- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 43 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
آيات الحجاب في سورة النور
الفصل الأوّل
سورة النور، الآية 30
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
نظرة عامّة
إنّ الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في هذه الآية الشريفة بـ >غضّ البصر< وحفظ الفروج، ويعتبر ذلك أزكى لهم، ومن ثمّ ففي الآية 31 يخاطب النساء ويأمرهن أيضاً بـ >غضّ البصر< وحفظ الفروج، ويأمرهنّ بأُمور أُخرى سنبحثها في الفصل الثاني.
الـ(غض) في كتب اللغة
ـ جمهرة اللغة
فقد فسّرها جمهرة اللغة بأنها: غضّ بصره يغضّه غضّاً إذا أطرق وضمّ أجفانه(1).
ـ تهذيب اللغة
جاء في تهذيب اللغة في معنى >غضّ<: ويقال: غضَّ وأغضى، إذا دانى بين جفنيه ولم يلاقِ.
ويقال: غُضّ من بصرك ، وغُضّ من صوتك ، قال الله ـ جلّ وعزّ ـ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان : ١٩]، أي: إخفضِ الصوت، ويقال؛ غُضّ الطرف، أي: كُفّ النظر.
ويقال: ما غَضَضْتُك شيئاً، وما غِضْتُك شيئاً أي: ما نَقَصْتُك شيئاً.
ويقال: غَضَغضتُ الشيء، فَتَغَضْغَض، أي: نَقَصْتُه، فَنَقَص(2).
ـ صحاح اللغة
غَضَّ طرفَهُ، أي خَفضَه، وغَضَّ من صوته.
وكلُّ شيءٍ كففتَه فقد غَضَضْتَهُ، والأمر منه في لغة أهل الحجاز اغْضُض، وفي التنزيل: واغْضُضْ مِنْ صَوْتِك، وأهل نجد يقولون: غُضَّ طرفك بالإدغام وانْغِضَاضُ الطرفِ: انْغِمَاضُهُ(3).
ـ مقاييس اللغة
الْغَيْنُ وَالضَّادُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى كَفٍّ وَنَقْصٍ، وَالْآخِرُ عَلَى طَرَاوَةٍ، فَالْأَوَّلُ الْغَضُّ: غَضُّ الْبَصَر، وكُلُّ شَيْءٍ كَفَفْتَهُ فَقَدْ غَضَضْتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ غَضَاضَةٌ، أَيْ أَمْرٌ يَغُضُّ لَهُ بَصَرَهُ. وَالْغَضْغَضَةُ: النُّقْصَان، وفي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ مَرَّ مِنَ الدُّنْيَا بِبِطْنَتِهِ لَمْ يُغَضْغَض»(4)، ويَقُولُون: هُوَ بَحْرٌ لَا يُغَضْغَض، وَغَضْغَضْتُ السِّقَاء: نَقَصْتُهُ(5).
ـ لسان العرب
غَضَّ طَرْفَه وبَصره يَغُضُّه غَضّاً وغَضاضاً وغِضاضاً وغَضاضةً، فَهُوَ مَغْضُوضٌ وغَضِيض: كفَّه وخَفَضَه وَكَسَرَهُ، وَقِيلَ: هُوَ إِذا دَانَى بَيْنَ جُفُونِهِ وَنَظَرَ، وَقِيلَ: الغَضِيضُ الطرْفِ المُسْتَرْخي الأَجفانِ، وفي الحديث: كَانَ إِذا فَرِحَ غَضَّ طرْفَه، أَي كسَره وأَطرَق وَلَمْ يَفْتَحْ عَيْنَهُ(6).
ـ المصباح المنير
غَضَّ: الرَّجُلُ صَوْتَهُ وَطَرْفَهُ وَمِنْ طَرْفِهِ وَمِنْ صَوْتِهِ >غَضّاً< مِنْ بَابِ قَتَلَ خَفَضَ، وَمِنْهُ يُقَالُ >غَضَ< مِنْ فُلَانٍ >غَضّاً< و >غَضَاضَةً< إِذَا تَنَقَّصَه، و>الْغَضْغَضَةُ< النُّقْصَانُ، و>غَضْغَضْتُ< السِّقَاءَ نَقَصْتُهُ(7).
ـ مجمع البحرين
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي ينقصوا من نظرهم عمّا حرّم الله عليهم، وقد أطلق لهم ما سوى ذلك، يقال: غضّ طرفه غضاضاً بالكسر وغضاضة بفتحتين: خفضه وتحمّل المكروه، ومقول القول محذوف، أي: قل لهم غضّوا يغضوا فيكون في يغضوا الآية جواباً لأمر محذوف، وكذا يحفظوا، ومن عند الأخفش زائدة، قوله: واغضض من صوتك، أي نقص منه، يقال غض صوته أي خفضه ولم يرفعه بصيحة، وغضّ طرفه: أي كسره، واغض الرجل العين بالألف: قارب بين جفنيها(8).
ـ مفردات الراغب
الغضّ: النقصان من الطرف والصوت وما في الإناء، يقال: غضّ وأغض، قال تعالی: قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم(9)، وقل للمؤمنات يغضضن(10)، واغضض من صوتك(11).
نتيجة البحث اللغوي
بناءاً على ما ذُكر نُدرك أنّ الـ >غضّ< في كتب اللغة يعني كفّ النظر وتقليله وكسره، لكنّه لا يعني >إطباق الجفن< في أيّ منها، إلّا في كتاب جمهرة اللغة الذي فسّر >غضّ< بمعنى >ضمّ الأجفان<.
أمّا في تهذيب اللغة ولسان العرب ومجمع البحرين فُسّرت بأنّها تقريب الأجفان دون اللقاء، وتقريب الأجفان يعني نقصان النظر وخفضه، فنقول: إنّ >غضّ البصر< لا يعني إغلاق العينين.
معنى الـ (غضّ) في التفاسير
جاء في مجمع البيان ذيل هذه الآية:
>أصل الغضّ النقصان، يقال غضّ من صوته ومن بصره أي نقص<(12).
وفي تفسيري التبيان ومجمع البيان جاء في معنى >غضّ البصر< في ذيل الآية 3 من سورة الحجرات، أنّها بمعنى >عدم تحديق النظر<: غضّ بصره إذا ضعّفه عن حدّة النظر(13).
ويقول العلّامة الطباطبائي ذيل هذه الآية في تفسير الميزان: الغضّ إطباق الجفن على الجفن(14).
والآلوسي أيضاً فسّر (غضّ< بأنّها >إطباق الجفن على الجفن<(15).
وكما سبق في البحث اللغوي، لا يمكن تفسير الغضّ بمعنى إغلاق العين، وإطباق الجفن على الجفن.
البحث التفسيري
يقول الشيخ الطبرسي ذيل هذه الآية:
>يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ< مجزوم؛ لأنّه جواب شرط مقدّر والتقدير: قل للمؤمنين غضّوا من أبصاركم، فإنّك إن تقل لهم يغضّوا، ويجوز أن يكون مجزوماً على تقدير ليغضّوا من أبصارهم، ومثل ذلك قوله >يَغْضُضْنَ<(16).
ما هو متعلق (غضّوا)؟ أي عن أيّ شيء يغضّون طرفهم؟
النقطة التي يجب التطرّق إليها في هذا البحث، هي متعلّق >يغضّوا<. فهنا يأمر الله بغضّ البصر، لكن لم يصرّح أنّه ما الذي يجب الامتناع من النظر إليه أو غضّ البصر عنه؟
و سنبحث الموضوع في المباحث التالية؛ لكونه مؤثّراً في مبحث الحجاب.
شأن نزول الآية
ينقل الشيخ الكليني في أُصول الكافي شأن نزول الآية، وهو نفس الشأن الذي نقله تفسير نور الثقلين(17) أيضاً:
>مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحَكَمِ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ سَعْدٍ اَلْإِسْكَافِ عَنْ أَبِي جَعْفَر(عليه السلام) قَالَ: اِسْتَقْبَلَ شَابٌّ مِنَ اَلْأَنْصَارِ اِمْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ وكَانَ اَلنِّسَاءُيَتَقَنَّعْنَ خَلْفَ آذَانِهِنَّ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وهِيَ مُقْبِلَةٌ فَلَمَّا جَازَتْ نَظَرَ إِلَيْهَا ودَخَلَ فِي زُقَاقٍ قَدْ سَمَّاهُ بِبَنِي فُلاَنٍ فَجَعَلَ يَنْظُرُ خَلْفَهَا واِعْتَرَضَ وَجْهَهُ عَظْمٌ فِي اَلْحَائِطِ أَوْ زُجَاجَةٌ فَشَقَّ وَجْهَهُ فَلَمَّا مَضَتِ اَلْمَرْأَةُ نَظَرَ فَإِذَا اَلدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى صَدْرِهِ وثَوْبِهِ فَقَالَ: واَللَّهِ لآَتِيَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ(ص) ولَأُخْبِرَنَّهُ، قَال: فَأَتَاهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ الله(ص) قَالَ لَه: مَا هَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ فَهَبَطَ جَبْرَئِيل(عليه السلام) بهَذِهِ اَلْآيَةِ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ}<(18).
الرواية معتبرة، أمّا النجاشي يقول في سعد الإسكاف: ابن طريف الحنظلي: >يعرف وينكر<(19). أمّا الشيخ& يعتبره من أصحاب علي بن الحسين(ع) ويقول فيه: >هو صحيح الحديث<(20).
فظهر عندنا تعارض بين قول الشيخ وقول النجاشي، وإن لم نجد مرجّح نُعرض عن كلا القولين، لكن إذا نقل عنه الأجلّاء والأفاضل، نثق بخبره ويكون الحديث معتبر.
هنا توجد ملاحظة وهي: أنّ سورة الأحزاب نزلت قبل سورة النور؛ لأنّ ترتيب سورة النور في النزول 110 أو 111، وترتيب سورة الأحزاب 88 أو 89، وأمرت نساء المؤمنين بارتداء الجلباب في سورة الأحزاب، إذ كانت النساء ترتدي الجلباب في تلك الفترة، بينما نرى في شأن نزول الآية: >كان النساء يقتنعن خلف آذانهن<، وهذا يدلّ على عدم نزول آيات الحجاب حتّى آنذاك.
البحث الفقهي
هل يُمكن استنباط حرمة نظر الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل من هذه الآية؟
لتوضيح البحث، ينبغي الإمعان في متعلّق >غضّوا<؛ ذلك أنّ اختلاف استنباط الفقهاء من هذه الآية يرجع إليه.
ما هو متعلّق غضّ البصر؟
قال بعض: >حذف المتعلّق يدلّ على العموم<.
بمعنى: إذا قال الشارع: >حُرّم عليك الدم< أو >حُرّم عليك الميتة< ولم يذكر متعلّق الحرام ضمن الحكم، فذلك بمعنى أن استعمال الدم والميتة حرام مطلقاً؛ للأكل كان أو للبيع والشراء أو لغيره.
القاعدة المشهورة (حذف المتعلّق يدلّ على العموم)
لا يبدو أنّ هذا الاحتمال صحيح؛ لأنّ قاعدة >حذف المتعلّق…< ليست بصحيحة، وكما قلنا في مجاله، تعبير دخيل من كلام الأدباء على الفقه، وهو من القواعد غير الأصيلة.
فإذا حذف المتكلّم المتعلق في أحد أقسامه، يجب أن تكون قرينة تُبيّن المتعلّق في قسم آخر منه، أمّا إذا لم توجد القرينة، يصبح الكلام مجمل ولا يعني العموم، وكما قال المتأخّرين يجب إيجاد متعلّق الحكم بلحاظ >المناسبة بين الحكم والموضوع<.
مثلاً إذا قال الشارع: >حُرّمت عليكم الميتة<، يكون >الأكل< مناسباً لهذا الحكم والموضوع، وهذه القرينة تدلّ على حرمة أكل الميتة، ويكون أكل الميتة متعلّق الحكم.
