- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 20 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
بيان ما ورد في زيارة الجوادين عليهما السلام من قوله عليه السلام ( السلام عليك يا من بدا لله في شأنه )[۱] وما يراد منه وما ينبغي له من ظاهره وخافيه .
فنقول أولا : أن هذه الفقرة واردة في زيارة العسكريين عليهما السلام وزيارة الرضا عليه السلام أيضا المروية عن أبي جعفر الجواد عليه السلام , والظاهر جريان ذلك في الحجة عجل الله فرجه وعليه السلام وإن كانت زياراته خالية منها إلا أن الروايات لا تخلو عن التنبيه عليه والإشارة بل بعضها نص فيه , منها ما في الكافي عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : ” يا ثابت إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين , فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره الله إلى أربعين ومائة , فحدثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله بعد ذلك وقتا عندنا ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب , قال أبو حمزة : فحدثت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال : قد كان كذلك “[۲].
وغيرها من الأخبار الظاهرة في أن ساعة ظهوره عليه السلام من العلم المكنون المخزون الذي فيه البداء يقدم ويؤخر كيف شاء الله , فيكون أمر البداء ثابت في الأئمة الستة الأخيرة من موسى إلى الحجة عجل الله فرجه وصلوات الله عليهم أجمعين , وإن اختلفت وجوهه فيهم عليهم السلام ولم يكن على وجه واحد .
أما البداء الذي وقع في شأن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام فيحتمل على وجهين :
الأول : وهو الذي ذكره جل من العلماء أن أكثر الأصحاب في زمن الصادق عليه السلام كانوا يظنون أن الإمامة والوصاية تنتقل إلى ابنه الأكبر إسماعيل لما يرون منه شدة حبه عليه السلام إياه وكان أكبر أولاده ذا جمال وحسن وكمال ولأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن الحسن عليهم السلام وبوجود هذه الخصال وغيرها زعموا أنه أولى بأمر الإمامة وشأن الولاية والوصاية , لا سيما كونه ابن حرة علوية فاطمية , ولعمري إنه لمزيد فخر وشرف فبدا لله فيه أن توفاه في حياة الصادق عليه السلام وكان فعل به بعد موته ما فعل من كشفه عن وجهه بعد تكفينه وتقبيله غير مرة إتمام للحجة أنه ميت لا غائب , وأن أمر الإمامة لله يجعله حيث يشاء ليس بمحبة مخلوق وهو به , وكل ذلك لئلا يفتتن الناس به عمن جعله الله وليا وقيما على خلقه وحافظا لدينه , ومع هذا كله قد افتتن به وتاه عن سبيل هداه خلق كثير وقالوا أن الإمامة في ولده كل من خرج بالسيف( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ) [۳] فاقتضت حكمته سبحانه موت إسماعيل رحمة الله عليه في حياة أبيه عليه السلام وأراد ذلك لمصلحة عامة رحمة للمؤمنين وإتماما لكمال الحجة للظالمين فأظهر بذلك ما كان خفيا عندهم من إمامة موسى عليه السلام ووصايته وأثبته بعدما كان غير ثابت لديهم ومحا ما كان مثبتاً وظاهراً في نفوسهم من أمر إسماعيل , ويشير إليه روايات يمكن أن يستدل بها , منها ما روي في المجمع عن الصادق عليه السلام قال: ” ما بدا لله في شيء كما بدا في إسماعيل ابني “[۴].
وفي الكافي عن يونس ابن يعقوب قال : أمرني أبو عبد الله عليه السلام أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل وقال : ” أقرىء المفضل السلام وقل له : إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا فاصبر كما صبرنا , إنا أردنا أمرا وأراد الله عز وجل أمرا فسلمنا الأمر لله عز وجل “[۵] .
وما رواه الميرزا في رجاله في ترجمة عبد الله بن شريك عن رجال الكشي عن عبد الله بن محمد قال : حدثني الحسن بن علي الوشا , عن أحمد بن عائد , عن أبي خديجة الجمال قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : ” إني سألت الله في إسماعيل أن يبقيه بعدي فأبى , ولكنه قد أعطاني فيه منزلة أخرى أن يكون أول منشور في عشرة من أصحابه فيهم عبد الله ابن شريك وهو صاحب لواه “[۶].
وفي الكافي عن إسحاق بن محمد عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعدما مضى ابنه أبو جعفر وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول كأنهما أعني أبا جعفر وأبا محمد عليهما السلام في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهما السلام , وأن قصتهما كقصتهما إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر , فأقبل علي أبو الحسن عليه السلام قبل أن أنطلق فقال : ” نعم يا أبا هاشم , بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر عليهما السلام ما لم يكن يعرف له كما بدا له في موسى عليه السلام بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون , وأبو محمد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة “[۷].
