- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .
لقد تعلمنا من مدرسة القرآن مبدأ الاعتبار بتاريخ الأمم والحضارات، بكل ما فيه من نجاح أو إخفاق، حتى نكون بمأمن من الإنحدار والسقوط، وحتى تبقى حركة الإسلام العالمية متوثبة بالصعود التكاملي نحو غاية الغايات بتمكين الدين وتثبيت خلافة الأنبياء ليكون الحكم كله لله في الأرض وفي السماء .
إننا نعتقد أن الماضي لم يندثر، فإن دورة الزمان تتكرر، ونحن كجزء من هذه الدورة أمام خيارين، إما أن نكون الأداة العمياء والآلة وإما أن نكون المحرّك.
ويأبى الله سبحانه لنا ورسوله ومهمات العقيدة إلا أن نحمل الأمانة بجدارةٍ وكفاءة فنطهّر الأرض ونطوّع التاريخ لتتم النعمة الكبرى على الإنسان في ظل الدولة الإلهية العادلة .
وطريقنا في ذلك كله أن يكون البعد الإنساني محوراً لأوجه تفاعلنا بموضوع الاستفادة من عطاء التاريخ أسلوباً وهدفاً … وقد كانت مهمة بعث الأنبياء لتنوير كامل المساحة الإنسانية بالحق والخير والعدل والهداية والسلام، وقد عصمهم الله سبحانه وتعالى ليعصم الوجود بهم من كل دنس، وليكمل الحياة بهم من كل نقص وليطهّر الناس بهم من كل فساد، فكانوا كما أراد الله لهم أن يكونوا أسوة حسنة وقدرة كاملة لتُصنع الدنيا بأسرها على صورتهم النقية ومثالهم الجميل .
[ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ].
إن الإنسان المسلم مطالب اليوم بمضاعفة جهوده وجهاده ليتواصل ويلتحم في موكب الأنبياء الذين كتبوا تاريخهم المشرق بالعمل وليس بالشعارات، وبالدم وليس بالخطب الجوفاء، حتى انبلج الفجر من أصابعهم، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وداسوا تحت أقدامهم تيجان الجبابرة وعروش الطغاة، وأحلوا محلها محراب الإيمان وقبلة التوحيد، وعلّمونا كيف يكون الماضي والحاضر والمستقبل كله لله، وليس علينا إلا أن نصغي جيداً إلى القرآن الكريم ونقبل بمشاعرنا وأحاسيسنا إلى تلك الثروة الهائلة فيه فنمعن النظر في هذا الرصيد الغني من الأمثال والسنن والعبر والقصص التي مرت في حياة الأمم السالفة، فنشد بها عزيمتنا ونصلح بها ما فسد من أمرنا ونوطد بها قوتنا مهما كثرت من حولنا الأراجيف وتداعى علينا الظالمون …
[ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ] .
والثابت من القانون الإلهي في رقي الأمم وسعادتها بالحرية والأمن والانتصار، اعتمادها على الإيمان والإخلاص به والثبات عليه وعلى توحيد الكلمة ومبايعة الأنبياءوالأولياء، وعلى الصبر في السرّاء والضراء وعلى التقوى سراً وعلانية وعلى العمل في الليل والنهار، وعلى جهاد الأعداء وعلى التزين بمكارم الأخلاق ومحاسن الطاعات ثم على حب الآخرة والرجاء الدائم للقاء الله .
وقد تنبأ رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله لأمته بالهزيمة والهوان فيما لو وقع الانحراف عن هذه الخصائص، فقال لأصحابه: ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعثها . قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ؟ .
قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن . قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ .
قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) .
إن استلهام الدروس الرسالية من حركة التاريخ يجب أن ترتكز على مفهوم الابتلاء في دار الدنيا وبلورته على أساس اعتباره عنصراً مهماً في حقل الشخصية وتنظيفها، وتفسير ذلك بمثابة الضريبة التي يدفعها الإنسان طائعاً مختاراً ثمناً للحرية والاستقلال، ورغبة في نوال الخلود في نعيم الجنة، ومن هذا الابتلاء العسير لذة لا يشعر بها إلا المجاهدون الصابرون الشهداء في معركتهم ضد الطغيان المستعر داخل النفس وخارجها من أجل تأصيل الإيمان وتثبيت جذوره الحية في ضمير الفرد وروح الجماعة …
[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ].
