- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
في كل عام وفي ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) تطرح عدة أسئلة، منها: ما هو السبب من تخلف ابن عباس عن ركب الإمام الحسين (ع)؟ ولا شك ولا ريب أن هناك سبب أو أسباب منعت ابن عباس من الالتحاق بركب الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، وهذا يتضح من خلال البحث الآتي.
سبب تخلّف ابن عباس عن ركب الإمام الحسين (ع)
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمة أهل البيت الاثني عشر (ع) من بعد رسول الله (ص) عـارفاً بحقهم، موقناً بأن نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض الصلاة والزكاة.
وكانت سيرته مع الامام أمير المؤمنين والامام الحسن والامام الحسين (ع) الكاشفة عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة، وكان (رض) لا يتردد في إظهار اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والإنقياد لهم والإمتثال لأمرهم.
ومن جميل ما يُروى في ذلك أن مُدرك بن زیاد اعترض علی ابن عباس حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسين (ع) بالركاب وسوى عليهما:
«قائلاً: أنت أسنُ منهما تمسك لهما بالركاب!؟
فقال: يالكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله (ص)، أو ليس مما أنعم الله به عليّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما!؟»[1].
وكان ابن عباس (رض) قد حفظ ما سمع من رسول الله (ص) ومن أمير المؤمنين علي (ع) ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين (ع)، والارض التي يقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلاً: «كنت مع أمير المؤمنين (ع) في خرجته الى صفين، فلما نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلا صوته: يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع ؟
قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!
فقال (ع): لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي!
قال: فبكى طويلاً حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً وهو يقول: أوه أوه، مالي ولآل أبي سفيان؟ مالي ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر !؟ صبراً يا أبا عبدالله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم»[2].
وكان ابن عباس (رض) يقول: «ما كنا نشك، وأهل البيت متوافرون، أن الحسين بن علي يُقتل بالطف»![3].
إذن لِم لَم يلتحق ابن عباس (رض) بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين (ع) وبشرف الشهادة بين يديه!؟
هل أثّاقل الى الارض وآثر الدنيا على الآخرة بعد عمر شريف عامر بالجهاد ونصرة الحق!؟
إن العارف بسيرة ابن عباس (رض) قد يرفض حتى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عباس هو القائل في محاورته الأولى مع الإمام الحسين (ع) في مكة في شعبان سنة ٦٠ للهجرة:
«جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنك تريدني إلى نفسك، وتريد مني أن أنصرك، والله الذي لا إله إلا هو أن لو ضربت بين يديك بسيفي هذا حتى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفي من حقك عشر العشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك».
إذن هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة!؟
إذا علمنا أن ابن عباس (رض) توفي سنة ٦٨ للهجرة أو ٦٩ وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون[4]، أدركنا أنّ عمره سنة ٦٠ للهجرة كان إثنين وستين
عاماً أو ثلاثة وستين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين (ع) بحوالي خمسة أعوام، إذن فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام (ع) من حيث السلامة البدنية، خصوصاً وأنه لم يُرو أن ابن عباس كان مريضاً آنذاك كما روي بصدد محمد بن الحنفية (رض) مثلاً.
فما هي علة تخلف ابن عباس إذن!؟
لعل المتأمل في موضوع علة عدم التحاق ابن عباس (رض) بالامام (ع) في نهضته المقدّسة يلاحظ – قبل الوصول الى الجواب – نقطتين مهمتين تساعدان على الإطمئنان أنه كان معذوراً، وهما:
1ـ في جميع ما روي من لقاءات ومحاورات ابن عباس مع الامام الحسين (ع) في مكة سنة ستين للهجرة، لا يجد المتتبع أن الإمام (ع) قد دعا ابن عباس دعوة مباشرة الى نصرته كما صنع مثلاً مع ابن عمر، وحتى حينما قال الإمام (ع) في محاورته الأولى مع ابن عباس وابن عمر:
«اللهم اشهد» أدرك ابن عباس مغزى قول الإمام (ع)، وبادر الى اظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الامام (ع)، وعدا هذا لايجد المتتبع أية إشارة من قريب أو بعيد مؤداها أن الإمام (ع) قد دعا ابن عباس الى نصرته.
