- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 13 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
رسالة الحقوق:
هذه الرسالة رسالة جليلة، جمّة الفوائد، غزيرة المنافع، كتبها الإمام زين العابدين (ع) في تبيان وتنظيم الحقوق الثابتة على الإنسان.
وقد روى هذه الرسالة عن زين العابدين (ع) جمع من المحدّثين منهم الشيخ الصدوق في (الخصال) وحسن بن عليّ بن شعبة بن الحسين الحرّاني في (تحف العقول)، وابن طاووس في (فلاح السائل).
ولا يسعنا الآن أن نتوقّف عند هذه الرسالة بالشرح، ولكنّنا نشير قبل أن نذكر نصّ الرسالة، إلى مجموعة من النقاط، هي التأمّلات الأوليّة المقتبسة من هذه الرسالة.
1ـ مبدأ الحقوق كلّها هو الله تعالى:
هذه مسألة محوريّة هامّة يفتتح بها الإمام عليّ بن الحسين )ع( رسالته في الحقوق، فيقول:
)اعلم أن لله عزّ وجلّ حقوقاً محيطة بك في كلّ حركة تحركتها أو سكنة سكنتها(.
ثمّ يفصّل الإمام الحقوق التي جعلها الله تعالى على عباده إلى مجموعة من الحقوق:
أعظمها حقّ الله على عباده
ثمّ الحقّ الذي جعله الله للإنسان على نفسه
ثمّ حقوق أفعاله عليه (مثل صلاته وصومه)
ثمّ حقوق الأئمّة على الرعايا
ثمّ حقوق الرعايا على الأئمّة
ثمّ حقوق الأرحام بعضها على بعض
ثمّ حقوق ذوي المعروف
ثمّ حقّ الإمام في الصلاة، وحق الجار، والشريك، والغريم، والخليط، والخصم الذي يدعي على الإنسان أو يدَّعى عليه، والمستشير، والناصح، والمستنصح، والسائل، والمسؤول، كانوا من المسلمين أم من أهل الذمّة. وهذه الحقوق كثيرة، وكلها تثبت على الإنسان بحكم الله وتشريعه وجعله.
وهذه مسالة مهمّة (أصوليّة) في الإسلام، وتترتب على هذه القضيّة قضايا كثيرة ولا يثبت في دين الله لأحد على أحد حقّ إلا بحكم وتشريع وجعل من الله، والله تعالى مبدأ كلّ حقّ وأصله في حياة الإنسان، تجاه أيّ شخص أو أيّ شي ء.
من هذا المنطلق لا يثبت لأحد على أحد ولاية وطاعة بغير إذن الله وأمره، وما لم يصلنا هذا الإذن والأمر من جانب الله، فلا تثبت ولاية لإنسان على إنسان، بصورة شرعيّة، ما لم يكن ذلك بإذن وأمر من الله تعالى، سواءً كان الإذن والأمر عامّين أم كان خاصّين.
2ـ موقع المسؤوليّة في حياة الناس:
ما هو مركز الإنسان في الحياة؟
هل هو الولاية والسيادة على نفسه وما يتعلّق به، والتحرّر من كلّ سلطان وولاية عليه، إلا ما يقرّره لنفسه من ولاية الأنظمة والقوانين؟
أم هو المسؤوليّة والطاعة تجاه الله تعالى؟
المذهب الديمقراطي، وهو المذهب السياسيّ الشائع اليوم بين الأنظمة في العالم يذهب إلى الاتجاه الأوّل، ويرى أنّ موقع الإنسان في الحياة موقع الولاية والسيادة المطلقة على نفسه، ولا تصحّ سيادة أحد على أحد إلا بقدر ما يتنازل الإنسان للنظام والهيئة الحاكمة والقانون من حرّيته بإرادته واختياره ….
وهذه النظريّة في جذورها نظريّة ماديّة وإن كان الملتزمون بها مسلمين أو من أهل الكتاب … فإن أصل النظريّة قائم على نفي سلطان الله تعالى التشريعي وحقه في تقرير مصير عباده … وهذا هو معنى سلطان الإنسان على نفسه وتحريره من أيّ سلطان آخر إلا بقدر ما يتنازل له باختياره.
ونفي سلطان الله تعالى وحقّه على الإنسان بمعنى رفض الإيمان بالله تعالى رأساً، فإن الإيمان بالله تعالى الخالق المالك المهيمن المدبّر يعادل الاعتراف بسلطان الله وحقّه المطلق على الإنسان ومصيره في الحكم والتشريع.