وإذا كان التاريخ يمثّل حفظ مجموعة من تجارب الإنسانية على فترات متباعدة من أجيالها زماناً ومكاناً، فإن لنا في هذا الميراث زاداً شاملاً في تنوعه نأخذ منه كل عناصر التخطيط لمراحل حياتنا الجهادية حاضراً ومستقبلاً في خط ولاية الأنبياء وخصائصها المشرقة .
وليس من الرجعية في حال أن نصوغ كتابة التاريخ من جديد، لنستكمل رؤيتنا في تفسير الكون والوجود والإنسان ولنبعث الحياة في الكون كله بتحريك كل قيمة خيّرة وعادلة، فنعيد إليها اعتبارها الضائع ودورها المفقود .
إن الرجعية التي نأباها ونحاربها هي في الجمود عند كل عادة جاهلية بالية، وهي في التقليد الأعمى لموروثات لا تضر ولا تنفع، وهي في غرور التعصب للباطل وفي الاستكبار العنيد الذي يرفض الاعتراف بالحق الواضح كالشمس، بفعل انغلاق العقل والقلب على ولاية الباطل وولائه المشؤوم الكاذب .
[ بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلِكَ في قريةٍ من نذيرٍ إلا قال مترفوها إنّا وجدنا آباءَنا على أُمّةٍ وإنّا على آثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أُرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذّبين ].
نحن نفهم أن الماضي يؤلف حجارة الأساس لبناء الحاضر، فعلى قدر ما يكون الماضي صلباً يكون الحاضر، وهنا تتجلى مسؤوليتنا في تحويل الخطأ إلى نجاح والضعف إلى قوة والهزيمة إلى انتصار، ولن يتم لنا ذلك إلا بإعادة وصل الأعضاء المقطوعة من جسد التاريخ ليكون وحدة متكاملة تصلح لحركة الارتباط، ولعل في رأس تلك الأعضاء المقطوعة تاريخ الأنبياء وأنصارهم من المؤمنين والمستضعفين في الأرض حيث لا معنى لأي تاريخ بشري يغفل حركة الأنبياء وأهميتها في صنعه وتوجيهه وهذا هو شرطنا للحكم على أي تاريخ بالموت أو بالحياة .
إن الأنبياءعليهم السلام يمثّلون التجسيد الحركي للإرادة الإلهية التي توحي للإنسان بالسير على الخط المستقيم الذي يقوم الأنبياء بدلالة الناس عليه وتوجيههم إليه من خلال وحي الله سبحانه في الأمور كلها ومن خلال حضورهم الدائم الذي يجدد حركتهم في مدى الزمن مع كل جيل، فلا يكونون مجرد أشخاص تاريخيين يعيشون مع الماضي ولا يتذكرهم الحاضر والمستقبل إلا لماماً، بل هم قادة الحياة في كل زمان ومكان، لأنهم يحملون رسالة الله ويعملون بولايته التي هي قضية الحياة المتحركة مع كل خطوات التاريخ الذي صنعوه بجهدهم، وبما كانوا يمثلونه من قمة الإدراك البشري وغاية الحكمة وكمال العقل الفطري السليم …
وإذا كنا نتحرى البحث عن الحقيقة وننشد الواقع الثابت ليسهل علينا الارتباط والتفاعل بتاريخ الأنبياء فإننا لن نجد بين أيدينا تاريخاً صادقاً أصدق من الوحي الإلهي في القرآن المجيد .
[ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ].
فلقد أعطانا الله سبحانه حاجتنا من التاريخ وأعطانا حاجتنا من التشريع في كتاب فُصِّل تفصيلاً بما يُحقق الأهداف المرجوة من عالمية هذه الرسالة وثباتها رغم متغيرات المكان وتفاعلات الزمان .
