفِ وَالآمالِ عُمْري، وَقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الآيِسينَ مِنْ خَيْري، فَمَنْ يَكُونُ اسْوَأ حالًا مِنّي إنْ انَا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالي، إلى قَبْري، لَمْ امَهِّدْهُ لِرَقْدَتي، وَلَمْ افْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصّالِحِ لِضَجْعَتي؟ وَمالي لا ابْكي وَلا ادْري إلى ما يَكُونُ مَصيري؟ وَارى نَفْسي تُخادِعُني، وَايّامي تُخاتِلُني، وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي اجْنِحَةُ الْمَوْتِ، فَمالي لا ابْكي؟ ابْكي لِخُروجِ نَفْسي، ابْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، ابْكي لِضيقِ لَحَدي، ابْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير ايّايَ، ابْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري عُرْياناً ذَليلًا حامِلًا ثِقْلي عَلى ظَهْري، انْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَميني وَاخْرى عَنْ شِمالي، اذِ الْخَلائِقِ في شَأن غَيْرِ شَأني لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ و ذلة.
وفي أدعيّة الإمام زين العابدين (ع) الكثير من هذا الخطاب الدعائي الوعظي المزدوج.
دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):
ومن نماذج الخطاب (الدعائيّ الوعظيّ) المزدوج في كلمات الإمام زين العابدين (ع) دعاء مكارم الأخلاق، يجمع الإمام في خطاب واحد بين الدعاء والتربيّة الأخلاقيّة والروحية، وهو الدعاء (55) من الصحيفة السجّاديّة الكاملة. ولا نريد هنا أن نذكر الدعاء بطوله، فهو دعاء معروف من أدعيّة الصحيفة الكاملة، يتضمن مفاهيم أخلاقيّة كثيرة وقيمة، وله شروح كثيرة ومن أفضل الشروح المعاصرة له شرح الشيخ محمّد تقي الفلسفي الواعظ الإيراني الفقيد الشهير. ونحن نكتفي بذكر مدخل هذا الدعاء، ونحيل القارئ إلى الصحيفة السجّاديّة الكاملة.
(اللهم صل على محمّد واله، وبَلِّغْ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال.
اللهمّ وَفّرْ بلطفك نيّتي، وصَحّحْ بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي.
اللهم صل على محمّد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له، وأغنني وأوسع عليّ في رزقك، ولا تفتني بالبطر، وأعزني، ولا تبتليني بالكِبْر، وعبِّدْني لك ولا تفسد عبادتي بالعُجب، وأجرِ للناس على يدي الخير، ولا تمحقه بالمنّ، وهب لي معالي الأخلاق، واعصمني من الفخر.
اللهمّ صلّ على محمّد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسيِ مثلها، ولا تُحدّث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثتَ لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمد، ومتّعني بهدىً صالح لا استبدلُ به، وطريقة حقّ لا أزيغ عنها، ونيّة رشد لا أَشكُ فيها، وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مَرْتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يِسبقَ مقتُك إليّ، أو يستحكم غضبك علَيّ.
اللهمّ لا تَدعْ خِصلةً تعابُ منّي إلا أصلحتَها، ولا عائبةً أؤنَّبُ بها إلا حَسَّنتَها، ولا أكرومة فيَّ ناقصة إلا أتممتها.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة، ومن حسد أهل البغي المودّة، ومن ظِنّة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأَدنين الولايّة ومن عقوق ذوي الأرحام المبرَّة، ومن خذلان الأقرِبين النُّصرة، ومن حبّ المدارين تصحيح المِقَة، ومن ردّ الملابِسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة.
اللهم صلّ على محمّد وآله، واجعل لي يداً على من ظلمَني، ولساناً على من خاصمَني، وظَفراً بمن عانَدني، وهب لي مَكْراً على من كايدَني، وقدرةً على من اضطهدَني …).
وما يهمّنا الآن في هذه النقطة من البحث (الخطاب الوعظيّ) عند الإمام عليّ بن الحسين (ع)، ودوره في تربيّة الجماعة الصالحة.
نموذج الخطاب الوعظيّ لزين من العابدين (ع):
ونذكر هنا نموذجاً واحداً من مواعظ الإمام عليّ بن الحسين (ع) بروايّة ثقة الإسلام الكليني في (روضة الكافي)، ويرويه أيضاً حسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني في (تحف العقول)، والصدوق في (الأمالي).
نصّ الخطاب:
روى ثقة الإسلام الكلينيّ في الروضة بسنده المتصل إلى سعيد بن المسيّب، قال: كان عليّ بن الحسين (ع) يعظ الناس، ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في الآخرة في كلّ جمعة في مسجد رسول الله، وقد حُفِظَ عنه وكُتب عنه، وكان يقول فيما يقول:
(أيّها الناس! إتّقوا الله، واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً، وما عملت من سوء، تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه.
ويحك يا ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه. يا ابن آدم! إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً، يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأنّ قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى قبرك وحيداً، فَرُدّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.
ألا وإن أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه، ثمّ عن عمرك فيما كنت أفنيته، ومالك من أين اكتسبته، وفيما أنت أنفقته.
فخذ حِذرك، وانظر لنفسك، وأعِدِ الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً عارفاً بدينك، متبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله، لقّاك الله حجّتك، وأنطق لسانك بالصواب، وأحسنت الجواب، وبُشّرت بالرضوان والجنّة من الله عزّ وجلّ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك، تلجلج لسانك، ودحضت حجّتك، وعييت عن الجواب، وبُشّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزل من حميم وتصليّة جحيم.
واعلم يا ابن آدم، إن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، يجمع الله عزّ وجلّ فيه الأوّلين والآخرين، ذلك يوم يُنفخ في الصور، وتُبعثر فيه القبور، وذلك يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، وذلك يوم لا تقال فيه عثرة، ولا يؤخذ من أحد فدية، ولا تُقبل من أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقبل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيّئات.
فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّة من شرّ وجده.
فاحذروا أيّها الناس من الذنوب والمعاصي، ما قد نهاكم الله عنها، وحذّركموها في كتابه الصادق والبيان الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده، عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللّذات في هذه الدنيا، فإن الله عزّ وجلّ يقول: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: 201).
وأشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوّفكم من شديد العقاب.
فإنّه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه.
و لا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الدنيا الذين مكروا السيئّات، فإن الله يقول في محكم كتابه: أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 45- 47]
فاحذروا ما حذّركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب.
والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم، فإن السعيد من وُعظ بغيره، ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء: 11].
وإنما عنى بالقريّة أهلها حيث يقول: وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ [الأنبياء: 11]، فقال عزّ وجلّ: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ [الأنبياء: 13- 15].
وأيم الله، إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتّعظتم وخفتم، ثمّ رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزّ وجلّ: وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الأنبياء: 46]
فإن قلتم أيّها الناس: إن الله عزّ وجلّ إنما عني بهذا أهل الشرك. فكيف ذلك وهو يقول: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (الأنبياء: 47).
إعلموا عباد الله، إن أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين، ولا ينشر لهم الدواوين، وإنما يُحشرون إلى جهنم زُمراً، وإنما تُنصب الموازين وتُنشر الدواوين لأهل الإسلام.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله عزّ وجلّ لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم أحسن عملًا لآخرته، وأيم الله، لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وصرّف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلا بالله.
فازهدوا فيما زهدكم الله عزّ وجلّ فيه من عاجل الحياة الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول وقوله الحقّ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24].
فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكّرون، ولا تركنوا إلى الدنيا، فإن الله عزّ وجلّ قال لمحمد (ص): وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113]، ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنّها دار بلغة ومنزل قلعة ودار عمل، فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها، وقبل الإذن من الله في خرابها، فكان قد أخربها الذي عمرها أول مرة وابتدأها، وهو ولي ميراثها، فأسأل الله العون لنا ولكم على تزود التقوى والزهد فيها، جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لأجل ثواب الآخرة، فإنما نحن به وله ، وصلى الله على محمّد النبي وآله وسلّم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
تأمّلات حول الخطاب:
يقول الإمام عليّ بن الحسين (ع) في مستهلّ خطابه: (اتّقوا الله، واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء، تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً).
هذا الخطاب مقتبس من قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. [آل عمران: 30].
والآيّة الكريمة تشير إلى حقيقة هامّة، وهي حضور الأعمال بنفسها يوم القيامة، فإنَّ لعمل الإنسان ظاهراً وباطناً، والذي يعرفه الناس من عملهم في الدنيا هو ظاهر العمل، وأمّا باطن أعمّالهم فيتعرفون عليه في الآخرة… ولعلّ الآيّة الكريمة من سورة النساء تشير إلى هذا المعنى:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. [النساء: 10] … إن الذين يأكلون أموال اليتامى يرون أنّهم يأكلون الدرهم والدينار والذهب والفضة…، إلا إنّهم في الحقيقة يأكلون النار الحارقة ولا يشعرون، فإن باطن هذه الدراهم والدنانير التي يأكلونها النار، غير أنهم لا يشعرون بذلك في الدنيا.
فإذا ماتوا وجدوا أعمّالهم بباطنها وحقيقتها قد سبقتهم إلى الحياة الآخرة فتحضر لهم أعمّالهم يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ …
وعندئذٍ يتمنّى الإنسان أن يكون بينه وبين سيّئات أعماله أمداً بعيداً، ولكنّها تلتصق به التصاقاً شديداً، لا تفارقه قطّ، ولا يجد سبيلًا للتخلّص منها.
يقول تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. [الزلزلة: 7- 8].
وآيّة سورة الزلزلة واضحة في أنَّ الإنسان يقدم على عمله، ويرى عمله يوم القيامة.
فينعم الصالحون يومئذٍ بأعمّالهم الصالحة، ويشقى الفاسقون بأعمّالهم السيئة.
الغافل غير المغفول عنه:
ثم يحذّر الإمام الناس عن الغفلة، ويصفهم بهذا الوصف المثير: (ويحك يا ابن آدم الغافل، وليس مغفولًا عنك)، وهو وصف ينطبق انطباقاً دقيقاً على كثير من الناس. يعيشون في غفلة تامة عن الله، وعن الموت وعن أنفسهم، وكأنّه ليس من ورائهم حساب على أعمالهم، ولا ينفذ أجلهم …. وكل لحظة تمر عليهم يقتطع الزمان من عمرهم قطعة لا تعود إليهم أبداً … ولو علموا أنّهم غير مغفول عنهم إذا غفلوا، حافظوا على وعيهم وانتباههم.
فيحذّرهم الإمام من هذه الغفلة القاتلة، ويقول: (يا ابن آدم الغافل، وليس مغفولًا عنه)، وهذا أضعف ما يمكن أن يكون عليه المقاتل في ساحة القتال يغفل عن عدوّه، وعدوّه يرصده رصداً دقيقاً ولا يغفل عنه.
والإنسان الغافل يعيش في الدنيا بين رصدين، عدوّ يرصده وهو الشيطان لينقضَّ عليه، في لحظات الغفلة فيهلكه، ورقيب يرقبه ويرصد أعماله، ليحاسبه على أعماله يوم يلقى الله، ولا تخفى عليه خطرات قلبه وكوامن نفسه، وهو اقرب إليه من حبل الوريد، ومن العجب أن يعيش الإنسان بين هذا الرصد وذلك الرصد غافلًا.
مواقف السؤال:
ثمّ ينتقل الإمام (ع) إلى مواقف السؤال، وخير ما ينبّه الغافلين من غفلاتهم تذكيرهم بمواقف السؤال، وهي أشقّ المواقف على الإنسان منذ أن يفارق الإنسان الدنيا … وأوّل موقف من مواقف السؤال عندما يضعه أهله وأحبته في حفرته ثمّ يتفرّقون عنه، ويتركونه وحيداً.
يقول الإمام (ع): (قد قبض الملك روحك، وصيّرك إلى قبرك وحيداً، تُرَدُّ إليك روحك، واقتحم عليك ملكان (ناكر) و (نكير) لمساءلتك وشديد امتحانك).
وما أشد وقع المساءلة على الإنسان، إذا كان لم يعدّ نفسه من قبل لمثل هذه المسائلة … ولو أن الإنسان يعي أن من وراء كلّ عمل من أعماله سؤالًا وحساباً لم يستسلم للغفلة، وحاسب نفسه، قبل أن تحاسبه ملائكة السؤال والحساب.
وأوّل سؤال تسأله ملائكة الحساب عن عقائده (عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه).
فإن الإيمان بالله ورسوله وملائكته ودينه والولايّة لأولياء الأمر هو الأساس الذي يصدر عنه العمل، والعمل الذي يصدر عن غير أساس، مبتور، لا قرار ولا قيمة له.
ولا بدّ من أن يبني الإنسان أعماله على أساس محكم من الإيمان، ويبني إيمانه على أساس من الحجّة.
والإيمان الذي لا يعتمد على الحجّة والدليل لا قيمة له عند المساءلة والحساب، كما أن العمل الذي يصدر من غير الإيمان لا قيمة له …
ولأمر ما يعقّب القرآن العمل الصالح بالإيمان فإن العمل الصالح ثمرة الإيمان، ولا ينفكّ عنه، ولن يكون الإيمان عقيماً، والعمل الصالح لا يصدر إلا عن الإيمان، وكل عمل يصدر من غير إيمان واعتقاد قائمين على الحجة والدليل، فاقد للقيمة الأساسيّة في العمل الصالح، فإن العمل الصالح ليس جهداً صالحاً فقط، كيفما كان مصدر هذا الجهد ومبعثه، وإنّما تقوّمه النيّة الصالحة، وهذا هو الشطر الثاني من مقوّمات العمل الصالح.
والنيّة الصالحة، بالنظرة الدقيقة الكلية، تعتمد على الإيمان القائم على الحجة والدليل وهذا هو الشطر الثالث من مقوّمات العمل الصالح.
(1) الصلاح، (2) النيّة، (3) الإيمان:
إذن السؤال يتمّ على محورين لا يعفى عنهما الإنسان: الإيمان والعمل.
يقول زين العابدين (ع) عن المحور الثاني (وعن عمرك فيما أفنيته، وعن مالك فيما أنفقته).
الهول الأكبر من أهوال ما بعد الموت: وهو هول يوم القيامة يوم يحشر الناس كالجراد المنتشر.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (القمر: 6- 8).
وأيّ يوم رعيب هذا اليوم الذي يمتدّ على الناس في مواقف الحساب خمسين ألف سنة، وأيّ حساب عسير هذا الحساب فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [لمعارج: 4- 10]!
ويحشر الناس يومئذ، ولا يسأل حميم عن حميم، وينتشرون كالفراش المبثوث، هَمّ كلّ واحد منهم أن يتخلّص من عذاب جهنّم، ويعبر الصراط إلى الجنة.
ونقرأ سورة القارعة، فتقف كلّ شعرة في جسم الإنسان، إذا قرأها حقّ قراءتها، من هول ذلك اليوم الرهيب.
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ [ (سورة القارعة].
