- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 6 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
لا تختلف المشاعر من حيث الكينونةُ من إنسان لآخر، وإن تباعدتِ الأجسادُ وتوزعت البلدانُ وتنوَّعتِ الأمزجة، وإذا كانت اللُّغاتُ والأعراق والجنسيات تُميز بين بني الإنسان، فإنَّ المشاعرَ في الأفراح والأتراح هي واحدة، فالكل تنفرج سريرته وتُسرُّ نفسه عند سماع خبر مفرح أو رؤية ما يفتّر عن ثغر باسم ويرفع له شفّةً عليا، والكلُّ يضيق صدره وتنحبسُ نفسه عند سماع خبر مقرح أو رؤية ما يشدّ أعصابه ويغلق له فاهاً مفتوحاً، لكنَّ الاختلاف يحصل في وسائل التعبير ومقدار الأثر الذي يتركه الحدثُ على الإنسان ووقعه على قلبه، من هنا اختلفت الأمم والشعوب في وصف ما يجيش بصدرها منَ السراء والضراء.
وبالتأكيد فإنَّ المتابع لممارسات بني البشر على الكرة الأرضية في التعامل مع الحوادث بشقَّيها المفرح والمقرح، بمسيس الحاجة إلى موسوعة متعددة الأجزاء لاستقصائها، على أنَّ التجدُّدَ هي السِّمة البارزة في التعبير عن المشاعر، وهذه الوسائل تُعرف معالمها من الأداء والمظهر الخارجي، بيد أنَّ القاسم المشترك لكلِّ هذه المشاعر هي الدمعة والبسمة، فالأولى دالة على الحزن والثانية دالة على الفرح، وفي حالات استثنائية تتحول الدمعة إلى مظهر فرح عندما لا يتمالك المرء نفسه من الفرح فتغالبه الدموع، ويقال لقطرات الدمع أنها “دموع فرح”، وفي حالات استثنائية تنقلب الضحكة والبسمة إلى نوع من أنواع التعبير عن الحزن بخاصة حينما يأخذ الجزع من المرء مأخذا تغالبُهُ الضحكات تترى فَتقهرهُ ويلبس عباءة الهستيريا. فالدمعة هي عنوان الحزن والبسمة سمة الفرح، وقد تتحرك الدمعة في محجر العين لا تهبط من عليائها، وقد تنهمر كالشَّلال ويهتز معها البدن لكنَّ المرءَ يحتفظ بطابع الأسى، وقد تتحول البسمة إلى ضحكة يميسُ معها البدن ويبقى يحتفظُ صاحبُهُ ظاهراً بعلامة السرور.
ولا ينفك ابن آدم عن البكاء كما لا ينفك عن البهجة وكلاهما أصيلان في كينونة خلقه، وبينهما يتقلب الإنسان، ومن لا يسيل الدمع حزنا لا يرشف شهد النضرة ابتهاجاً، فهما كالليل والنهار يُعرف أحدهما بالآخر، وخير الدمعة لذنب نستغفره أو ثغر نحرسه أو شهيد نبكيه، وخير البسمة لصديق نلتقيه، أو بشرٍ نحضره، أو عمل خير نؤديه، وأعجب من امرئ تبخل عينه عن دمعة لحزن رفيق أو بسمة لاستبشار صديق، والعجبُ كلُّ العجب من ذي حِسٍّ لا تدمع عينه لمصاب سيِّدِ الشهداء الإمام الحسين بن علي(ع)، والعجب كل العجب من عاقل لا تنفرجُ أساريرُهُ لأفراح أهل البيت(ع) الذين أذهَبَ الله عنهُمُ الرِّجْسَ وطهرهم تطهيرا.
أما كيف نفرح ونحزن بخاصة عند استذكار أهل البيت(ع) عملاً بحديث الإمام جعفر الصادق(ع): (شيعتنا منّا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا)؟ فهذا ما يتناوله الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتاب “شريعة عاشوراء” الصادر حديثا (۲۰۱۱م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في ۶۴ صفحة من القطع الصغير، حيث غلبت ذكرى عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين(ع) عام ۶۱هجرية على العنوان، مع أنَّ ۹۲ مسألة فقهية قد تناولت عموم أحكام الشعائر وخصوص شعيرةِ عاشوراء، وقدّم لها وعلَّق عليها الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري.