ولذلك قلنا إنّ هذه النظريّة في أصولها وجذورها مادية، إذا أخذنا ملازماتها بنظر الاعتبار.
وهذا الذي شرحناه بلغة العقل من ولاية الله تعالى المطلقة وحقّه المطلق على الإنسان ونفي أيّ سلطان آخر في حياته، غير سلطان الله … هو ما يقرّره القرآن الكريم بلغة التشريع. يقول تعالى:
( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه ) يوسف: 40 ، الأنعام: 57.
( وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) الأعراف: 3 .
( وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) هود: 20
وهذه الآيات وغيرها في كتاب الله صريحة في نفي أيّة حاكميّة وسيادة في حياة الإنسان، سواءً كانت هذه السيادة المنفيّة سيادة الآخرين عليه، أم ولايته هو على نفسه، فإن الآيات الكريمة صريحة في حصر الولاية والسيادة في حياة الإنسان في الله تعالى إن الحكم إلا لله، ويتضمّن الحصر السلب والإيجاب معاً، سلب ولاية الإنسان على نفسه وولاية الآخرين عليه، وإيجاب ولاية الله تعالى عليه.
وهذا الحكم الثابت في القرآن بلغة التشريع تحدّثنا عنه قبل قليل بلغة العقل.
وعليه فلا يكون مركز الإنسان في الحياة الدنيا، بموجب حكم العقل والشرع، مركز الولاية والسيادة وإنّما مركز المسؤوليّة والطاعة لله تعالى.
وكلّ الولايات والحقوق الثابتة للإنسان أو عليه في الحياة الدنيا، لا بدّ أن تأتي في امتداد ولاية الله وسلطانه عليه، ومن دون ذلك فلا تصحّ ولاية في حياة الإنسان له على الآخرين، أو للآخرين عليه.
وهذا الموقع الذي شرحناه بإيجاز هو ما يقرّره زين العابدين (ع) في رسالة الحقوق.
يقول (ع) ما مضمونه: إنّ لله عزّ وجلّ حقوقاً تحيط بالإنسان في كلّ حركاته وسكتاته.
ثم يفِصّلُ الإمام أمّهات الحقوق الثابتة للإنسان وعلى الإنسان، فيعد الإمام (ع) ذلك امتداد لحق الله عليه، وجعله وتشريعه في حقّه.
3ـ الحقوق التي تنظّم شبكة العلاقات:
إن تنظيم هذه الشبكة الواسعة للعلاقة والارتباط والانتماء التي تربط الإنسان بالآخرين: وبأهله وقومه وأبنائه وآبائه وأمّهاته وأبناء وطنه وولاة الأمر وأهل ملّته ودينه وغيرهم من الناس على وجه الأرض … شي ء أساسي في سلامة الفرد والمجتمع … فإذا كانت هذه الشبكة قائمة على أصول ونظام صحيح يسعد به الفرد والمجتمع، وإذا كانت هذه الشبكة قائمة على أساس الاستئثار، والاستثمار، والاستكبار، والاستعباد، والخداع، والتغرير، والتضليل، والظلم … شِقِيَ به الفرد والمجتمع، وكانت هذه الشبكة مصدر حروب وخلافات وظلم وإرهاب في حياة الناس.
لذلك فإن تنظيم هذه الشبكة وتأسيسها على أسس صحيحة هو سبيل سعادة الإنسان وسلامته في الدنيا والآخرة.
والذي يقرأ رسالة الإمام عليّ بن الحسين (ع) في الحقوق يجد أنّ الإمام زين العابدين (ع) يرسم هذه الشبكة بأوسع مدى يمكن أن تمتدّ إليه علاقات الإنسان، وتشمل حتى خصومه في القضاء والدعاوي وأهل الذمة، من غير الإسلام.
ويجعل أساس هذه الشبكة (الحق) ، والآليّة التي تنظّم العلاقات بين الإنسان والأطراف الأخرى هي الحقّ أيضاً.
وإذا كان الحقّ أساساً لتنظيم العلاقات داخل هذه الشبكة، فإنّه يسع الجميع، ومن يضيق عليه الحق، فإن الباطل أضيق عليه.
وسلام الله على أبي الحسن علي (ع)، إذ كان يقول : من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق .
فإن بعض الناس يهربون من العدل والحقّ، لأنّهم يجدون فيهما تضييقاً عليهم … ولو أمعنوا النظر وتدبّروا في الأمر، ونظروا نظرة أعمق إلى الأمر، وجدوا أنَّ الباطل والجور اللّذين يهربان إليه أضيق عليهما في عاقبة الأمر.
4ـ الأبعاد الأربعة للشبكة:
من خلال كلمات الإمام زين العابدين (ع) نجد أن شبكة العلاقات في حياة الإنسان ذات أربعة أبعاد:
1ـ البعد الصاعد.
2ـ البعد النازل.
3ـ البعد الأُفقيّ.
4ـ البعد الذاتيّ.
وهذا أوسع ما يمكن أن يتصوّره الإنسان لشبكة العلاقات في حياة الإنسان. وقد وجدنا هذه الأربعة في رسالة الإمام زين العابدين (ع) في الحقوق.
ومبدأ الأبعاد الأربعة كلّها هو الله سبحانه كما قلنا، وكل الحقوق الجاريّة على هذه الأبعاد الأربعة تثبتُ بأمر الله تعالى وجعله وتشريعه.
وإليك توضيح الأبعاد الأربعة.
1ـ البعد الصاعد في علاقة الإنسان بالله تعالى، وأنبيائه (عليهم السلام)، واولي الأمر الذين وَلّاهم الله تعالى أمره، وسائسه في الرعايّة والملك والعلم، كما ورد في رسالة الحقوق، وكلّ من له ولاية وقيمومة على الإنسان وحقوقهم عليه … فهذه طائفة واسعة من الحقوق تبدأ بحقوق الله تعالى على عبده ثمّ حقوق ولاة الأمر عليه ثمّ حقوق القيّمين عليه.
2ـ البعد النازل، وهو الحقوق الثابتة للإنسان على من يتولّى أمرهم، من رعاياه، وأبنائه وبناته وأهله، إذا كانوا تحت قيمومته وإجرائه، وخدمه، ومن يسوسهم في الولاية والسلطان أو في الملك أو في العلم … ومن يقع على هذا الخطّ.
3ـ البعد الأفقيّ، وهو الحقوق الثابتة على الإنسان تجاه أصحابه، وجلسائه، وجيرانه، وشركائه، وخصومه، ومن يستشيره، ومن يستشيرهم، ومن ينصحه، ومن ينصحهم، وضيوفه وغيرهم، والأمّة بعرضها العريض ممن يقع على هذا الخطّ.
4ـ البعد الذاتيّ، وهو علاقة الإنسان بنفسه وجوارحه وأفعاله. وسوف نتحدّث عنه إن شاء الله في نقطة قادمة.
هذه هي الأبعاد الاربعة لشبكة العلاقات في رسالة الإمام عليّ بن الحسين )ع(، وهي أوسع ما نعرف من شبكة وتنظيم لعلاقات الإنسان.
5ـ الحقوق الذاتية:
هذا أفق جديد من العلاقات والحقوق فتحه القرآن لأوّل مرّة في تاريخ الفكر الإنساني، في علاقة الإنسان بنفسه وحقّه على نفسه، ولا نعرف لهذا الفكر سابقة قبل القرآن.
ومن العجب أنَّ علاقة الإنسان بنفسه، وحقّه عليها وظلمه لها أو إحسانه إليها، من القضايا التي يحسّ بها الإنسان إحساساً وجدانيّاً، ولكن لم يكتشف علم النفس هذه العلاقة، ولم يكتشف القانون والحقوق وما يترتّب على هذه العلاقة من قوانين وحقوق من قَبْل القرآن، والقرآن أوّل كتاب يرفع الستار عن هذا الافق الواسع في علاقات الإنسان.
ويقرّر القران بوضوح أن الإنسان قد يجهل نفسه ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها و أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ) الأحزاب: 72 .
يعني ظلوماً لنفسه جهولاً لها، يظلم نفسه ويجهلها.
وقد يكون الإنسان ممن آتاهم الله نوراً يرى به نفسه سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق فصّلت:54.
والإنسان إذا رأى نفسه، يرى فيها كبرى آيات الله تعالى.
وقد يُهلكُ الإنسان نفسه (وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُم ) الأنعام: 26.
وقد يكذب الإنسان على نفسه (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُون) الأنعام: 24.
وقديخسرالإنسان نفسه ( وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) العصر: 1 ـ 2
يعني يخسر نفسه، وهي الخسارة الكبرى التي لا تعوض.
