- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 14 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
في تراث الإمام زين العابدين (ع) الوعظي نلتقي لوناً جديداً من خطاب النفس، والمكاشفة الذاتية، نسمّيه ب- (الخطاب الذاتي) أعني خطاب الإنسان لنفسه، مقابل خطابه لغيره.
وللإنسان خطابان: خطاب يخاطب به الغير وخطاب يخاطب به نفسه، وهذا نوع جديد من أدب الخطاب والموعظة نجده على الأقلّ في ثلاث نماذج من كلامه (ع).
وهو خطاب جديد على أدب الخطاب والموعظة.
وخطاب الإنسان لنفسه أو (الخطاب الذاتي) شكل من أشكال العلاقة بالنفس، أو (العلاقة الذاتية)، مقابل العلاقة بالله تعالى، والعلاقة بالآخرين، والعلاقة بالأشياء والأفكار، وهي بعد العلاقة بالله تعالى أهمّ العلاقات وأخطرها في حياة الإنسان.
والقرآن فيما نعلم أوّل كتاب فتح على العقل الإنساني هذا الباب الواسع من الثقافة النفسية، ولا أعرف قبل القرآن ثقافة تناولت هذه العلاقة بشكل واضح ومنظّم ومنهجيّ.
وقد تحدّثت عن هذه العلاقة من خلال القرآن الكريم في كتاب (في رحاب القرآن الجزء الرابع، ص 191) تحت عنوان (العلاقة الذاتية)، قلت فيه:
العلاقة الذاتيّة في القرآن:
(والعلاقة بالنفس هي واحدة من هذه العلاقات الأربع، وهي أهمّها بعد العلاقة بالله تعالى، وأكثرها تعقيداً، وظرافة، ورقّة، وهي كذلك قد تتصف بالإيجاب، وقد تتصف بالسلب.
فقد يجهل الإنسان نفسه، وقيمته فيكون كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72].
يعني جاهلًا بنفسه وقيمتها ظالماً لها.
وقد يكون الإنسان من الذين أراهم الله تعالى أنفسهم، وفقههم بقيمتها، وعرّفهم بآياته فيها. يقول تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ [فصّلت: 53].
فيعرف الإنسان قيمة نفسه ويحترمها.
وقد يحتقر الإنسان نفسه، وما آتاه الله تعالى في نفسه من المواهب.
وقد يفرّ الإنسان من نفسه، ويتهرّب منها إلى ألوان من اللهو الذي يشغله عن نفسه، أو إلى المخدّرات والانتحار.
وقد يعرف الإنسان كيف يواجه نفسه على أرض الواقع بجدّية وواقعيّة.
وقد يكون الإنسان منسجماً مع نفسه.
وقد يكون في علاقته بنفسه قلقاً مرتبكاً.
وقد يكون محبّاً لنفسه.
وقد يكون عدوّاً لها.
وقد يكون ذاكراً لنفسه، وقد يكون ناسياً لها.
وقد يكون قابضاً على نفسه متمكّناً منها.
وقد تغلبه نفسه وتتمكّن منه.
وقد ينطوي على نفسه.
وقد تكون نفسه منفتحة.
وقد يهلكها وقد يحييها. يقول تعالى: وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: 26].
وقد يصدق مع نفسه، وقد يغرّها ويمنّيها، ويخادعها، ويغشّها، يقول تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 24].
وقد يعترف لنفسه بالخطأ وينقد نفسه، وقد يغالطها ويبرّر اخطاءها وأهواءها.
وقد يطلق لنفسه العنان في شهواتها، وقد يمسكها بقوّة عند حدود الله. ويضبط تصرّفاتها.
وقد يترك نفسه لهواها فيما تطلب من الراحة والاستغراق في الأهواء والشهوات، وقد يتعبها ويجهدها في ابتغاء كمالها ونموّها.
وقد يسمو بنفسه، وقد يسف بها.
وقد يكون غريباً عن نفسه، وقد يأنس بنفسه، ويحلو له أن يخلو بها في التأمّل.
وقد تكون علاقته بنفسه علاقة صِداميّة، وقد يكون منسجماً مع نفسه متآلفاً معها إلى أمثال ذلك من ألوان العلاقة السلبيّة والإيجابيّة في علاقة الإنسان بنفسه.