عالميةُ الخطاب
تتفق البسمة والدمعة مع الشعيرة بلحاظ معناها الدال عليها، فالشعيرة من حيث المعنى هي العلامة أو المَعْلَمُ، وليس أدل على الفرحة علامة من البسمة، وليس أدل على الحزن علامة من الدمعة، وتأخذ الشعيرة معنى المعلم للدلالة على أهمية الحدث وموضعه، وتقترب الشعيرة من “الشِعار” بالكسر حينما تصبح عنوان أمة وشعارها الَّذي ترفعه على الملأ، وتقترب الشعيرة من “الشَعار” بالفتح حينما تتقمَّصُهُ الشعيرة وتتلبسه كرداء لها تتميز به عن الآخرين، ولا أعظم أسىً من مَعلم وعلامة كعاشوراء، ومن يُحيي هذا المعلم أحيا قلبه بتقوى الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج: ۳۲٫
ومبلغ التقوى أنْ يصل شِعار الشعيرة إلى الآخر المختلف ديناً ولغة وبلداً، لأنَّ صاحب الشعيرة شخصية عظيمة، وعظمته ليست نابعة من نسبه فحسب، بل لأنَّه صاحب رسالة نهضوية على المستويين الإسلامي وغير الإسلامي، فعلى المستوى الإسلامي قاد حركة التغيير والوقوف أمام فتنة الإنحراف التي شهدها العالم الإسلامي حينما تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض فيه بدأ المسلمون يشهدون وبشكل فاضح ما يخالف التعاليم التي أنزلها ربُّ الأرباب على خاتم الأنبياء محمد(ص)، وعلى مستوى الآخر أضاءت له درب التحرُّر مِنْ قيدِ الجبتِ والطاغوت.
من هنا صارت نهضة الإمام الحسين(ع) علامةً فارقةً في حياة المسلمين ومَعْلَمًا من معالم التغيير على طريق بناء المجتمعات السليمة، ولذلك وجب الإهتمام بشعائرها لأنَّها حياةُ الأمم ورقيُّها، وكما يقول الفقيه الكرباسي: “فكل شعيرة من هذه الشعائر مَعلمٌ من معالم الحق والحقيقة، لها دور هام في إحياء الدين وإعلاء كلمة الله والحفاظ على مباني الدعوة الإسلامية وحقوق الإنسان، فيجب شرعا وعقلاً إحياؤها بما يمكن”، وإحياء الشعائر الحسينية في واقعها تذكير العالَم بالمظلومية وبأهمية التحرُّر نحو بناء عالَمٍ عادلٍ، وكما يؤكد الشيخ الكرباسي: “وليوم عاشوراء دور أساس في إيصال صوت العدالة الإنسانية إلى أنحاء العالم، وهو يوم عظيم لا عديل له ولا مثيل في التاريخ، وبه تمَّ تحقيق الأهداف السامية والمقاصد العالية للرسالة المحمدية الغراء والشريعة الإلهية العليا، وبه تمَّ فهم العلاقة بين النهضتين، نهضة النبوة ونهضة الإمامة” وهنا تتوحَّدُ النبوَّةُ بالإمامة على أرضية العالميَّة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء: ۱۰۷، كما تتوحد على خاتمية الرَّسائل السماويَّة وبتقدير الكرباسي: “إنًّ إحياء ذكراه – الإمام الحسين- هو إحياء لذكرى الأنبياء والرسل هدفاً ومضموناً، إحياء للفكر المعتدل وصوت الحق الصادح ونبض القلب الفاعل”، وهي نهضة: “شعاراتها واضحة وجليَّة خُططت للبشرية جمعاء، فلم تشأ أنْ تكونَ لفئة دون أخرى، ومن هنا كانت الخطابات والتصريحات والشعائر غير مؤطَّرة بأطُر مذهبيةٍ ولا قوميةٍ ولا وقتيةٍ ولا جغرافية”، فروح الشعائر الحسينية متمثلة في ثنائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي ثنائية مزروعة في ضمير كُلِّ إنسان مسلماً أو غير مسلم.