2ـ لم نعثر ـ حسب تتبعنا ـ على نص تأريخي عن أئمة أهل البيت (ع) يفيد أن ابن عباس كان مقصراً و ملوماً ومداناً على عدم إلتحاقه بالإمام الحسين (ع)، بل لم نعثر على نص تأريخي عام يشير الى إدانته[5] سوى هذا النص الذي نقله ابن شهر آشوب مرسلاً:
«وعُنف ابن عباس على تركه الحسين فقال: إن أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم!»[6].
ويظهر من هذا النص أن ابن عباس لم يكن معذوراً في تركه الإمام (ع)، لكن إرسال هذا الخبر، ومجهولية المُعنف، ومعلومية ولاء ابن عباس (رض) لأهل البيت (ع)، كل ذلك يفرض عدم الإطمئنان الى صدر هذا الخبر، أي «وعنف ابن عباس!».
بعد هذا، ينبغي أن نذكر: بأن ابن عباس قد كُفَّ بصره آخر عمره، وهذا متفق عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كفّ بصره[7]، وتعبير كف بصره مشعر بأن الضعف كان قد دبّ الى بصره حتى استفحل عليه فكفه عن رؤية الأشياء، ولعل هذا الضعف كان قد دبّ الى بصره منذ أيام معاوية، (ويحتمل أن بصر ابن عباس قد كُفَّ أواخر سنين معاوية)، هذا ما يُشعر به قول ابن قتيبة في المعارف حيث يقول:
«ثلاثة مكافيف في نسق: عبدالله بن عباس، وأبوه العباس بن عبدالمطلب، وأبوه عبد المطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تُصابون في بصائركم!»[8].
فلولا أن بصر ابن عباس (رض) كان قد ضعف جداً أو قد كف بصره آنذاك لما كان لقول معاوية مناسبة ولا داع.
ويقول مسروق: «كنتُ إذا رأيت عبدالله بن عباس قلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن ا الخطاب يقربه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكفّ بصره في آخر عمره»[9].
فإذا علمنا أن مسروقاً هذا قد مات سنة ٦٢ أو ٦٣ للهجرة[10]، أمكن لنا أن نقول: إن ابن عباس كان مكفوفاً قبل سنة ٦٢ أو ٦٣ على الأظهر، هذا على فرض أن عبارة (وكف بصره في آخر عمره) من قول مسروق أيضاً.
وهناك رواية يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أن ابن عباس (رض) كان ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستين للهجرة، في الأيام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسين (ع) وقد وصل بعد إلى أهل المدينة المنورة.
هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي (ره) في أماليه بسند الى سعيد بن جبير ـ وهو الذي كان يقود ابن عباس بعد أن كُفَّ بصره ـ، عن عبدالله بن عباس قال: «بينا أنا راقد في منزلي، إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أم سلمة زوج النبي (ص)، فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها.
وأقبل أهل المدينة اليها الرجال والنساء، فلما انتهيتُ إليها قلت: يا أم المؤمنين ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يا بنات عبدالمطلب، أسعدنني وابكين معي، فقد واللهِ قُتل سيّدكُن وسيّد شباب أهل الجنة، وقد والله قتل سبط رسول الله وريحانته الحسين.
فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله (ص) في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.
قالت: فقمتُ حتى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرت فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال: إذا صارت هذه التربة دماً فقد قتل ابنك! وأعطانيها النبي (ص) فقال : إجعلي هذه التربة في زجاجة ـ أو قال في قارورة ـ ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين. فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.
قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين (ع)، فجاءت الركبان بخبره، وأنه قد قتل في ذلك اليوم…»[11].
فقول ابن عباس (رض): «فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها» كاشف – على الأقوى ـ عن مكفوفية بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جداً في بصره)، لحاجته الى قائد يقوده هو وليس الى قائد يقود دابته – كما قد يُحتمل ـ وذلك لقرب المسافة، بدليل أنه سمع الصراخ بإذنيه وشخص أن الصراخ كان ينبعث من بيت أم سلمة (رض).
مما مضى نكاد نطمئن الى أن ابن عباس (رض) كان يعاني من ضعف شديد في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستين للهجرة ـ وبالذات في الايام التي كان فيها الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة ـ الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الإلتحاق بالامام (ع) والجهاد بين يديه، فكان (رض) معذوراً، ولعلّ هذا هو السر في عدم دعوة الإمام (ع) إياه للإنضمام إليه، وترخيصه إياه في العودة الى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأموية والناس فيها حيث يقول (ع):
«يا ابن عباس، إنك ابن عم والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامض الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخف عليّ شيء من أخبارك…[12].