أقول : وكان أبو جعفر اسمه محمد أصغر سناً من أخيه أبي محمد الحسن عليه السلام وكان يظن لهذا الأمر كإسماعيل فبدا لله فيه فأماته فمحا ما في نفوس بعض الناس من الظن وأثبت في أي محمد عليه السلام ما لم يكن يعرف له كما كشف عن حال موسى عليه السلام بمضي إسماعيل من إثبات إمامة الباقي بمضي الماضي كما يدل عليه ما فيه عن علي بن جعفر قال كنت حاضراً عند أبي الحسن عليه السلام لما توفي ابنه محمد فقال للحسن : ” يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً “[۸] , ورواية أخرى مثله معنى بتفاوت يسير .
ولا يخفى عليك ما في هذه الرواية من صراحتها فيما ذكر من معنى البداء فيما نحن فيه أن الواقع في شأن موسى عليه السلام كشفه سبحانه عن حال موسى عليه السلام ما كان مستوراً لبعض من العباد وإيضاح إمامته , ورفع اشتباه المتوهمين أن لها أهلاً غيره عليه السلام , وكذلك في شأن سائر الأئمة الخمسة الأخيرة صلوات الله عليهم , فيكون ما وقع في إسماعيل رحمه الله من البداء موته قبل الصادق عليه السلام وعدم بقائه بعده , وقد سأل الله له ذلك ودعاه وهو السبب الأقوى لبقائه لكنه سبحانه أماته في حياته مع وجود السبب والمقتضي لبقائه لمانع أقوى منه وهو بقاء كثير ببقائه في الشبهة والحيرة عن طريق هداهم لعدم معرفتهم إمامهم وملجأهم , فاقتضت حكمته سبحانه إماتته إبلاغا للحجة وإيضاحا للمحجة لئلا يكون للناس حجة , ففيه مصلحة عامة وتشمله وجميع الأمة , أما صلاح الأمة فواضح وكذلك صلاح إسماعيل لئلا يغتر به الناس وأبدله سبحانه أن يكون أول منشور في ثلة من المؤمنين فينصر به الدين كما يدل عليه رواية الرجال عن أبي خديجة الجمال , فمقتضى موته أقوى من مقتضى بقائه كما أن مانع موته أقوى من مانع موته وهذا هو الذي في الرواية الثانية من قوله : ” أردنا أمراً وأراد الله أمرا فسلمنا الأمر لله ” يعني أراد عليه السلام حياة إسماعيل وأراد سبحانه موته لمنافع شتى , وكذلك قوله في أول الروايات ” ما بدا لله شيء كما بدا له في إسماعيل ابني ” يعني أن البداء فيه إماتته قبله عليه السلام أعظم من سائر ما وقع فيه البداء إذ كان وقوعه بعد السؤال والدعاء له بالبقاء , ودعاء المعصوم عليه السلام لا يرد بل يستجاب , فصار بقاؤه بدعائه منبتاً مبرماً قبل أن يوجد له مانع يمنعه , فلما وجد ما هو أقوى منه مما ذكر من الحكمة والمصلحة العامة وأنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة أن لا يهلك أحدا من الأمة إلا بعد إقامة الحجة وإبانة الطريق( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) [۹] محا ما أثبته بدعوة الإمام عليه السلام من بقائه وأثبت ما كان ممحواً بها فلأجل ذلك صار أعظم فافهم ، ولا تتوهم أن دعوته عليه السلام قد ردت ومسألته ما استُجيبت حاشاهم بل أفعالهم مثل أقوالهم. فكما إذا أخبروا عن شيء يكون ثم ما كان لمانع له من عالم الشهادة فقد صدقوا أنفسهم إذ كانوا أخبروا أيضا بوجود المانع وتغييره , وإذا أخبروا فكان ما أخبروا فقد صدقوا أنفسهم , فكذلك دعاؤهم وسؤالهم عن الله سبحانه من غير تفاوت , لكن سر إخبارهم ودعائهم سيجيء إنشاء الله تعالى فانتظر حتى يأتي محله إذ إجماله يخل ولا يفيد والتفصيل عن مقتضى المقام بعيد .
ثم إن هذا المعنى من البداء الذي وقع في شأن أبي الحسن موسى عليه السلام من كشف ما خفي من حاله ولم يكن يعرف به وهو كونه عليه السلام محلا للوصاية وصاحب أمر الإمامة والخلافة جرى في شأن أبي الحسن الرضا عليه السلام ومن بعده من الأئمة عليهم السلام بوجهين :
الأول : أنه لو لم يكن يكشف حال أبي الحسن الأول عليه السلام بالإمامة والولاية بما كشف به الله سبحانه وكان بقي على ما كان عليه من خفائه لكان أمر الأئمة التالية المرتبة عليه مستورا غير معروف بطريق أولى , إذ اللاحق منهم عليهم السلام لا بد في شأنه من نص السابق وتصريحه بأنه ولي الأمر بعدي , وهذا لا يفيد شيئاً في شأن الظهور إذا كان الناص في نفسه أمره خفياً لا يعرف , فبإظهار أمره وكشف قناع سره انكشف له أمور من بعده وظهرت بالنص منه عليهم , فكان ظهور أمره بما بدا في شأنه لظهورهم , فكذلك كان خفاؤه سبباً لخفائهم وهذا المعنى يعم جميعهم عليهم السلام لا يختلف .