وقد يظلم نفسه (وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون ) آل عمران: 117.
وقد يمقت الإنسان نفسه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُم) غافر: 10.
والحديث في هذا الموضوع طويل، تحدّثنا عنه في الجزء الرابع من كتاب (في رحاب القرآن) . ومن يحبّ أن يتابع هذا الموضوع الشيّق فعليه أن يراجع هذا الكتاب.
والعلاقة تستتبع الحقّ … ففي كلّ علاقة حقّ، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في النقاط المتقدّمة، فيثبت للإنسان حقّ على نفسه، ولجوارحه عليه حقٌّ.
يقول الإمام زين العابدين (ع) في هذه الرسالة: (ثم ما أوجب الله عزّ وجلّ عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل عزّ وجلّ للسانك عليك حقّاً، ولبصرك عليك حقّاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقّاً، ولبطنك عليك حقّاً، ولفرجك عليك حقّاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثمّ جعل عزّ وجلّ لأفعالك عليك حقوقاً … ثمّ تخرج الحقوق منك إلى غيرك).
إذن: الإمام (ع) يقسّم الحقوق إلى ثلاث طوائف:
حق الله تعالى على الإنسان وهو أعظم هذه الحقوق جميعاً، ثمّ حقّ نفسه عليه، وتأتي في الدرجة الثانية، ثمّ يخرج الحقّ منه إلى غيره، فيشمل الآخرين.
والطائفة الثانيّة من هذه الحقوق هي حقّ الإنسان على نفسه.
6 ـ علاقة الإنسان بفعله ومسؤوليته عنه:
إذا كانت علاقة الإنسان بنفسه من رقائق ثقافة القرآن، فإن علاقة الإنسان بأفعاله أرقّ من ذلك … إن أفعال الإنسان وحركاته هي جهده الذي يتبلور في صورة صلاة أو جهاد أو سعي إلى الرزق أو لهو أو غشّ أو خيانة.
إن هذا الجهد الذي يصرفه الإنسان يمكن أن يكون أمانة أو يكون خيانة، ويكون صدقاً، أو يكون كذباً، يكون صلاحاً، أو يكون فساداً، يكون تقوى، أو يكون فسوقاً … فإذا وجّه الإنسان جهده نحو الفسوق فإن هذا الجهد الذي آتاه الله تعالى يسائله يوم القيامة، لِمَ وجّهه باتّجاه الفسوق؟
واذا وجه الإنسان جهده نحو الصلاة، ولكنّه لم يؤتها حقّها من الخشوع والإقبال، فإن هذا الجهد يسائله يوم القيامة، لِمَ لَمْ يؤته من الإقبال والخشوع ما يستحق؟ … وهكذا … كلّ جهد الإنسان يتبلور على هيئة عمل صالح أو فاسد يسائل الإنسان يوم القيامة عن كلّ تقصير لصاحبه تجاهه … وهذا أرقّ ما نعرف في علاقة الإنسان بنفسه وجهده.
يقول عليّ بن الحسين (ع) : )ثمّ جعل عزّ وجلّ لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقّاً، ولصومك عليك حقّاً، ولصدقتك عليك حقّاً).
إن صيامه يشكوه إلى الله تعالى يوم القيامة ويسائله إذا اغتاب المؤمنين في صيامه، ولم يكفّ لسانه عن الغيبة ولم يكف يده عن العدوان على الآخرين.
وصدقته تشكوه إلى الله تعالى يوم القيامة، وتسائله، إذا كان يُعرّف بصدقته ويظهرها، فيفقدها قيمتها … وهكذا تشكوه عبادته إلى الله تعالى إذا كان يرائي ويتظاهر بها …
7ـ التبادل في الحقوق:
هذه الحقوق تجري على الإنسان وللإنسان بصورة متبادلة فيثبت عليه للآخرين الحق، كما يثبت له على الآخرين، إلا الله تعالى، فإن الثابت على العبد هو أداء حقّ الله تعالى إليه، وأمّا من جانب الله تعالى فليس إلا الفضل على عباده.
ومن تلك الحقوق المتبادلة الواردة في رسالة الإمام زين العابدين (ع) حقّ الأب على أبنائه وبناته وبالعكس
وحقّ الأخ على أخيه وبالعكس.
وحقّ المولى على مولاه الذي أنعم عليه وبالعكس.