ويضرب الناس في ذلك اليوم الرهيب زلزال عظيم يفقد الناس فيه صوابهم، ويمسون وكأنّهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن هول ذلك اليوم الرهيب يفقدهم الصواب، فيتراءى لمن يراهم أنّهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكنّ
عذاب الله شديد يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحجّ: 1- 2].
ولا يمرّ على الإنسان هول أعظم من هذا الهول الذي يصيب الناس يوم الزلزال الأكبر، وناهيك في ذلك أنَّ العظيم تبارك وتعالى يعبّر عن زلزال هذا اليوم بأنّه (شيء عظيم) …
في هذا الزلزال تذهل المرضعة عمّا أرضعت، وهو أكثر ما يمكن أن يتصوّره الإنسان من الهول الذي يصيبه، حتى تذهل المرضعة عمّا أرضعت … أعاذنا الله من هول ذلك اليوم بظِلال أمنه الذي يرزق عباده الصالحين، ولسنا منهم، ولكنّنا نرجو أن يعاملنا بفضله ولطفه، وليس بعدله.
ونقرأ آيات سورة المعارج فتمتلئ قلوبنا رهبة وهيبة من ذلك اليوم الرهيب الذي يمتدّ خمسين ألف سنة … كلّه حساب ومساءلة، يمتدّ هذا الزمن الطويل، وكلّه رهبة وخوف، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر.
وليس ببعيد ذلك اليوم الرهيب ولكنّ الناس عنه في غفلة وسبات. يومئذ تكون السماء كالمهل (النحاس المذاب) من شدّة الحرّ الذي تصبّه عليهم السماء، أو الزيت الذي يغلي من شدّة الحرّ، والجبال يومئذ كالصوف المنفوش وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 9].
وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5].
والصوف المنفوش الصوف الذي فقد تماسكه وأصبح هشّاً بعد تصلّب، ولعلّ ذلك من أثر الزلزال العظيم الذي تصيب ساحة الحشر فتهتزّ له الجبال هزّات قويّة، فتكون كالعهن المنفوش.
وكلّ إنسان مشغول بشأنه في ذلك اليوم العسير، لا يسأل حميم عن حميم.
يومئذ يودّ المجرم لو يدفع عذاب ذلك اليوم عنه بأعزّ من يعرف من أهله وأبنائه وزوجته وإخوانه وعشيرته، ومن في الأرض جميعاً وينجو بذلك من عذاب الله … ولكن هيهات (كلّا).
ثمّ تقرّر آيات المعارج هذه الحقيقة المرّة (أنّها لظى) تتلظّى، وتلتهب على المجرمين وتنزع من شدة الحر جلود رؤوسهم نَزَّاعَةً لِلشَّوى.
ولنقرأ هذه الآيات من سورة المعارج، وهي كما قلنا في الآيات التي تلوناها من قبل من سورة القارعة إذا أعطاها الإنسان حقّها من القراءة والوعي تقف عند قراءتها كلّ شعرة في جسمه من هول ذلك اليوم: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 1- 18].
يقول الإمام عليّ بن الحسين (ع) عن هذا اليوم المهيب، وعن هذا الهول الأعظم: (واعلم أن من وراء هذا (يعني مسألة القبر والبرزخ) أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة، ذلك يوم مجموع له الناس …).
التحذير من المعاصي:
ثمّ يحذّرهم الإمام ذنوبهم وآثارهم وتبعاتها السيّئة على دنياهم وآخرتهم ومعاشهم ومعادهم. (فاحذروا) أيّها الناس من المعاصي، ما قد نهاكم الله عنه، وحذّركموها في كتابه الصادق الناطق، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللّذات في هذه الدنيا … فاشعروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما وعدكم في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما خوّفكم من شديد عقابه.
يقول سبحانه: أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل: 45].
إن للذنوب آثاراً سيّئة في دنيا الناس ومعاشهم وآثاراً أسوأ في معادهم وآخرتهم.
أمّا ما يتعلّق بدنيا الناس فإن للذنوب والسيئات آثاراً تخصّ العاملين بها.
وهناك ذنوب ترتكب من ناحيّة المجتمع، وتشيع في أوساط الناس، دون أن يقابلها إنكار للمنكر بحجم الذنوب والمعاصي، وبحجم الأمّة … عندئذ العذاب ينزل على الأمّة كلّها، وليس على المذنبين والعاصين بالخصوص، وهو قوله: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: 25].
والعقوبات التي تخصّ هذه الذنوب إبتلاءات ومصائب عامّة وسقوط حضاري، كما يحدّثنا القرآن في الأمم السابقة، وكما عرفنا في عصرنا ذلك في سقوط دولة الإلحاد في الاتحاد السوفيتي السابق.
يقول تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام: 6].
وفي قوم نوح يقول تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25].
فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 59].
والمعلوم أن الرجز الذي نزل من السماء عمّ الجميع، وأن الجميع لم يكونوا من الظالمين، فعمّهم العذاب، عندما شاعت فيهم الذنوب، وانقطع فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52].
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها [الشمس: 14].
وأمّا الذنوب التي لا تعمّ المجتمع، فهي التي يقابلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّها تكون بحجم المعصيّة وبحجم العاملين بالمعصية، والعذاب في مثل هذه الذنوب يقع على المذنبين خاصّة، كما ذكرنا.
يقول تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران: 25].
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
هذا كلّه فيما يصيب الناس من عقوبة في معاشهم ودنياهم على ذنوبهم …
وأمّا ما يتعلّق بعقوبات الآخرة فإنّها لا تنزل إلا على العصاة والمذنبين خاصّة، وبقدر ذنوبهم ومعاصيهم لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164].
ذلك أن يوم القيامة يوم الفصل، يفصل فيما بين الناس فلا يتحمّل بريء عقوبة المجرمين.
وهذه العقوبات هي التي تحدّثنا عنها في العنوان السابق (الهول الأكبر) يوم القيامة.
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 11- 18].
هذه العقوبة تخصّ المجرمين فقط يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وهذه العقوبة تدعو فقط من أدبر وتولّى وجمع فأوعى.
السعيد من وُعِظَ بغيره:
ويحذّرهم الإمام (ع) أن يكونوا عظة للآخرين … وإنّما على المؤمن أن يتّعظ بالآخرين، ولا يكون موعظة لهم (فاحذروهم ما حذّركم الله بما فعل الظَّلَمة في كتابه … والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم، وإن السعيد من وعظ بغيره) إنّ الله تعالى يعظنا في كتابه بالأشقياء من الناس، الذين أسقطتهم سيّئاتهم وظلمهم في الهاوية …
فعلينا أن نتّعظ بهم، ونحذر أن نقع فيما وقعوا فيه، فإن شقائهم وسقوطهم لنا موعظة ودرس، علينا أن نستفيد منه … وحذار حذار أن يكون المسلم هو نفسه درساً وموعظة للآخرين … إذا لم ينتفع هو بسقوط الظالمين والمذنبين وشقاوتهم من قبل.
(فكونوا أيّها المؤمنون من القوم الذين يعقلون).
فإن الغفلة عن موارد العظة ممن جاء قبلنا من الناس تأتي بسبب تعطيل العقول … والعقول من المواهب الإلهيّة العظيمة، التي يخسرها الإنسان إذا عطلها كما يخسر الإنسان كلّما رزقه الله تعالى من المواهب، إذا عطّلها.
الركون إلى الدنيا والركون إلى الظالمين:
ويحذّرنا الإمام في خاتمة هذا الدرس عن ركونين، هما سبب الكثير من ابتلاءات الإنسان ومصائبه في هذه الدنيا والآخرة، وهو الركون إلى (الدنيا) والركون إلى (الظالمين):
يقول (ع): ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وما فيها ركون من اتّخذها دار قرار ومنزل شيطان فإنّها دار قلعة ومنزل بلغة، ودار عمل.