والعلاقة بالنفس رقيقة تخفى على الإنسان غالباً، فلذلك لا يشعر الإنسان بفداحة الخسارة التي يتحملّها عند ما تكون هذه العلاقة سلبيّة.
فقد يخسر الإنسان في تجارته مالًا قليلًا أو كثيراً فيشعر بها، ويشعر بفداحة هذه الخسارة، ويحاول أن يستعيد المال الذي خسره، ويعوّضه، ولكن قد يخسر الإنسان نفسه، وهي من أعظم أنواع الخسران فلا يحسّ بتلك الخسارة، ويتحوّل من خسارة إلى خسارة أخرى، حتى يخسر نفسه كلّها … فلا يعبأ بها.
يقول تعالى: وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1- 2].
ويقول تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 20].
وقد يظلم الإنسان غيره فيحسُّ بذلك وتؤنّبه نفسه، ويحاول أن يجبر ظلمه للآخرين بالعدل والإحسان إليهم، ولكن قد يظلم نفسه، ويعتدي عليها فلا يشعر بهذا الظلم.
يقول تعالى: وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117].
وقد يهلك الإنسان نفساً زكيّة فيشعر بِعِظَمِ الإثم، ولكن قد يهلك الإنسان نفسه فلا يشعر بمثل هذا الإثم.
ويقول تعالى: وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: 26]، والضرر الذي يلحق الإنسان إذا كانت علاقته بنفسه سلبيّة لا يشبهه ضرر آخر إلا الضرر الّذي يلحق به إذا كانت علاقته بالله تعالى سلبية.
وعلاقة الإنسان بنفسه تدرس اليوم ضمن الدراسات النفسيّة والتحليل النفسيّ باهتمام، ولكن في إطار محدود، ولن نجد قبل القرآن اهتماماً أو انتباهاً إلى هذه العلاقة وأهميّتها، وقيمتها في حياة الإنسان، والى وقت قريب جدّاً لم تكن الدراسات النفسيّة والإنسانيّة قد فتحت ملفّ هذه العلاقة بعد، والقرآن بحقّ الفاتح الأوّل لهذا الأفق الواسع من العلاقات الإنسانيّة).
السجال الذاتيّ والشرود عن الذات:
في مقابل الخطاب الذاتيّ، والتفاهم والانسجام مع الذات هناك حالتان متعبتان للإنسان:
حالة السجال الذاتيّ، وهي حالة الإنسان عندما يدخل في خلاف وشجار لذاته، ولا يتمكّن من أن يدخل في مصالحة ووئام مع نفسه، وهي حالة يشقى بها كثير من الناس، وتتعب صاحبها وتسلبه الراحة النفسيّة التي هي من أعظم نعم الله على الإنسان.
وقد يملك الفقير العديم هذه الموهبة الإلهيّة (الراحة النفسيّة) ولا يملكها ذو السلطان والمال والقوة … وليس المال والسلطان والقوّة هي التي تسلب الإنسان الراحة والسعادة النفسية، ولكن منهج توظيف المال والقوة والسلطان هو الذي يسلب الإنسان راحته النفسيّة وسعادته.
والحالة الأخرى التي ترهق الإنسان هي: الشرود النفسي، وهو المرض النفسي الشائع في عصرنا يؤدّي بالإنسان إلى الشرود عن نفسه وتغييبه عنها.
وهو من نتائج الحضارة الماديّة المعاصرة التي تحجب الإنسان عن نفسه، وتغيبه عنها.
الغربة عن الذات:
وهو شرّ أنواع (الغربة) … فمن الغربة أن يغترب الإنسان عن أهله وزملائه وأصدقائه ومجتمعه فيعيش بين الناس، وكأنّه غريب لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، ولا يأنس بأحدٍ ولا يستأنس به أحد، كما لو كان الإنسان مسافراً، بعيداً عن أهله ومجتمعه وأصدقائه في بلد غريب، يعيش في الفنادق وليس في بيته …
ولكن، شرّ أنواع الغربة هو أن يعيش الإنسان غريباً عن أقرب النفوس إليه، وهو نفسه التي بين جنبيه، ويحجبه عنها حجاب غليظ .
وهي كذلك من نتائج الحضارة الماديّة المعاصرة، فهي تطمر فطرة الإنسان وضميره وعواطفه، بل وعقله أحياناً، وتوجه الإنسان إلى أن يتنكّر لها … ثمّ يتحوّل هذا التنكّر إلى حجاب بينه وبين نفسه.