وإذن … ولكي نستوعب أبعاد المنهج الرسالي في ارتباطنا الحركي بالتاريخ الديني سنحاول أن نكشف ذلك من خلال معرفتنا العامة لبعض خصائص الولاية في حركة الأنبياء كما تُقدّمها القصة القرآنية في حكايتها عن جهادهم ورسالاتهم .
أولاً:
التركيز على وحدة الدين وينابيعه، وذلك أن حركة الأنبياء، نسيج متكامل، وهي تجتمع في سبيكة واحدة وتكوّن تفاصيلها المتباعدة في الزمان والمكان عقيدةً متماسكة هي الإسلام الثابت في جوهره وروحه وإن تغيّرت فصوله بتغيّر الأحداث والأشخاص .
[ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ] .
ثانياً:
إن قصص الأنبياء ليست مجرد تاريخ أو آثار مقدّسة وحسب، وإنما يجب أن نتعامل معها بروح الانتساب إليها باعتبارها الجذور العميقة لمنابع النهر الإسلامي الخالد، ويجب أن نؤمن بها إيمان الاحتضان وباعتبارها من ركائز مكونات شخصيتنا وعناصر نموها الدائم المعطاء .
[ قل أمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ] .
[ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ] .
[ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون ].
[ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ] .
[ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ] .
[ ربي قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ].
وبهذه النظرة الشمولية نبتعد عن التعصب الأعمى لهذا الدين أو ذاك ونتلافى مخاطر الإنقسامات الدينية العامة فضلاً عن المذهبية الخاصة، فنلتقي عند كلمة سواء ألا نعبد إلا الله . وإن هذا التصور النموذجي يغذي منطلقات الإسلام العالمي على أساس التوحيد .
ثالثاً:
إبراز الصورة الحية لهوية الشخصية المؤمنة وتحديد الأسس التي يُبنى عليها مجتمع التقوى الذي يقوده الجهاد ضد الظلم والطغيان، ونصرة المستضعفين والمعذبين في الأرض، إلى جعله قوةً فاعلة في صنع التغيير فلا تستلم ولا ترضخ لأي شكل من أشكال الهيمنة والاستكبار فتكون الحالة الثورية في نشاطها حالة دائمة ومستمرة، وليست مقدمة مرحلية تنتهي عند تحقيق الانتصار في هذه الجهبة أو تلك .
وفي مثل هذا المجتمع يكون التنوع بالمواهب والقدرات والتجارب، كما يكون الاختلاف باللون واللغة والعرف باعثاً على التعارف الهادف، بمعنى التداخل والتلاقح والاشتراك في عمارة الأرض وبناء الإنسان، وفي هذا السبيل لا بد من تجنب القبلية في تقسيم المجتمعات حيث يُلغى التقسيم الجزائي والاقتصادي والسياسي والزماني لمفهوم المجتمع .
[ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ن أكرمكم عند الله أتقاكم ].
رابعاً:
التأكيد على بناء الإنسان العادل الذي يرى في الأنبياء الأسوة الحسنة والدليل على تحقيق المثل العليا في شخوص تتحرك في الحياة بمفهوم التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ والعقيدة، حيث لا يجتمع الإستشهاد مع حب الدنيا وحيث يركلها المجاهد ليتحرر من نارها ومخازيها ..
ولا نجد وصفاً أروع وأدق لهذا الشعور الصادق مما ورد عن عليٍّ عليه السلام حيث يقول: ((ولقد كان في رسول الله(ص) كافٍ لك في الأسوة، ودليلٌ لك على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبِضَتْ عنه أطرافُها، وَوُطِّئَتْ لغيره أكنافُها، وَفُطِمَ عن رضاعها وزُوِيَ عن زخارفها … وإن شئتَ ثَنّيتُ بموسى كليم الله إذ يقول ((ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير)) والله ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بَقْلَةَ الأرض، ولقد كانت خُضرة البقل تُرَى من شفيف صِفَاق بطنه، لهُزاله وَتَشَذُّبِ لحمه .
وإن شئتَ ثلّثتُ بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سَفَائِفَ الخُوص بيده، ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها … وإن شئتَ قلتُ في عيسى بن مريم عليه السلام ، فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخَشِن ويأكل الجَشِب وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تُنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يُحزنه، ولا مال يَلفِتُه، ولا طمعٌ يُذِلُّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه)) .