فما هو المتعلّق المناسب لهذا الحكم (غضّ البصر) والموضوع؟
هنا أربعة أقوال:
القول الأوّل: يقول بعض الفقهاء: إنّ المتعلّق المناسب هي المرأة والنظر إلى بدنها، حتّى أنّهم يعتبرون الوجه والكفّين متعلّقاً لهذا الحكم، وحتّى أنّهم أدخلوا النظر إلى ثوب المرأة وزينتها تحت عنوان متعلّق الحكم.
القول الثاني: البعض الآخر مع أنّهم يعتبرون النظر إلى المرأة وبدنها ووجهها وكفّيها متعلّقاً لهذا الحكم، لكنّهم يُخرجون الثياب والزينة عن الحكم.
القول الثالث: هناك فريق آخر يقول في المتعلّق أنّه بدن المرأة عدا الوجه والكفّين.
القول الرابع: بعض الفقهاء ومنهم السيّد محسن الحكيم& والمحقّق الخوئي& يقولون: إنّ المتعلّق هو العورة.
آراء الفقهاء حول هذه الآية
هناك رأيين حول هذه الآية:
الرأي الأوّل
1- وهو المشهور بين الفقهاء، فيقولون استناداً على هذه الآية: >غضّ البصر مقدّمة لترك النظر<.
فالأمر بالمقدّمة يفصح عن وجوب ذي المقدّمة، وهو ترك النظر؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى يأمر بغضّ البصر كمقدّمة لترك النظر إلى المرأة بدل النهي عن ذلك مباشرة، وعندما تجب المقدّمة، فلأولى أن تكون ذي المقدّمة أوجب.
والفقهاء القائلون بهذا الأمر، يحرّمون النظر إلى المرأة مطلقاً ـ بنية التلذّذ وبغيره ـ وأهمّ ما يستدلّون به على حرمة مطلق النظر إلى المرأة هذه الآية، منهم ابن إدريس في السرائر، والعلّامة في المختلف، وصاحب الجواهر، ويتمسّكون بهذه الآية، ويحرّمون النظر إلى نساء أهل الذمّة، والنظر إلى شعورهن وأيديهن.
والذين يحرّمون النظر المطلق، يستندون إلى شأن النزول المذكور سابقاً لتأييد رأيهم.
إشكالات على الرأي الأوّل
الإشكال الأوّل: هذا الرأي لا يطابق منطوق الآية.
الإشكال الثاني: كما جاء في علم الأُصول، الإطلاق والتقييد وصف لللفظ، ولا يمكن أن يكونا وصف للمفهوم؛ أي إذا فهم الفقيه مفهوم من آية أو رواية، لا يستطيع بعد ذلك الاستدلال بالإطلاق؛ لأنّ المفهوم ليس لفظ ولا يُذكر في الكلام، فإن أردنا استنباط >ترك النظر< من >غضّ البصر<، فلا يمكننا بعد ذلك القول بإطلاق ترك النظر وتحريم النظر إلى الوجه والكفّين.
الإشكال الثالث: >من< في >من أبصارهم< للتبعيض، ولا يتناسب مع الرأي المشهور، كما قال السيّد الخوئي، وسنذكر ذلك لاحقاً(21).
الإشكال الرابع: قلنا أنّ مَن يُحرّم مطلق النظر يستند إلى شأن النزول المذكور سابقاً لتأييد رأيه.
ويظهر من شأن نزول الآية، أنّ نظر الشابّ إلى المرأة كان بنية التلذّذ والربية ولم يكن دون نية.
وإن قيل: >شأن نزول الآية لا يخصّص، وأنّ الآية مطلقة<، نقول: لو ذكرت الآية عنوان >حرمة النظر< في البداية لقلنا أنّها مطلقة، ولكن يظهر من شأن النزول المذكور حرمة التلذّذ بالمرأة فقط لا مطلقاً، وهذا الرأي يتناسب مع الاحتمال الثاني القائل بحرمة التلذّذ بالمرأة الناشىء من النظر، لا حرمة النظر مطلقاً.
الرأي الثاني
قال بعض الفضلاء ومنهم المحقّق الخوئي&: إنّ الآية لا تدلّ على حرمة النظر، وليست في مقام بيان ذلك، بل المقصود من >غضّ البصر<، >ترك الطمع<، وعلى هذا المعنى، فلا يحرم مطلق النظر، بل يحرم النظر مع الطمع أو نية التلذّذ، وأما النظر بدون ريبة فهو ليس بحرام.
بيان المحقّق الخوئي(قدس سره)
فقد اختار المحقّق الخوئي& في شرح العروة(22) الرأي الثاني خلافاً للمشهور، فقال:
>إنّ هذه الآية أجنبية بالمرّة عن نظر الرجل إلى المرأة أو العكس<(23).
وهذا لا ينافي إمكانية استنباط حرمة النظر من أدلّة أُخرى، لكنّه وبناءاً على رأي المحقّق، لا يمكن استنباط هذا الحكم من هذه الآية.
فيقول في مقام ردّ الرأي المشهور:
ولزيادة الإيضاح نقول: إنّ النظر وغضّ البصر أمران وجوديان متضـادّان وليس وجود أحدهما مقدّمة لترك الآخر، كما أنّ ترك الآخر ليس مقدّمة لوجود الأوّل، على ما هو الحال في جميع الأُمور المتضادّة، لا سيّما إذا كان التضادّ غير منحصر بفردين بل كان لهما ضدّ ثالث، كما هو الحال في المقام، فإنّ التضاد بين غضّ البصر بمعناه الحقيقي أعني وضع جفن على جفن وإطباق الجفنين، وبين النظر غير منحصر بينهما، إذ للإنسان أن يضع حائلاً بين عينيه وبين الشيء المنظور إليه، فلا يراه من دون أن يطبق جفنيه(24).
ثمّ يقول: ومن هنا يتّضح أنّه لا وجه لما قيل: من أنّ غضّ البصر مقدّمة لترك النظر، وحيث أنّ الأمر بالمقدّمة أبلغ من الأمر بذبها كان المراد بالأمر بغضّ البصر ترك ضدّه الآخر، فإنّ ذلك من الاستعمال الغريب، ولم نعثر بحسب تتبّعنا على مورد لذلك، بل لا معنى له بحسب الاستعمالات المتعارفة، لا سيّما إذا لم يكن التضادّ منحصراً بفردين(25).
وبيان المحقّق الخوئي& تامّ في هذا الإستدلال.
ثمّ يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} تدلّ على لزوم كفّ النظر ـ الذي هو بمعنى الانصراف عن الشيء تماماً ـ فتدلّ على حرمة جميع أنواع الاستمتاع من المرأة ما عدا المملوكة والزوجة، وعليه فإذا ثبت من الخارج جواز النظر إلى بعض أعضاء المرأة، عُلم أنّ المراد من ذلك إنّما هو النظر البحت لا المشوب بنوع من الاستمتاع والتلذّذ(26).
وبناءاً على ما قاله المحقّق الخوئي& وأصحاب هذا الرأي، يحرم كلّ أنواع الاستمتاع بالمرأة، سواءً في العلاقة البصرية أو السمعية أو حتّى الكتابية.
نقد على كلام المحقّق الخوئي(قدس سره)
إنّ المحقّق الخوئي يردّ على قول الآخرين، لكنّه لا يذكر دليلاً واضحاً لما يدّعيه من أنّ المقصود من >غضّ البصر< هو >ترك الطمع< والاستمتاع.
ومن هنا إذا كانت الآية مجملة، وبناءاً على كلام المحقّق لا توجد قرينة على تفسير >غضّ البصر< بـ >ترك النظر<، فهل توجد قرينة لتأييد دعوى المحقّق الخوئي؟
فيقول& في تأييد كلامه:
وتُساعد عليه الآية الكريمة، فإنّ كلمة >مِن< المذكورة فيها لا تنسجم إلّا مع هذا التفسير، فإنّها تُفيد التبعيض، وهو إنّما ينسجم مع تفسيرنا، فيقال: إنّ المأُمور به ليس هو صرف النظر عن غير الزوجة والمملوكة على الإطلاق، بل المأثور به هو حصّة خاصّة منها، وهي صرف النظر عن غيرهما في خصوص الاستمتاعات الجنسية.
هناك أربعة احتمالات حول (مِن) في هذه الآية:
الاحتمال الأوّل: البعض يعتبرها زائدة، منهم القرطبي في الجامع لأحكام القرآن(27)، يعتبر >من< في هذه الآية كـ >من< في الآية {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(28) زائدة وهذا باطل.
الاحتمال الثاني: البعض يعتبرها لإبتداء الغاية، منهم العلّامة الطباطبائي+، فيقول: >إنّ « مِن » في «مِنْ أَبْصارِهِم» لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض، كما قال بكلّ قائل، والمعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من أبصارهم<(29).
الاحتمال الثالث: البعض يعتبر >من< في هذه الآية للجنس.
الاحتمال الرابع: كثير من المفسّرين يعتبرون >من< في هذه الآية للتبعيض وهذا صحيح.
فإذا اعتبرنا >من< في الآية للتبعيض، نواجه ستّة احتمالات حول >المبعّض<:
الاحتمال الأوّل: المبعّض هو كلّ ما حرّمه الله.
أقول: لا يوجد إشكال في النظر إلى كثير من المحرّمات، كآلات القمار والخمر.
الاحتمال الثاني: المبعّض هو كيفية الرؤية، أي يجب الامتناع عن النظر بنية التلذّذ والاستمتاع.
ويلاحظ عليه: أن يلزم من ذلك جواز نظر الرجل إلى المرأة >عدا الوجه والكفّين< بدون ريبة وتلذّذ، بينما ثبت خلاف ذلك في أحكام الشريعة.
الاحتمال الثالث: المبعّض هو النظر المستقلّ إلى المرأة، أي يكون نظره إليها لغاية غير رؤيتها، كما يكون النظر أثناء بيع وشراء أو تعليم أو ما شابه ذلك، لا أن يكون النظر إليها غاية بذاته.
الإشكال الذي نردّه على هذا الاحتمال هو أنّه لا يتناسب مع المعنى اللغوي للـ >غضّ< وهو نقصان البصر، فلا يختلف النظر المستقلّ عن النظر غير المستقلّ في >غضّ البصر<.
الاحتمال الرابع: المبعّض هو عدم التحديق.
يرد عليه نفس الإشكال الوارد على الاحتمال الثالث.
الاحتمال الخامس: المبعّض من حيث التعمّد وعدم التعمّد، أي تحرم الرؤية المتعمّدة، ولا تحرم الرؤية غير المتعمّدة.
وقد تشير إلى ذلك بعض الروايات: >النظرة الأُولى لك<.
يلاحظ عليه: لا يوجد مجال لهذا الاحتمال في هذه الآية؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى نهى عن النظر المتعمّد، ولا يطلق >النظر< على الرؤية غير المتعمّدة.
الاحتمال السادس: يقول السيّد الحكيم& في كتابه المستمسك:
>فإنّ كلمة >من< ظاهرة في التبعيض، والظاهر كونه بلحاظ المتعلّق، وتقدير كلّ شيء من بدن المرأة لا قرينة عليه، بل المناسب جدّاً بقرينة ما بعده أن يكون متعلّقه الفروج، مع أنّ كون المراد من الغضّ الغمض غير ظاهر<(30).
فإنّه يؤيّد كون >من< للتبعيض ويقول: إنّ التبعيض بلحاظ المتعلّق، ويعتبر المتعلّق هو الفروج، بقرينة >يحفظوا فروجهم<.
أي يجب على المؤمنين غضّ أبصارهم عن عورات بعضهم، ويجب عليهم سترها أيضاً، فأمر الله سبحانه وتعالى بحفظ الفروج بعد الأمر بغضّ البصر، يُظهر أنّ المقصود من >يغضّوا من أبصارهم< هو الامتناع عن النظر إلى عورات المؤمنين وفروجهم.