الثاني : قد وقع ذلك في كل واحد منهم عليهم السلام بالخصوص إلا أن جهته في كل غير الآخر والأخبار في ذلك ناطقة به ولكن نكتفي بذكر بعضها إيضاحاً للسبيل وخوفاً من التطويل وعلى الله قصد السبيل .
فما ورد منها في شأن أبي الحسن الثاني عليه السلام , فمنها ما روي في الكافي عن يزيد بن سليط قال : لقيت أبا إبراهيم عليه السلام ونحن نريد العمرة في بعض الطريق وذكر عنده ما جرى بينه وبين أبي عبد الله عليه السلام في ذلك الموضع من أمر الخليفة بعده ونصه عليه السلام على أبي الحسن عليه السلام بذلك – والكلام طويل – إلى أن قال يزيد (( قلت لأبي إبراهيم عليه السلام : فأخبرني أنت بمثل ما أخبرني به أبوك عليه السلام , فقال لي : ” نعم إن أبي كان في زمان ليس هذا زمانه , فقلت له : فمن يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله , قال : فضحك أبو إبراهيم عليه السلام ضحكا شديدا ثم قال : أخبرك يا أبا عمارة أني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان – يعني الرضا عليه السلام – وأشركت معه بني في الظاهر وأوصيته في الباطن فأفردته وحده ولو كان الأمر إلي لجعلته في القاسم ابني لحبي إياه ورأفتي عليه ولكن ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء , ولقد جاءني بخبره رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أرانيه وأراني من يكون معه , وكذلك لا يوصى إلى أحد منا حتى يأتي بخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وجدي علي صلوات الله عليه , ورأيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله خاتماً وسيفاً وعصاً وكتاباً وعمامةً , فقلت : ما هذا يا رسول الله , فقال : أما العمامة فسلطان الله عز وجل , وأما السيف فعز الله تبارك وتعالى , وأما الكتاب فنور الله تبارك وتعالى , وأما العصا فقوة الله , وأما الخاتم فجامع هذه الأمور , ثم قال لي : والأمر قد خرج منك إلى غيرك , فقلت : يا رسول الله أرنيه أيهم هو , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما رأيت من الأئمة أحداً أجزع على فراق هذا الأمر منك ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك ولكن ذلك من الله عز وجل ,
ثم قال أبو إبراهيم عليه السلام : ورأيت ولدي جميعاً الأحياء منهم والأموات , فقال لي أمير المؤمنين عليه السلام : هذا سيدهم , وأشار إلى ابني علي , فهو مني وأنا منه والله مع المحسنين , ثم قال أبو إبراهيم عليه السلام : يا يزيد إنها وديعة عندك فلا تخبر بها إلا عاقلا أو عبدا تعرفه صادقا وإن سئلت عن الشهادة فاشهد بها وهو قول الله عز وجل( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [۱۰] وقال لنا أيضاً ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ)[۱۱][۱۲] والحديث طويل نقلنا منه محل الحاجة .
ولا يخفى عليك أن خفاء أمر الرضا عليه السلام كان من أمور شتى مثل الخوف والتقية من أمراء الجور وخلفائه , وسفهاء الرعية من الأعداء , وضعفاء الشيعة الذين إيمانهم جناح بعوضة أرجح منه لا يميزون الأمر زلا يرعون السر , ومخالفة قومه عليه السلام عنه , وأخوته وعمومته قد أصر جمع منهم في إنكار وصية إنكار وصية أبيه له وعانده وبالغ فيما لا ينبغي من الخطاب إلا بما هو غير الصواب , وأرادوا بذلك إطفاء نوره ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [۱۳] ,
وأعظم من ذلك قول قائل في حضوره وغيبته ( كيف يكون إماماً من لا عقب له ) وكان ذلك قبل ولادة الجواد عليه السلام , وذلك سرت منه الشبهة إلى قلوب ضعفاء الشيعة , ثم محبة أبي إبراهيم عليه السلام لابنه القاسم حتى قال في حقه ” لو كان الأمر إلي لجعلته في القاسم ابني لحبي إياه ورأفتي عليه ” وفيه سر يأتي الإشارة إليه إنشاء الله , فبهذه الأسباب المقتضية لخفاء نوره وستر أمر بدا لله سبحانه في شأنه أن يظهره ويكشف ما عليه من حاله ما لم يعرف به مثل أبيه لما أراد الله سبحانه , وكتب على نفسه أن الحجة البالغة والنعمة السابغة وقال ( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [۱۴] وكذلك الأمر في من بعده الأئمة عليهم السلام شئونهم متشابهة وأحوالهم متطابقة تركنا ذكر ما ورد من الأخبار في شأنهم من كيفية البداء طلبا للاختصار وصوناً لما فيه من الأسرار من نظر الأشرار وقد سبق شطر منها وفيه الكفاية لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد .
الثاني : إن ما وقع من البداء في شأنه عليه السلام جعل الله أمه التي هي محل رحمة الله ومستودع سر الله من الإماء بعدما كانت أمهات من سبقه من الحجج والأئمة صلوات الله عليهم من الحرائر ولا شك أنها أشرف وأنسب لشأن الإمام عليه السلام وما هذا التغيير إلا لأمر عظيم وسر مكتوم إلا من أهله , وهو أن الإمام عليه السلام يجب في الحكمة أن تكون أصلابه شامخة ولا يدانيه نسب ولا يشبهه حسب في الأمهات والأرحام تقتضي الحكمة طهارتها بحيث لا يكون أطهر منها في عصرها في إيمانها وعفافها وإطاعتها لزوجها ومحبتها للحق وأهله وبغضها للباطل وأهله , فبهذه الخصلة تستأهل أن تجعل محطاً للأنوار العلوية ومنزلا للكواكب القدسية العلوية , فسائر جهات الشرافة بكلها بدون هذه الخصلة أو بنقص فيها لا توجب لمحلها أهلية لهذا الفيض الإلهي والشأن العلي البهي وإن كانت معه تزيد شرفا على شرف وفضلا فوق فضل .
ولا ريب أنها كانت أمها حميدة البربرية حائزة لتلك الفضيلة مع ما هي عليه من بارع الحسن والأخلاق الجميلة فمن ذلك فازت بهذه الرتبة الرفيعة الجليلة , وكانت مصونة محفوظة بعين الله سبحانه أن تنال بسوء الأيدي والأنظار , ووديعة من يد إلى أن أديت إلى أهلها وخير محل وقرار , وذلك ما روي في الكافي عن عيسى عن أبيه عبد الرحمن قال دخل ابن عكاشة بن محصن الأسدي على أبي جعفر عليه السلام وكان أبو عبد الله عليه السلام قائماً عنده فقدم إليه عنباً , فقال : ” حبة حبة يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير , وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع , وكله حبتين حبتين فإنه يستحب ,
فقال لأبي جعفر عليه السلام : لأي شيء لا تزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج ,قال : وبين يديه صرة مختومة , فقال : أما إنه سيجيء نخاس من أهل بربر فينزل دار ميمون فنشتري له بهذه الصرة جارية , قال : فأتى لذلك ما أتى فدخلنا يوماً على أبي جعفر عليه السلام فقال : ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية , قال : فأتينا النخاس فقال : قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى , قلنا : فأخرجهما حتى ننظر إليهما , فأخرجهما فقلنا : بكم تبيعنا هذه المتماثلة , قال : بسبعين ديناراً , قلنا : أحسن , قال : لا أنقص من سبعين ديناراً , قلنا : نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها , وكان عنده أبيض الرأس واللحية قال : فكوا وزنوا , فقال : النخاس لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين ديناراً لم أبايعكم , فقال الشيخ : أدنوا , فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص , فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر عليه السلام وجعفر عليه السلام قائماً عنده فأخبرنا أبا جعفر عليه السلام بما كان فحمد الله وأثنى عليه ,
ثم قال لها : ما اسمك , قالت : حميدة , فقال حميدةٌ في الدنيا محمودةٌ في الآخرة , أخبريني عنك أبكرٌ أنت أم ثيبٌ , قالت : بكر , قال : وكيف , ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلا أفسدوه , فقالت : قد كان يجيئني ويقعد مني مقعد الرجل من المرأة فليسلط الله عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني , ففعل بي مراراً وفعل الشيخ به مراراً , فقال : يا جعفر خذها إليك فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر عليهما السلام “[۱۵] .
قوله عليه السلام في حقها ” حميدةٌ في الدنيا ومحمودةٌ في الآخرة ” يشير إلى اعتدال حالها وحسن جمالها خلقاً وخُلقاً , وقوة كمالها ديناً ويقيناً .
ثم استفهامه عليه السلام عن نفسها ” أبكرٌ أنت أم ثيبٌ ” وهو أعلم بها منها ليس إلا لإظهار حالها لمن حضر وغيرهم بأنها محفوظة بعناية الله عن كل قاصدٍ لها بسوء قد وكل عليها ذلك الشخص أبيض الرأس واللحية يحضر عند رأسها عند الحاجة أو كان معها إلى أن يوصلها إلى أهلها , وما كان من قوله ” فكوا وزنوا ” وقوله ” ادنوا ” بعد قول النخاس (( لا تفكوا )) يدل على علمه بما كان في الصرة وأنه يطابق على ما يريد النخاس , ويوشك أن يكون ذلك الشخص ملكاً مأمور بهذا مقر في خدمتها إلى أن تبلغ غايتها إلا أنه من أمثال أهل التجارة والمعاملة وهو ما في الكافي عن المعلى ابن خنيس أن أبا عبد الله عليه السلام قال ” حميدة مصفاة عن الأدناس كسبيكة الذهب ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي كرامة من الله والحجة من بعدي “[۱۶] .