وهو نوع من العقوبة الإلهيّة للحضارات الماديّة التي تتنكّر للمواهب الروحيّة والنفسيّة التي أودعها الله تعالى في نفس الإنسان، فيعاقبهم الله بذلك وينسيهم أنفسهم …
وتأتي هذه العقوبة الإلهيّة للإنسان من سنخ الجريمة.
يقول تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19].
والعقوبة هنا من سنخ الجريمة وهذه هي حالة الشرود عن الذات.
ولقد كان الحسين (ع) يقول للناس الذين وقفوا يوم عاشوراء لقتاله: ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها.
ولابدّ للناس الذين تقتطع منهم الحضارة الماديّة أنفسهم وضمائرهم وفطرتهم وقلوبهم من ملجأ يلوذون به لينسيهم أنفسهم، وقد وفّرت الحضارة الماديّة المعاصرة للإنسان المعاصر الذي يعيش هذه الحضارة، هذا الملجأ الذي يشرد إليه الناس من أنفسهم في المخدّرات والسكر والطرب واللهو للفرار عن أنفسهم، وإنّما يسمّيها الإسلام لهواً لأنّها تلهي الإنسان وتشغله عن نفسه.
الدعوة إلى العودة إلى النفس:
وفي ثقافة الإسلام دعوة موكّدة ومكرّرة إلى العودة إلى الذات، وإزالة حجب الغربة بين الإنسان ونفسه، وتمكين الإنسان من معرفة نفسه ومكاشفتها ومحاسبتها.
ويحضّ القرآن الناس على أن يبصروا أنفسهم ويتدبّروها، ويبصروا فيها آيات الله العظيمة. يقول تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ [فصّلت: 53].
ويقول تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20- 21].
معرفة النفس:
ومعرفة النفس جُلُّ المعرفة أو كلّ المعرفة.
فمن يعرف نفسه كفاه ذلك عن كلّ معرفة، ومن جهل نفسه لم تسعفه معرفة.
عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: كفى بالمرء معرفةً أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلًا أن يجهل نفسه وعنه (ع) أيضاً في نفس السياق:
من عرف نفسه كان لغيره أعرف، ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل.
وفي نفس السياق عنه (ع): من عرف نفسه فقد انتهى إلى غايّة كلّ معرفة وعلم.
وليس في حياة الإنسان خسارة أعظم من أن يخسر نفسه ويضيعها، وتضيع عنه، فلا يطالها، وليس في حياة الإنسان جهالة أعظم من أن يجهل الإنسان نفسه.
عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: عجبت لمن ينشد ضالّته، وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها.
أقصر السبل إلى معرفة الله:
ومعرفة النفس أقصر السبل إلى معرفة الله فمَن فقد هذا السبيل يطول طريقه إلى معرفة الله.
عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: عجبت لمن يجهل نفسه، كيف يعرف ربّه.
وعنه (ع) أيضاً: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.
وعنه (ع) : من عرف نفسه، فقد إنتهى إلى غايّة كلّ معرفة وعلم.
وكما أن معرفة النفس هي السبيل المفضّل للإنسان إلى معرفة الله، كذلك هي السبيل إلى إصلاح نفسه وتهذيبها وتجريدها عمّا يفسدها ويعطلها.
عن أمير المؤمنين (ع) : من عرف نفسه تجرَّد.
أي تجرّد عن التعلّق بالدنيا وفتنها.
وعنه (ع) أيضاً: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها.
ومن عرف نفسه جَلّ أمره ، أي تسامى وترفع.
ومن لم يعرف نفسه بَعُدَ عن سبيل النجاة وخبط في الضلالات والجهالات.
وعنه (ع) : نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.
وعنه (ع) أيضاً: العارف من عرف نفسه.
وعنه (ع): أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه.
وهذه الكلمة مقتبسة من قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (فاطر: 28).
محاسبة النفس:
والذي يرزقه الله الانفتاح على نفسه لا بدّ له من محاسبة نفسه.
عن رسول الله (ص): حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
ولا بدّ للإنسان أن يُفُرّغ من يومه وقتاً يتفرّغ فيه لمحاسبة نفسه، ولو كان الوقت يسيراً.
عن أمير المؤمنين (ع): ما أحق بالإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب لها وعليها.