تحقيق في الروايات
استدلّ مَن قال بأنّ متعلّق الحكم هو >الفروج< بروايات عدّة، وأكثر تلك الروايات تفصيلاً هي ما ذكرها الكليني في الكافي:
>علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد، قال: حدّثنا أبو عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله(ع) قال:
… ثمّ ذكر حديثاً طويلاً إلى أن قال: >لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ اَلْإِيمَانَ عَلَى جَوَارِحِ اِبْنِ آدَمَ وقَسَّمَهُ عَلَيْهَا وفَرَّقَهُ فِيهَا فَلَيْسَ مِنْ جَوَارِحِهِ جَارِحَةٌ إِلاَّ وقَدْ وُكِّلَتْ مِنَ اَلْإِيمَانِ بِغَيْرِ مَا وُكِّلَتْ بِهِ أُخْتُهَا…<.
إلى أن قال: >وَفَرَضَ عَلَى اَلْبَصَرِ أَنْ لاَ يَنْظُرَ إِلَى مَا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْ يُعْرِضَ عَمَّا نَهَى اَللَّهُ عَنْهُ مِمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ وهُوَ عَمَلُهُ وهُوَ مِنَ اَلْإِيمَانِ فَقَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى عَوْرَاتِهِمْ، وأَنْ يَنْظُرَ اَلْمَرْءُ إِلَى فَرْجِ أَخِيهِ، ويَحْفَظَ فَرْجَهُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ، وقَالَ: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» مِنْ أَنْ تَنْظُرَ إِحْدَاهُنَّ إِلَى فَرْجِ أُخْتِهَا، وَتَحْفَظَ فَرْجَهَا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي اَلْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ اَلْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ اَلزِّنَا إِلاَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ فَإِنَّهَا مِنَ اَلنَّظَرِ<(31).
الرواية تُبيّن ما يجب على كلّ من جوارح ابن آدم، ويذكر الجوارح واحدة تلو الأُخرى حتّى تصل إلى ما فُرض على البصر، ثمّ تستدلّ الرواية بالآية المذكورة وتفسّرها، وفي ذيل الآية يأمر الله النساء بنفس الأمر.
ثمّ يقول الإمام(عليه السلام) كما جاء في الحديث: >كُلُّ شَيْءٍ فِي اَلْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ اَلْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ اَلزِّنَا إِلاَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ فَإِنَّهَا مِنَ اَلنَّظَرِ<
تحقيق في الحديث
سنده:
الإشكال الأوّل: بكر بن صالح مردّد بين شخصين، أحدهما مجهول والآخر ضعيف، فليس موثّقاً، ولا يوجد ذكر لـ >أبو عمرو الزبيري< في كتب الرجال، فلا يكون السند معتبراً.
الإشكال الثاني: إنّ الإمام(عليه السلام) لم يُفسّر حديث >غضّ البصر< بل فسّر >حفظ الفرج<، فيُمكن القول: إنّ الفقرة الأُولى من الآية أي >يغضّوا من أبصارهم< تتعلّق بالنظر إلى المرأة كما قال مشهور العلماء، ثمّ يُفسّر الإمام(عليه السلام) >الحفظ< في >يحفظوا فروجهم< بـ >الحفظ عن النظر<.
إذاً يُمكننا القول: إنّ الفقرة الثانية قد لا يكون لها علاقة بالفقرة الأُولى؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى ينهى الرجال عن النظر إلى النساء في الفقرة الأُولى، ويأمرهم في الفقرة الثانية بحفظ فروجهم، والذي يؤيّد هذا الرأي أنّ الإمام(عليه السلام) يقول: >كُلُّ شَيْءٍ فِي اَلْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ اَلْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ اَلزِّنَا إِلاَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ فَإِنَّهَا مِنَ اَلنَّظَر<، فنفهم من ذلك أنّ الإمام(عليه السلام) يريد تفسير >حفظ الفرج<، ولا يريد تفسير >غضّ البصر<.
الرواية الثانية:
جاء في حديث مفصّل في تفسير النعماني عن الإمام الصادق(عليه السلام):
«أمّا ما فرضه على العينين فهو النظر إلى آيات الله، وغضّ النظر عن محارم الله … إلى أن قال: ومنه قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ}، معناه: لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن، أو يمكّنه من النظر إلى فرجه، ثمّ قال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، أي: ممّن يلحقهن النظر، كما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا وغيره(32)».
هذه الرواية أيضاً مثل الروايات السابقة، لكنّها نُقلت عن أمير المؤمنين×، فيُبيّن ما فرضه الله على الإنسان ومنها ما فرضه على العينين، ثمّ يفسّر(عليه السلام) >غضّ البصر< و>حفظ الفرج<، وهنا لا يرد الإشكال الوارد على الحديث السابق.
النقطة المهمّة في هذه الرواية أنّه نظراً إلى كلمة >معناه<، يظهر أنّ هذه الرواية لا تريد تعيين المصداق.
جاء في وصية أمير المؤمنين إلى محمّد بن الحنفية في كتاب من لا يحضره الفقيه حديثاً يشبه هذه الرواية(33).
فهل يمكن القول: إنّه بناءاً على كلا الروايتين، يكون متعلّق الحكم >الفروج< وليس النظر إلى المرأة؟
يظهر أنّ الروايتين أوضحتا الطريق، إلّا أنّهما لا تتناسبان مع شأن النزول المذكور فيما سبق.
وإذا كانت الرواية المعتبرة تطرح رأياً في مسألة ما، وشأن النزول طرح رأياً آخر، فتكون الرواية مقدّمة على شأن النزول دون شكّ.
في النتيجة نقول: بناءاً على ما مرّ، ومن خلال الروايات المنقولة في الموضوع، أنّنا لا نستطيع استنباط حرمة النظر ووجوب ترك النظر من هذه الآية، ومتعلّق الحكم في الآية ليس النظر، بل هو >الفروج<، والآية تريد بيان حرمة نظر الرجل إلى فرج أخيه، وأمر الرجال بستر فروجهم، وبما أنّه لا يوجد أي تلازم بين حرمة النظر وستر الفروج، فإنّ الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين بغضّ النظر أوّلاً، ثمّ يأمرهم بـ >حفظ الفرج<.
النقطة الأُخرى: أنّه لا يمكن استنباط حرمة نظر النساء إلى فروج بعضهنّ من هذه الآية، ولهذا يأمر الله النساء في الآية التالية بصورة مستقلّة بـ >غضّ البصر< و>حفظ الفرج<، أمّا عندما يأمر الرجال بعدم النظر إلى فروج الرجال، فالأُولى حرمة نظرهم إلى فروج النساء.
الفصل الثاني
سورة النور: الآية 31:
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
بحث عام في الآية الشريفة
بدايةً تكرّر هذه الآية ما أُمر به المؤمنون في الآية السابقة، وثمّ تأمر المؤمنات بأحكام خاصّة في ثلاثة محاور:
المحور الأوّل: أن لا يُبدين زينتهنّ، ثمّ تستثني الحكم بأمرين:
الاستثناء الأوّل: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، هذا الاستثناء إمّا أنّه يُبيّن كيفية إظهار الزينة، يعني أنّها لو ظهرت بغير عمد فلا جناح على المرأة، وهذا رأي بعض مفسّري أهل السنّة.
وإمّا أنّه يستثني بعض أنواع الزينة، يعني أنّه يقسّم الزينة إلى قسمين، الأوّل الزينة الظاهرية، والثاني الزينة الباطنية، والمقصود من ﴿مَا ظَهَرَ﴾ الزينة الظاهرية، فيجوز إظهارها دون غيرها.
الاستثناء الثاني: الآية تستثني اثنا عشر مجموعة ممّن يجب على المؤمنات أن لا يُبدين زينتهنّ لهم.
وعليه فالآية تُبيّن ثلاثة أُمور: أوّلاً (الإبداء)، ثانياً (الزينة)، وثالثاً الذين يجب على المؤمنات أن لا يُبدين زينتهنّ لهم.
وينبغي بحث ما استُثني من الحكم من جهتين:
أوّلاً: نسبةً إلى الزينة، أنّ الزينة تنقسم إلى نوعين، وموضوع الحكم هي الزينة الباطنية، والحكم يستثني الزينة الظاهرية.
ثانياً: خصوص يجوز عرض الزينة أمامهم، فعلى المؤمنات أن لا يُبدين زينتهنّ لكلّ الرجال إلّا اثني عشر فريق.
المحور الثاني: أمر النساء بارتداء الخمار أو المقنعة، فيأمرهن الله سبحانه أن يضربن بخمرهن على جيوبهن.
المحور الثالث: بعد الأمر بعدم إظهار الزينة، يُبيّن الله سبحانه حكماً آخر حول الأصناف التي يجب سترها من الزينة، فيقول: ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يُخفين من زينتهنّ.
مصاديق الزينة في الروايات
جاء في كتاب الكافي في تفسير هذه الآية:
الرواية الأُولى:
محمّد بن يحيى معلّق عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد عن القاسم بن عروة عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي عبد الله× في قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: الزينة الظاهرة الكحل والخاتم(34).
الروایة الثانية:
الحسين بن محمّد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله× قال: سألته عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: الخاتم والمسكة وهي القلب(35).
الرواية الثالثة:
ذكر الشيخ الكليني في الكافي:
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله× قال: قلت له: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان(36).
الملاحظة المهمّة في هذه الرواية أنّها لا تريد تفسير الآية وعنوان (ما ظهر).
الرواية الرابعة:
ذكر علي بن إبراهيم القمّي& هذه الرواية في تفسيره:
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر× في قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار، والزينة ثلاث: زينة للناس وزينة للمحرم وزينة للزوج، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناه، وأمّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما أسفل منه، وأمّا زينة للزوج فالجسد كلّه(37).
وحول سند هذه الرواية نقول: إنّ أبا الجارود من أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام)، وبينه وبين علي بن إبراهيم أربع أو خمس طبقات، وعليه فإنّ في السند إشكالاً.
وبغضّ النظر عن بحث السند، فقد تكون بعض فقرات الرواية هي استنباطات علي بن إبراهيم القمّي&، لا قول الإمام(عليه السلام).
والسؤال الذي يجب الإجابة عنه هنا، هو: هل أنّ ذكر مصاديق الزينة في هذه الرواية من باب التعبّد، أو أنّها لبيان المصداق فقط؟ فإن كان ذكرها من باب بيان المصداق، فيجب أن نعتبر الزينة الحديثة ـ كالتي تكون على اليد مثلاً ـ من مصاديق الزينة الظاهرية.
آراء الفقهاء في الزينة
هناك ثلاثة احتمالات حول الزينة في هذه الآية:
الاحتمال الأوّل: المقصود من الزينة هو ما تتزيّن به المرأة، و جاء في كتاب كنز الدقائق: (إنّ المراد بزينتهنّ ما يتزيّنهن)(38).
فإن قبلنا بهذا الاحتمال، لا يكون الكفّين والوجه موضوعاً للحكم والمستثنى منه.
الاحتمال الثاني: المراد من الزينة، مواضع الزينة.
الاحتمال الثالث: قال بعض: المرأة كلّها زينة، يعني أنّ المرأة هي مصداق الزينة، فيكون مراد الآية أن تستر نفسها.
لكن هذا الاحتمال لا يناسب ظاهر الآية، ولا يُمكن تفسير ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ بمعنى (لا يُبدين أنفسهن)، واعتبار الزينة نفس المرأة أو كلّها.
وإن قبلنا هذا الاحتمال، واعتبرنا مواضع الزينة موضوع الحكم، فيكون شاملاً للكفّين والوجه، ويجب استثناءه بـ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾.
نقد على الاحتمال الثاني
ذهب أكثر مفسّري الشيعة والسنّة أنّ «زينتهنّ» تعني مواضع الزينة، من باب الحال والمحلّ: «لا يحرم رؤية زينة المرأة في نفسه، والحرام رؤية مواضع الزينة».