ولأنَّ الخطاب الحسيني كان عالميا، ولأنَّ البشريةَ متنوعةٌ في لغاتها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها، فإنَّ الكرباسي فيما يخص إقامة الشعائر الحسينية ومن أجل تقريب الآخر إلى الإسلام وتعريفه بحقيقة النهضة الحسينية يدعو إلى: “تأسيس لجنة عليا من ذوي الإختصاص بعلم النفس والإجتماع والتاريخ والدين تحت إشراف المرجعيَّات الدينية لوضع أساليب جديدة لجذب الناس وتحريك عواطفهم بما يتوافق مع الشرع المبين”، وهذه دعوة تنسجم مع دعوة سابقة تقدم بها المحقق الكرباسي لتشكيل “النقابة العالميَّة للخطباء والمبلِّغين” أودعها في مقدمة الجزء الأول من كتاب “معجم خطباء المنبر الحسيني”، بلحاظ أن الخطباء والمبلغين والدعاة هم صوت الإسلام الناطق.
مسائلُ حياتيَّة
ويلاحظ في سلسلة “الشرائع” أنَّ مسائلها الفقهية تمسّ حياة الإنسان اليوميَّة عن قرب، وزادها نموذجيَّةً أنَّ الفقيه الكرباسي يعيش منذ عقود في بريطانيا وقريبٌ من المدنية الغربية ومستجداتها وبالتالي أقدر على الكشف الفقهي للمسألة، ولهذا فإنَّ عدداً غير قليل من المسائل الواردة في “شريعة عاشوراء” لاحظ فيها الجغرافية والبيئة ومدى جواز إقامة الشعائر الحسينية من عدمه في بيئات غربيَّة، ومن الثابت أنَّ الفقيه الذي يحتك بالغرب بشكل مباشر له خصوصيَّةُ معاينةِ الشعائر الحسينية ومدى ملاءمتها لكلِّ مجتمع، ولهذا يرى أنَّ: (الشعائر الحسينية إذا كانت من حيث الأداءُ مشروعةً فترتبط حلِّيتُها وحرمتُها بالنتائج نسبةً إلى الزمان والمكان، فإذا كانت تؤدِّي إلى تعزيز الموقف الإسلامي وجذب الأمة إلى الأهداف الإسلامية كانت جائزة، حسب الزَّمان والمكان، وإن كانت تؤدِّي إلى إبعاد الأمَّة عن الأهداف الإسلامية والتي لأجلها شُرِّعت فتكون محرَّمة حسب الزمان والمكان)، وهو كفقيه يقرِّرُ أنَّه: (قد تكون بعض الشعائر الحسينية في مكان جائزة وفي مكان آخر محرَّمة، وقد يكون بعضها في بعض الأزمان جائزة وفي غيرها محرَّمة) وليس كُلُّ إنسان أهلاً لتشخيص الجواز مِن عدمه حتى وإنْ كان هذا الشخص مُداوِمًا على إقامة الشعائر الحسينية، وإنَّما كما يعلقُ الفقيه الغديري أنْ: (يكون أمر تشخيص الموارد وتمييزها بيد الخبراء في العلم، ولا يوكل ذلك على العوام ألبتَّه).