وكان فيما وعظ الله به نبيّه عيسى بن مريم (عليهماالسلام) يا عيسى! لا تأمن إذا مكرت مكرى، ولا تنس عند خلوات الدنيا ذكري. يا عيسى! حاسب نفسك بالرجوع إليَّ حتى تتنجز ثواب ما عمله العاملون.
وفي وصيّة رسول الله (ص) لأبي ذر: يا أبا ذرّ! حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر، يوم تعرض، لا تخفى على الله خافية.
وعن أمير المؤمنين (ع): جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه، وطالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمه، فإنّ أسعد الناس من انتدب لمحاسبة نفسه.
وبالمحاسبة يتمكّن الإنسان من إصلاح نفسه.
عن أمير المؤمنين (ع): ثمرة المحاسبة اصلاح النفس.
خطاب المكاشفة الذاتيّة:
هذا الخطاب انفتاح على الذات، على طريقة المكاشفة، فإنّ الإنسان يدفع الخواطر والذكريات التي تؤذيه وتنغّصه إلى غيابات اللاشعور، ويغيبها عن منطقة الشعور حتى لا تسلبه راحته النفسية، فيكون مثل الإنسان في مثل هذه الحالة مثل طائر (القبج) يدسّ رأسه في الثلج حتى لا يرى الصيّاد. فيأتي إليه الصياد ويقبض عليه.
والمكاشفة الذاتيّة بعكس ذلك تماماً: يحضر للانسان هذه الخواطر والذكريات ليعالجها. وهذه العمليّة وإن كانت مرهقة للإنسان من الناحيّة النفسية، لكن هذا الإرهاق خير للإنسان من الراحة النفسيّة الكاذبة التي لا تنغّصها هذه الخواطر عندما يغيبها الإنسان في ظلمات اللاشعور.
لم يكن هذا الخطاب معروفاً في الأدبيّات الوعظية، وهو نوع من أنواع (النجوى) مع النفس، طرفاها نفس الإنسان، يوبخها ويعظها ويحذّرها ويعاتبها وينذرها.
وهذه المكاشفة لا تجري بين طرفين مختلفين، كما نفهم نحن من هذه الكلمة، وإنّما تجري داخل النفس بين الإنسان ونفسه، عندما يخلو الإنسان بنفسه.
الخلوات النافعة
وهذه الخلوة (بالنفس) من الخلوات النافعة للإنسان، والإنسان بحاجة في حياته إلى خلوتين.
خلوة بالله تعالى، وخلوة بنفسه.
وفي هاتين الخلوتين يكاشف الإنسان ربّه سبحانه وتعالى ويكاشف نفسه بما لا يستطيع أن يكاشف به أحداً من الناس، ويتكتّم به عن كلّ الناس.
والإنسان بحاجة إلى هاتين المكاشفتين، فإن التكتّم على ما يجري داخل النفس يؤدّي إلى اختفاء ما يجري فيها مما يتكتّم بها داخل نفسه إلى دهاليز النفس العميقة، مما يؤدّي إلى تعقيدات وأمراض نفسيّة كثيرة داخل النفس …
فقد يرتكب الإنسان ذنباً وجريمة يؤنّبهما عليه ضميره، ولا يتمكّن أن يكاشف بذلك أحداً، وقد يحتاج إلى شيء لا يستطيع أن يفاتح أحداً به.
فتختفي هذه الحاجات والمنغّصات النفسيّة في دهاليز النفس العميقة المظلمة، وتتحوّل في النفس إلى تعقيدات وأمراض نفسية.
ولكن الإنسان لا يتكتّم بشيء مما يدور في نفسه من ذنوبه وآثامه وحاجاته وطلباته التي يتكتّم بها على الناس … لا يتكتّم بها على الله فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى [طه: 7]، فلا يخفى على الله تعالى شيء مما يدور في نفسه ويختبئ في أعماق نفسه البعيدة.
ولعلَّ ذلك هو المقصود من كلمة (وأخفى) في هذه الآيّة الكريمة.
فإن (السِرَّ) ما يخفيه الإنسان عن الآخرين، و (الأخفى) من السرّ هو ما يدفعه الإنسان إلى الطبقات العميقة المعتمة من نفسه ويزويها ويدفعها عن منطقة الشعور إلى دهاليز اللاشعور، لئلا ينغّص بها، فهو إذن أخفى من (السِرّ).