فظهر من ذلك جلالة شأنها أنها حائزة من جهات الكمالات والفضائل ما استحقت به لرتبة الأمومة للإمام عليه السلام وإن كانت أم ولد , ورجحت على سائر نساء عصرها ولو كن حرائر , وهذا أمر ظهر وأحدث فيه ما سبقه سابق ممن تقدم من الأمة عليهم السلام , إذ كان في قضائه سبحانه أن تكون أمهات الأئمة عليهم السلام حرائر وبنات مهائر إذ كن أشرف من غيرهن ما دمن حافظات للعهد والميثاق , قائمات على ما هن عليه من الموالاة والمعاداة , وهذا نعمة من الله سبحانه من بها على الحرائر وشرفهن بهذا التشريف المنيف , فلما غيرن ما بهن من حفظ العهود والقيام على حدود محبتهم وولايتهم بدا لله سبحانه أن يغير ما عليهن من نعمة ويستبدل قوماً غيرهن من الإماء والموالي , فصار ذلك في شأن أبي الحسن الماضي موسى عليه السلام دون من سبقه منهم عليهم السلام , وهو قوله سبحانه (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [۱۷], وقوله ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [۱۸] وكذلك البداء في شأن من بعده من الأئمة الخمسة عليهم السلام من غبر تفاوت تقريبا ودليلا حذو القذة بالقذة لأن أمهاتهم أمهات ولد مثله .
فأم الرضا عليه السلام نجمة المكناة بأم البنين نوبية كانت في عصرها معروفة بالزهد والتقوى وحسن الجمال والأدب اشترتها حميدة أم موسى عليه السلام لتفسها فأمرها النبي صلى الله عليه وآله في المنام أن تعطيها له وأخبرها أنها يولد منها الرضا عليه السلام , وفي الأخرى أن الإمام عليه السلام هو الذي اشتراها لنفسه .
وأم أبي جعفر الجواد عليه السلام جارية نوبية من أهل بيت مارية القبطية أم إبراهيم , كانت سميت بعدة أسماء خيزران لنعومة جسدها ورشاقة قامتها , وريحانة لطيب نكهتها , ودرة لصفاء لونها وبياض وجهها وجبينها , وقد بلغها موسى عليه السلام بين يد بن سليط وهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقها وحق ابنها ” بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة الفم المنتجبة الرحم “[۱۹] .
وأم أبي الحسن الهادي عليه السلام جارية مغربية اسمها درة وسوسن وسمانة لصفاء لونها ورقة جلدها وبياض جبهتها وطيب رائحتها ونكهتها وسمنها , كانت معروفة بالكمال صورة ومعنى خلقا وخلقا , وكانت صائمة في أكثر أيامها مشهورة بالتقوى والزهد .
وأم أبي الحسن العسكري عليه السلام كانت من بنات الملوك ذات جمال وأدب وكمال صورة ومعنى نقية تقية اسمها حديث وسمانة وكنيتها أم الحسن .
وأم الحجة عجل الله فرجه وعليه السلام اسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر الروم وينتهي نسبها إلى شمعون ابن حمون الصفا وصي عيسى عليهما السلام خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله من عيسى وقال لشمعون قد جاءك الخير صل رحمك برحم رسول الله فعقدها من أبي محمد الحسن ابن علي عليهم السلام , ثم خرجت في طائفة من جواريها مع سرية بعثها أبوها إلى المسلمين بأمر بعلها عليه السلام , فأخذهن طلائع جيش المسلمين وقسموهن وسألوها عن اسمها قالت نرجس , وكانت محفوظة بالأملاك مصونة بعين الله إلى أن أديت إلى الهادي عليه السلام فكان من أمرها ما كان إلى أن حملت بالحجة صلوات الله عليه وعجل الله فرجه فسميت بصقيل , وهي التي وردت فيها الروايات أنها سيدة الإماء منها ما في كمال الدين معنعنا عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام قال : ” إن سنن الأنبياء عليهم السلام بما وقع بهم من الغيبيات حادثة في القائم منا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة , قال أبو بصير : فقلت له يا ابن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت ؟ فقال : يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني هذا موسى ابن سيدة الإماء “[۲۰].
وفيه مسنداً عن أبي أحمد بن محمد بن زياد الأزدي قال : سألت سيدي موسى بن جعفر عليهما السلام عن قول الله عز وجل ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [۲۱] فقال : ” النعمة الظاهرة الإمام الظاهر , والباطنة الإمام الغائب , فقلت له : ويكون في الأئمة من يغيب , قال نعم , يغيب عن أبصار الناس شخصه ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره وهو الثاني عشر منا , يسهل الله له كل عسير ويذلل له كل صعب ويظهر له كنوز الأرض , ويقرب له البعيد ويبير به كل جبار عنيد ويهلك على يده كل شيطان مريد , ذلك ابن سيدة الإماء الذي تخفى على الناس ولادته ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره الله عز وجل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا “[۲۲].