ولا يقدح بما نطمئن إليه ما أورده المسعودي في مروج الذهب حيث يقول في ابن عباس (رض): «وكان قد ذهب بصره لبكائه عـلـى عـلـي والحسن والحسين..»[13]، إذ لا يستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسين (ع)، بل الظاهر من هذا النص أن الذي سبب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد امير المؤمنين علي والحسن والحسين (ع).
ومؤدى ذلك أن الضعف قد دبّ الى بصره لكثرة بكائه منذ أيام فقده لأمير المؤمنين (ع) ثم لفقده الحسن ، ثم الحسين (ع)، ولا يخفى أن ابن عباس (رض) كان يبكي بكاءً شديداً للحسين (ع) وهو بعد لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الامام (ع) من شديد المحنة ولعلمه بمصيره والدلائل التأريخية على ذلك كثيرة متوافرة.
رسائل ابن عباس (رض) إلى يزيد
تروي لنا بعض كتب التأريخ أنّ الامام الحسين (ع) لما نزل مكة كتب يزيد بن معاوية الى ابن عباس رسالة طلب اليه فيها أن يتوسط في الأمر ليثني الامام الحسين (ع) عن عزمه على القيام والخروج على الحكم الأموي، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيوية ما يتناسب وضعف نفسيته هو! ـ أي يزيد -.
وتقول هذه المصادر التأريخية فكتب إليه ابن عباس: أما بعد: «فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة، فأما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لافك الله أسيرها، فآرأ في أمره ما أنت رائه.
وأما الحسين فإنه لما نزل مكة وترك حرم جده ومنازل آبائه سألته عن مقدمه: فأخبرني أن عُمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل الى حرم الله مستجيراً به وسألقاه فيما أشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفيء به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمة، فاتق الله في السر والعلانية، ولا تبيتن ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولاترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمل أملاً لم يُؤتَ أمله، وخُذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإن كل ما شغلت به عن الله يضرّ ويفني، وكل ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام»[14].
وقد روى المزي جواب ابن عباس مختصراً هكذا: «فكتب إليه عبدالله بن عباس: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة ويُطفيء به الثائرة»[15].
ويبدو من نص هذه الرسالة – جواب ابن عباس – على فرض صحة الرواية أن هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عباس مع الإمام الحسين (ع) في مكة لقاءه الأول الذي عاد بعده الى المدينة بعد الفراغ من العمرة.
كما يُستفاد من نصها أن ابن عباس قبل القيام بدور الوساطة بين الإمام (ع) وبين يزيد! كما يظهر من نصها أيضاً أن ابن عباس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع حتى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!
والعارف بعبد الله بن العباس (رض)، وبولائه لأئمة أهل البيت (ع) وبجرأته الدَّوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيته في المحاماة عنهم في محاوراته مع رجال بني أمية، لا يستبعد أن يكون نص هذه الرسالة – جواب ابن عباس ـ من إنشاء الواقدي نفسه الذي يرويها (ونقلها عنه سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص)، ذلك لأن نفس هذا الجواب مغاير تماماً لنفس ابن عباس في مواقفه قبال بني أمية.
ها هو ابن عباس (رض) في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزيــاد بـن سـمية، وعبدالرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدعاءاتهم وبهرهم بالحجة الدامغة، ويقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه:
«مهلاً يزيد، فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، لارضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم، وإن تَدلِ الأيام نستقض ما سُدَّ عنا، ونسترجع ما ابتز منا، كيلاً بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله ولياً لنا، ووكيلاً على المعتدين علينا»[16].
وها هو ابن عباس (رض) يجيب يزيد بقارعة أخرى من قوارعه في رسالة كتبها إليه قائلاً: «من عبدالله بن عباس الى يزيد بن معاوية.
أما بعد: فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إيَّاي الى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك فلستُ حمدك أردتُ ولاوُدَّكَ، ولكن الله بالذي أنوي عليم، وزعمت أنك لست بناسٍ ودّي فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناس عليك وأخذلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن علي!، بفيك الكثكث[17] ولك الأثلب[18] إنك إن تُمنك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك لأنت المفند المهوّر.