إذن بوسع الإنسان أن يكاشف الله تعالى بما يتكتّم به عن الآخرين من ذنوبه وقبيح أعماله التي يكتمها عن الناس.
كما أن العبد لا يجد ضيراً أن يكاشف ربّه في حاجاته التي يخجل أن يكاشف بها الناس.
رُويَ عن رسول الله (ص): اسألوا الله عزّ وجلّ ما بداخلكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنّه إن لم ييسّره لم يتيسّر.
وعنه (ص): ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلّها، حتى يسأله شسع نعله، إذا إنقطع.
وعن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: لا تحقّروا صغيراً من حوائجكم، فإن أحبّ المؤمنين إلى الله تعالى أسألهم.
كما فتح الله تعالى لعبده باب التوبة عن ذنوبه وسيّئاته التي تثقل ضميره، ويخجل أن يفاتح بها أحداً من الناس، فقد أذن الله تعالى للإنسان أن يفاتح بها الله عزّوجلّ ويستغفره عنها، فيغفرها له.
إذن فقد فتح الله تعالى على عبده بابين من الرحمة يستطيع العبد من خلالهما أن يكاشف ربّه عزّ شأنه مكاشفة كاملة، ولا يخفي عليه شيئاً مما يتكتّم به عن الناس، وهذان البابان هما: باب (التوبة) وباب (الدعاء). وهذه هي الخلوة النافعة الأولى في حياة الإنسان.
ويبقى نجوى الإنسان مع نفسه، وهو الخلوة والمكاشفة الثانيّة في حياة الإنسان، وهو أمر يدعو إليه الإسلام ويرغّب فيه.
ولا بدّ للإنسان من هاتين الخلوتين، ومن هاتين المكاشفتين، ولا بدّ له من أن يُفرغ من وقته وعمره كلّ يوم وقتاً للخلوة بالله تعالى ومخاطبته، ومناجاته ووقتاً للخلوة بنفسه ومكاشفتها.
أبواب التعامل مع الذات:
أبواب التعامل مع النفس، في الثقافة الإسلاميّة، كثيرة، نذكر أهمّها.
1- تهذيب النفس وإصلاحها:
عن أمير المؤمنين (ع): أيّها الناس! تولّوا من أنفسكم تأدييها واعدلوا بها عن مزاولة عاداتها.
وعنه (ع): من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره.
وعنه (ع): الرجل حيث اختار لنفسه، إن صانها ارتفعَتْ، وإن ابتذلها اتضعَتْ.
وعنه (ع): إشتغالك بمعائب نفسك يكفيك العار.
2- كفّ النفس عن أهوائها وشهواتها وضبطها وردعا … وهو (التقوى): عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: لا تدع النفس وهواها، فإن هواها رَداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفّ النفس عمّا تهوى دواها.
3- التعامل مع النفس بسلام: هذا باب يفتحه القرآن على مصراعيه، ولأوّل مرة، في تاريخ الثقافة النفسيّة يكشف القرآن عن حقيقة تخفى على الكثير، وهو أن الناس يظلمون أنفسهم. يقول تعالى:
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32].
وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117].
ويقول تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23].
ويقول تعالى: وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ [الأنعام: 26].
ويدعو الإسلام الإنسان إلى أنْ يعيش مع نفسه بسلام، فيستجيب لفطرته وعقله وضميره وعاطفته وروحه، كما يدعوه إلى الاستجابة المنضبطة لحاجات جسده وغرائزه وميوله وشهواته في توازن وتعادل، فيعيش مع نفسه في أمن وسلام.
وأساس كلّ سلام في حياة الإنسان أن يعيش الإنسان في سلام مع الله ومع نفسه. وقد أمّنَهما الله تعالى لعباده في دينه.
ولنا في خاتمة الصلاة تحيّات ثلاثٌ.
سلام على رسول الله (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته)
وسلام على أنفسنا (السلام علينا).
وسلام على عباد الله الصالحين (وعلى عباد الله الصالحين)
وكذا سلام الله على المسيح عيسى بن مريم يسلم على نفسه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيّاً.
وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33].
والآن نستعرض هذا الخطاب الوعظي الذاتي، في كلمات الإمام عليّ بن الحسين (ع) على طريقة مخاطبة النفس ومكاشفتها والانفتاح عليها وندبتها.