وهذا هو الركون الأوّل.
والركون الثاني: الركون إلى الظالمين، فإن الله قال: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ [هود: 113].
هذا الركون وذلك الركون يستنزلان غضب الله وعذابه. الركون إلى الدنيا وزخرفها ومتاعها، يطيل أمل الإنسان في الدنيا، وطول الأمل في الدنيا يعادل دائما نسيان الموت والآخرة … وهما بمعنى الإعراض عن الله تعالى ونسيانه.
والدنيا، كما يقول الإمام (ع) ليست بدار قرار واستيطان، وإنّما هي منزل قلعة، سرعان ما يقلع الإنسان عنه، ومنزل بلغة، يبلغ بها وفيها ما قسم الله لعباده الصالحين في نعيم رضوانه وجناته.
فمن جعلها دار قرار واستيطان، استغرقته، وبقدر ما تستغرقه الدنيا يخسر الآخرة، والإعداد والتحضير لها.
والركون إلى الظالمين، بمعنى نفي الركون إلى الله، فلا يمكن أن يجمع الإنسان بين الركون إلى الله والثقة به والاطمئنان إلى الظالمين.
ولا يمكن أن يستشعر الإنسان الأمن والاطمئنان بجوار الله، وفي نفس الوقت يستشعر الأمن والاطمئنان بجوار أعداء الله.
إن الركون إلى الظالمين يسلب صاحبه الركون إلى الله بالتأكيد.
وما أشقى الإنسان وأعظم بؤسه إذا انتزع من نفسه وقلبه الركون إلى الله العلي الأعلى، واستبدله بالكون إلى الظالمين!
يقول تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ [هود: 113].
خطاب وعظيّ آخر للإمام زين العابدين (ع):
وفيما يلي نروي خطاباً وعظيّاً آخر للإمام زين العابدين (ع) بروايّة الشيخ الكلينيّ في روضة الكافي.
عن أبي حمزة قال: ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) إلا ما بلغني من عليّ بن أبي طالب (ع).
قال أبو حمزة: كان الإمام عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) إذا تكلّم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته.
قال أبو حمزة: وقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام عليّ بن الحسين (عليهماالسلام)، وكتبت ما فيها، ثمّ أتيت عليّ بن الحسين صلوات الله عليه، فعرضت ما فيها عليه، فعرفه، وصححه.
وكان ما فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. كفانا الله وإياكم كيد الظالمين، وبغي الحاسدين وبطش الجبارين.
أيّها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد ، غدا. واحذروا ما حّذركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا، ركون من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان.
والله إن لكم مما فيها عليها دليلًا وتنبيهاً من تصريف أيّامها وتغيّر انقلابها ومثلاتها . وتلاعبها بأهلها، إنّها لترفع الخميل . وتضع الشريف، وتورد أقواماً إلى النار غدا، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.
إنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن ، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لَتثبط القلوب عن تنبّهها، وتذهلها عن موجود الهدى، ومعرفة أهل الحق، إلا قليلًا ممّن عصم الله.
فليس يَعرف تصرّم أيّامها، وتقلّب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثمّ استعان على ذلك بالزهد، فكرّر الفكر، واتعظ بالصبر، فازدجر، وزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذّاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين.
نظر إلى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة البصر ، وأبصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة.
فلقد لعمري استدبرتم الأمور الماضيّة في الأيّام الخاليّة من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلّون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحقّ.
فاستعينوا بالله، وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتُّبعَ فاطيع.
فالحذر، الحذر، من قبل الندامة، والحسرة، والقدوم على الله، والوقوف بين يديه.
وتالله ما صدر قوم قطّ من معصيّة الله إلا إلى عذابه، وما آثر قوم قطّ الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم، وساء مصيرهم، وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان .
فمن عرف الله خالِقه، حثّه الخوف على العمل بطاعة الله.
وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه. وقد قال الله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28].
فلا تلتمسوا شيئاً مما في هذه الدنيا بمعصيّة الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا أيّامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فإن ذلك أقلّ للتبعة، وأدنى من العذر، وأرجأ للنجاة، فقدّموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلّها، ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله على طاعته وطاعة أولي الأمر منكم.
واعلموا أنّكم عبيد الله، ونحن معكم، يحكم علينا وعليكم سيّد حاكم غدا، وهو موقفكم ومسائلكم، فأعدّوا الجواب، قبل الوقوف، والمسائلة والعرض على ربّ العالمين، يومئذ لا تكلّم نفس إلا باذنه.
واعلموا أن الله لا يُصدق يومئذ كاذباً، ولا يكذب صادقاً، ولا يردّ عذر مستحق، ولا يعذر غير معذور، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل.
فاتّقوا الله عباد الله، واستقبلوا في إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعلّ نادماً قد ندم فيما فرّط بالأمس في جنب الله، وضَيَّع من حقوق الله. واستغفروا الله، وتوبوا إليه، فإنّه يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئة، ويعلم ما تفعلون.
وإيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم .
واعلموا أنّه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبدَّ بأمره دون أمر ولي الله كان في نار تلتهب، تأكل أبداناً قد غلبت عليها شقوتها.
واعتبروا يا أولي الأبصار، واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنّكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ورسوله ثمّ إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة وتأدّبوا بآداب الصالحين) .
تأمّلات في خطاب الإمام (ع):
يقول الإمام عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) في هذا الخطاب:
أيّها المؤمنون لا يفتنّنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد.
واحذروا ما حذّركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان.
فتنة الطاغوت:
الهوى والطاغوت أعظم خطرين في حياة الإنسان. الهوى من (داخل النفس) والطاغوت في ساحة الحياة (على الأرض).
وفتنة الطاغوت في إخراج الناس من دائرة عبوديّة الله تعالى وطاعته إلى دائرة عبوديّة الطاغوت وطاعته، من دون الله وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 257].
وعبادة الطاغوت طاعته واتباعه، من دون الله … وقد ورد التعبير عن طاعة (الطاغوت) و (الشيطان) بالعبادة في القرآن في أكثر من موضع.
وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة: 60].
وعن طاعة الشيطان ورد في القرآن: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60- 61].
وفتنة الطاغوت في تطويع الناس لطاعتها هي بالإرهاب والإغراء والتغرير (التضليل).
فإذا افتتن الطاغوت الناس تحوّل الإنسان إلى أداة طيّعة مطيعة لإرادته، لا يسعه أن يعصيه، بل يفهم الأشياء كما يفهمه الطاغوت، ولا يكون بوسعه ان يرى الأشياء ويفهمها بغير ما يراه الطاغوت ويفهمه.
ولقد أنكر فرعون على السحرة اذ آمنوا بإله موسى قبل أن يأذن لهم.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123].
إنّ فرعون يتوقّع من الناس أنّ يتبعوا في إيمانهم وقناعاتهم إذن فرعون، وما لم يأذن لهم بقناعة أو إيمان كان عليهم أن يثبتوا على القناعات الرسميّة التي يرسمها لهم الطاغية … وهذه خصلة أصيلة في كلّ الطغاة على اختلاف درجاتهم في الطغيان.
فإذا تمكّن الطاغيّة من تطويع الناس لإرادته وفهمه وذوقه … فقد تحول الناس عندئذ إلى كتلة بشريّة (إمّعة) فاقدة للإرادة والوعي والضمير.