يقول الآلوسي: «وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر»(39).
وعليه فإنّ تحريم إظهار الزينة، تعني بالأولى تحريم مواقعها.
والبعض يقدّر المواضع ويقول: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ تعني «لا يُبدين مواضع زينتهنّ»، وهذا الرأي يرجع إلى الرأي السابق.
أمّا دليل هؤلاء ـ الذين يقولون بذلك من باب الحال والمحلّ والذين يقدّرون المواضع ـ هو عدم حرمة إظهار زينة النساء بذاتها، وبغضّ النظر عن المرأة.
الجواب: عندما تُفصل الزينة عن المرأة، لا يُطلق عليها اسم الزينة، بل تكون مجوهرات، وهذا يُثبت بطلان دليلهم.
تحقيق في الاحتمال الثالث «المرأة كلّها زينة»
رأي آية الله العظمى اللنكراني حول الزينة
يقول الشيخ اللنكراني في ذلك: «فالظاهر أنّ الزينة ليست بمعنى الأمر الصناعي الزائد على الخلقة فقط، كما ربّما يخطر بالبال ابتداء، بل لها معنى أعمّ من ذلك ومن الزينة الخلقية، بل يمكن أن يقال بالاختصاص، بخصوص الزينة الخلقية التي هي الأساس في الجهة المطلوبة من النساء، وعليه يكون النهي عن إبداء الزينة عبارة أُخرى عن نهي إبداء أنفسهنّ.
والسرّ في هذا التعبير بيان نكتة الحكم وهي: أنّ النهي إنّما هو لأجل كون النساء زينة بتمام أعضائهن، واستثناء ما ظهر يدلّ على أنّهنّ وإن كنّ زينة بتمام الأعضاء إلّا أنّ منها ما تكون زينة غير ظاهرة، ومنها ما تكون زينة ظاهرة، ومن الواضح ـ حينئذ ـ أنّ المراد بالزينة الظاهرة ليس إلّا مثل الوجه والكفّين، وتعبير إلّا ما ظهر بصورة الفعل الماضي لعلّه كان لإفادة أنّ مثلهما كان ظاهراً في السابق قبل نزول الآية، كقوله تعالى: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.
وعليه يكون الاستثناء منقطعاً ولا بأس به، فالآية على هذا التقدير تدلّ على جواز إبداء الوجه والكفّين وعدم حرمة كشفهما، ولا ينافي ما ذكرنا إضافة الزينة إلى النساء في المستثنى منه الظاهرة في المغايرة بين الزينة وبين الأعضاء، لأنّ هذه الإضافة إنّما هي كإضافة الأنفس إليهنّ، فكأنّه قال: ولا يُبدين أنفسهنّ إلّا ما ظهر منهنّ فتدبّر.»(40)
وعلیه فإنّ الشيخ يُؤيّد الاحتمال الثالث ويقول: «فالظاهر أنّ الزينة ليست بمعنى الأمر الصناعي الزائد على الخلقة فقط، كما ربّما يخطر بالبال ابتداء، بل لها معنى أعمّ من ذلك ومن الزينة الخلقية».
ثمّ يعدل عن هذا الكلام ويقول: «بل يمكن أن يقال بالاختصاص بخصوص الزينة الخلقية التي هي الأساس في الجهة المطلوبة من النساء، وعليه يكون النهي عن إبداء الزينة عبارة أُخرى عن نهي إبداء أنفسهنّ، والسرّ في هذا التعبير بيان نكتة الحكم وهي: أنّ النهي إنّما هو لأجل كون النساء زينة بتمام أعضائهن».
ثمّ يقول في ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾:
«الأعضاء إلّا أنّ منها ما تكون زينة غير ظاهرة، ومنها ما تكون زينة ظاهرة، ومن الواضح ـ حينئذ ـ أنّ المراد بالزينة الظاهرة ليس إلّا مثل الوجه والكفّين».
وتعبير إلّا ما ظهر بصورة الفعل الماضي لعلّه كان لإفادة أنّ مثلهما كان ظاهراً في السابق قبل نزول الآية، كقوله تعالى: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، وعليه يكون الاستثناء منقطعاً ولا بأس به، فالآية على هذا التقدير تدلّ على جواز إبداء الوجه والكفّين وعدم حرمة كشفهما.
نقد على رأي آية الله العظمى فاضل اللنكراني(قدس سره)
هناك عدة إشكالات على الرأي المذكور:
الإشكال الأوّل:
كما ذكر بنفسه في نهاية الكلام، إضافة الزينة للمرأة، فإنّ إضافة الزينة إلى النساء ظاهره المغايرة بين الزينة وبين المرأة.
الإشكال الثاني:
يبدو أنّه فسّر ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ بمعنى كلّما ظهر ذاتاً، ويجوّز إظهار ما هو ظاهر، فيجوز إظهار الوجه والكفّين بما أنّهما ظاهرتان ذاتاً.
بعبارة أُخرى: إذا ظهر وجه المرأة وكفّيها، لا نقول أنّها أظهرت زينتها، لأنّهما ظاهران بذاتهما، وإذا أظهرت ما عداهما، نقول أنّها أبدت زينتها؛ لأنّه لا يُمكن إظهار ما هو ظاهر أصلاً، فنقول: إنّ الاستثناء منقطع.
وبناءاً على هذا الرأي، هل نستطيع جعل هذا الاستثناء قرينة، ونقول: إنّ المستثنى منه ـ وهو «زينتهنّ» ـ يعني كلّ بدن المرأة؟
بعبارة أُخرى: هل يمكننا القول: إنّ زينة المرأة قسمان، الأوّل: ما يظهر بالذات، والثاني: لا يظهر بذاته بل بشيء آخر، فذكر ما هو ظاهر بالذات قرينة على أنّ المستثنى منه كلّ زينة لا تظهر بالذات، وهو بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين؟
الجواب: أن «من» في «منها» في هذه الآية للتبعيض، وضمير «ها» يرجع إلى الزينة، والزينة الظاهرية أيضاً يمكن أن تكون ذاتية أو عرضية كالخاتم وغيره، والزينة الظاهرية أعمّ من ما ذكره.
الإشكال الثالث:
هذا الرأي لا يتّفق مع ذيل الآية: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾، فإذا فسّرنا الزينة في صدر الآية بمعنى الزينة الظاهرية الذاتية، يجب تفسير ذيل الآية بنفس المعنى، وإذا فسّرنا الزينة في صدر الآية بمعنى الزينة العرضية، علينا أن نفسّرها كذلك في ذيل الآية، لكنّه من الواضح أنّ ما قيل في ذيل الآية يدلّ على الزينة العرضية وليست الذاتية.
الإشكال الرابع:
تكرّرت عبارة ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ مرّتين في هذه الآية، والمقصود من العبارة الثانية هي الزينة العرضية، وإذا افترضنا التنزّل، فيكون معناها أعمّ من الزينة العرضية والذاتية.
نقد آية الله العظمى فاضل اللنكراني على الاحتمال الثاني:
وأمّا ما ربّما يقال من أنّ الظاهر أنّ المراد بالزينة التي تعلّق النهي بإبدائها هي مواضع الزينة، فالمراد بالزينة هو الأمر الصناعي الزائد على الخلقة، فيرد عليه أوّلاً: أنّه خلاف الظاهر، لابتنائه على التقدير الذي هو خلاف الأصل .
ثمّ يذكر إشكال آخر على هذا القول:
وثانياً: أنّه لو كان المراد مواضع الزينة، فيلزم أن لا تكون الآية متعرّضة لحكم غير مواضع الزينة، فلا دلالة لها على حرمة إبداء غير تلك المواضع، ودعوى أنّ ما يقع في معرض إبداء مواضع الزينة لا غيرها مدفوعة، بأنّه قد يقع غيرها في معرض الإبداء أيضاً، والظاهر أنّ الآية في مقام إفادة حكم كلّي من هذه الجهة(41) .
ثمّ يقول: والحقّ أن يقال: إنّ المرأة بنفسها زينة إلالهية خلقية، كما قال به الفخر الرازي في تفسيره(42)، واستدلّ عليه بوجهين :الأوّل: إنّ الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعدّ زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفّينا العموم حقّه، ولا يمنع دخول ما عدا الخلق فيه أيضاً .
الثاني: إنّ قوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ يدلّ على أنّ المراد بالزينة ما يعمّ الخلقة وغيرها، فكأنّه تعالى منعهنّ من إظهار محاسن خلقتهن، بأن أوجب سترها بالخمار(43) .
إیضاح: الآية تُصرّح بالجيوب بمعنى الرقبة، وهي من *** [العبارة غير مفهومة]
نقد على رأي فخر الرازي
الدليل الأوّل عند فخر الرازي هو أن ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ يعمّ الزينة الذاتية والعرضية، وأنّ الله سبحانه أمرهن بارتداء الخمار ليسترن محاسنهن الذاتية.
الإشكال: هذا القسم من الآية يريد بيان حكم آخر، الآية الأُولى تتحدّث عن الزينة الظاهرية والباطنية، ثمّ يأمر الشارع بستر الرقبة والصدر، إلّا أن نقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} تأكيد ما سبق، وهذا أيضاً مخالف للظاهر بشدّة.
الإشكال الثاني على كلام فخر الرازي: أنّ الروايات المنقولة في ذيل هذه الآية فسّرت «زينتهنّ» بالزينة العرضية، وذكرت الكحل والثوب والسوار و… كمصاديق للزينة، وعليه فلا يُمكن اعتبار المرأة نفسها زينة.
رأي أهل السنّة في الزينة الظاهرة
يعتقد بعض أهل السنّة ـ أتباع مالك وأبي حنيفة ـ عدم وجوب ستر الوجه والكفّين، مع أنّهم يقولون: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أي ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره، وهو الوجه والكفّان.
عن ابن مسعود، أنّ ظاهر الزينة الثياب، وأضاف ابن جبير الوجه، قال ابن عباس وابن قتادة: «ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب والقرط والفتخ»(44).
هناك اختلاف بين أهل السنّة حول القرط بأنّه ظاهره أو باطنه، والفتخ هنا بمعنى الخاتم.
يظهر أن تعيين المصاديق تلك في كتب أهل السنّة لا تنبعث عن روايات، بل أنّهم عيّنوا المصاديق بناءاً على ضرورة الإبداء.
القول الصحيح حول الزينة
بناءاً على ما ذكر من مباحث و مصاديق روائية للزينة، نقول: الزينة في الآية تعني ما تتزيّن به المرأة، والقول الصحيح نفسه الذي ذكره بعض الأعاظم كآية الله الخوئي&، إضافة إلى الروايات التي عيّنت المصاديق، تُؤيّد هذه الفقرة من الآية: ﴿لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ الرأي المذكور.
أمّا آية الله الحكيم& له استنباط أوسع في المستدرك، ويعتبر الزينة الطبيعية أعمّ من الزينة الخلقية والظاهرية:
﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ يعني ما ظهر من الزينة الخلقية مثل: الكتف والوجه، وما ظهر من الزينة المكتسبة مثل: الخاتم والسوار.
مع أنّه قد يتوافق هذا الرأي مع ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، لكنّه لا يتّفق مع ذيل الآية: ﴿لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾.
معاني ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾
قسّمت كتب التفاسير ـ لبيان الزينة الظاهرة في الآية ـ الزينةَ أربعة أقسام:
1- الظاهرة، 2- الباطنة، 3- الخلقية والطبيعية، 4- المكتسبة.
يعتبر بعض الخاتم والسوار والكحل وما شابه ذلك زينة ظاهرة، والقرط والقلادة والإكليل والخلخال وما شابه ذلك زينة باطنة.
وأما الزينة الخلقية والطبيعية كالوجه، وكلّما هو من خلقتها.
أمّا الزينة المكتسبة:
(ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، كالثياب والحُلي والكحل والخضاب)(45).
هناك ثلاثة احتمالات في معنى الزينة الظاهرة:
الاحتمال الأوّل: كلّما تُظهره المرأة بالعادة والعرف خارج البيت.
