- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 5 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
محاولة لترسيم الدور المعرفي لثنائي القرآن والسنّة
تكاد وجهات النظر جميعها تتّفق على منح القرآن الكريم مكانةً مرموقةً في الإسلام والفكر الإسلامي، فيما تحافظ السنّة الشريفة على موقعيةٍ مميزةٍ في هذا الوسط.
لكن إشكاليات عديدة، أثارها ثنائي القرآن والسنّة ـ وعلى امتداد التاريخ ـ في الفكر الإسلامي، ليخضع هذا الفكرُ على أثرها لتجاذبات بلغت درجة كبيرة من الحدّة أحياناً كثيرة، ونحاول هنا رصد تحوّلات الموقف، وتسجيل ملاحظات على سبيل الايجاز والاختصار:
1- أوّل وأهم إشكاليّة على هذا الصعيد، تكمن في الرسم الهرمي لوسائل الإثبات في الفكرالديني، فرغم تداول شعار القرآن أوّلاً والسنّة ثانياً، إلا أن تيارين آخرين وقفا على حذر من هذه المقولة:
التيار الأوّل:
التيار الأخباري النظري عند الشيعة والسنّة معاً، ونعني به ذلك المنحى الذي نظّر لأولوية السنّة على القرآن، وأحال فهم النص القرآني خارج نطاق السنّة، مستنداً، فيما استند إليه لتبنّي رؤيته هذه، إلى السنّة نفسها.
ولا نستهدف فعلاً الخوض في جدل مع هذا الاتجاه، إذ له مجاله الخاص من علم أصول الفقه والكلام أيضاً، وانما نركّز على:
التيار الثاني:
وهو التيار الأخباري العملي، ذاك الاتجاه الذي ينظّر لهرميّة يحتل القرآن فيها مركز الصدارة، بيد أنّه يمارس أخبارية ـ وأحياناً مفرطة ـ على الصعيد الميداني، ففي علم التفسير ثمة اجراءات عملية تمنع تفسير القرآن دون الرجوع إلى الرواية، لا أقل على مستوى ترتيب البحث، وفي الفقه ربما يغدو الخاصّ ـ بمجموع مفرداته ـ أولى في الحضور على مستوى آليات الممارسة الاجتهادية من العام القرآني الذي يحتل القانون، أمّا على صعيد علم الكلام فالآية أكثر استقبالاً للتأويل من الرواية في غالب الأحيان و… فثمّة دعوات اليوم لاتجاه بحاري ( بحار الأنوار)، تعيد إحياء الروح الأخبارية على أكثر من صعيد، وإن ما زالت تعتقد بالدليل العقلي في علم أصول الفقه.
2- ولا يبدو هذا الاتجاه كثير التناقض مع نفسه حينما يجد لها امتداداً في فلسفات الكلام وأصول الفقه، فنظرية حجّية خبر الواحد وتخصيص العام الكتابي به و… أصول تحتيّة لمشروع أخباري في قلب علم الأصول، أي أنّ فكرة الحجية ( التي تعني إبراء الذمّة بالعمل بخبر الواحد وتحمّلها المسؤولية إزاءه) أحدثت تشويشاً في الذهن الأخباري (العملي)، فقد تمّ تخطّي الحجيّة والتي هي نوع علاقة في دائرة المولوية والعبودية (عقل عملي) إلى التقدّم الإثباتي لخبر الواحد على النص القرآني، وهو تقدّمٌ ينتمي إلى المجال المعرفي لاثبات ما هو كائن (عقل نظري)، وهذا هو الخلط الذي حصل بين وظائفيات العقل العملي والعقل النظري، بين الحقيقي والاعتباري، فلنفرض خبر الواحد حجّةً، إلاّ أنّ حجيته ـ بالمعنى الأصولي ـ تعني العذر للعبد إذا عمل به، وتحمّل المسؤولية إذا لم يفعل، وهذا لا يعني ان النص الروائي أضفيت عليه ـ بهذه الحجية ـ قيمة معرفية، أزيد مما كان يملكه قبل إضفاء الحجية عليه، وإذا خصص عاماً كتابياً نتيجة منطق الحجتين، لا القطعي والظني، فهذا يفيد في العذر والتنجيز، لا في تخصيص عام كتابي على الصعيد المعرفي، وهذه نقطة بالغة الحساسيّة، حتى لو أخذنا بالاتجاه الأصولي الذي أسّس له الميرزا محمد حسين النائيني والقائل بإضفاء الاعتراف التشريعي بالرواية بعداً علمياً عليها، بتحويلها ـ اعتباراً ـ الى علم، فإن هذا الاتجاه يرى ذلك في دائرة النصوص التي تملك بعداً عملانياً يمكن فيه الحديث عن تنجيز وتعذير، لا في تلك التي لا تحوي هذا الجانب، وهذا شاهد على أن هذا الاتجاه لم يُدخل علمية الخبر الظني على الصعيد المعرفي، بقدر ما سعى الى توظيف هذا المنحى في نطاق تشريعي، ولهذا رفض النائيني نفسه إجراء الخبر في العقائديات، كما حصر السيد الخوئي ـ أحد اتباع مدرسة النائيني ـ قيمة الخبر في مجال التاريخ بما اذا بانَ وجود أثر عملي له كالإخبار مما يصحّ وصفه بالحرمة والحلية، وهذا كله اقحام لموضوعة (علمية الخبر تعبّداً) في دائرة الاعتباري لا في نطاق التكويني.