والإنسان عادة يندب غيره، وها هنا يعلّمنا عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) كيف نندب أنفسنا، وأن أحقّ من يندبه الإنسان نفسه التي بين جنبيه.
وهذا الخطاب ندبة للنفس، من باب المكاشفة، نرويها بروايّة ابن كثير الدمشقي في (البدايّة والنهاية: 9/ 139)، وابن عساكر في (تاريخ دمشق: 41/ 404).
كما يرويها المحدّث النوري (رحمه الله) في (الصحيفة الرابعة).
ويرويها (إحقاق الحقّ) بتحقيق السيد المرعشي: 19/ 484 و 28/ 127 و 33/ 781.
و (الأنوار البهيّة) للشيخ عبّاس القمّي: 119.
و (الصحيفة السجّاديّة الكاملة) للأبطحي: ص 501
و (بلاغة الإمام عليّ بن الحسين): ص 77
نصّ الندبة:
وإليك: نصّ الندية:
عن الزهري، قال: سمعت مولانا زين العابدين (ع) يحاسب نفسه، ويناجي ربّه، وهو يقول:
يا نفس حتّام إلى الحياة سكونك، والى الدنيا وعمارتها ركونك؟
أما اعتبرتِ بمن مضى من أسلافك! ومَن وارته الأرض من الأُفك ومن فجعتِ به من إخوانك، ونقلت إلى دار البلى من أقرانك؟!
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها | محاسنهم فيها بوال دواثر | |
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم | ||
وساقتهم نحو المنايا المقادر | وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها | |
وضمّتهم تحت التراب الحفائر |
كم خرمت أيد المنون، من قرون بعد قرون، وكم غيّرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف الناس، وشيعتهم إلى الأرماس:
وأنت على الدنيا مكبّ منافس | لخطابها فيها حريص مكاثر | |
على خطر تمسي وتصبح لاهيا | أتدري بماذا لو عقلت تخاطر | |
وإن امرءاً يسعى لدنياه جاهداً | ويذهل عن اخراه لاشك خاسر | |
فحتّام على الدنيا إقبالك، وبشهواتها اشتغالك، وقد وخطك القتير ، ووافاك النذير، وأنت عمّا يراد بك ساه ، وبلذّة يومك لاه.
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى | عن اللهو واللّذات للمرء زاجر | |
أبعد اقتراب الأربعين تربص | وشيب القذال منذ ذلك ذاعر؟! | |
كأنّك معني بما هو ضائر | لنفسك عمداً أو من الرشد حائر | |
انظر إلى الأمم الماضيّة والقرون الفانية، والملوك العاتية، كيف انتسفتهم الأيّام، فأفناهم الحمام، فامتحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم!
وأضحوا رميماً في التراب وأقفرت | مجالس منهم عطّلت ومقاصر | |
وحلُّوا بدار لا تزاور بينهم | وأنّى لسكان القبور التزاور؟ | |
فما إن ترى إلا قبوراً ثووا بها | مسنّمة تسفى عليها الأعاصر | |
كم عاينت من ذي عزّ وسلطان، وجنود وأعوان، تمكّن من دنياه، ونال منها مناه، فبنى الحصون والدساكر ، وجمع الأعلاق والذخائر:
فما صرفت كفّ المنيّة إذ أتت | مبادرة تهوى إليه الذخائر | |
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى | وحفّ بها أنهارها والدساكر | |
ولا قارعت عنه المنيّة حيلة | ولا طمعت في الذب عنه العساكر | |
أتاه من أمر الله ما لا يردّ، ونزل به من قضائه ما لا يصدّ، فتعالى الملك الجبار، المتكبّر القهّار، قاصم الجبارين، ومبير المتكبّرين:
مليك عزيز لا يردّ قضاؤه | حكيم عليم نافذ الأمر قاهر | |
عنا كلّ ذي عزّ لعزّة وجهه | فكم من عزيز للمهيمن صاغر | |
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت | لعزّة ذي العرش الملوك الجبابر | |
فالبدار البدار ، والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتجلّى لك من زينتها، واستشرف لك من فتنها:
وفي دون ما عاينت من فجعاتها | إلى دفعها داع وبالزهد آمر | |
فجد ولا تغفل وكن متيقّظاً | فعما قليل يترك الدار عامر | |
فشمّر ولا تفتر فعمرك زائل | وأنت إلى دار الإقامة صائر | |
ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها | وإن نلت منها غبّة لك ضائر | |
فهل يحرص عليها لبيب؟ أو يسرّ بلذّتها أريب ؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عين من يخشى البيات ؟ أو تسكن نفس من يتوقّع الممات؟!