الاحتمال الثاني: المقصود من (ما ظهر) كلّ زينة تظهر عن اضطرار.
الاحتمال الثالث: بعض المفسّرين يقولون في (ما ظهر) أنّها بمعنى ما ظهر من الزينة دون نية وقصد، وقد نستطيع إلحاق هذا الاحتمال بالاحتمال الثاني، وهو ظهور الزينة عن اضطرار.
ظهور الزينة عن اضطرار
يقول ابن عطية ـ من بين علماء أهل السنّة ـ: إنّ (ما ظهر) بمعنى (ما ظهر عن اضطرار)، وتبعه على ذلك القرطبي.
يقول ابن عطية: (المرأة مأمورة بأن لا تُبدي، وأن تجتهد في الاخفاء لكلّ ما هو زينة، ووقع الاستثناء في ما یظهر بحكم الضرورة، فما ظهر على هذا الوجه ممّا تعدّى إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه)(46).
الجواب: إنّ الآية لا تريد بيان حكم الاضطرار، ولا نجد قرينة لتفسير (ما ظهر) بحكم الاضطرار، ومن جهة أُخرى يجب أن نعتبر الاستثناء منقطع بناءاً على هذا التفسير، وهذا خلاف الظاهر.
يقول القرطبي بعد نقل كلام ابن عطية:
(لمّا كان الغالب من الوجه والكفّين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحجّ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما)(47).
وعليه يظهر أنّه يعتبر الوجه والكفّين من مصاديق الزينة، وضرورة إظهارهما بسبب العادة والعبادة كالحجّ والصلاة.
لكنّه لا نجد إشارة للضرورة في الآية، والضرورة لا تكون في الحجّ أو العبادات، بل إنّها في معالجة المرض وأمثاله.
فيكون الاحتمال الأوّل هو الأقوى، بأن (ما ظهر) تعني ما ظهر عادة.
رأي المفسّرين الشيعة في الزينة الظاهرة
يقول الشيخ الطبرسي في جوامع الجامع بأنّ الزينة الظاهرة هي: (فالظاهرة لا يجب سترها وهي الثياب).
ويقول في مجمع البيان: وفيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: إنّ الظاهرة الثياب، والباطنة الخلخالان والقرطان والسواران عن ابن مسعود.
وثانيها: إنّ الظاهرة الكحل والخاتم والخدان والخضاب في الكفّ عن ابن عباس، والكحل والسوار والخاتم عن قتادة.
وثالثها: إنّها الوجه والكفّان عن الضحّاك وعطا، والوجه والبنان عن الحسن، وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفّان والأصابع(48).
الاستنباطات المختلفة من الآية
البعض يوجب ستر الوجه والكفّين استناداً إلى الآية، وبعض يقول بعدم وجوب ستر الوجه والكفّين استناداً إليها.
فالذين فسّروا (زينتهنّ) بمعنى (مواضع الزينة)، استثنوا الوجه والكفّين باستناد ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
الإشكال الوارد عليهم: إذا فسّرنا (زينتهنّ) بـ (مواضع الزينة)، لا يمكن القول: إنّ كلّ اليدين موضع زينة، أو أنّ الوجه كلّه موضع الكحل.
نعم، قد نستطيع القول بأنّه يوجد عادة تلازم بين إظهار زينة الوجه والكفّين وإظهار كلّهما (الوجه والكفّين)، وبعبارة أُخرى: إنّ الوجه والكفّين يظهران بظهور الزينة.
رأي المحقق الخوئي&
بناءاً على تفسيره& للزينة بأنّها (ما تتزيّن به المرأة)، يُخرج الوجه والكفّان تخصّصاً من المستثنى منه(49).
الجواب نفس الذي ذكرناه، فنقول: مع أنّ ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ لا تدلّ على الوجه والكفّين بدليل المطابقة، لكنّها تدلّ على الزينة العرفية بدليل المطابقة، فتدلّ على مواضع الزينة بدلالة الالتزام تبعاً لذلك.
ثمّ يقول السيّد الخوئي&:
ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا: إنّ المراد بالزينة هو مواضعها، فلا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة بجواز النظر إلى الوجه والكفّين؛ وذلك أنّ الأمر بالتستّر واضح الدلالة على عدم جواز نظر الرجل إلى بدن المرأة بسبب الملازمة بين الحكمين، إلّا أنّه لا يمكن القول بذلك في عكس القضية، فإنّ جواز الإبداء لا يدلّ على جواز نظر الرجل إلى الوجه والكفّين إذ لا ملازمة بينهما.
وإذا قلنا: إنّ المراد من زينتهنّ مواضع الزينة، فيمكننا الحكم بجواز إبداء الوجه والكفّين دون النظر إليهما.
نقول في الجواب: لا توجد ملازمة بين جواز الكشف وجواز النظر كما ذُكر، لكن في خصوص الآية، إنّها تريد بيان حكم النظر وحدود ما يجوز النظر إليه، فنرى في الآية قرائن على تلازم جواز الكشف وجواز النظر.
إضافة إلى ذلك، إذا قلنا بأنّ المراد من الزينة هو ما تتزّين به المرأة وليس مواضع الزينة، فيمكننا أيضاً أن نقول: إنّه لا يوجد تلازم بين جواز كشف الزينة الظاهرة للمرأة وجواز النظر إليها، فيجب البحث عن دليل آخر لجواز النظر، بعبارة أُخرى: كلام المحقّق لا يكون استناداً على تفسير الزينة بمواضعها فقط.
ثمّ يقول السيّد الخوئي&:
والإبداء بمعنى الإظهار، فإذا كان متعلّقاً بشيء ولم يكن متعدّياً باللام يكون في مقابل الستر، وإذا كان متعدّياً باللام كان في مقابل الاخفاء بمعنى الاعلام والاراءة، كما يقال: يجب على الرجل ستر عورته، وليس له إظهارها في ما إذا كان يحتمل وجود ناظر محترم، وكذلك يقال: (إنّ بدن المرأة كلّه عورة) فيراد به ذلك، وأمّا إذا قيل: أبديت لزيد رأيي أو مالي، فمعناه أعلمته وأريته.
بيان صاحب إسداء الرغاب
و قد ذكر هذا صاحب كتاب إسداء الرغاب قبل المحقّق الخوئي، فقال:
إنّ قوله تعالى في الأوّل ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ…﴾ ليس ناظراً إلى فرض وجود الأجنبي والعلم به، غاية الأمر أنّه نعلم من الخارج عدم تضيّق الحكم بنحو يعمّ وجوده وعدمه، ولهذا نقول: إنّه ناظر إلى صورة مظنّة وجود الناظر وإن لم نعلم به، وعليه فلا مانع من إظهار الوجه والكفّين في هذه الصورة.
وأمّا قوله تعالى بعد ذلك ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ﴾ المفروض في مورده صورة وجود الناظر والعلم به، وعليه فالإبداء المنهي عنه في هذه الصورة يكون خالياً عن الاستثناء، ويعمّ الباطنة والظاهرة معاً، فإبداء الوجه والكفّين في صورة وجود الناظر منهي عنه، وإن كانتا من الزينة الظاهرة لخلوّ هذه الجملة الشريفة من الاستثناء(50).
فإنّه يوافق المحقّق الخوئي&، ويقول: إنّ المفاد من ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ﴾ في صدر الآية وذيلها مختلف، ويقول: ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ﴾ في صدر الآية بدون فرض وجود أجنبي والعلم به، لكنّها في ذيل الآية المفروض وجود الناظر الأجنبي والعلم به، وعليه فالإبداء خاليا عن الاستثناء، فيعمّ الزينة الباطنة والظاهرة معاً، فإبداء الوجه والكفّين منهي في صورة وجود الناظر، وإن كانتا من الزينة الظاهرة، لخلوّ ذيل الآية من الاستثناء.
ويقول المحقّق الخوئي&:
ومن هنا يظهر معنى الآية الكريمة، فإنّ قوله عزّ وجل أوّلاً ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ إنّما يُفيد وجوب ستر البدن الذي هو موضع الزينة وحرمة كشفه ما عدا الوجه واليدين، لأنّهما من الزينة الظاهرة، فيُستفاد منه أنّ حال بدن المرأة حال عورة الرجل لابدّ من ستره بحيث لا يطّلع عليه غيرها، باستثناء الوجه واليدين فإنّهما لا يجب سترهما، لكنّك قد عرفت أنّ ذلك لا يلزم جواز نظر الرجل إليهما، في حين أنّ قوله عزّ وجل ثانياً ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ…﴾ يُفيد حرمة إظهار بدنها، وجعل الغير مطّلعاً عليه وإراءته مطلقاً، من دون فرق بين الوجه واليدين وغيرهما، إلّا لزوجها والمذكورين في الآية الكريمة.
فيتحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ الآية الكريمة بملاحظة النصوص الواردة في تفسير الزينة تُفيد حكمين:
الأوّل: حكم ظهور الزينة في حدّ نفسه، فتُفيد وجوب ستر غير الظاهرة منها دون الظاهرة التي هي الوجه واليدان.
الثاني: حكم إظهار الزينة للغير، فتُفيد حرمته مطلقاً من دون فرق بين الظاهرة والباطنة، إلّا للمذكورين في الآية الكريمة حيث يجوز لها الإظهار لهم.
وحيث عرفت أنّ حرمة الإظهار ووجوب التستّر تلازم حرمة النظر إليها، فتكون الآية الكريمة أولى بالاستدلال بها على عدم الجواز من الاستدلال بها على الجواز(51).
وبناءاً على المقدّمة التي ذكرها، نقول: إنّ القسم الأوّل من الآية ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ يُفيد حرمة إظهار البدن إلّا الوجه والكفّين والزينة الظاهرة، لكنّه لا توجد ملازمة بين جواز الإبداء وجواز النظر، والقسم الثاني يُفيد حرمة إظهار وإراءة البدن، ولا يستثني الوجه والكفّين، فيكون إبداءهما حرام، إلّا للمذكورين في الآية الكريمة حيث يجوّز الله سبحانه الإظهار لهم.
هناك إشكالان على كلام المحقّق:
الإشكال الأوّل: لا يوجد فرق بين (أبداه) و(أبدا له) في لغة العرب، وكلاهما بمعنى الإظهار، لكن في (أبداه) لا يوجد ناظر معيّن، والمفهوم صرف الإظهار، وفي (أبدا له) هناك ناظر معيّن.
الإشكال الثاني: يلزم من كلام المحقّق وجوب ستر المرأة لزينتها الباطنة والظاهرة ـ كالوجه والكفّين ـ في حال وجود أجنبي، إلّا للمذكورين في الآية، بناءاً على القسم الثاني من الآية ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ﴾، ومن جهة أُخرى بناءاً على القسم الأوّل من الآية ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، يجوز للمرأة إظهار الوجه والكفّين في حال وجود أجنبي!.
رأي أهل السنّة حول الوجه والكفّين
يعتقد بعض أهل السنّة ـ الحنابلة والشافعية ـ بوجوب ستر الوجه والكفّين ، فيقسّمون الزينة إلى قسمين: ذاتية وعرضية، ويُعبّرون عن الذاتية بالخلقية والعرضية بالمكتسبة ويقولون:
(الزينة على قسمين: خلقية ومکتسبة، فالخلقية وجهها، فإنّه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم، وأمّا الزينة المکتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها، کالثياب والحُلي والکحل والخضاب(52)).
ثمّ قالوا: (والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقاً، وحرّمت عليها أن تكشف شيئاً من أعضائها).
فعمّموا معنى الزينة في الآية، وحرّموا إبداءها مطلقاً.
ثمّ قالو في معنى ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾:
(ما ظهر بنفسه من غير قصد واختيار ومن غير قصد ولا عمد، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها).