وكيف يتمّ للطاغيّة استفراغ شخصيّة الإنسان من وعيه وعقله وإرادته وضميره وسائر المواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان؟
الجواب في القرآن: يقول تعالى عن فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ [الزخرف: 54].
والمقصود بذلك فرعون.
استخفّهم: أي استفرغ فرعون نفوسهم وعقولهم من الوعي والعقل والإرادة والبصيرة والمواهب التي يرزق الله تعالى الإنسان.
وعندما يفقد الإنسان وعيه وإرادته وضميره وعقله يصبح خفيفاً حسب الموازين الإنسانيّة، فاقداً للوعي والارادة، فيطفو ويتعوّم خفيفاً بين يدي الطاغوت، فيحركه ويوجّهه كما يريد، كما تطفو الخشبة العائمة على سطح الماء، فتاخذها الأمواج يميناً وشمالًا من غير مقاومة (فاستخفّ قومه فأطاعوه).
ويصف الإمام أتباع الطاغوت الذين يعبدونه من دون الله بهذه الأوصاف: (أهل الرغبة في هذه الدنيا، المائلون إليها، المفتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد …).
إذن يتّضح لنا من خلال هذه الكلمات كيف يستلب الطاغوت وعي الناس ورشدهم وعقلهم وإرادتهم ومقاومتهم.
إنّ الطاغوت ومن قبله الشيطان يجد في الناس ميلًا إلى الدنيا ورغبة قوية، وتعلّقاً شديداً بها وضعفاً تجاهها.
فيطمعهم الطاغوت بالدنيا، ويغريهم ويهدّدهم بها، فيتمكّن منهم، ويمكّنونه من أنفسهم وعقولهم وإرادتهم وضمائرهم، فيستلبهم عند ذلك كلّ هذه المواهب الإلهيّة العظيمة، فيصبحون خِفافاً في ميزان القويّ.
إذن مصيبة الإنسان الكبرى في فتنة الطاغوت.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257].
فتنة الدنيا:
وجذور فتنة الطاغوت في فتنة الدنيا، وإذا أردنا مكافحة فتنة الطاغوت فلا بدّ أن نعمل لعلاج فتنة الدنيا في حياة الإنسان، فيقدّم الإمام علاجين لفتنها.
يقول (ع) كما في الفقرة المتقدّمة من كلامه: واحذروا ما حذّركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من إتّخذها دار قرار ومنزل استيطان.
التقوى والزهد:
والنقطة الأُولى في علاج فتنة الطاغوت هي أن يحذر الإنسان مما حذّره الله تعالى من فتن الدنيا التي حرّمها الله، كالسكر، والفحشاء، والمال الحرام، واللهو الحرام.
وهذا هو التقوى.
فقد أحلّ الله تعالى للإنسان أن يسعى في مناكب الأرض ويتمتّع برزق الله.
فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك: 15].
وجعل لهم فيها حدوداً، وحذّرهم من أن يتعدّوها.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [البقرة: 187].
وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1].
والتقوى هو الالتزام بحدود الله تعالى.
وهذا هو العامل الأوّل الذي يحفظ الإنسان من فتنة الدنيا (فاحذروا ما حذّركم الله منها).
والعامل الثاني لمكافحة فتنة الدنيا الزهد وعدم الركون إلى الدنيا.
يقول (ع): وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان.
إنّ (الزهد) غير (التقوى).
ولا يمكن علاج فتنة الدنيا بالتقوى فقط من دون الزهد. وسوف يتضح لكم وجه هذه الحقيقة.
إن حقيقة الزهد تحرير النفس منالتعلّق بالدنيا، وليس من التمتّع والانتفاع بالدنيا، ومصيبة الإنسان فيالتعلّق بالدنيا، وليس في التمتّع بالدنيا، وإن كان الاستغراق في التمتّع بطيبات الحياة يؤدّي إليالتعلّق بالدنيا غالباً.
يصف أمير المؤمنين (ع) الزهد، فيقول: الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23].
ومعنى الآيّة أن أساس مصيبة الإنسان سقوطه في الحزن (الأسى)، بما فاته والفرح بما آتاه.
وفي هذا الحزن والفرح يكمن تعلّق الإنسان بالدنيا وحطامها ومتاعها.
والتعلّق بالدنيا وحبّها رأس كلّ خطيئة في حياة الإنسان.
عن أبي عبد الله الصادق (ع): جعل الشرّ كلّه في بيت، وجعل مفتاحه حبّ الدنيا، وجعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.
وعن عليّ بن الحسين (عليهماالسلام): حب الدنيا رأس كلّ خطيئة.
وعنه (ع) أيضاً حبّ الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب.
وتعبير الإمام (ع) دقيق. إنّ حبّ الدنيا يسلب الإنسان وعيه وعقله وبصيرته، فهو (يُعمي ويُصمُّ الإنسان) ويسلب منه القدرة على الخطاب (ويبكم)، ويذله ويذل رقبته، ويطوّعه لسلطان الطاغوت وإرادته.
وحب الدنيا هو الركون إلى الدنيا الذي يحذرنا منه الإمام عليّ بن الحسين (ع) في كلمته السابقة.
ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من إتّخذها دار قرار ومنزل استيطان.
إن الركون إلى الدنيا، وسكون نفس الإنسان إليها لا يكون إلا عندالتعلّق بالدنيا والانشداد إليها، وهو أساس مصائب الإنسان.
وما للإنسان وللتعلّق بالدنيا؟ والدنيا دار قلعة، يقلع الإنسان منها أحبّ أم لم يحب، وليست بدار قرار.
عن رسول الله (ص): ما أنا والدنيا؟ إنّما مثلى ومثل الدنيا كمثل رجل راكب، مرَّ على شجرة لها فيئ فاستظلّ تحتها. فلمّا أن مال الظلّ عنها ارتحل، وذهب وتركها .
وعن أمير المؤمنين (ع): واحذّركم الدنيا فإنّها دار قلعة وليست بدار نجعة.
ويقول عليّ بن الحسين (عليهماالسلام): ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، ولا تركنوا إلى زهرة الحياة الدنيا، وما فيها ركون … فإنّها دار قلعة وبلغة ودار عمل.
الركونان اللّذان يفسدان الناس:
يذكّرنا الإمام عليّ بن الحسين (ع) في هذه الكلمة بالركونين اللّذين يفسدان الناس:
الركون الأوّل: الركون إلى الظالمين.
يقول تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113].
والركون الثاني الذي يفسد الناس: الركون إلى الحياة الدنيا.
يقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38].
والرضا بالحياة الدنيا هو الركون إلى الدنيا.
ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7- 8].
وهذه الطمأنينة بالدنيا هي الركون إلى الدنيا والرضا بها والاطمئنان إليها، وهو أحد الركونين المحظورين في منهج التربيّة الإسلاميّة.
إذن المحظور من الدنيا أمران.
(التعلّق بها) و (الركون إليها). والركون هو الاطمئنان.
والسائغ من الدنيا هو التعامل معها والتمتّع بطيّباتها، ولكن بشرط ألا يستغرق هذا التعامل الإنسان، فإن الاستغراق في التعاطي مع الدنيا يؤدّي بالإنسان غالباً إلى المحظورين اللّذين ذكرناهما وهماالتعلّق والحبّ أوّلًا، والاطمئنان والركون ثانياً.
وكيف يمكن الركون إلى الدنيا؟ وهي دار قلعة، كما قال أمير المؤمنين (ع)، وما أسرع ما يقلع الإنسان عنها شاء أم أبى، ورضي أم سخط.
والاطمئنان والركون الذي يأمرنا الإسلام به في منهج التربيّة الإسلاميّة هو الاطمئنان بذكر الله والركون إلى الله ورحمته والرجاء برحمة الله.