وغيرهما في ذلك كثير , بل كثير منها نص في أنها كل من أمهات الأئمة الستة سيدة إماء عصرها وخيره منها ولا يشبهها ولا يدانيها غيرها من الإماء , إنما أعرضت عنها خوفا من التطويل ولوضوح السبيل بصريح العقل خالياً عن شوب قال وقيل والأمر واضح بعون الله , إلا أنه يمكن أن يقول قائل : إن أم علي بن الحسين عليهما السلام شهربانويه بنت يزدجرد كانت أم ولد أسرها مع أختها جيش الإسلام لما فتحوا المدائن كما ذهب إليه ابن إدريس وتبعه بعض استنادا منهم على ما رواه في الكافي مسنداً عن جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قال :
” لما أقدمت بنت يزدجرد على عمر أشرف لها عذارى المدينة وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته , فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت : أف بيروج بادا هرمز , فقال عمر : أتشتمني هذه وهم بها , فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ليس ذلك لك خيرها رجلا من المسلمين واحسبها بفيئه , فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين عليه السلام , فقال لها أمير المؤمنين : ما اسمك فقالت : جهان شاه , فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام : بل شهربانويه , ثم قال للحسين عليه السلام : يا أبا عبد الله لتلدن لك منها خير أهل الأرض , فولدت علي بن الحسين عليهما السلام , وكان يقال لعلي ابن الحسين عليهما السلام ابن الخيرتين , فخيرة الله من العرب هاشم ومن العجم فارس “[۲۳] .
فالرواية ظاهرة في ما ذكر من كونها سبيه من السبايا حسبت من فيء الحسين عليه السلام بعدما اختارته , فيلزمه أن يكون علي بن الحسين عليهما السلام ممن بدا في شأنه بهذا المعنى , ولم يذكر ذلك في رواية ولا في زيادة ولا ذهب إليه ذاهب , نعم ما نقله في البحار نص في كونها حرة قد زوجت من الحسين عليه السلام بعقد بولاية أمير المؤمنين عليه السلام , وذلك قال محمد بن جرير الطبري (( لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل الرجال عبيدا ,
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : أكرموا كريم كل قوم , فقال عمر : قد سمعته يقول إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم , فقال أمير المؤمنين عليه السلام : هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام ولا بد أن يكون لي فيهم ذرية وأنا أشهد الله وأشهدكم أني قد عتقت نصيبي منهم لوجه الله , فقال جميع بني هاشم : قد وهبنا حقنا أيضا لك , فقال : اللهم اشهد أني قد أعتقت ما وهبوا لي لوجه الله , فقال المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله , فقال : اللهم اشهد أنهم قد وهبوا إلي حقهم وقبلته , وأشهدك أني قد أعتقتهم لوجهك ,
فقال عمر : لم نقضت علي عزمي في الأعاجم ؟ وما الذي رغبك عن رأيي فيهم , فأعاد عليه ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله في إكرام الكرماء , فقال عمر : قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصني وسائر ما لم يوهب لك , فقال أمير المؤمنين : اللهم اشهد على ما قالوه وعلى عتقي إياهم , فرغب جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء , فقال أمير المؤمنين عليه السلام هن لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن ما اخترنه عمل , فأشار جماعة إلى شهربانويه بنت كسرى فخيرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور فقيل لها من تختارين من خطابك وهل أنت ممن تريدين بعلا , فسكتت ,
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : قد أرادت وبقي الاختيار , فقال عمر : وما علمك بإرادتها البعل , فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا أتته كريمة قوم لا ولي لها وقد خطبت يأمر أن يقال لها أن رضية بالبعل فإن استحيت وسكتت جعل إذنها صماتها وأمر بتزويجها , وإن قالت لا لم يكرهها على ما تختاره , وإن شهربانويه أريت الخطاب فأومأت بيدها واختارت الحسين بن علي عليهما السلام , فأعيد القول عليها في التخيير فأشارت بيدها وقالت بلغتها : هذا إن كنت مخيرة , وجعلت أمير المؤمنين عليه السلام وليها , وتكلم حذيفة بالخطبة , فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ما اسمك , فقالت : شاه زنان بنت كسرى , قال أمير المؤمنين عليه السلام : أنت شهربانويه وأختك مرواريد بنت كسرى , قالت : آريه “[۲۴].
وهذا كما ترى صريح في المدعى لا سيما قوله عليه السلام في كل مرة (( اشهد )) ثم يعتق ما وهب له , إذ هو يدل على أنه أمر مهم لا ينبغي إهماله ولا بد من الاعتناء به والاهتمام له نقضا لما كان عزم الرجل في شأن الأعاجم من استرقاق رجالهم وكونهم عبيدا للعرب يحملونهم على أكتافهم ويطوفون بهم حول البيت وقت الطواف كما يدل على ذلك من سوء عزمه فيهم ما كتبه في صحيفة إلى معاوية يظهر فيها بواطن أمره ومكنون سره ويحثه ويحرضه على إمضاء ما كتب وإجراء ما ندب , وكتب أنه ما تمكن من بلوغ مقاصده وحيل بينه وبين ما يشتهي , منها ما ذكر من أمر الأعاجم , ومنها استئصال أهل بيت النبوة , ومنها رد الناس إلى دينهم الأول من عبادة الأصنام , وغيرها ما خالص الإلحاد وصرف الزندقة , وهذه الصحيفة أقوى شيء .