إشكال على كلام علماء الشافعية والحنابلة
يظهر من كلامهم أنّهم افترضوا الاستثناء منقطعاً، هناك بحوث في إمكانية وجود استثناء منقطع في القرآن من عدمه، والحقّ وجود الاستثناء المنقطع في القرآن، خلافاً لما قاله الأعاظم كالفقيه الكبير السيّد كاظم اليزدي&، والمحقّق الأُصولي الخوئي&، وبعض أعاظم الفقهاء كالإمام الخميني(قدس سره) اختار هذا الرأي، وذكر فوائداً للاستثناء المنقطع.
الإشكال الوارد على قول الشافعية والحنابلة:
أوّلاً: حمل (ما ظهر) على (ما ظهر من غير قصد واختيار) يخالف ظاهر الآية، ولا توجد قرينة على أنّ ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ هي بمعنى (ما ظهر من غير قصد واختيار).
ثانياً: إذا كان (الإبداء) من غير قصد واختيار لا داعي لبيانه، فالآية لا تريد بيان حكم الإبداء سهواً ومن غير قصد.
تحقيق في الروايات
الرواية الأُولى:
عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى×، قال: سألته عن الرجل، ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له؟ قال : الوجه والكفّ وموضع السوار(53).
صاحب الجواهر يقول في هذه الرواية أنّها معتبرة، لكنّه ذكر عبد الله بن الحسن في سندها، وهو غير موثوق ولا ممدوح.
وبغضّ النظر عن سند الرواية، لا يمكننا اعتبار الرواية تفسيراً لـ ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾.
يقول المحقّق الخوئي في هذه الرواية:
(وفيه: أنّها ضعيفة سنداً بعبد الله بن الحسن، إذ لم يرد فيه أي توثيق أو مدح، وعلى أنّها واردة في المرأة التي يُحرم نكاحها، ومن الواضح أنّها ليست إلّا المحرم، فلا يبقى لها ارتباط بمحلّ كلامنا، أعني الأجنبية، بل يمكننا استفادة الحرمة منها نظراً إلى تخصيص الجواز بالمحارم، فمَن العجيب من صاحب الجواهر+ الاستدلال بها على الجواز(54) .
الإشكال على كلامه: أنّ المتبادر إلى الذهن من هذا السؤال: (ما يصلح أن يُنظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له أن ينظر إليها)، وليس (من المرأة التي يحرم نكاحها).
الظاهر من الحديث أنّ السائل يسأل عن النظر إلى المرأة الأجنبية، وهو يعلم أنّ النظر إلى الأجنبية حرام، لكنّه لا يعلم حدود الحرمة.
ومن الواضح أن متعلّق (لا تحلّ له)، إمّا (نكاحها) وهو مقدّر، وإمّا (ينظر إليها)، لكن كلمة (ينظر) السابقة قرينة على أنّ المقدّر (ينظر إليها) وليس (نكاحها).
ومن جهة أُخرى نعلم أنّ المسلمين كانوا من صدر الإسلام على بيّنة أنّ النظر إلى وجه وكفّي المرأة التي يحرم نكاحها ـ بل شعرها وبدنها ـ جائز. وأساساً أنّه من العجيب أن يسأل بعضهم عن النظر إلى من يحرم نكاحها، ويُجيبه الإمام(عليه السلام) بهذا الجواب.
الرواية الثانية، صحيحة فضيل.
يروي الكليني& في الكافي: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن جميل بن درّاج، عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله× عن الذراعين من المرأة أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ﴾؟ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين.
المعنى اللغوي لـ«دون»
النقطة المهمّة هنا هي معنى كلمة دون.
يقول الفيروزآبادي في معناها: «دُون بالضمّ، نقيض فوق، ويكون ظرفاً وبمعنى أمام ووراء وفوق ضدّ وبمعنى غير».
ويقول الجوهري في صحاح اللغة في معناها: «دُونَ: نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية ويكون ظرفاً، والدُون: الحقير الخسيس، ولا يشتقّ من فعل، وبعضهم يقول منه: دَان يَدُون دَوناً، وأدِينَ إدَانَةً».
أمّا لسان العرب بعد أن يذكر في معناها ما ذكره الجوهري، يقول:
«قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لدُونَ تِسْعَةُ [عشرة] معانٍ: تَكُونُ بِمَعْنَى قَبْل، وَبِمَعْنَى أَمامَ، وَبِمَعْنَى وَرَاءَ، وَبِمَعْنَى تَحْتَ، وَبِمَعْنَى فَوْقَ، وَبِمَعْنَى السَّاقِطِ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، وبمعنى الشريف، وَبِمَعْنَى الأَمر، وَبِمَعْنَى الْوَعِيدِ، وَبِمَعْنَى الإِغراء(55)».
ثمّ يذكر أمثلة لكلّ معنى ويذكر «دونَ قَدَمِك خَدُّ عَدُوِّكَ أَي تَحْتَ قَدَمِكَ» لمعنى تحت.
رأي الفقهاء في صحيحة فضيل
بيان المحقّق الخوئي:
يُؤيّد الرواية، لكنّه يقول: إنّ جواز الإبداء لا يلازم جواز النظر إليه، فلا تدلّ هذه الصحيحة على جواز النظر إلى الوجه والكفّين.
وقد ذكرنا الإشكال عليه.
ثمّ يقول: وعلى أنّ الصحيحة في الحرمة أظهر من الجواز، فإنّ الظاهر أنّ المراد بـ «ما دون الخمار» هو ما يعمّ الوجه أيضاً، لأنّه ممّا يكون على الرأس، فيكون الوجه ممّا هو دونه لا محالة، ولا مبرر لملاحظة الخمار من أسفله ـ أعني ما يكون على الذقن ـ كي يقال: إنّ ما دونه هو الرقبة خاصّة، بل ما دونه الوجه فما دون.
كما أنّ الظاهر بل الواضح أنّ المراد بـ«ما دون السوارين» هو ما يكون دونهما إلى أطراف الأصابع، وحُمل ذلك على الفاصلة اليسيرة بينهما وبين الكفّ، بحيث يكون الكفّ خارجاً من قوله× «وما دون السوارين» لا يخلو من تعسّف .
إذن فالرواية تدلّ على أنّ الذراعين وما دونهما إلى أطراف الأصابع والخمار وما دونه مطلقاً من الزينة المحرّم إبداؤها، فلا يبقى وجه للاستدلال بها على جواز النظر إلى الوجه والكفّين .
نقد على كلام المحقّق الخوئي(قدس سره)
يظهر من الرواية أنّ الإمام(عليه السلام) يُجيب فضيل حول الذراعين بـ «نعم»، ثمّ يريد بيان حكم عام إجابة عن سؤاله، ويُبيّن له قاعدة عامّة، لكنّه بناءاً على كلام المحقّق الخوئي، فإنّ التفصيل الذي يذكره الإمام(عليه السلام) في كلامه، هو لبيان مصاديق أُخرى للزينة الباطنة، أمّا ظاهر الرواية بيان الحكم العام للزينة وحدودها، كما نرى في كثير من الروايات الأُخرى أن يسأل السائل عن حكم خاصّ، ويُجيبه الإمام(عليه السلام) بحكم عام.
ثمّ ينبغي التحقيق في مقصود «دون الخمار» و«دون السوارين».
أمّا المحقّق الخوئي فبما أنّه قال في الخمار أنّه ينسدل من أعلى الرأس، يعتبر الوجه «ما دون الخمار».
والحال أنّه إذا اعتبرنا الخمار من الرأس، يكون الوجه ما دون بعض الخمار، وليس ما دون تمام الخمار، فلا يُمكن اعتبار الوجه جزءاً من ما دون تمام الخمار، فإن يقول أحدهم ما دون الخمار لا يتبادر إلى الذهن فوق الخمار الذي يقع فوق الرأس، بل المتبادر إلى الذهن هو ما دون الذقن.
وعليه، فالحكم كما ذكره الشيخ النراقي في المستند وصاحب الحدائق والأعاظم ـ مثل الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه ـ أنّه يكفي الاستدلال بهذا الحديث لإثبات جواز إبداء الوجه والكفّين.
نقد آخر على كلام المحقّق الخوئي(قدس سره)
قلنا: إنّ رأي المحقّق الخوئي وصاحب إسداء الرغاب في ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ أنّ العبارة يختلف مقصودها في صدر الآية وذيلها، ولا يجوز إبداء الوجه والكفّين مع احتمال وجود ناظر محترم، أمّا المحقّق الخوئي فيقول بعد ذلك:
معتبرة أبي بصير صريحة في أنّ السؤال عن القسم الأوّل من الآية أي ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، وأمّا صحيحة فضيل فإنّ السؤال فيها عن القسم الثاني أي ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ﴾، فيظهر أنّه حتّى رواة الحديث لهم استنباطين مختلفين من هذين القسمين.
فإنّه يذكر حديث أبي بصير في البداية، ثمّ يقول: فهي صريحة في أنّ السؤال عن القسم الأوّل من الآية الكريمة دون القسم الثاني، فلا تدلّ إلّا على جواز كشف الوجه واليدين وعدم وجوب سترهما في نفسه، وقد عرفت أنّ ذلك لا يلازم جواز النظر إليهما(56) .
ثمّ ينقل صحيحة الفضيل ويقول: فبملاحظة هذه النصوص يتّضح جلياً أنّ ما تُفسّره معتبرة أبي بصير غير ما تُفسّره صحيحة الفضيل، وأنّهما منضمّاً إنّما يفيدان أنّ الزينة على قسمين :
قسم منها يجب ستره في نفسه، وهو ما عدا الوجه والكفّين من البدن.
وقسم منها لا يجوز إبداؤه لغير المذكورين في الآية الكريمة مطلقاً، وهو تمام البدن من دون استثناء .
ولعلّ صاحب الجواهر+ حينما استدلّ بهذه الصحيحة على جواز النظر إلى الوجه والكفّين تخيّل أنّها واردة في تفسير القسم الأوّل من الآية الكريمة، وغفل عن كونها صريحة في النظر إلى القسم الثاني.
تحليل ونقد على رأي المحقّق الخوئي(قدس سره)
مصاديق الزينة في رواية أبي بصير هي (الخاتم والمسكة(57))، وجاء في رواية الفضيل أنّ (الذراعين) من مصاديق الزينة، البعض يقول في (الذراع) أنّه من المرفق حتّى المعصم، والبعض يقول أنّه حتّى أطراف الأصابع.
في هاتين الروايتين ـ وإن ضممناهما إلى بعضهما ـ لا يوجد كلام حول احتمال وجود الناظر أو العلم بوجوده من عدمه، والظاهر أنّ كلّا الروايتين تفترض وجود ناظر محترم.
2- رأي آية الله العظمى فاضل اللنكراني(قدس سره) حول صحيحة الفضيل
يقول+: صحيحة من حيث السند ومجملة من حيث الدلالة(58).
فإنّه يعتبرها مجملة، وبسبب الاحتمالات والاستنباطات المتعدّدة منها، يعتقد بأنّها غير صالحة لتفسير هذه الآية.
فيقول في إجمال هذا الحديث:
إذا قلنا أنّ معنى (ما دون السوارين) أنّه من السوار حتّى المرفق، يلزم ذلك أن يكون الفضيل ـ وهو أحد أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) ـ شاكّاً في وجوب ستر الذراع، لكنّه أعلى شأناً من أن يكون جاهلاً بهذا الحكم، بل يمكن القول أنّ الفضيل كان شاكّاً بحكم الكفّين والأصابع وكان سؤاله حولهما.
ومن جهة أُخرى، إذا قلنا في (ما دون الخمار) أنّه من تحت الذقن، كما قال المجلسي في مرآة العقول، والشيخ الفيض، وصاحب الحدائق والمرحوم الجزائري في قلائد الدرر، يلزم ذلك أن يكون السائل ـ وهو الفضيل ـ شاكّاً في وجوب ستر الصدر والرقبة، أو كان جاهلاً بالحكم، والتحقیق أنّ السائل إنّما سأل عن الذراع إلی الکفّ وأطراف الأصابع.