يقول تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
يقول عليّ بن الحسين (ع): والله إنَّ لكم مما فيها عليها دليلًا وتنبيهاً من تصريف أيّامها وتغيّر انقلابها، ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، وإنّها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد أقواماً إلى النار غداً، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.
إن الدنيا حلوة، خضراء، لاهية، فاتنة، تفتن أهلها وتلهيهم، وتجتذبهم، وتسحر عيونهم، لكن الذين ينظرون إلى الدنيا من خلال تقلّباتها ومثلاتها (شدائدها، وعذابها، ومعاناتها) وتغريرها بأهلها، وتصرّم أيامها، وانقضاء لذاتها وشهواتها لا تسحرهم الدنيا ولا تفتنهم ويحذرون من أن تفتنهم وتسحرهم.
إنّ الدنيا ترفع الوضيع الخامل، وتضع الشريف النابه … ومن هذه الدنيا يسقط أقوام في نار جهنم، ومن أجل هذه الدنيا يرتكب ناس أفظع الجرائم، ثمّ ينتهي أمدهم في الدنيا، ويسقطون في درجات الجحيم.
وكم للدنيا من إقبال وادبار وترفيع وتسقيط … فإذا نظر الإنسان إلى الدنيا من خلال هذه المشاهد لم تفتنه الدنيا، ولم يلهه الأمل، ولم يطل أمله في الدنيا، ولا تخدعه الدنيا بزهوها ولهوها وفتنتها، ويعرف كيف يعيش في الدنيا، دون أن يركن إليها، وكيف يعمر الدنيا من غير أن يستوطنها.
هذه النقطة من أساسيّات منهج التربيّة الإسلاميّة.
ولأمير المؤمنين (ع) كلمة في هذا المجال دقيقة ومعبّرة، ومن رقائق الثقافة الإسلاميّة، تحدثت عنها في كتاب (الهوى في حديث أهل البيت عليهم السلام) ، أنقل إليكم شطراً منه.
يقول أمير المؤمنين (ع): «كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه» ، فهناك إذن من الناس من يستصغر الدنيا، ومن الناس من يستعظمها، وهاتان رؤيتان إلى الدنيا.
يقول أمير المؤمنين عليّ (ع) في وصف الدنيا: «ما أصف من دار أوّلها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتن، ومن أفتقر فيها حزن» ، وهذا هو الوجه الباطن للحياة الدنيا، والرؤيّة الواعيّة النافذة إلى الدنيا.
ثمّ يقول (ع): «من ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته» ، وهذه سُنّة من سنن الله تعالى في علاقة الإنسان بالدنيا، لا تختلّ، ولا تتغيّر، فمن يركض وراء الدنيا و (يساعيها) ويجاريها تُتْعِبُه، فلا يكاد يحقّق طموحه فيها، وكلّما يكسب فيها من رزق يطمح فيها إلى أبعد من ذلك، ويسعى إليه، فهو يجاري الدنيا ويركض خلفها، دون أن يصل إلى غايته منها، ومن يتجمّل في طلبها، فإن الدنيا تؤاتيه وتطاوعه، وينال حاجته منها.
ثمّ يقول (ع) وهو موضع الشاهد في هذا النصّ: «من أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته» .
يقول الشريف الرضيّ في تفسير هذا الكلام: «والمتأمّل فيه يجد تحته من المعنى العجيب، والغوص البعيد ما لا يُبلغ غايتهُ، ولا يدرك غوره»، وهذا الذي يذكره الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) نحوان من الرؤية: أحدهما (إبصار بالدنيا) وهي نظرة الاعتبار، والثاني (إبصار إلى الدنيا)، وهي نظرة الاغترار والافتتان، ولابدّ لذلك من إيضاح:
إنّ الدنيا قد تكون مرآة ينظر بها الإنسان، وقد تكون غايّة ينظر إليها الإنسان وهما نحوان من الرؤية.
فإذا كانت الدنيا مرآة ينظر بها الإنسان إلى الحضارات البائدة، وإلى الذين طغوا واستكبروا على وجه الأرض، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر … فإن هذه النظرة تكون نظرة (اعتبار) و (اتعاظ).
وأمّا عندما تكون الدنيا غايّة ينظر إليها الإنسان وينشد إليها، فإن الدنيا تستهويه، وتفتنه، وتعميه، ويراها حلوة، خضرة.
والنظرة الاولى مادّة للاعتبار، والثانيّة مادّة للافتتان والاغترار، وفي الاولى وعي وبصيرة، وفي الثانيّة تلبيس وغرور.
ولابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمات بيتان في توضيحها، يقول: ونظرت إلى قوله (ع): «من أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته» فقلت:
دنياك مثل الشمس تدني الـ يك الضوء لكن دعوةَ المُهْلكِ
إن أنت أبصرت إلى نورها تَعْشُ وإن تُبصر به تدرك
وفي تعميق هذه الرؤيّة وتأكيدها يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع):
«… جعل لكم أسماعاً لتعي ما عناها، وأبصاراً لتجلو عن عشاها … وخلّف لكم عبراً من آثار الماضين قبلكم، … أرهقتْهم المنايا دون الآمال، … لم يمهّدوا في سلامة الأبدان، ولم يعتبروا في آنف الأوان، … فهل دفعت الأقارب؟ أو نفعت النواحب؟ وقد غُودِر في محلّةِ الأموات رهيناً وفي ضيق المضجع وحيداً، قد هتكت الهوامّ جلدته … وعفَتِ العواصف آثارَه، ومحا الحدثان معالمه، … أوَلستم أبناءَ القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء؟ تحتذون أمثلَتهم، وتركبون قَدَّتهم، وتطُؤون جادَّتَهم، فالقلوب قاسيّة عن حظّها، لاهيّة عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأن المعنيّ سواها! وكأن الرشد في احراز دنياها!!» .
ويقول أمير المؤمنين (ع) أيضاً في نفس السياق: «وإنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزود، والأعمى لها متزوّد» .
إنّ الأعمى هو الذي لا يخترق بصره الدنيا، فيقف عندها، ويتعلّق بها، فالدنيا «منتهى بصر الأعمى»، وأمّا البصير فهو الذي يخترق بصره الدنيا، ويرى عاقبتها، ويرى الدار الآخرة، فلا يتوقّف عندها، ويعتبر بها، ويرحل عنها.
ولابن أبي الحديد شارح (نهج البلاغة) شرح جيّد لهذه الفقرة غير ما ذكرنا، يقول: «شبه الدنيا وما بعدها بما يتصوّره الأعمى من الظلمة التي يتخيّلها، وكأنّها محسوسة له، وليست بمحسوسة على الحقيقة، وإنّما هي عدم الضوء، كمن يطّلع في جُبّ ضيّق فيتخيّل ظلاماً فإنه لم ير شيئاً، ولكن لما عدم الضوء، فلم ينفذ البصر تخيّل أنه يرى الظلمة، فأما من يرى المبصرات في الضياء، فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقيناً، وهذه حالة الدنيا والآخرة: أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم، ويظنّون أنّهم يبصرون شيئاً وليسوا بمبصرين على الحقيقة، ولا حواسّهم نافذة في شيء، وأهل الآخرة قد نفذت أبصارهم فرأوا الآخرة ولم يقف إحساسهم على الدنيا خاصّة، فأُولئك هم أصحاب البصائر على الحقيقة» ، وهذا معنىً شريف من معاني الطريقة والحقيقة.