يعضد ما في البحار مع ما هو عليه من الاشتهار عند الفرقة في الأعصار والأمصار , ويمكن يرد ما في الكافي إليه بغير تنافر بأنه ساكت عن ما جرى التفضيل في الأول , وإنما المقصود وصف شهربانويه بضوء جمالها وعفتها حيث غطت وجهها حين نظر إليها وقالت ما قالت , والذي يظهر من التنافي بين هذا والخبر الآخر إنما هو من قوله (( احسبها بفيئه )) الظاهر في بقائها على الرقية , مع أنه في نسخة أخرى قد ضبط ((احسبها بغية )) يعني باختيارها البعل ورضاها , فإذا لا يتنافى في ما ذكر تفصيل الاختيار في رواية البحار فثبت كونها حرة كأمهات سائر الأئمة عليهم السلام إلى الكاظم عليه السلام , فيصير البداء بهذا المعنى من كون أمهاتهم أمهات ولد خاصاً له ولمن بعده من الأئمة عليهم السلام , فلا تنافي في البين ولا إشكال في صحة هذا المعنى من البداء لكونه شأنا من شئونهم خافياً في الأنظار لما في خفائه من مصلحة , فتعلق في ذلك الإرادة ثم أظهر ما كان مخفيا في شأن موسى عليه السلام لمصلحة تقتضيه , وهي أن الكرامة عند الله والشرافة ليس بالحسب والنسب بل إنما هي بالتقوى والأدب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [۲۵] ،
فلا يستعد أحد للكرامة عنده ولا يستأهل النظر إليه بالعناية والحسنى إلا بالعبودية والإخلاص في التوحيد والنبوة والولاية وهو قوله سبحانه (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (۵) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (۶) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (۷) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (۸) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (۹) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (۱۰)) [۲۶] ، فما حرمت الحرائر من هذه الكرامة إلا بالتقصير في مراتب التقوى والتصديق بالحسنى وما نالت الإماء بها إلا بخلوص صدقها والوفاء بما أخذ عليها من التقوى والتصديق بالحسنى وهو قوله سبحانه( وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء) [۲۷].
فإن قلت : إن البداء لا يجري ولا يصح في كل ما أخبر الله به وأخبر به أنبياءه وأولياءه إذ كان سبحانه لا يكذب أنبياءه ورسله , فكما أن الأئمة عليهم السلام كانوا أخبر بهم بلسان كل نبي من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين فكذلك أمهاتهم قد أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله ونزل بأسمائهن في الصحيفة إلى فاطمة عليها السلام فلا يصح فيهن البداء كما لا يجوز في أنفسهم وأعيانهم بغير ارتياب , أما النص بأسمائهن وأعيانهن بوحي سماري فهو الذي رواه في الكمال بإسناده إلى أبي نضرة قال :
لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام عند الوفاة دعا ابنه الصادق عليه السلام فعهد إليه عهدا فقال له أخوه زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ” لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين عليهما السلام لرجوت أن لا تكون أتين منكرا , فقال : يا أبا الحسن إن الأمانات ليست بالتمثال ولا العهود بالرسوم وإنما هي أمور سابقة عن حجج الله تبارك وتعالى , ثم دعا بجابر ابن عبد الله فقال : يا جابر حدثنا بما عاينت في الصحيفة ,
فقال له جابر : نعم يا أبا جعفر , دخلت على مولاتي فاطمة عليها السلام لأهنئها بمولود الحسن عليه السلام فإذا هي بصحيفة بيدها من درة بيضاء , فقلت يا سيدة النسوان : ما هذه الصحيفة التي أراها معك , قالت : فيها أسماء الأئمة من ولدي , فقلت لها : ناوليني لأنظر فيها , قالت : يا جابر لولا النهي لكنت أفعل , لكنه نهي أن يمسها إلا نبي أو وصي أو أهل بيت نبي , ولكنه مأذون ذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها , قال جابر : فقرأت فإذا فيها أبو القاسم محمد ابن عبد الله المصطفى أمه آمنة بنت وهب , أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف , أبو محمد الحسن بن علي البر , وأبو عبد الله ابن علي التقي أمهما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله , أبو محمد علي بن الحسين العدل أمه شهربانويه بنت يزدجرد بن شاهنشاه , أبو جعفر محمد بن علي الباقر أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب , أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر , أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة أمه جارية اسمها حميدة , أبو الحسن علي بن موسى الرضا أمه جارية اسمها نجمة , أبو جعفر محمد بن علي الزكي أمه جارية اسمها خيزران , أبو الحسن علي بن محمد الأمين أمه جارة اسمها سوسن , أبو محمد الحسن بن علي الرفيق أمه جارية اسمها سمانة وتكنى بأم الحسن , أبو القاسم محمد بن الحسن هو حجة الله تعالى على خلقه القائم أمه جارية اسمها نرجس صلوات الله عليهم أجمعين “[۲۸] , فبعد هذا التنصيص والإخبار عن الله كيف يصح فيه البداء .
قلت أولا : إن هذه الرواية فيها دلالة واضحة على ما اخترناه في جمع خبري الكافي والبحار من أن شهربانويه بنت يزدجرد كانت حرة عتقها أمير المؤمنين عليه السلام على ما سبق من التفصيل لا أنها أم ولد كما توهمه بعض , لأن في كل أمهات الأئمة الستة كانت بعبارة جارية وفي السبعة السابقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله أمهاتهم مذكورة بأسمائها من غير لفظ جارية ومن جملتها شهربانويه أم علي بن الحسين عليهم السلام , ولا شك أنها حالها كحال من ذكرت معها في الحرية .