وحقّ الجليس على الجليس.
وحقّ الجار على الجار.
وحقّ الصاحب على الصاحب.
وحقّ الشريك على الشريك.
إلى آخر هذه الحقوق، وهي جميعاً متبادلة بين الطرفين، وكما يثبت على الإنسان، يثبت له أيضاً.
والآن، بعد هذه الجولة في التأمّلات التي اقتبسناها من رسالة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) نذكر نصّ هذه الرسالة، بروايّة الصدوق (رحمه الله) في الخصال … الله تعالى توفيقاً لشرح هذه الرسالة الجليلة إن شاء الله تعالى.
رسالة الإمام زين العابدين (ع) في الحقوق:
)اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقاً محيطة بك في كلّ حركة حرّكتها، أو سكنة سكنتها، أو حال حللتها أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت فيها.
فأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثمّ ما أوجبه عزّ وجلّ عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل للسانك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، ولبصرك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقّاً، ولفرجك عليك حقا، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.
ثم جعل عزوجل لأفعالك عليك حقوقاً: فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقّاً، ولصدقتك عليك حقّاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقّاً.
ثم تخرّج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، فأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثمّ حقوق رعيّتك، ثمّ حقوق رحمك، فهذه حقوق تتشعّب منها حقوق.
فحقوق أئمّتك ثلاثة: أوجبها عليك حقّ سائسك بالسلطان، ثمّ حقّ سائسك بالعلم، ثمّ حقّ سائسك بالملك، وكل سائس إمام.
وحقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك: حقّ رعيتك بالسلطان، ثمّ حقّ رعيتك بالعلم، فإنَّ الجاهل رعيّة العالم، ثمّ حقّ رعيتك بالملك من الأزواج، وما ملكت من الإيمان.
وحقوق رعيتك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، وأوجبها عليك حقّ أمك ثمّ حقّ أبيك، ثمّ حقّ ولدك، ثمّ حقّ أخيك، ثمّ الأقرب فالأقرب، والأول فالأول، ثمّ حقّ مولاك المنعم عليك، ثمّ حقّ مولاك الجاري نعمته عليك، ثمّ حقّ ذوي المعروف لديك، ثمّ حقّ مؤذنك لصلاتك، ثمّ حقّ إمامك في صلاتك، ثمّ حقّ جليسك، ثمّ حقّ جارك، ثمّ حقّ صاحبك، ثمّ حقّ شريكك، ثمّ حقّ مالك، ثمّ حقّ غريمك الذي تطالبه، ثمّ حقّ غريمك الذي يطالبك، ثمّ حقّ خليطك، ثمّ حقّ خصمك المدعي عليك، ثمّ حقّ خصمك الذي تدعي عليه، ثمّ حقّ مستشيرك، ثمّ حقّ المشير عليك ثمّ حقّ مستنصحك، ثمّ حقّ الناصح لك، ثمّ حقّ من هو أكبر منك، ثمّ حقّ من هو أصغر منك، ثمّ حقّ سائلك، ثمّ حقّ من سألته، ثمّ حقّ من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرة بذلك بقول أو فعل، عن تعمد أو غير تعمد، ثمّ حقّ أهل ملتك عامة، ثمّ حقّ أهل الذمّة، ثمّ الحقوق الجاريّة بقدر علل الأحوال وتصرّف الأسباب.
فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه ووفّقه وسدّده.
تفصيل الحقوق:
حقّ الله:
فأما حقّ الله الأكبر عليك: فأن تعبده، ولا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة.
حق النفس:
وحقّ نفسك عليك: أن تستعملها بطاعة الله عزّ وجلّ.
حقوق الأعضاء:
1ـ وحقّ اللسان: إكرامه عن الخنا، وتعويده على الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم.
2ـ وحقّ السمع: تنزيهه عن سماع الغيبة، وسماع ما لايحل سماعه.
3ـ وحقّ البصر: أن تغمضه عمّا لا يحل لك وتعتبر بالنظر به.
4ـ وحقّ يدك: ألا تبسطها إلى ما لا يحل لك.
5ـ وحقّ رجليك: ألا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك، فيهما، ولا بد لك أن تقف على الصراط فانظر أن لا تزل بك فتردى في النار.
6ـ وحقّ بطنك ألا تجعله وعاءً للحرام، ولا تزيد على الشبع.
7ـ وحقّ فرجك: أن تحصنه عن الزنا، وتحفظه من أن يُنظر إليه.
حقوق الأفعال:
1ـ وحقّ الصلاة: أن تعلم أنّها وِفادة إلى الله عزّ وجلّ وأنت فيها قائم بين يدي الله عزّ وجلّ.
فإذا علمت ذلك قمت مقام العبد الذليل، الحقير، الراغب، الراهب، الراجي، الخائف، المستكين، المتضرع، المعَظَّم لمن كان بين يديه، بالسكون، والوقار، وتقبل عليها بقلبك، وتقيمها بحدودها وحقوقها.
2ـ وحقّ الحجّ: أن تعلم أنّه وفادة إلى ربك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه عليك.
3ـ وحقّ الصوم: أن تعلم أنّه حجاب ضربه الله على لسانك، وسمعك، وبصرك، وبطنك، وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك.
4ـ وحقّ الصدقة: أن تعلم أنّها ذخرك عند ربك عزّ وجلّ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد عليها، فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سراً أوثق بما استودعته علانية، وتعلم أنّها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة.
5ـ وحقّ الهدى: أن تريد به وجه الله عزّ وجلّ، ولا تريد به خلقه، ولا تريد به إلا التعرض لرحمة الله ونجاة روحك يوم تلقاه.
حقوق الأئمّة:
1ـ وحقّ السلطان: أن تعلم أنكّ جعلت له فتنة، وأنّه مبتل فيك بما جعله الله عزّ وجلّ له عليك من السلطان، وأنَّ عليك ألا تتعرّض لسخطه فتلقى بيدك إلى التهلكة، وتكون شريكاً له فيما يأتي إليك من سوء.
2ـ وحق سائسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وألا ترفع عليه صوتك، وألا تجيب أحداً يسأله عن شي ء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدوّاً، ولا تعادي له ولياً، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس.
3ـ وأمّا حقّ سائسك بالملك: فأن تطيعه ولا تعصيه إلا فيما يسخط الله عزّ وجلّ، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
حقوق الرعية:
1ـ وأمّا حقوق رعيّتك بالسلطان: فأن تعلم أنّهم صاروا رعيّتك لضعفهم وقوّتك، فيجب أن تعدل فيهم، وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عزّ وجلّ على ما آتاك من القوّة عليهم.
2ـ وأمّا حقّ رعيّتك بالعلم: فأن تعلم أن الله عزّ وجلّ إنّما جعلك لهم قَيِّما، فيما آتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه،
فإن أحسنت في تعليم الناس، ولم تخرق بهم، ولم تفجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يسلبك العلم وبهاءه، ويُسَقّطُ من القلوب محلّك.
3ـ وأمّا حقّ الزوجة: فأن تعلم أن الله عزّ وجلّ جعلها لك سكناً وانساً، فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب، فإن لها عليك أن ترحمها، لأنّها أسيرك، وتطعمها، وتكسوها، فإذا جَهِلَتْ عفوت عنها.
حقوق الرحم:
1ـ وحقّ أمّك: أن تعلم أنّها حملتك، حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً، وَوَقَتْكَ بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحي وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، وَوَقَتْكَ الحرَّ والبرد لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله تعالى وتوفيقه.
2ـ وأماّ حقّ أبيك: فان تعلم أنّه أصلك، وأنّه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فأحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلا بالله.
3ـ وأمّا حقّ ولدك: فأن تعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه عزّ وجلّ، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الاساءة إليه.
4ـ وأمّا حقّ أخيك: فتعلّم أنه يدك وعزّك وقوّتك، فلا تتخذه سلاحاً على معصيّة الله، ولا عدة للظالم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوّه والنصيحة له، فان اطاع الله وإلا فليكن الله أكرم عليك منه، ولا قوة إلا بالله.
الحقوق الثابتة لعامة الناس:
1ـ وأمّا حقّ ذي المعروف عليك: فأن تشكره، وتذكر معروفه، وتكسبه المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عزّ وجلّ، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانية، ثمّ إن قدرت على مكافأته يوماً كافيته.
2ـ وأمّا حقّ إمامك في صلاتك: فأن تعلم أنه قد تقلّد السفارة فيما بينك وبين ربّك عزّ وجلّ، وتكلم عنك ولم تتكلّم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وكفاك هول المقام بين يدي الله عزّ وجلّ، فإن كان به نقص كان به دونك، وإن كان تماماً كنت شريكه، ولم يكن له عليك فضل، فوقى نفسك بنفسه، وصلاتك بصلاته، فتشكر له على قدر ذلك.
3ـ وأمّا حقّ جليسك: فأن تلين له جانبك، وتنصفه في مجازاة اللفظ، و لاتقوم من مجلسك إلا بإذنه، ومن يجلس اليك يجوز له القيام عنك بغير إذنك، وتنسى زلاته، وتحفظ خيراته، ولا تسمعه إلا خيراً.
4ـ وأما حقّ جارك: فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتبع له عورة، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلّمه عند شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا قوّة إلا بالله.
5ـ وأمّا حقّ الصاحب: فأن تصحبه بالتفضل والانصاف، وتكرمه كما يكرمك، وكن عليه رحمة، ولا تكن عليه عذاباً ولا قوة إلا بالله.
6ـ وأمّا حقّ الشريك: فإن غاب كفيته، وإن حضر رعيته، ولا تحكم دون حكمه، ولا تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، ولا تخونه فيما عزّ أو هان من أمره، فإن يد الله تبارك وتعالى على الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوّة إلا بالله.
7ـ وأمّا حقّ مالك: فألا تأخذه إلا من حلّه، ولا تنفقه إلا في وجهه، ولا تؤثر على نفسك من لا يحمدك، فاعمل فيه بطاعة ربّك، ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع السعة، ولا قوّة إلا بالله.
8ـ وأمّا حقّ غريمك الذي يطالبك: فان كنت موسراً أعطيته، وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول، ورددته عن نفسك ردّاً لطيفاً.
9ـ وأمّا حقّ الخليط: فألا تغره ولا تغشّه ولا تخدعه، وتتّقي الله تبارك وتعالى في أمره.
10ـ وحقّ الخصم المدّعي عليك: فإن كان ما يدّعي عليك حقّاً كنت شاهده على نفسك، ولم تظلمه، وأوفيته حقّه، وإن كان ما يدّعي باطلًا رفقت به، ولم تأت في أمره غير الرفق، ولم تسخط ربكّ في أمره، ولا قوّة إلا بالله.
11ـ وحق خصمك الذي تدّعي عليه: إن كنت محقّاً في دعوتك أجملت مقاولته، ولم تجحد حقه، وإن كنت مبطلًا في دعوتك اتّقيت الله عزّ وجلّ، وتبت إليه، وتركت الدعوى.
12ـ وحقّ المستشير: إن علمت له راياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم.
13ـ وحقّ المشير عليك: ألا تتّهمه فيما لا يوافقك من رأيه، فإن وافقك حمدت الله عزّ وجلّ.
14ـ وحقّ المستنصح: أن تؤدي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به.
15ـ وحقّ الناصح: فأن تلين له جناحك، وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب حمدت الله عزّ وجلّ، وإن لم يوافق رحمته ولم تتّهمه، وعلمت أنّه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلا أن يكون مستحقّاً للتهمة، فلا تعبأ بشي ء من أمره على حال، ولا قوة إلا بالله.
16ـ وحق الكبير: توقيره لسنّه، وإجلاله لتقدّمه بالإسلام قبلك، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تتقدّمه، ولا تستجهله، وإن جهل عليك احتملته، وأكرمته لحقّ الإسلام وحرمته.
17ـ وحقّ الصغير: رحمته في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له.
18ـ وحقّ السائل: إعطاؤه على قدر حاجته.
19ـ وحقّ المسؤول: إن أعطى فاقبل منه بالشكر والمعرفة بفضله، وإن منع فاقبل عذره.
20ـ وحقّ من سَرَّك الله تعالى ذكره به: أن تحمد الله عزّ وجلّ اولًا ثمّ تشكره.
21ـ وحقّ من أساءك: أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو عنه يضرّ انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: )وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل (الشورى: 14
22ـ وحقّ أهل ملّتك: إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم، وتآلفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم، وكفّ الأذى عنهم، وتحبّ لهم ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تكون شيوخهم بمنزلة أبيك، وشبّانهم بمنزلة إخوتك، وعجائزهم بمنزلة أمّك، والصغار بمنزلة أولادك.
23ـ وأمّا حقّ أهل الذمّة: أن تقبل منهم ما قبل الله عزّ وجلّ، ولا تظلمهم ما وفوا لله عزّ وجلّ بعهده .