الطريقة الصحيحة للرؤية:
إنّ للرؤيّة كأيّ فعل آخر من أفعال الإنسان أساليب ومناهج، منها الصحيح ومنها الخطأ، والقرآن يوضح لنا، فيما يوضّح من مناهج السلوك والعمل، المنهج الصحيح للرؤية، يقول تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى ، و (تمديد النظر) طريقة من النظر والرؤية، وهي أن يمد الإنسان نظره إلى ما رزق الله تعالى الناس من رزق، وفي هذا (المد) معنى (التجاوز) وكأنّما الإنسان يتجاوز بنظره عمّا رزقه الله تعالى من رزق إلى ما رزق الآخرين من عباده من زهرة الحياة الدنيا .. وهذه رؤيّة مذمومة.
وهذا (التمديد) في النظر مصدر عذاب الإنسان ومعاناته … فهو يتمنّى ما لم يرزقه الله، ويسعى نحوه، فإذا رزقه الله تعالى تمنّى غير ذلك مما لم يرزقه الله تعالى، ورزق الآخرين من عباده … ويستمرّ الإنسان في ملاحقة الدنيا ومساعاتها كما يقول أمير المؤمنين (ع) ، والركض وراءها، فيطول عذابه فيها، ولا ينال منها غايته.
إن هذه الطريقة من النظر إلى الدنيا تورث الإنسان الحسرة والتلهّف على ما في أيدي الناس، على العكس تماماً مما لو نظر الإنسان (بالدنيا) وليس (إليها) واتخذ الدنيا مرآة، ينظر بها إلى افتتان الناس بها، واستغراقهم فيها، وهلاكهم، وسقوطهم بسببها، فإنّه لا يغترّ بالدنيا، ويتجمّل في طلبها، ولا يفتنه ما رزق الله أزواجاً منها فيها من زهرة الحياة الدنيا، ليفتنهم به، فيتعفف عمّا في أيدي الناس ويترفّع عنه.
وغني عن البيان أن نظرة الاستغناء والتعفّف والترفّع عمّا في أيدي الناس، وعدم الانشداد به لا يعني القعود عن السعي والعمل والتحرّك في ساحة الحياة، فإن الإنسان المسلم يسعى ويتحرّك، ولكن ليس من منطلق التلهّف على ما في أيدي الناس، وإنّما ليكسب الرزق من عند الله.
إذن لطريقة النظر إلى الأشياء دور كبير في سلامة النفس وتلوّثها، فقد تلوّث النظرة روح الإنسان، وتخلق له عذاباً ومعاناة طويلة (رُبَّ نظرة تورث حسرة) ، وقد تكون النظرة أساساً ومنطلقاً لاستقامة الإنسان وتقويم سلوكه.
إن الإسلام لا يمنع من النظر، ولكن يعلّمنا كيف ننظر إلى الأشياء.
ثمّ يقول عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): إن الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، لتثبط القلوب وتذهلها عن الهدى، ومعرفة أهل الحقّ، إلا قليلًا ممن عصم الله.
الفتن التي تسلب بصائر الناس في كلمات زين العابدين (ع):
هذه النقاط التي يذكرها الإمام عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) مفردات فتنة واسعة شاملة: مثل شيوع البدع في الدين، وانتشار الظلم والجور، والعدوان، وبوائق (شرور) الزمان، وهيبة السلطان الكاذبة الجائرة.
هذه مفردات من الفتنة التي تلمّ بالناس، فتسلبهم بصائرهم ووعيهم، وتطبع على قلوبهم، فلا ينفذ إليها نور ولا هدى.
وقد وقع مثل هذه الفتنة صدر الإسلام وأخبر عنها رسول الله (ص) أمّته عنها من بعد وفاته.
عن رسول الله (ص): بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل .
وعن رسول الله (ص): ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل .
وروى البخاري في كتاب الفتن من الجامع الصحيح عن رسول الله (ص) أنا فرطكم على الحوض. لَيرفعنّ إليَّ رجال منكم حتى إذا هويت لأُناولهم اختلجوا دونى (أي أنتُزِعُوا منّي وأبعدوا عنّي) فاقول: أي ربّ أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بَعْدَك .
وعن فتنة بني أميّة يقول أمير المؤمنين (ع): ألا وإنَّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه (ص)، والذي بعثه بالحقّ لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، حتى يعود اسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم .
ويقول (ع) في نفس السياق عن الفتن الاجتماعيّة والسياسيّة: والله لتمحّصن، والله لتغربلن، حتى لا يبقى منكم إلا نزر .
وإذا هبّت رياح الفتنة على قوم أعمتهم وأصمتهم وسلبتهم وعيهم وبصائرهم.
يقول أمير المؤمنين (ع) عنها: إنّ الفتن إذا أقبلت شَبَّهَتْ وإذا أدبرت نَبَّهَت يُنَكْرنّ مقبلات ويُعْرَفْنَ مدْبرات، يحمن حول الرياح، يصبن بلداً، ويخطئن بلداً .
إن الفتن اذا أقبلت يسلبن الناس بصائرهم، فيلتبس عليهم الحقّ والباطل، ويشتبه الحقّ بالباطل والباطل بالحق، فلا يميزون بينهما (إذا أقبلت شبهت)، وإذا انحسرت الفتنة عن بلد رجع إلى الناس رشدهم ووعيهم (إذا أدبرت نبهت، ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات).
ويقول (ع) عن فتنة بني أميّة: إنّها فتنة عمياء صمّاء مطبقة مظلمة، عمّت فتنتها، وخصّت بليّتها، أصاب البلاء مَن أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمى عنها، أهل باطلها ظاهرون على أهل حقّها، يملأون الأرض بدعاً وظلماً وجوراً .
وهو كلام عجيب يستوقف الإنسان.
هي فتنة عمياء صمّاء مطبقة مظلمة، تسلب الناس بصائرهم (عمياء)، وتسلب الناس أسماعهم (صمّاء)، ومطبقة مظلمة، لا ينفذ إليها النور والهدى، كانما السماء أطبقت على الأرض.
تعم الفتنة فيها الجميع: أصحاب البصائر، والعُمْي الصمّ كلّهم، فيكون الابتلاء والمعاناة والعذاب والقتل والمطاردة فيها من حظ اصحاب الأبصار (أصاب البلاء من أبصر فيها)، وهو ضريبة البصيرة والوعي.
وأمّا العُمْي الصُمُّ البُكم فحظّهم فيها العافيّة في الدنيا، وإن كانت تُخْطِأهم أحياناً.
وفي هذه الفتن يظهر أهل الباطل (العمي، الصمّ، البكم) على أهل أصحاب الحقّ (أهل البصائر) … هذا هو التصوّر العلوي لفتنة بني أميّة.
كيف تتكوّن الفتنة:
إن الفتن تهبُّ كالأعصار تصيب بلداً وتنحرف عن أخرى، وقد قرأنا لأمير المؤمنين (ع) قبل قليل: (إن الفتن كالرياح يصبن بلداً ويخطئن أخرى) ، فإذا أصابت بلداً سلبتهم بصائرهم ووعيهم، وعمّتهم الفتنة جميعاً أصحاب البصائر منهم والعُمْي الصُمُّ البكمُ …
ولماذا تصيب بلداً وتخطئ أخرى؟
لأن رياح الفتنة تطلب البلاد التي يعصي الناس فيها الله تعالى.
يقول أمير المؤمنين (ع): أيّها الناس! إنّما بدأ وقوع الفتن أهواء تُتَّبِع، وأحكام تُبْتَدع، يخالَف فيها حكم الله، يتولّى فيها رجال رجالًا .
إن الذنوب والمعاصي والمنكرات إذا انتشرت في بلد وشاعت وعمّتهم تنزل عليهم الفتنة لا محالة فيفتنون.