وثانيا : ما أخبر الله به منه محتوم وهو ما لا تتم نعمة الخلق وكمال الدين إلا به وبدونه يقبح التكليف وتفقد الاستطاعة التي هي شرط التكليف , فبدونها إما تكليف بما لا يطاق أو إلزام للغافل مطلقا , فذلك مما اقتضت حكمته وجوده وتحتمه إذ هو لطف محض وفضل وإحسان كوجود الحجج والأئمة صلوات الله عليهم إذ هم الفضل والرحمة في قوله سبحانه (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ) [۲۹] وهم أصل كل خير لا يوجد إلا بهم ( إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه )[۳۰] ,
ووجود الجنة ودرجاتها والنار ودركاتها مما أخبر به الأنبياء ترغيبا للمطيعين وترهيبا للعاصين , وأمثالها مما له مدخلية لتتميم الاستطاعة والاختيار كلها من المحتومات لا يجوز فيها البداء كما مر فيما تكلم به سلمان صلوات الله على سلمان مع ابن صوريا عالم اليهود فراجع , ومنه مشروط وجد شرطه بغير مانع يمنعه فذلك أيضا من المحتوم وهو الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون , أو لم يوجد وهو من الأمور الغيبية يخفى على المشاعر والحواس إدراكه , فما أخبر به سبحانه فهو الذي يوجد مقتضيه ويتحقق شرطه فما لم يوجد ولا يوجد لا يخبر به صونا لأنبيائه وأوليائه من تكذيب الجهال والكفار وتشنيعهم وردهم على الله بما يردون على حججه عليهم السلام , وذلك أيضا مما وقع فيه البداء المعروف لكان نقصا للحكمة البالغة , ومنه مشروط بأمور ظاهرية من عالم الشهادة يدركها كل من له أدني تمييز ومسكة أن لا تسبقه شبهة فذلك مما يجوز فيه البداء والإخبار به إما يقع على ما لم يتغير ثم غير بالبداء , وذلك ما تقدم من الأمثال حيث أخبروا بالموت ثم بدا له بالدفع بالصدقة أو الدعاء أو على ما تغير بالبداء .
والذي وقع في أمهات الأئمة الستة عليهم السلام من كونها أمهات ولد من هذا القبيل إذ كان يعلم ما يؤول إليه الأمر باختيارهم وتغيير ما بأنفسهم فأخبر بما يكون من كونها أمهات ولد وينتقل إليه بسوء اختيار المكلفين فأخبر به قبل وتغييره عالما بأنه يغير كما أخبر الأول أنه يموت وهو يعلم أنه لا يموت لما يبدو له , ولا يبدل كل هذا إلا لمصالح عنده وأن لا ييئس أحد من روحه ولا يأمن من مكره ولا يركن إلى عطاء ولا ييئس منه في بلاء , لئلا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا من فضله ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) [۳۱] ثم إنه قد ذكروا هنا وجودها للبداء و تخلو عن تكلف فرأينا الإعراض منه أولى والتعرض للأهم أحق وأحرى .
—————–
[۱] الكافي ۴/ ۵۷۵ – التهذيب ۶/ ۶۷
[۲] الكافي / ۳۸۶ ح ۱
[۳] سورة التوبة ، الآية : ۱۱۵
[۴] كمال الدين ۶۹
[۵] الكافي ۲/۹۲ ح ۱۶
[۶] رجال الكشي ۲۱۸
[۷] الكافي ۱/ ۳۲۷ ح ۱۰
[۸] الكافي ۱/ ۳۲۶ ح ۴
[۹] سورة الأنفال ، الآية : ۴۲
[۱۰] سورة النساء ، الآية : ۵۸
[۱۱] سورة البقرة ، الآية :۱۴۰
[۱۲] الكافي ۱/ ۳۱۳ ح ۱۴
[۱۳] سورة التوبة ، الآية : ۳۲
[۱۴] سورة آل عمران ، الآية : ۱۷۹
[۱۵] الكافي ۱/ ۴۷۶ ح۱
[۱۶] الكافي ۱/ ۴۷۷ ح۲
[۱۷] سورة الأنفال ، الآية : ۵۳
[۱۸] سورة محمد ، الآية : ۳۸
[۱۹] الكافي ۱/ ۳۲۳ ح۱۴
[۲۰] كمال الدين ۳۴۵
[۲۱] سورة لقمان ، الآية : ۲۰
[۲۲] كمال الدين ۳۶۹
[۲۳] الكافي ۱/ ۴۶۶ ح۱
[۲۴] البحار ۴۶ / ۵۱ ح ۳۳
[۲۵] سورة الحجرات ، الآية : ۱۳
[۲۶] سورة الليل ، الآيات : ۵- ۱۰
[۲۷] سورة آل عمران ، الآية : ۲۶
[۲۸] كمال الدين ۳۰۶- ۳۰۷
[۲۹] سورة النور ، الآية : ۲۱
[۳۰] سورة الأنعام ، الآية : ۱۵۳
الكاتب: الميرزا محمد باقر الحائري