وهنا تبرز خصيصة الثبات واطمئنان القلب عند الأنبياء عليه السلام سيما خاتمهم محمد(ص) الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الماضي والحاضر والمستقبل، ولذلك كان لا بد له أن يصمد وينتصر، ويستعين على صموده وانتصاره بالله سبحانه، وبتجربة إخوانه الذين سبقوه من الأنبياء فيملك بذلك كل أسباب التوحيد والتحرير ويملك مصادر القرار ومفاتيح القوة في تغيير وجهة الزمان، وإعادة الأرض إلى ورثتها الشرعيين من رجال الله والمستضعفين، وما قوله(ص) يوم نجح في الامتحان الخطير عند المساومة على دينه: ((والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت)) إلا ترجمة صادقة لثبات الفؤاد القوي الراسخ المتين، ولعل في سورة (الكافرون) أكمل دلالة على هذا الموقف الحازم وعلى هذه العزيمة الصلبة التي لا يفلّها الحديد [ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ] .
إن الأمل والثبات ورباطة الجأش والصبر على كريهة الحرب ومخاطر المواجهة والتحدي شروطٌ أساسية في ميزان الانتصار .
وفي وصية الإمام محمد الباقر عليه السلام لجابر الجعفي نقرأ درساً رائعاً في الثقة بالنفس والاطمئنان بهذه الرسالة حيث يقول: ((واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا إنك رجلٌ صالح لم يسرك ذلك ولكن أعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده راغباً في ترغيبه خائفاً من تخويفه، فاثبت وابشر فإنه لا يضرك ما قيل فيك)).
وإن التضلع بأعباء الجهاد وتبليغ الرسالات وتأدية حق ولائها، تبدأ مهمتها من داخل الذات من خلال معرفة النفس، ففي الرواية أن رجلاً دخل على رسول الله(ص) فقال يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال(ص): ((معرفة النفس)).
ومن عرف نفسه فقد عرف ربه … ولا يعرف هذا الحق إلا بمعرفة أهله، والأنبياء أهله ومعدنه وأدلته ومهبطه ورسله ودعاته والأمناء عليه .
وإن الغذاء الحقيقي لكل مجاهدٍ مؤمن يعمر قلبه بنبض الولاية لرسالته وأمته، تحرره من الخوف والإحساس بالغربة ووحشة الطريق، فيمضي قدماً على سكينة قلبٍ وثبات حركةٍ فيقبل على الاستشهاد كما يقبل العطاشى على عذب المياه، فكيف بنا بالأنبياء عليهم السلام وكيف بنا برسول الله(ص) مؤسس مدرسة الجهاد وصانع الشهداء على عين الله وحبه ورضاه .
[ يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ] .
[ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض ].
لقد عاش رسول الله(ص) أوسع تجربة في الجهاد وذاق ما لم يذقه نبيٌ من الاضطهاد والعذاب والنفي والمكر والسخرية والاستهزاء، وقد كانت هذه الآلام كفيلة بهدّ جبلٍ وزلزلته من مكانه .. إلا أن الرسول في كل هذه الأزمات وأمام كل المؤامرات التي بلغت حد التخطيط لقتله كان يواجه كل ذلك بقلبٍ ثابتٍ موقن بأمر ربه، وكان يخرج من كل محنة ومأساة رغم تعاقبها السريع والقاسي، قوياً كأقوى وأشد ما يكون الإيمان، ورغم عذاباته لم يستسلم طرفة عين، وكان أكبر من الضعف فيثبت ويتجلد ويستمد الأمل كله من ربه، ومن تلك الصور المشرقة التي لم تفارق عينيه حيث تمر عليه صورة نوح ويونس وهود وإبراهيم وموسى وعيسى، فلا يخالجه شك ولا يداخله ريب في أن الله معه وأن الأنبياء إلى جانبه وأن الحق معه والنصر حليفه، ولم يكتفِ بذلك وإنما صنع جيلاً كاملاً من الشهداء وجيشاً كبيراً من الأبطال المخلصين الذين لا يخشون إلا الله .