ثمّ ينقل عن الزمخشري قوله في (دون)، أنّها بمعنى (أدنى) أي أقرب جزءٍ من الشيء، ثمّ يقول: ولو قلنا بأنّ معنی دون الشيء ما هو أدنی منه، فكلا الجهتين أقرب إلى السوار من باب الدنوّ والقرب، فلا يمكن اعتبار (ما دون) هنا بمعنى (أدنى) مطلقاً.
ثمّ يستنتج في النهاية، أنّ الرواية مع صحّة سندها لكنّها مجملة؛ لإبهام معنى (ما دون الخمار) و(ما دون السوارين) في الرواية.
ثمّ يقول حول الرواية:
نفس السؤال في الروایة دلیل علی أنّ مفاد هذه الجمله لا یغایر مفاد قوله تعالی قبل ذلك ﴿وَلٰا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا﴾ یعني أنّ هذه الجملة أیضاً مشتملة علی الاستثناء، وعدم التعرّض له إنّما هو للاتّکال علی الجملة السابقة، فیدلّ علی خلاف ما التزم به الفاضل الهندي المتقدّم من الفرق بین الجملتین، کما أنّ نفس السؤال عن أنّ الذراعین هل تکونان من الزینة، تدلّ علی أنّ المراد بالزینة لیس الأمر الزائد علی الخلقة بل نفس أعضاء المرأة، ومن المعلوم وقوع التقرير بالإضافة إلى أمرين.
جواب على إشكال آية الله العظمى فاضل اللنكراني(قدس سره)
الإجمال في رواية الفضيل.
قيل: إنّ الفضيل أرفع شأناً من أن يكون جاهلاً بحكم ستر الذراعين والصدر والرقبة، نقول: سؤال الفضيل ليس حول الوجه ولا حول الكفّين، بل إنّه يسأل عن حكم ستر الذراعين، ويُجيبه الإمام(عليه السلام) بتفصيل.
وكما جاء في المباحث الأُصولية في باب حجّية الظواهر، فآيات القرآن حجّة على الجميع إلى يوم القيامة، ولا تختصّ بالمشافهين والأحياء وقت نزولها، وفي الرواية المذكورة، إنّ إجابة الإمام(عليه السلام) لا تختصّ بالفضيل، لنتّهمه بالشكّ في الحكم أو جهله به، بل المخاطب أوسع من شخص واحد، وأنّ الإمام(عليه السلام) يُبيّن حكماً عامّاً.
وعليه فإنّ الإمام(عليه السلام) يُجيب الفضيل بكلمة (نعم)، ثمّ يذكر الحكم العام، وقد تكرّر فيه جواب الفضيل بصورة عامّة.
فكانت إجابة الإمام(عليه السلام) على سؤال الفضيل: يجب ستر الذراعين، لأنّ كلّ ما فوق السوارين فهو زينة ويجب ستره، والذراع جزء منه.
وإن قلنا أنّ الإمام أجاب الفضيل: أنّه يجب ستر الذاعين بسبب وجوب ستر الكفّين، فيتكرّر نفس الإشكال الذي أورده المرحوم الوالد المحقّق آية الله اللنكراني، أي لا يتناسب السؤال عن وجوب ستر الكفّين والذراعين والجهل بهذا الحكم، مع شأن الفضيل، وهو أحد أعاظم أصحاب الإمام(عليه السلام).
فلا سبيل لدينا إلّا أن نقول: إنّ الفضيل كان عالماً بجواز إبداء الكفّين، وشاكّاً بوجوب ستر الذراعين، فأجابه الإمام(عليه السلام) إجمالاً بـ(نعم)، ثمّ بيّن له الحكم بالتفصيل.
أمّا حول النقطة الثانية التي ذكرها، فكما قلنا إنّه يُعتبر (زينتهنّ) في ﴿وَلاَ يُبدِينَ زِينَتهُنَّ إِلاَّ لِبُعولَتِهنَّ﴾ مطابقة لـ (زينتهنّ) في صدر الآية، فيكون الاستثناء المذكور في صدر الآية ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ سارياً على القسم الثاني من الآية، ولم يُذكر في ذيل الآية بقرينة ذكره في صدرها، فبخلاف ما مرّ بيانه، إنّه يلاحظ الزينات الخلقية والاكتسابية معاً في كلمة (زينتهنّ) في صدر الآية وذيلها، ويقول: إنّ الرواية تدلّ على أنّ مفاد (زينتهنّ) واحد في صدر الآية وذيلها.
لكنّنا لا نرى أيّ إشارة إلى ما قاله الوالد في الرواية المذكورة.
معنى ما دون الخمارين والسوارين عن الوافي
الوافي هو أحد الكتب القيّمة الشيعية، من تأليف الملّا محسن الفيض الكاشاني&، وهو كتاب قيّم في شرح وتفصيل الأحاديث، يقول الفيض الكاشاني ذيل رواية الفضيل:
وما دون الخمار يعني ما يستره الخمار من الرأس والرقبة، وهو ما سوى الوجه منهم، وما دون السوار يعني من اليدين وهو ما عدی الكفّين منها(59).
بیان صاحب الحدائق
قال صاحب الحدائق: وما دون الخمار أي ما يستره الخمار ـ من الرأس والرقبة ـ فهو من الزينة، وما خرج عن الخمار من الوجه فليس منها، (وما دون السوارين) يعني من اليدين، وهو ما عدا الكفّين، وكأن (دون) هنا في قوله (دون الخمار) بمعنى تحت الخمار، ودون السوار بمعنى تحت السوار، يعني الجهة المقابلة للعلو، فإنّ الكفّين أسفل بالنسبة إلى ما فوق السوارين من اليدين(60).
إشکالات صاحب إسداء الرغاب على رأي صاحب الحدائق
أورد صاحب إسداء الرغاب عدّة إشكالات على صاحب الحدائق:
الإشكال الأوّل:
وکون الشيء مستوراً غير مأخوذ في هذا المعنى قطعاً، ألا ترى قوله× (ما دون السوارين) لا يريد منه المستور بالسوار، بل ما كان أسفل منه، فكذا قوله× (ما دون الخمار) يراد منه ما كان أسفل منه وإن لم يكن مستوراً، وقد اعترف في الحدائق بأنّ (دون الخمار) وقول× (دون السوارين) بمعنى واحد، وهو الجهة المقابلة للعلوّ، فلا وجه لحمل قوله× (وما دون الخمار) على ما يستره الخمار خاصّةً(61).
الجواب:
لم يفسّر صاحب الحدائق (ما دون) بـ (ما يستره)، بل فسّرها بـ (تحت)، ويلزم من كون الشيء تحته، أن يكون مستوراً به، وإن فسّرنا (دون) بمعنى (تحت)، فيكون كلّما تحت الخمار زينة ويجب ستره، نعم في السوارين لا يمكن القول: إنّ كون الشيء تحت السوار يلزم أن يكون مستوراً، بل يجب اعتباره مقابلاً للعلوّ، فيكون المراد من تحت السوار الكفّين.
الإشكال الثاني:
يقول صاحب إسداء الرغاب:
إنّه لو كان المراد بما دون الخمار ما يستره الخمار عند كشف الوجه خاصّة، يلزم خلو كلام المعصوم× عن الفائدة المعتدّ بها، لأنّ ما عدا الوجه والكفّين والذراعين ممّا لاشبهة في دخوله في الزينة المنهيّة، فبيان دخول القدر المستور بالخمار من الرأس والرقبة خاصّة دون المكشوف منهما ومن غيرهما، وكذا المستور بالسوار خاصّة، أو القدر القليل الذي بين السوار والزند خاصّة، لا وجه له اصلاً(62).
الجواب:
كلامه مردود؛ لأنّه كما قلنا سابقاً، أنّ سؤال الفضيل حول الذراعين والإمام(عليه السلام) يُبيّن حكم الذراعين أوّلاً، ثمّ يُبيّن حكم المعصم حتّى الذراعين بعبارة (ما دون السوارين)، ولو كان المعنى غير هذا، لم يكن تناسباً بين جواب الإمام(عليه السلام) وسؤال الفضيل، لأنّه يسأل عن الذراعين والإمام(عليه السلام) يُجيب بتفصيل عن الكفّين.
من جهة أُخرى في تلك الفترة كانت أكثر النساء لا سيّما اللاتي يقمن في البادية، يكشفن عن رقابهن وأيديهن حتّى المرافق، وربّما كان أكثرهم جاهلاً بحكم ستر ذلك.
الإشكال الثالث:
يقول صاحب إسداء الرغاب:
لا ريب أنّ رواية فضيل لا تدلّ بالمنطوق على استثناء الوجه والكفّين ولا يدّعونه، فلو دلّت لدلّت بالمفهوم على استثناء الوجه والكفّين كما زعموه، لأنّ قوله× ما دون الخمار على تفسير شيخنا يدلّ على دخول ما يستره الخمار من الرأس والرقبة في الزينة بالمنطوق، وكذا قوله× ما دون السوارين، ولا ريب أنّ هذا المفهوم مفهوم اللقب وليس بحجّة إجماعاً.
وعلى رأي صاحب إسداء الرغاب لو أردنا استنباط جواز إبداء الوجه والكفّين من هذه الرواية، يجب التمسّك بمفهومها، والحال أنّ عبارة (ما دون الخمار) من العناوين المشيرة، ولا يكون فيها عنوان احترازي، فلا يكون لها مفهوم عندما يقول الإمام× (ما دون الخمار من الزينة)، إذا فسّرنا (دون) بمعنى (تحت)، لا يمكن القول: كلّها زينة إلّا ما تحت الخمار، لأنّ عبارة (ما دون الخمار من الزينة) للإشارة فقط.
الجواب على الإشكال الثالث:
هنا عدّة أجوبة على إشكال صاحب إسداء الرغاب:
الجواب الأوّل:
لتعيين عنوان المشير يجب الرجوع إلى فهم العُرف أو مناسبة الحكم والموضوع.
مثلا عندما يقول الإمام(عليه السلام) في تلك المسألة المشهورة: (عليك بهذا الجالس)، نفهم من تناسب الحكم والموضوع أنّ العنوان عنوان المشير، والسؤال هنا: هل لدينا قرينة على أن (ما دون الخمار) عنوان المشير؟ يظهر أنّه لا توجد قرينة، بل القرينة تُخالف ذلك، أي نفهم من باب تناسب الحكم والموضوع أنّ الإمام(عليه السلام) يريد تفصيل بيان الحكم.
وبعبارة أُخرى: إنّ إشكال صاحب أسداء الرغاب هو إذا اعتبرنا الرأس والرقبة مصداقاً لـ(ما دون الخمار)، لا يكون للعبارة مفهوم لنستطيع استثناء الوجه بناءاً على ذلك المفهوم، فنسأل عن ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ التي ذُكرت مصاديقها في الروايات، هل نستطيع القول أنّه لا يكون لها مفهوم؟
الجواب الثاني:
اختلط الأمر عند صاحب إسداء الرغاب بين العناوين المشيرة والحكم الكلّي الذي قد تكون له مصاديق عديدة.
الجواب الثالث:
لو افترضنا أنّ (ما دون الخمار) عنوان مشير، هل نستطيع القول أنّ كلّ العناوين المشيرة ليس لها مفهوم؟
إذا كان التكلّم في مقام الحصر، وأراد حصر الحكم بهذا العنوان، يمكننا اعتبار مفهوم فيه.
وفي الرواية المذكورة يمكننا القول: إنّ الإمام(عليه السلام) يريد الحصر وتبيين الحدود بين الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، فبما أنّ الفضيل لم يكن لديه شكّ في الصدر وما فوق الذراعين، بيّن الإمام(عليه السلام) الحدود بين الزينة الظاهرة والزينة الباطنة بحكم عام، ولا ريب أنّ شكّ الفضيل كان حول حدود الزينة الظاهرة والزينة الباطنة في اليدين، ولهذا السبب سأل عن الذراعين، فأجابه الإمام(عليه السلام) بتبيين الحدود في الوجه والكفّين، بأن كلّ ما يقع تحت الخمار هو الحدّ في الرأس والوجه، وحدّ الكفّين السوارين.