ألا لا ولكنّا نغرّ نفوسنا | وتشغلنا اللّذات عمّا نحاذر | |
وكيف يلذّ العيش من هو موقن | بموقف عدل يوم تبلى السرائر | |
كأنا نرى ألا نشور وإنّنا | سدى مالنا بعد الممات مصادر | |
وما عسى أن ينال طالب الدنيا من لذّاتها، ويتمتّع به من بهجتها، ومع فنون مصائبها، وأصناف عجائبها، وكثرة تعبه في طِلابها، وتكادحه في اكتسابها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها!
وما قد نرى في كلّ يوم وليلة | يروح علينا صرفها ويباكر | |
تعاورنا آفاتها وهموها | وكم قد ترى يبقى لها المتعاور | |
فلا هو مغبوط بدنياه آمن | ولا هو عن تطلا بها النفس قاصر | |
كم غرّت من مخلّد إليها، وصرعت من مكبّ عليها، فلم تنعشه من صرعته، ولم تقله من عثرته، ولم تداوه من سقمه، ولم تشفه من ألمه!
بلى أوردته بعد عزّ ومنعة | موارد سوء ما لهنّ مصادر | |
فلما رأى أن لا نجاة وأنه | هو الموت لا ينجيه منه التحاذر | |
تندّم إذ لم تغن عنه ندامة | عليه وأبكته الذنوب الكبائر | |
بكى على ما أسلف من خطاياه، وتحسّر على ما خلّف من دنياه، حيث لا ينفعه الاستعبار، ولا ينجيه الاعتذار، من هول المنيّة، ونزول البليّة!
أحاطت به أحزانه وهمومه | وأبلس لمّا أعجزته المعاذر | |
فليس له من كربة الموت فارج | وليس له مما يحاذر ناصر | |
وقد جشأت خوف المنيّة نفسه | تردّدها منه اللهاة والحناجر | |
هنالك خفَّ عنه عوّاده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت الرنّة والعويل، ويئسوا من برء العليل، غمّضوا بأيديهم عينيه، ومدّوا عند خروج نفسه يديه ورجليه:
فكم موجع يبكي عليه تفجّعاً | ومستنجد صبراً وما هو صابر | |
ومسترجع داع له الله مخلصاً | يعدّد منه كلّ ما هو ذاكر | |
وكم شامت مستبشر بوفاته | وعمّا قليل للذي صار صائر | |
شقّت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجّع لرزيّته إخوانه، ثمّ أقبلوا على جهازه، وتشمّروا لإبرازه:
وظلّ أحبّ القوم كان بقربه | يحثّ على تجهيزه ويبادر | |
وشمّر من قد احضروه لغسله | ووجّه لمّا قام للقبر حافر | |
وكفّن في ثوبين واجتمعت له | مشيعة إخوانه والعشائر | |
فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، فغشي من الجزع عليه، وقد خضبت الدموع خدّيه، ثمّ أفاق وهو يندب أباه، ويقول بشجو: وا ويلاه:
لعاينت من قبح المنيّة منظراً | يهال لمرآه ويرتاع ناظر | |
أكابر أولاد يهيج اكتئابهم | اذا ما تناساه البنون الأصاغر | |
ورنّة نسوان عليه جوازع | مدامعها فوق الخدود غوازر | |
ثم أخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره، فحثّوا بأيديهم التراب، وأكثروا التلدّد والانتحاب، ووقفوا ساعة عليه، وقد يئسوا من النظر إليه:
فولّوا عليه معولين وكلّهم | لمثل الذي لاقى أخوه محاذر | |
كشاء رتاع آمنين بدالها | بمديته بادي الذراعين حاسر | |
فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت | فلمّا نأى عنها الذي هو جازر | |
عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها! أفبأفعال البهائم اقتدينا، وعلى عاداتها جرينا! عد إلى ذكر المنقول إلى الثرى، والمدفوع إلى هول ما ترى:
ثوى مفرداً في لحده وتوزّعت | مواريثه أولاده والأصاهر | |
وأحنوا على أمواله يقسمونها | فلا حامد منهم عليها وشاكر | |
فيا عامر الدنيا ويا ساعياً لها | ويا آمناً من أن تدور الدوائر | |
كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة؟! أم كيف تتهنّأ بحياتك وهي مطيّتك إلى مماتك؟! أم كيف تسيغ طعامك وأنت منتظر حمامك؟!