وقد وصفهم الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وصفاً دقيقاً بارعاً حيث يقول: ((إن المؤمن أشد من زبر الحديد .. إن الحديد إذا دخل النار لان وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل لم يتغير قلبه)) .
خامساً:
إن حركة الأنبياء كمنظومة متآلفة كانت تقود المستضعفين إلى الإنفكاك من هيمنة المستبدين والتخلص من كل أشكال السيطرة والوصاية التي يفرضها عليهم الظالمون حتى ولو اضطرهم الأمر في أسوأ الظروف إلى الهجرة كخطوة أوليّة في تكوين مجتمع التوحيد في ظل الإيمان والاستقلال … وبذلك كانت تظهر ملامح التمايز والحضور وإثبات الشخصية الرسالية استعداداً للتصادم الفكري والعسكري في طريق معركة الحرية والتغيير الأمر الذي أعطى لحركة الأنبياء الصفة الثورية الراسخة فكراً وعملاً فنجحوا غاية النجاح في فرض التحولات الواسعة التي أجبرت أعداء الله على الاعتراف بواقع القيم النبوية الجديدة ..
وقد توفر لها ذلك بمساندة التدخل الإلهي المباشر في قمع الظلم والانتقام من الكافرين لضرورات المرحلة حتى يتسنى تأهيل الفئة القليلة المؤمنة وتدريبها على استخدام قواها الذاتية مباشرة [ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت ].
[ وكأين من نبي قاتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ]،[ ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد] ، [إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ] .
ولقد كان الأنبياءi يتحركون في بدايات الدعوة وانطلاقها إلى مخاطبة الناس والحكام بلغة المنطق والحوار والجدال وفي ذلك كانوا يبذرون في عقولهم غرسات الإيمان القائم على العلم والمعرفة والقناعة فهم دعاة الخير ورسل الرحمة وأطباء النفوس والعقول ..[ لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ] .
[ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ].
ففي حياة شعيب عليه السلام [ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ].
وفي حوار نبي الله صالح عليه السلام [ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد أباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ].
[ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وأتاني منه رحمة من ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ].
وفي قصة إبراهيم عليه السلام[ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهعيم في ربه أن أتاه إلى الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ].
غير أن الباطل عندما يشعر بالخيبة والفشل أمام المنطق الصارم . وعندما يعجز عن مواجهة الحجة بالحجة يطغى ويتجبر ويلجأ إلى استخدام العنف والاعتداء .. حينئذٍ لا نجد أمامنا إلا خيار المقاومة والتصدي لهذا الباطل وردع طواغيته وشياطينه حتى لا يستفحل شرهم ومهما كان التفاوت بيننا وبينهم في موازين القوى يجب أن نشعر دائماً بأننا الأقوياء المنتصرون وبأنهم دائماً الضعفاء المهزومون .
[ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ].
ونحن اليوم كجزء من حركة النبوات الثائرة لا بد أن نتلاحم معها ونسير على هداها في مقارعة الباطل ومحاربة الظلم ورفض كل حكومة جائرة وولا ية طاغية …
((ألا فالحَذَرّ الحَذَرَ من طاعةِ سادتِكم وكبرائِكم الذين تكبّروا عن حَسَبهم، وترفّعوا فوق نَسَبهم، وألقوا الهجينة على ربّهم، وجاحدوا الله على ما صَنَع بهم، مكابرةً لقضائه، ومغالبةً لآلائه، فإنّهم قواعدُ أساسِ العصبيّة، ودعائمُ أركانِ الفتنة، وسيوفُ اعتزاءِ الجاهليّة، فاتقوا الله ولا تكونوا لِنِعَمِهِ عليكم اضداداً، ولا لفضله عندكم حُسَّاداً، ولا تُطيعوا الأدعياء الذين شَرِبتُم بصفوِكم كَدَرَهم، وخلطتم بصحّتكم مرضهم، وادخلتم في حقّكم باطلهم، وهم أساس الفُسُوق وأحلاس العقوق، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً بهم يصول على الناس، وتراجمةً ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم، ودخولاً في عيونكم، ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، وموطئ قدمه، ومأخذ يده، فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومَثُلاته)) وصدقت كلمة السماء.
[ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ] .