لا تحسبني، لا أباً لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرعين في صعيد، مرملين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لامكفنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنشي بهم عرج الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد… .
ثم إنك الكاتب الى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبدالمطلب، أهـل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فنحن أولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره، واستئصال أهل بيته فعدوتم عليهم فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودي ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشأ لايطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنك أن ظفرت بنا اليوم فوالله لنظفر بك يوماً.
فأما ما ذكرت من وفائي، وما زعمت من حقي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعتُ أباك ، وإني لأعلم أن ابني عمّي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعداً على من يجتريء على ظلمنا واستغوى السفهاء علينا، وتولى الأمر دوننا، فبعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذبو المرسلين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهر العجيب، حملك بنات عبدالمطلب، وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنك قهرتنا، وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي أمناً لجرح يدي، إنِّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلا قليلاً، حتى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أباً لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله»[19].
الاستنتاج
لا شك ولا ريب أن ابن عباس (رض) كان عارفا بحق الإمام الحسين (ع) حق معرفته وأن نصرته واجبة ولكن هناك أسباب منعته من الالتحاق بركب الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، منها: أنه كان يعاني من ضعف شديد في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستين للهجرة، الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الإلتحاق بالامام (ع) والجهاد بين يديه، فكان (رض) معذوراً من الالتحاق.
الهوامش
[1] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص400؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج6، ص179.
[2] الصدوق، الأمالي، ص٤٧٨، المجلس ٨٧، الحديث ٥.
[3] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص179.
[4] راجع: الكشي، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص272، ابن الأثير، أسد الغابة، ج3، ص195.
[5] بل ورد عن الإمام الصادق (ع): ان الامام الباقر كان يحبه حباً شديداً، اُنظر: الكشي، اختيار معرفة الرجال، ص٥٧، الرقم ١٠٧.
[6] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص53.
[7] المامقاني، تنقيح المقال، ج2، ص19.
[8] ابن قتيبة، المعارف، ص589.
[9] الكشي، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص272؛ والمامقاني، تنقيح المقال، ج2، ص191.
[10] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص68.
[11] الطوسي، الأمالي، ص٣١٤، المجلس١١، الحديث٦٤٠.
[12] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج5، ص27؛ والخوارزمي، مقتل الحسين، ج1، ص281.
[13] المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص108.
[14] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص٢١٦.
[15] المزّي، تهذيب الكمال، ج4، ص92.
[16] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص302.
[17] بفيك الكثكث: أي بفمك التراب والحجارة (راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص179).
[18] ولك الأئلب: كناية عن الخيبة، والأثلب أيضاً معناه التراب والحجارة (راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج1، ص242).
[19] اليعقوبي، تأريخ اليعقوبي، ج2، ص248.
مصادر البحث
1ـ ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1378 ه.
2ـ ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأولى، 1411 هـ.
3ـ ابن الأثير، علي، أسد الغابة، بيروت، دار الفكر، طبعة 1409 ه.
4ـ ابن الجوزي، يوسف، تذكرة الخواص، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأولى، 1418 هـ.
5ـ ابن خلكان، أحمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأولى، بلا تاريخ.
6ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 هـ.
7ـ ابن قتيبة، عبد الله، المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
8ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه.
9ـ الحاكم النيسابوري، محمد، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار التأصيل، طبعة 1435 هـ.
10ـ الخوارزمي، الموفّق، مقتل الحسين (ع)، تحقيق محمّد السماوي، قم، أنوار الهدى، الطبعة الثانية، 1423 ه.
11ـ الذهبي، محمّد، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413 هـ.
12ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
13ـ الطوسي، محمّد، الأمالي، قم، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 1414 هـ.
14ـ الكشي، محمد، اختيار معرفة الرجال، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الأولى، 1348 ش.
15ـ المامقاني، عبد الله، تنقيح المقال في علم الرجال، تحقيق محيي الدين، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1423 ه.
16ـ المزّي، يوسف، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
17ـ المسعودي، علي، مروج الذهب ومعدن الجوهر، قم، دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1404 ه.
18ـ اليعقوبي، أحمد، تأريخ اليعقوبي، بيروت، دار صادر، بلا تاريخ.
مصدر المقالة
الشاوي، علي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، قم، مركز الدراسات الإسلامية، طبعة 1421 هـ.
مع تصرف بسيط