ولم تتزوّد للرحيل وقد دنا | وأنت على حال وشيك مسافر | |
فيا ويح نفسي كم اسوف توبتي | وعمري فانٍ، والردى لي ناظر | |
وكلّ الذي اسلفت في الصحف مثبت | يجازي عليه عادل الحكم قاهر | |
فكم ترقع بدينك دنياك، وتركب في ذلك هواك، إنّي لأراك ضعيف اليقين، يا راقع الدنيا بالدين، أفبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا دلّك القرآن؟
تخرّب ما يبقى وتعمر فانياً | فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر | |
وهل لك إن وافاك حتفك بغتة | ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر | |
أرتضى بان تفتي الحياة وتنقضي | ودينك منقوص وما لك وافر | |
فبك إلهنا نستجير، يا عليم يا خبير، من نؤمّل لفكاك رقابنا غيرك؟ ومن نرجو لغفران ذنوبنا سواك؟ وأنت المتفضّل المنّان القائم الديّان، العائد علينا بالإحسان بعد الإساءة منّا والعصيان، يا ذا العزّة والسلطان، والقوّة والبرهان، أجرنا من عذابك الأليم، واجعلنا من سكان دار النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الشعر الوعظي:
ونقرأ في ميراث الإمام زين العابدين (ع) الوعظيّ شعراً وعظيّاً رقيقاً مؤثّراً نذكر نماذج منها. من ذلك ما وراه الشيخ بهاء الدين العاملي في (الكشكول: 3/ 15- 151).
إذا بلغ إمرؤ عليا وعزّا | تولّى واضمحلّ مع البلاغ | |
كقصر قد تهدّم حافتاه | إذا صار البناء على الفراغ | |
أقول وقد رأيت ملوك عصري | ألا لا يبغين الملك باغ | |
وقال أيضاً، كما في (كشول الشيخ البهبهاني: 3/ 13).
تفكّر أين أصحاب السرايا | وأرباب الصوافن والعشار | |
وأين الأعظمون يداً وبأساً | وأين السابقون لدى الفخار | |
وأين القرن بعد القرن منهم | من الخلفاء والشمم الكبار | |
كأن لم يخلقوا أو لم يكونوا | وهل حيّ يصان عن البوار | |
ومما يروى عنه في هذا السياق:
وأضحوا رميماً في التراب وعطّلت | مجالس منهم أقفرت ومعاصر | |
وحلّو بدار لا تزاور بينهم | وأنّى لسكّان القبور التزاور | |
فما إن ترى إلا قبوراً ثووا بها | مسطّحة تسفى عليها الاعاصر | |
فما صرفت كفّ المنيّة اذ اتت | مبادرة تهوى اليه الذخائر | |
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى | وحفّ بها أنهاره والدساكر | |
ولا قارعت عنه المنيّة حيلة | ولا طمعت في الذبّ عنه العساكر | |
مليك عزيز لا يردّ قضاؤه | حكيم عليم نافذ الأمر قاهر | |
عنا كلّ ذي عزّ لعزّة وجهه | فكلّ عزيز للمهمين صاغر | |
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت | لعزّة ذيالعرش الملوك الجبابر | |
ومما يروى عنه (ع) في الموعظة:
قد طال لبثك في الفساد | وبئس الزاد زادك للمعاد | |
صبا فيك الفؤاد فلم تزعه | وحدت إلى متابعة الفؤاد | |
وقادتك المعاصي حيث شاءت | وألفتك امرءاً سلس القياد | |
لقد نوديت للترحال فاسمع | ولا تتصامن عن المنادي | |
كفاك مشيب رأسك من نذير | وغالب لونه لون السواد. | |
ومن شعره (ع) الوعظي:
فعقبى كلّ شيء نحن فيه | من الجمع الكثيف الى الشتات | |
وما حزناه من حلّ وحرم | يوزّع في البنين وفي البنات | |
وتنسانا الأحبة بعد عشر | وقد صرنا عظاماً باليات | |
كأنّا لم نعاشرهم بودّ | ولم يك فيهم خلّ موات | |