ومن هنا نجد أن السيرة العقلائية التي افترضت أساساً لحجية الخبر، لا تقوم – على الصعيد المعرفي بعيداً عن العملي والسلوكي ـ على تقديم ظنّ على يقين، بعيداً عن الحديث عن ظنية الدلالة في النص القرآني، الامر الذي يفسح المجال لإعادة إنتاج قراءة جديدة لخبر الواحد في الفكر الاسلامي تبدو اليوم في غاية الأهمية.
وبهذه الطريقة سالفة الذكر، يمكن وضع حدّاً للتناقض المعرفي الحاصل في علاقة النص القرآني بالرواية، إذا ما أردنا الحفاظ على قيمة الرواية على مختلف الصعد، تماماً كما فعله العلامة الطباطبائي في بعض زوايا تجربته القرآنية، حينما اعترف بالرواية مع قناعته باستبعادها ـ كخبر ظني ـ عن مجال التفسير، وبهذا يمكننا على الصعيد المعرفي، طبقاً لمنهج علمي، الخروج بنتائج تحكمها ضوابط علمية، منها تقدم اليقين على الظن، وإن كان التعامل مع النصوص من ناحية وظائفية ـ على تقدير صحّة نظرية حجية خبر الواحد انطلاقاً من غير السيرة العقلائية (أوّلياً أو ما يرشد إليها) التي لنا فهم آخر لها ـ ربما يفضي إلى نتيجة مختلفة.
3- لكن الامتداد التاريخي العميق للحديث الشريف إلى قلب نواة العلوم الإسلامية، ربما يشكل عائقاً نفسياً، وأحياناً معرفياً، عن ايجاد فصل معرفي بينها وبين الحديث، وإعادة إنتاجها على أساس قرآني، فقد كوّن الحديث علوماً إسلامية برمّتها كالفقه والتفسير والقراءات والتاريخ.. في مراحل تبلورها الأولى، ثم ما لبث أن استقلت عنه، ليساهم في إمدادها كعنصر من العناصر، فقد سمّى البعض الفقه بـ (علم الفقه والحديث)، ولم يكن التفسير في بداية أمره سوى أحاديث، ولولا الحديث لما كان الفقه علماً مذكوراً كما يقول السيوطي… ومع ذلك، كيف نستسيغ إيجاد فاصل معرفي مستبعدين الحديث عن هذا الصعيد، ما دام هو المكوّن الأساس من الناحية التاريخية ـ العلمية للعلوم الإسلاميّة؟!
وفي مقام تقييم هذه المقولة، يمكن التأكيد على ضرورة تبنيّ أحد موقفين:
أ ـ إما الإقرار بنصّية هذه العلوم جميعها بما فيها علم الأصول، كما حاول ذلك الكاشاني في (الأصول الأصيلة) والسيد شبّر في (الأصول الأصليّة)، فيكون الموقف أخبارياً حتى النفس الأخير، وعند ذاك يمكن إعادة تشكيل مجمل العلوم وفقاً للحديث، بما يعيد إليها الاعتبار المعرفي، لأن المنحى الأخباري أقنع نفسه بدرجة معرفية كاملة أو شبه كاملة للحديث(نظريّة يقينية الكتب الحديثية الرئيسة و…)، الأمر الذي خوّله بناء العلوم الإسلامية عليه دون سقوطٍ في فراغ معرفي مقلق.