وفي هذه الفتن يظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، ويكون فيها البلاء خاصّاً بأصحاب البصائر، ويتمتّع فيها اصحاب الباطل بالعافيّة في دنياهم.
وهذه هي الفتنة التي يحدّثنا عنها عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) بعد مصرع الحسين (ع) في هذا الخطاب، وهي التي كان يخافُ منها أمير المؤمنين (ع)، ويحذّر الناس منها … يقول (ع):
ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنّها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطّتها وخصّت بليّتها وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمى عنها وأيم الله لتجدن بني أميّة لكم أرباب سوءٍ بعدي، كالناب الضروس تعذم بفيها وتخبط بيدها، وترين برجلها وتمنع درّها لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم أو غير ضائر بهم، ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربّه والصاحب من مستصحبه ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية وقِطَعاً جاهلية، ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى.
والإمام زين العابدين (عليهماالسلام) يتحدّث عن هذه الفتنة بالذات، فقد عاش كلّ معاناتها ومرارتها وضراوتها.
كيف يسلم الناس من الفتنة:
يقول الإمام زين العابدين (ع) في كلامه السابق: فليس يَعرف تَصَرُّم أيّامها، وتقلّب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثمّ استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتّعظ بالصبر، فازدجر، وزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذّاتها، ورغب في دائم نعيم الآخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين.
وهذه النقاط التي يذكرها الإمام زين العابدين (ع) هي سفن النجاة في مضلات الفتن التي يفقد فيها الناس بصائرهم وأسماعهم ووعيهم.
إنّ الذين يسلمون في هذه الفتن هم الذين يعصمهم الله من مضلات الفتن، وأولئك هم الذين نهجوا سبيل الرشد، وسلكوا طريق القصد … فلم يتخبّطوا في سيرهم وحركتهم، ولم ينحرفوا عن الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى لهم.
واتقوا الله تعالى في مضلات الفتن، فإن العبد إذا اتّقى الله تعالى عصمه الله في مضلات الفتن وحفظه من العمى والصمم الّذين يُصيبان سائر الناس.
يقول أمير المؤمنين (ع): اعلموا انه من يتّق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونوراً من الظلَم .
والتقوى سفينة النجاة، يشقّ بها الإنسان أمواج الفتن.
يقول أمير المؤمنين (ع): يا أيّها الناس! شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة .
وكما ان الفتن تأتي بأهواء تُتَّبّع، وأحكام تُبتدع كذلك في المقابل يسلم الإنسان من أمواج الفتن بالتقوى.
ومن سفن النجاة في الفتن: القرآن
عن رسول الله (ص) أنّه قال: إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، وما حل مصدّق. من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار .
وهذان هما سبيلا الرشد وطريقا القصد في الفتن (القرآن والتقوى).
ثمّ يعلّمهم زين العابدين (ع) بعد ذلك، أن يستعينوا على الفتن بالزهد، فإن الزهد يحفظ الإنسان من الانغماس في الدنيا والافتتان بها، الذي هو رأس مصائب الإنسان ومن أعظم مصادر الفتن.
ثمّ يأمرهم بالتفكير والتأمل والتدبّر (فكرّر الفكر).
وقد جعل الله تعالى سلامة الإنسان في التفكير والتأمّل والتدبّر، وإنّما رزق الله تعالى الإنسان العقل والفكر وأمكنه من التفكير والتدبير ليعصم نفسه من مضلات الفتن ويحفظ نفسه من السقوط فيها.
ويواصل الإمام عليّ بن الحسين (ع) في هذا السياق مكانه عن معاقل النجاة عندما تهبّ على الناس رياح الفتنة.
الاعتبار بالتاريخ:
ثمّ يقول عليّ بن الحسين (عليهماالسلام): انظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة، حديدة البصر (النظر)، وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة، فلقد لعمري استدبرتم الأمور الماضيّة في الأيّام الخاليّة من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحقّ.
اقرأوا الحاضر من خلال الماضي … إن الماضي مليئ بالعبر … فاعتبروا لحاضركم من الأيّام الخالية … إنّ أصحاب البصائر يقرأون حاضرهم في الماضي، ومن خلال كتب التاريخ، ويجدون في تاريخ الأمم السابقة وتاريخ هذه الأمّة، وما وقع فيه من جور الملوك وطغيانهم، ثمّ هلاكهم وسقوطهم، دليلًا على حاضرهم.
وفي القرآن تاكيد بليغ على رؤيّة الحاضر والمستقبل من خلال الماضي، وإن قراءة الماضي ليس للتسلية، ولا للتكاثر والتفاخر، وإنّما للاعتبار.
يقول تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111].
نقاط ثلاث في كلام الإمام (ع):
وفي كلام الإمام (ع) نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: أن ننظر إلى الدنيا بعين ثاقبة، نافذة البصيرة، لا يحجبها سطح الأحداث عن النفوذ إلى أعماقها والوصول إلى دلالاتها … فإن في أنظار الناس أنظاراً بليدة تقف عند سطح الحوادث، ولا تنفذ إلى أعماقها ودلالاتها، وتنبهر ببريق الفتن والإعلام.
ومن الأنظار أنظار ثاقبة نافذة لا تنبهر ببريق السلطان والمال والموقع، وتنفذ إلى الأسباب والنتائج (البدايات والعواقب).
وهذه النظرة الثاقبة النافذة المستعليّة على فتن الدنيا هي التي يعلّمنا القرآن إيّاه تجاه التاريخ.
يقول تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى [طه: 131].
يقول الإمام عليّ بن الحسين (ع) في هذا المعنى: فانظر إلى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة البصر.
وفي النقطة الثانية: يعلّمنا الإمام أن ننظر إلى التاريخ بهذه النظرة الثاقبة النافذة.
(وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة).
واحذروا أن يحجبكم الحاضر عن الماضي، فلربّ حدث وفتنة في الحاضر لا تستطيع أن تقرأها وتفهمها وتعالجها وتفهمها، إلا من خلال الماضي … إنّ قراءة الماضي قراءة واعيّة جزء من مكونات الثقافة الإسلاميّة.
وليس بوسع الإنسان أن يكسب وعي سنن الله في المجتمع إلا من خلال التاريخ … ومن يقرأ التاريخ وينظر فيه بنظرة ثاقبة واعيه، فكأنّما عاش التاريخ كلّه وتزوّد بتجاربه وخبراته.
وهذه المعايشه الواعيّة للتاريخ، والنظرة الواعيّة إلى حوادث التاريخ يأمر بها القرآن الكريم.
يقول تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137].
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: 69].
ويقول أمير المؤمنين (ع) في وصيّة لابنه الحسن (ع) أنّه قد سبر التاريخ، ونظر في أعمال الناس من قبله، حتى كأنّه عاش معهم واكتسب في هذه المعايشة والنظرة الواعيّة تجربة القرون الخالية.
يقول (ع): أي بُني! إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله، وتوخّيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله .
وعن هذه النظرة الواعيّة إلى التاريخ يقول الإمام عليّ بن الحسين (ع): (أبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك والظلمة).
والنقطة الثالثة: أن يتّخذ الإنسان عبر الماضي دروساً للحاضر، ويرسم حاضره وتعامله مع الدنيا وفتنها من خلال عبر الماضي.
إن عبر الماضي، إذا وعاها الإنسان يمكن أن تتحوّل إلى ثقافة يتعاطاها الإنسان في التعامل مع الحياة الدنيا وفتنها.
ولنستمع إلى زين العابدين (ع) حيث يقول: فلقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضيّة في الأيّام الخاليّة من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلّون به على تجنّب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحقّ.