- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
سر النية في الصلاة
والمراد من النيّة هنا ليس هو قصد العنوان : كصلاة الظهر أو العصر في الأمر العباديّ ، وكأداء الدين أو الهبة في الأمر المعامليّ . كما أنّه ليس المراد منها هو قصد الوجه : كالوجوب أو الندب ، بل المراد منها هنا : هو خصوص قصد القربة من اللَّه سبحانه ؛ لأنّ هذا القصد هو المدار في البحث العرفانيّ والكلاميّ والخلقيّ الناظر حول صلاح القلب وفلاحه . وقد ورد في شأنها والاهتمام بها نصوص كثيرة من الآيات والأحاديث ، نحو قوله تعالى * ( « لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَه ُ رِئاءَ النَّاسِ » ) * « 1 » وقوله تعالى * ( « مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ ا للهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ ) * . » « 2 » وقوله تعالى :
* ( « قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَه ُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ » ) * « 3 » .
ونحو ما روي عن أهل البيت عليهم السّلام : عن عليّ بن أبي طالب – عليه السّلام – قال : قال رسول اللَّه صلَّى الله عليه وآله : « لا عمل إلَّا بنيّة ، ولا عبادة إلَّا بيقين ، ولا كرم إلَّا بالتقوى » « 4 » . وبهذا المضمون روايات أخر لا احتياج إلى نقلها ؛ لكثرتها ومعروفيّتها ، ولا نصيب للعامل إلَّا بنيّته ومقدارها وكيفيّتها .
والشاهد عليه ما روي عن رسول اللَّه – صلَّى الله عليه وآله – أنّه قال : « إنّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلَّا ما نوى » « 5 » . وفي وصيّة رسول اللَّه – صلَّى الله عليه وآله – لأبيّ ذرّ : « وليكن لك في كلّ شيء نيّة ، حتّى في النوم والأكل » « 6 » .
فالنيّة بمعنى : قصد التقرّب من اللَّه سبحانه هي روح العمل الذي بها يحيى وبدونها يموت ، ولا أثر للميّت ، وبها تصحّ العبادة ، وبدونها تبطل . وحيث إنّ للنيّة درجات فللصحّة مراتب وإن كانت مشتركة في أصل الامتثال ، وسقوط الإعادة أو القضاء ولكن لكلّ من تلك المراتب ثواب يختصّ بها ، وقرب يحصل منها ، ولا يحصل ذلك الثواب أو القرب بدونها .
وحيث إنّ المواقف الهامّة يوم القيامة ثلاثة : من النار ، والجنّة ، والرضوان – كما أشار إليه قوله تعالى * ( « وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ ا للهِ وَرِضْوانٌ » ) * « 7 » ، وأنّ الشؤون العمليّة الرئيسيّة للنفس الإنسانيّة ثلاثة أيضا : من الغضب الدافع للمنافي ، والشهوة الجاذبة للملائم ، والعقل العمليّ الشائق للكمال التامّ المجرّد المعقول – فلذا صارت العبادة ثلاثة أقسام ، وصار العبّاد ثلاثة « 8 » ، حيث إنّ قوما يعبدون اللَّه سبحانه خوفا من النار وتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوما يعبدونه تعالى شوقا إلى الجنّة وتلك عبادة الحرصاء ، وإنّ قوما يعبدونه تعالى حبّا له تعالى وتلك عبادة الأحرار الكرام .
وكلّ واحدة من هذه العبادات الثلاثة صحيحة وإن كانت للصحّة مراتب في الثواب حسبما أشير إليه ؛ لأنّ كلّ واحدة منها للَّه تعالى لا لغيره محضا ، ولا له ولغيره
من النجاة من النار ، أو الالتذاذ بالجنّة بالشركة ، والامتياز بينها بأنّ الخائف لا يعبد إلَّا اللَّه ، وحيث إنّه لم يتحرّر عن رقّيّة الغضب لا يعرف أن يطلب من معبوده شيئا عدا النجاة من النار ، وكذا المشتهي لا يعبد إلَّا اللَّه ، ولمّا لم يتحرّر عن قيد الشهوة لا يفهم أن يتمنّى من مولاه المعبود شيئا وراء الفوز بالجنّة . وأمّا العاقل الشائق لرضا مولاه فهو حرّ يعرف ما يريد .
والدليل على صحّة عبادة القسم الأوّل وكذا الثاني هو : أنّ النصّ قد عبّر عن فعل هؤلاء بالعبادة ، وعنهم بالعباد ، وأنّهم عبدوا اللَّه ، وأنّ عبادة القسم الثالث – أي : عبادة الأحرار – أفضل العبادات ، فلو لم تكن عبادة غير الأحرار صحيحة وفاضلة لم تكن عبادة الأحرار أفضل ؛ ولا شاهد هنا على أنّ لفظ الأفضل للتعيّن لا للترجّح .
والحكماء الأحرار الَّذين تأسّوا بمواليهم المعصومين – عليهم السّلام – في العبادة ولم يتحرّروا ؟ ؟ ؟ من عبادتهم سوى رضا اللَّه تعالى قد حكموا بصحّة عبادة من لا يريد في عبادته من اللَّه شيئا سوى رضوانه : كالنجاة من النار ، كما قال الشيخ الرئيس قدّس سرّه : ( والمستحلّ توسيط الحقّ مرحوم ) « 9 » ، ولم يقل بأنّه محروم .
وأشار سيّدنا الأستاذ العلَّامة الطباطبائي – قدّس سرّه – في رسالة الولاية إلى قبول عبادة هؤلاء بالتفضّل الإلهيّ وإن قصّر هؤلاء في المعرفة والقربة .
ولو كان قصد شيء سوى اللَّه مبطلا للعبادة لكانت عبادة من قصد الشكر وتحصيل الرضا والمحبّة أيضا باطلة ؛ لأنّ ذلك كلَّه خارج عن الهويّة المطلقة الواجبيّة . فالحقّ هو ما أفاده الشيخ البهائيّ – قدّس سرّه – في الأربعين « 10 » من صحّة عبادة هؤلاء .
وقال العلم والحجّة ، الحاج الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ قدّس سرّه : إنّ القول ببطلان العبادة من جهة خوف العقاب أو طمع الجنّة وإن صدر عن بعض الأجلَّة ولكنّه صادر عن الغفلة ، ولا غرو في وقوع أمثال هذه الغفلات والعثرات من الأجلَّة والأعيان ، لحكمة إلهيّة في ابتلائهم بأمثاله « 11 » .
أقول : لعلّ المراد من بعض الأجلَّة هو : رضي الدين عليّ بن طاوس – قدّس سرّه – حسبما نقل الشيخ البهائيّ – قدّس سرّه – عنه في الأربعين « 12 » .
والحاصل : أنّ نيّة هؤلاء خالصة غير مشوبة ، وأنّهم يعبدون اللَّه تعالى ولا يعبدون غيره أصلا ، لا بالاستقلال ، ولا بالمشاركة ، ولا بالمظاهرة ، ولكنّهم لقصور معرفتهم لا يدرون ما يطلبون من معبودهم ، أعلى من انفكاك عن النار أو الفوز بالجنّة ، وكم فرق بين هذا الأمر وبين أنّه لولا الخوف أو الفوز لم تكن هناك عبادة أصلا ؛ لخروجه عن الكلام رأسا ! وما قال بحر العلوم – قدّس سرّه – في درّته النجفيّة : وكلّ ما ضمّ إلى التقرّب من غاية يبطله في الأقرب
فالمراد من الضميمة هناك : ما هو المبحوث عنه في الفقه : كالتبرّد ونحوه في الوضوء ، لا ما هو المعنون هنا ، ولقد تفطَّن الجامع بين الفقهين النراقيّ – قدّس سرّه – في الفتوى بصحّة العبادة المقصود بها النجاة من النار ، أو الفوز بالجنة ، وتزييف أدلَّة القائلين بالبطلان ، فراجع المستند « 13 » .
قد تخلَّل بعض المباحث الكلاميّة أو الفقهيّة في الأثناء ، وهو خارج عن مقصد الرسالة الباحثة عن سرّ الصلاة ، والغرض : أنّ النيّة بمعنى قصد القربة : روح العمل وقلبه ، وأفضل من العمل ؛ لأنّ حياته بها ، كما يستفاد ممّا رواه الكلينيّ – رحمه اللَّه – بإسناده ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي عبد اللَّه – عليه السّلام – في قول اللَّه عزّ وجلّ * ( « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » ) *
قال : ليس يعني : أكثركم عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة خشية اللَّه عزّ وجلّ ، والنيّة الصادقة والحسنة ، ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل ، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلَّا اللَّه عزّ وجلّ ، والنيّة أفضل ، ألا وإنّ النيّة هي العمل ، ثمّ تلا قوله تعالى * ( « كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه ِ » ) * يعني : على نيّته « 14 » .
ومن هنا يظهر الجمع بين الأصل الحاكم بأنّ : « أفضل الأعمال أحمزها » « 15 » ، وبين الأصل الحاكم بأنّ : « نيّة المؤمن خير من عمله » ؛ لأنّ النيّة حيث كانت روح العمل ولبّه ومغزاه كانت أفضل منه ، كما أنّها لا بدّ وأن تكون خالصة ، إذ الرياء المتمشّي في العمل لا يتطرّق إليه إلَّا من طريق النيّة فحسب ، وتحصيل الإخلاص في النيّة أحمز وأصعب ، لذا تكون أفضل من العمل .
وأمّا سرّ كون نيّة الكافر شرّا من عمله فلأنّ النيّة هي الأصل كما مرّ ، والأصل الذي به يتقوّم الفرع وعليه يتّكئ الغصن ، وإليه يرجع ما عداه أهمّ ، سواء في طرف الخير أو الشرّ .
والنيّة لمّا كانت أمرا قلبيّا لا يطَّلع الناس عليها لا يتطرّق إليها الرياء والسمعة ونحو ذلك ؛ لخروجها عن مرأى الناس ومسمعهم ، والعمل لكونه مرئيّا أو مسموعا قابل لأن يتسرّب إليه الرياء ، ولذا قد علَّل في العلل حسبما رواه زيد الشحّام ، عن أبي عبد اللَّه – عليه السّلام – كون « نيّة المؤمن خير من عمله » « 16 » بذلك ، ولكنّ التأمّل فيما تقدّم يوضّح المراد ، إذ الرياء لا يسري إلى العمل إلَّا من طريق النيّة ، وهي – أي : النيّة – لمّا كانت مستورة عن أعين الناس وإسماعهم تنزّل بلباس العمل وتكتسيه ، حتّى تصير مرئيّة أو مسموعة .
ولمّا كان العقل العمليّ – بما له من الشؤون والآثار : كالإرادة والإخلاص ونحو ذلك – نور يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان فإذا كان ذلك النور مضيئا بلا انطفاء ولا انخساف حصل الإيمان والإخلاص ، وإذا كان منخسفا بطوع الهوى حصل الكفر أو الرياء ، كما يستفاد ممّا رواه الكليني رحمه اللَّه ، عن أبي عبد اللَّه – عليه السّلام – أنّه قال : ليس بين الإيمان والكفر إلَّا قلَّة العقل ، قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول اللَّه ؟ قال عليه السّلام : إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق فلو أخلص نيّته للَّه لآتاه اللَّه الذي يريد في أسرع من ذلك « 17 » .
وقريب منه ما رواه البرقيّ ، عن أبي جعفر – عليه السّلام – أنّه قال : ما بين الحقّ والباطل إلَّا قلَّة العقل ، قيل : وكيف ذلك يا ابن رسول اللَّه ؟ قال : إنّ العبد يعمل العمل الذي هو للَّه رضا فيريد به غير اللَّه ، فلو أنّه أخلص للَّه لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك « 18 » .
ثمّ إنّ العقل النظريّ هو الفاروق بين الحقّ والباطل النظريّين ، والعقل العمليّ هو المائز بين العمليّ منهما ، فالمخلص عاقل ، ومن ليس بعاقل فليس بمخلص فيرائي ، كما أنّ العاقل ليس بمراء ، والمرائي ليس بعاقل .
والذي يدور مداره الكلام هو : ما رواه أبو الفتوح الرازيّ في تفسيره ، عن حذيفة ابن اليمان قال : سألت رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – عن الإخلاص ؟ فقال : سألته عن جبرئيل ؟ فقال : سألته عن اللَّه تعالى ؟ فقال : الإخلاص سرّ من سرّي أودعه في قلب من أحببته « 19 » .
وذلك لأنّ العبد السالك إذا أحبّ اللَّه سبحانه يتّبع ما أنزل إليه بلسان حبيبه – أي : محبوبه – وهو الرسول الأكرم صلَّى اللَّه عليه وآله ، فإذا اتّبعه صار محبوبا للَّه تعالى ، إذ اتّباع المحبوب يورث المحبوبيّة كما قال تعالى * ( « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ ا للهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ا للهُ » ) * « 20 » ، فإذا صار السالك الصالح محبوبا للَّه تعالى فيدرج تحت مواعيد القرب الولائيّ ، حيث إنّ اللَّه تعالى قد وعد من تقرّب إليه بالنوافل وصار محبوبا له تعالى بأمور لا ينبغي الذهول عنها ، نحو : كونه تعالى سمعا للعبد المتقرّب به يسمع ، وبصرا له به يبصر ، و . ، ومن تلك المواعيد هو ما يستفاد من حديث حذيفة : من « أنّ اللَّه تعالى يودع سرّه – الذي هو الإخلاص – في قلب محبوبه » .
فالإخلاص الذي هو الأساس في النيّة سرّ ملكوتيّ لا يناله إلَّا من أحبّه اللَّه ، ولا يحبّ اللَّه أحدا إلَّا من تقرّب إليه بالنوافل ، وباتّباع آثار حبيبه رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله ، المتقرّب إليه تعالى بالنوافل كلَّها ، والفرائض طرّها .
فللنيّة سرّ إلهيّ لا ينال إلَّا بطيّ مراحل تكون النيّة في بعضها حالا ، وفي بعضها ملكة إلى أن تنتهي إلى مرحلة الإخلاص الذي هو سرّ إلهيّ ، وكما أنّ المحبّ للَّه إنّما يصير محبوبا إذا اتّبع حبيبه فكذلك المخلص – بالكسر – إنّما يصير مخلصا – بالفتح – إذا اتّبع من استخلصه اللَّه لنفسه فصار مخلصا – بالفتح – محضا ، وللمخلص – بالفتح – أوصاف وأحكام ودرجات ، لعل أعلاها ما هو المستفاد من قوله تعالى * ( « سُبْحانَ ا للهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبادَ ا للهِ الْمُخْلَصِينَ » ) * « 21 » ، حيث دلّ على أنّه ليس لأحد أن يصف اللَّه سبحانه إلَّا العباد المخلصين ، وأنّهم يعرفونه تعالى بما هو اللازم اللائق وإن لم يكتنهوه ، وكفى بذلك ذخرا وشرفا .
وليعلم : أنّ الدارج بين أبناء الظاهر من النيّة ما هو الإخطار بالبال ، أي :
الذي ليس له إلَّا وجود ذهنيّ ، وهو كما قيل : نيّة بالحمل الأوّليّ ، وغفلة وذهول بالحمل الشائع الصناعيّ . وأمّا نفس العمل الخارجيّ فصادر عادة لا عبادة ، حيث إنّه لا أثر للوجود الذهنيّ ، ولا بعث له ، وإلَّا لما تخلَّله الشكّ والسهو ، والزيادة والنقيصة ، وما إلى ذلك ممّا هو المبتلى به للناس ، بل المهمّ في النيّة هو : انبعاث الروح من العادة إلى العبادة بحيث لا يقرأ ولا يركع ولا يسجد في الصلاة ، وهكذا لا يغسل ولا يمسح في الوضوء ، و . إلَّا ببعث ذلك الأمر القلبيّ ، وهذا إنّما يتمشّى من قلب ليس فيه سوى اللَّه ، المعبّر عليه في لسان النصوص « بالقلب السليم » كما رواه الكليني – رحمه اللَّه . قال : سألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ :
* ( « إِلَّا مَنْ أَتَى ا للهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » ) * ؟ قال : القلب السليم : الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه ، قال : وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط ، وإنّما أراد بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة « 22 » . والقطب الراونديّ في لبّ اللباب ، عن النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه سئل ، ما القلب السليم ؟ فقال : « دين بلا شكّ وهوى ، وعمل بلا سمعة ورياء » « 23 » .
وإذا كان القلب وعاء لعدّة من الأهداف والأغراض الَّتي يجمعها حبّ الدنيا فكيف يكون العمل الصادر عنه للَّه وحده ؟ وحيث إنّ الإخلاص صعب الوصول فقد أمر بالزهد ونحوه لا لنفسه ، بل لحصول ذلك الهدف السامي . والإخلاص بالمعنى الذي هو سرّ من أسرار اللَّه ليس أمرا ذهنيّا حصوليّا ، بل هو أمر عينيّ حضوريّ ، فعليه يكون مقاما معلوما لدى اللَّه سبحانه لا يتخطَّاه إلَّا من ارتدى برداء المحبّة ، أي : كان محبوبا للَّه بعد أن كان محبّا للَّه تعالى . وقد تقدّم : أنّ بين عبادة العبيد وعبادة الطمعاء ( التجّار ) وبين عبادة المحبّين الأحرار فرقا ، فضلا عن عبادة المحبوبين ، سيّما إذا بلغوا – أي : المحبوبون – مرتبة المخلصين – بالكسر – الَّذين إذا جدّوا واجتهدوا وهاجروا من غير اللَّه إليه تعالى يستخلصهم اللَّه لنفسه ، فيصيرون مخلصين – بالفتح – ، وهنا لك تتبيّن روح النيّة وسرّها الَّتي هي روح العمل وسرّه ، فالعمل حيّ بالنيّة ، وهي تحيي بسرّها الذي هو الإخلاص ، الذي هو سرّ من إسراره تعالى المودع في قلب من أحبّه تعالى ولم يحبّ سواه ، سواء نفسه أو غيره .