ولا يخفى أنَّ للمؤدَّى والمُحتوى والأسلوب مدخليَّة في جواز وعدم جواز ما يوصفُ بعضُها بالشعائر الحسينية، ولذلك فإنَّ الفقيه الكرباسي يرى شروطا خمسة في حلِّية الشعائر الحسينية: أنْ لا تكون بذاتها إحدى المحرمات، وأنْ لا يصحبَها شيءٌ من المحرَّمات، وأنْ لا تؤدي إلى شيء مِن المحرَّمات، وأنْ يكون أداؤها إعلاءً لكلمة الله، وأنْ يكون أداؤها يُحيي القلوب. وفي تعليقه على الشروط يرى الشيخ الغديري أن الأحكامَ الخاصَّةَ بالشعائر: (تُبتنى على ما ورد في الأحاديث حول عاشوراء، وجاء ذكر بعض الأعمال منها في التاريخ عن سيرة الأئمة المعصومين(ع) وإلاَّ فهي استنباطات علمية فقهية، بذل المؤلف الفاضل حفظه الله الجهود الفكرية الهامَّة في استخراج الأحكام مطابقة للأدلة المعتبرة فيها)، ويقررُ أنَّه: (كان من الأحرى أن تُذكر تلك الأحكام في الرسائل العملية للمراجع العظام بلحاظ أهميتها وحاجة المؤمنين إليها في إقامة العزاء)، وهي دعوة طيبة يفترض أن تأخذ بها الحوزاتُ العلمية والمحافلُ الفقهية.
ويشاهد القارئ في المسائل التي طرقها الفقيه الكرباسي أنَّها تنطوي على شجاعة في العرض نابعةٍ مِن شخصيته العلمية التي تنحو باتجاه البحث والتدقيق وتغليب البحث العلمي على الجذب العاطفي، ولذلك فهو في الوقت الذي يرفض تفريغ الشعائر الحسينية من محتواها أو العمل من الداخل للقضاء عليها يدعو إلى عدم المتاجرة بها لعواقبها الوخيمة على المتاجر بها في الدنيا قبل الآخرة، كما يطالب بعدم الإنجرار إلى حرب لا طائل منها بين أتباع مراجع التقليد فـ : (الشعائر الحسينية غير المنصوص عليها إذا أفتى مجتهد بحرمتها وآخر بجوازها، يعمل كلٌّ حسب فتوى مُقلَّده، ولا يجوز لأحد قمع تلك الشعائر بمجرد أنها تخالف فتوى مجتهده، إلاَّ إذا كان حاكم الشرع الجامع للشرائط مبسوط اليد، ويرى المصلحة العامة التوقف عنها بالأخص في الأماكن العامة).
وفي الوقت الذي يدعو فيه الفقيه الكرباسي إلى إعطاء ذكرى عاشوراء ميزتها ولاسيما ما يتعلَّقُ بإحيائها خلال الأيام العشرة الأولى من محرم الحرام، لا يذهب إلى ما ذهب إليه بعض المتأخرين منذ مطلع القرن الخامس عشر الهجري من تعميم الأيام العشرة إلى باقي وفيات المعصومين ذلك أنَّ: (لذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) خصوصيَّةٌ، فلذلك كان الأئمة(ع) يحيونها على مدى عشرة أيام ولم يفعلوا بالنسبة إلى غيره من المعصومين(ع) فالأفضل المحافظة على هذه الميزة)، ويذهب أبعدَ مِن ذلك إلى رفض إغراء الأمة بالجهل المعرفي بخصوص تشخيص تاريخ وفاة بعض المعصومين ولهذا يرى أنه: (ينبغي للمحققين تحديد يوم وفاة وميلاد المعصومين(ع) حتى توحَّد ذكرياتهم وإحياؤها بشكل موحد وبجهود مشتركة).
في الواقع أن كتاب “شريعة عاشوراء” الذي يشكل جزءًا من ألف عنوانٍ في المعاملات والعبادات والمسائل المستحدثة يعكف عليها الفقيه الكرباسي في بيان مسائلها الفقهية ينضمُّ إلى سلسلة الشرائع الصادرة في فترات سابقة وهي: “شريعة الإتصالات”، “شريعة الوقف”، شريعة الإنتخاب”، “شريعة المواصلات”، “شريعة التجويد”، “شريعة الترهيب”، “شريعة التكليف”، “شريعة التوقيت”، “شريعة الجنين”، “شريعة الجمعة”، “شريعة العيد”، و”شريعة الخدمة”، وهي بمجموعها تحكي عن حركية الفقه الإسلامي وانسجامه مع متطلبات الحياة اليومية ومستجداتها.