ب ـ وإما الاعتراف بعقلانية وقرآنية العلوم الإسلامية، ومن ثم لا مفرّ من تفسير الولادة الحديثية لها بأنها مخاض تاريخي لا غير، يجب تقديم تفسير لولادته سواء كان تفسيرَ الجابري للعقل الشرقي، أو الحاجة التاريخية إلى التفاصيل التي بدا أنها مخفّية في النص القرآني أو استعداد الحديث من حيث مجال الوضع والاختلاق لخدمة المصالح المذهبية أو… ومن ثم يمكن إحداث قطيعة مع مرحلة التكوّن الاُولى، وإعادة إنتاج العلوم الإسلامية على أساس عقلي قرآني.
4- لكن تحدّي الثقافة القرآنية يبقى قائماً إزاء ظاهرة التفاصيل، ثمة مقولة نمطية تضع السنة الشريفة (ممثّلةً بالرواية) في قائمة المفسِّر، والشارح، والمفصّل لغموض القرآن ومتشابهه ومجمله وموجزه… وهذه الرؤية للقرآن والسنّة، لعبت ـ وما تزال ـ دوراً في خلق محدودية للنص القرآني، ذلك أن تطوّرات الحياة الإسلامية أبدت التفاصيل واليوميات أكثر حضوراً من الكلّيات والخطوط العريضة، وهذا أمر طبيعي ومترقّب.
بدورنا ـ وإن كنا لا نرفض هذه المقولة ـ إلا أننا نسجّل ملاحظة نقدية على تهميش الخطوط العريضة لصالح التفاصيل، فيما الأمر على العكس من ذلك تماماً، فالخطوط العريضة والمعالم الرئيسية التي رسمها النص القرآني هي الأقدر ـ لا أقل في زمننا هذا ـ على وضع فواصل نظرية واضحة بين تيارات الفكر في العالم المعاصر، أما التفاصيل، فإن إدخالها في هذا السياق لا يزيد جدل العصر إلاّ تعقيداً وغموضاً.
إن محاكمة دين معين على أساس تفاصيل، خطوة لا تنمّ عن رسم واضح لمعالم هذا الدين، لأن التفاصيل لا ترسم بثباتٍ معلماً، ولا تقيم عماداً دون أن نتجاهلها بالكليّة، وانما الحكم الأساس في معركة الأفكار هذه هو الكلّي الذي يمثّل البنية التحتية والركائز الأوّلية، ومن ثم من الخطأ عدّ غير القرآني عدّاً كمياً لتكون النتيجة ظنية أكثر الدين (وهي إشكالية بالغة اليوم)، فيما يستبعد التعداد الكيفي الذي يقف لصالح يقين النص القرآن وكلّيته، وبالتالي سيكون الاستغراق في جدل المفردة، استغراقاً في متحرّك، يصعب إقامة مشروع ديني متكامل عليه.
5- ويبقى إحياء القرآن في الأوساط الدينية أساساً روحياً وأخلاقياً، لتكون مرجعية القرآن مرجعية للأهدى والأقوم والأصلح، فالمسألة الأساس اليوم على الصعيد الروحي أصالة القرآن واعتباره النصّ المؤسِّس، وهذا معناه ضرورة أن يكون الفعل الروحي للنص القرآني في حياة المسلمين أكبر من أي فعل بما فيه النصّ الثاني، لأن أصالة وصدارة النصّ القرآني ليست معرفيّة فحسب، كما هو التصوّر السائد، بل هي صدارة الفعل الروحي والاجتماعي والسياسي… أيضاً، بمعنى أن حياة المسلمين مطالبة في اندفاعاتها وحركاتها وسكناتها بإسهام القرآن ـ في الدرجة الأولى ـ في هذه الاندفاعات… لتكون المشاركة القرآنية الشعورية والمشاريعيّة مشاركة تحظى بنصيب الأسد، أمّا الاعتقاد بصدارة وأولوية النص القرآني في المجال المعرفي على أيّ نصٍّ آخر، مع تحريك النص الثاني (الحديث و…) عملياً لواقع المسلمين بدرجة أكبر من النص الأوّل، فهذا نوع من اللاإنسجام في الرؤية الكلّية، وهذا ما يستدعي إحضاراً تربويّاً واجتماعياً للقرآن الكريم يتناسب ودرجته المعرفية ومستوى حضوره في تشكيل البُنى والمفاهيم، وهذه هي الاستجابة العملانية للصورة النظرية المكوّنة عن القرآن، وهو معنى ما أثاره الإمام الخميني من ضرورة إخراج القرآن من المقابر ومجالس الموتى إلى الحياة برمّتها.
﴿ إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً ﴾ الإسراء: 9.