وممّا ينبّه على أنّ النيّة هي روح العمل وأنّها أصل حاكم عليه هو ما قاله مولانا الصادق عليه السّلام : « ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة » « 24 » ، لدلالته على أنّ العمل البدنيّ تابع للقصد القلبيّ وجودا وعدما ، وقوّة وضعفا ، بحيث يدور العمل البدنيّ مدار النيّة في جميع ما أشير إليه ، حتّى أنّ البدن الضعيف يقدر على العمل إذا قويت النيّة ، كما أنّ البدن القويّ يضعف عنه إذا ضعفت النّيّة ،
فالإنسان بنيّته لا ببدنه ، وهذا الحديث من غرر الأحاديث المأثورة عن أهل البيت عليهم السّلام ، لتفسيره حدّ الإنسان بأنّه حيوان ناطق ناو ، إذ لولا النيّة الَّتي هي السرّ المستودع لما بلغ الإنسان نصابه اللازم ، فهو بعد غير بالغ .
والشاهد الآخر على أصالة النيّة : أنّها إذا تحقّقت وقويت تكون الصلاة مناجاة مع اللَّه ، ومعراجا للمصلَّي ، وإذا ضعفت وذهل المصلَّي عنها تفقد تلك الصلاة صبغة النجوى ويصير المصلَّي مستحقّا للويل ، كما قال تعالى * ( « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ . وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ » ) * « 25 » .
إنّ المصلَّي الناوي الذي تكون نيّته خالصة لا يكون جزوعا ولا منوعا ، بل هو ممّن في ماله * ( حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) * « 26 » ، والمصلَّي الساهي الذي تكون نيّته مشوبة بالذهول يرائي ويمنع الماعون ، وكم فرق بينهما ، ومدار الفرق إنّما هو النيّة في الأوّل ، والذهول عنها في الثاني ، لا فعل الصلاة ظاهرا لاستوائها في الحالين ، وسيوافيك تفصيله في الصلات القادمة .
فتبيّن في هذه الصلة أمور :
الأوّل : الفرق بين النيّة بمعنى قصد القربة ، وبين قصد العنوان .
الثاني : اهتمام الدين بالنيّة في الكتاب والسنّة .
الثالث : أصالة النيّة وتبعيّة العمل .
الرابع : تثليث النيّة حسب تثليث مواقف القيامة .
الخامس : صحّة عبادة الخائف والشائق كصحّة عبادة الشاكر والمحبّ .
السادس : الفرق بين البحث الكلاميّ والفقهيّ ، وبين البحث العرفانيّ الناظر إلى سرّ الصلاة .
السابع : طريق الجمع بين أفضليّة أحمز الأعمال ، وبين كون النيّة خيرا من العمل .
الثامن : الفصل بين الإيمان والكفر إنّما هو قلَّة العقل أو زواله .
التاسع : أنّ الإخلاص سرّ إلهيّ يودعه اللَّه في قلب محبوبه .
العاشر : ما هو الفرق بين المخلص – بالكسر – والمخلص – بالفتح – ؟
الحادي عشر : الفرق بين ما هو النيّة بالحمل الأوّليّ ، وما هو النيّة بالحمل الشائع .
الثاني عشر : ضعف البدن وقوّته تابع لضعف النيّة وقوّتها .
ثمّ إنّه ورد في أدعية الافتتاح ، وكذا في اشتراط صحّة العبادة بالولاية ، وهكذا التوسّل بالأولياء وتقديمهم أمام العبادة بأن يقال : « اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بمحمّد وآل محمّد ، وأقدّمهم بين يدي صلاتي ، وأتقرّب بهم إليك ، فاجعلني بهم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين . » « 27 » مطالب هامّة يوجب التعرّض لها والبحث عنها والرجوع إليها ، والخوض فيها الخروج عن طور هذه الرسالة ، فلعلّ لها موطنا آخر .