الإشكال الرابع: وله ثلاث مقدّمات:
1- كانت الحرائر والعفائف في الإسلام وحتّى الجاهلية يسترن وجوههن.
2- كان الخمار آنذاك بحيث تستطيع المرأة ستر وجهها به، فكان غير ما نصفه بالخمار الآن، وفي هذه الحالة لا يجوز إبداء الوجه حتّى لو قبلنا كلام الشيخ الفيض وصاحب الحدائق.
3- المقصود من الستر في رواية الفضيل، هي في حال حضور ناظر محترم، إذاً كان الخمار بشكل يمكن ستر الوجه به، ويمكن كشف الوجه في حال عدم حضور ناظر محترم.
وبعد هذه المقدّمات الثلاث، يستشهد بأبيات من الشعر العربي لإثبات كلامه، فيستشهد بهذا الشعر الملحمي ليثبت أنّ النساء كنّ في الجاهلية والإسلام يسترن وجوههن:
قد كنّ يخبان الوجه تسترا ** واليوم جئن بدان للنظارى
ونسوتكم في الروع باد وجوهها ** يخلن الإماء والإماء حرائر
فيه إشارة بأنّ الحرائر كنّ يسترن وجوههن دون الإماء.
ثمّ ينقل شعراً آخراً في وصف زوج النعمان بن المنذر حاكم الحيرة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد
ثمّ يذكر مقاطع من خطبة السيّدة زينب÷ في مجلس يزيد:
أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات رسول الله سباياً، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن.
ويستدلّ صاحب إسداء الرغاب بهذه العبارات ليثبت أنّ النساء كنّ كذلك في العصر النبوي وقبل ذلك.
جواب على الإشكال الرابع:
الإشكال الوارد عليه أنّه مع افتراض صحّة كلامه، لا نستطيع القول: إنّ هذا الحكم كان واجباً آنذاك، فستر بعض النساء لوجوههنّ آنذاك يُبيّن نوع الحجاب في تلك الفترة، ولا يعني صدور حكم عام عن الشارع، وهذه قضية خارجية صرفة، ولا يمكن أن تكون ملاكاً للحكم.
فنزول آيات الحجاب في المدينة تدلّ على أنّ أكثر النساء لم يسترن وجوههن، بل أكثر أعضاء بدنهن قبل الإسلام، وربّما كانت الطبقة الارستقراطية أو بعض النساء فقط ملتزمات بستر الوجه.
الإشكال الآخر: أنّه كما ذكرنا سابقاً، كانت نساء العرب ترتدي القناع ـ وهو الخمار ـ قبل الإسلام وبعده، وجاء في رواية نُقلت عن الكافي: إنّهن (كنّ يقتنعن خلف آذانهن)(63)، فيبقى الوجه والذقن وما تحته مكشوفاً، وبنزول الآية أُمرن بستر الصدر والرقبة.
أمّا حول خطبة السيّدة زينب÷، بفرض صحّة سند الخطبة، لماذا تقول÷: (أبديت وجوههن)؟ ولا تقول (أبديت شعورهن)؟ فهل إنّ إبداء الوجه كان أهمّ من إبداء الشعر؟ الجواب: إنّ مقصودها هو التشهير بالسبايا وشتمهم وتحقيرهم وإظهار وجوههم، ولا علاقة لذلك بالحجاب وستر الرأس أو الوجه.
ولإثبات المقدّمة الثانية، وأنّ الخمار آنذاك كان بحيث يمكنه ستر الوجه، يذكر أشعاراً أُخرى:
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ** بأحسن موصولين كفّ ومعصم
ويُفسّر القناع بأنّه الخمار، والعجيب أنّه فسّر (دون) في (قناعاً دونه الشمس) بمعنى (تحت)، كقول الشيخ الفيض وصاحب الحدائق في (ما دون الخمار).
ثم يذكر شعراً آخر للمتنبّي:
إنّي على شغفي بما في خمرها ** لأعفّ عمّا في سراويلاتها
ويستند صاحب إسداء الرغاب بهذه الأشعار لإثبات إمكانية ستر الوجه بالخمار آنذاك.
والإشكال على كلامه أنّه في الشعر الأوّل يخلط بين الخمار والقناع، فقد ذكرنا في البحث السابق أنّ القناع أوسع من الخمار.
أمّا في الشعر الثاني الذي ذُكرت فيه كلمة (خمُر)، تدلّ فقط على أنّ الشاعر رأى امرأة وهي تحت خمارها ـ بعينة الشاعرية ـ، أو إن امرأة سترت وجهها في الخمار.
وجاء في المقدّمة الثالثة أنّ النساء كنّ يسترن وجوههن عندما يقابلن رجلاً أجنبي.
وإذا ثبت كلامه هذا، لا يدلّ إلّا على أنّ النساء كنّ يسترن وجوههن عند اللقاء بالرجل الأجنبي، ولا يمكن اعتبار هذا التصرّف من قبل النساء ـ أو بعضهن ـ بعنوان حكم عام صدر عن الشارع.
وعليه لا يمكن الاستناد إلى أشعار العرب في عصر الجاهلية أو عصر الإسلام لاستنباط الأحكام الشرعية، فمَن العجيب من الفقيه أن يستدلّ بالأشعار لإستنباط الأحكام الشرعية، لا سيّما أنّ الشعر يمتلئ ذاتاً بالخيال والكذب والمشاعر الشاعرية حتّى قيل: أحسنها أكذبها.
الإشكال الخامس:
الأمر الآخر الذي يستشكل صاحب الإسداء به على رأي الفيض الكاشاني وصاحب الحدائق، أنّه لو كان المراد بقوله (ما دون السوارين)، (ما تحت السوارين)، وقلنا أنّ المقصود هو الذراعين، يلزم من ذلك التكرار في كلام المعصوم× وهذا باطل؛ لأنّ كلامه× مع هذا التكرار بلا فائدة.
فيقول:
الوجه الرابع: أنّه لو كان المراد بقوله× ما دون السوارين ما عدا الكفّين كما قاله صاحب الحدائق حيث قال ما لفظه الشريف قوله×… يلزم التكرار في كلام المعصوم بلا فائدة، معاذ الله من ذلك.
لأنّ ما عدا الكفّين من اليدين ليس إلّا الذراعين أو ما فوق الذراعين من العضد، والذراعان هما مورد سؤال فضيل، وقد ذكر حكمهما المعصوم× بقوله: نعم، فلا فائدة في ذكره بعده بقوله: ما دون السوارين، فيكون معنى الخبر: نعم الذراعان من الزينة، وما دون الخمار من الزينة، والذراعان من الزينة(64).
فزعم صاحب إسداء الرغاب أنّ الفضيل لم يعلم بحكم الوجه والكفّين، بل يزعم أنّهما من الزينة الظاهرة، وكان شاكّاً في الذراعين، فسأل الإمام(عليه السلام) عن الذراعين، والإمام(عليه السلام) يُبيّن له حكم الذراعين بـ (نعم)، وثم يُبيّن له أنّ الوجه والكفّين إضافة للذراعين من مصاديق الزينة الظاهرة، بقوله (ما دون الخمار) و(ما دون السوارين).
فيرى أننا لو قلنا: إنّ الفضيل كان يعلم حكم الوجه والكفّين، والإمام(عليه السلام) أجابه بحكم الذراعين، وهو ما فوق السوارين وما تحت الخمار، وكرّر ما كان واضحاً عند الفضيل، يعني جواز إبداء الوجه والكفّين، إذاً يكون كلام الإمام(عليه السلام) دون وجه ومعنى، فنقول: إمّا أنّ الفضيل لم يعلم حكم الوجه والكفّين، وإمّا أنّه كان يعلمه وكان شاكّاً فيه، فأخبره الإمام(عليه السلام) بإجابته بالحكم الصحيح.
الجواب على الإشكال الخامس:
يظهر من الرواية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أنّ الفضيل كان عالماً بحكم الوجه والكفّين، وكان شاكّاً بأكثر من الكفّين أي الذراعين، وربّما كان منشأ الشكّ الروايات التي تعتبر الذراعين من مصاديق الزينة الظاهرة، فيُبيّن له الإمام(عليه السلام) حكم الذراعين بـ (نعم)، ثمّ يُبيّن له الحكم بالتفصيل، وتفصيل الأحكام أمر شائع في الروايات، ولا يكون كلام الإمام(عليه السلام) دون وجه ومعنى مطلقاً.
الموضوع الآخر الذي يجب التنبّه إليه هو معنى الذراع لغوياً، فقد ذكرت كتب اللغة معنيين للذراع.
جاء في قاموس اللغة: (الذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى).
ثمّ يقول فيه أنّه بمعنى الساعد كقول ضعيف، لكن المشهور هو القول الأوّل.
فإن قلنا أنّ الذراع يعني من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، يجب القول أنّ الإمام(عليه السلام) جعل الذراع من الزينة الظاهرة في جواب الفضيل، ثمّ استثنى جزءاً من الذراعين بعبارة (ما دون السوارين)، وما فوق السوارين تعني الكفّين.
إشكال آخر على إسداء الرغاب
إن قبلنا كلام صاحب إسداء الرغاب، لا يبقى مجال للزينة الظاهرة، لأنّه يقول في الوجه والكفّين أنهما زينة باطنة، فلا يبقى مجال لـ ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾، ويكون هذا القسم من الآية بلا وجه وفائدة.
وبعبارة أُخرى: إذا وافقنا كلامه بأنّ (المرأة كلّها زينة)، يكون القسم الثاني من الآية وقوله تعالى ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ بدون مصداق.
استنتاج حول رواية الفضيل
والمستخلص ممّا مرّ، أنّ استنباط الفيض الكاشاني& من حديث الفضيل صحيح، وكما ذكرنا إنّ (دون) تعني (تحت)، وإن قلنا أنّ (دون) تعني (الأسفل) وليس (تحت)، مع هذا أيضاً يجب القول أنّه طبقاً لرأي جمهور أهل اللغة، أن الذراع يعني المرفق حتّى أطراف الأصابع، فيكون (ما دون السوارين) من المعصم حتّى المرفق، و(ما فوق السوارين) من المعصم حتّى أطراف الأصابع.
وإن قلنا: إنّ الذراع ما بين المرفق حتّى أطراف الأصابع ـ كما هو مشهور بين أهل اللغة ـ فإنّ الإمام(عليه السلام) قسّم الذراع إلى قسمين: الأوّل (ما فوق السوارين)، والثاني (ما دون السوارين)، وهذا التقسيم بنفسه يعني جواز إبداء البعض منه وعدم جواز البعض الآخر.
وإن كان مراد الإمام(عليه السلام) من (ما دون السوارين)، من المعصم حتّى أطراف الأصابع، لا داعي لأن يقول: (ما دون السوارين)، بل كان ينبغي أن يقول: (الذراع كله زينة).
الرواية الثالثة:
يروي ثقة الإسلام الكليني: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله× قال: قلت له: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان(65)
تدلّ هذه الرواية على جواز النظر إلى الوجه والكفّين وحتّى قدمي المرأة، أمّا من الناحية السندية فإنّها مرسلة.
الرواية الرابعة:
عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن عبيد بن معاوية بن شريح، عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر×، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج رسول الله(ص) يريد فاطمة(عليها السلام) وأنا معه، فلمّا انتهيت إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة: عليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: اُدخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنّعي به رأسك، ففعلت ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة: وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومَن معك، قال: جابر، فدخل رسول الله(ص) ودخلت وإذا وجه فاطمة(عليها السلام) أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول الله(ص): مالي أرى وجهك أصفر! قالت: يا رسول الله الجوع.
فقال(ص): اللّهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمّد، قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتّى عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم.
سند الرواية:
سندها ضعيف من جهة عمرو بن شمر، يقول النجاشي فيه: روى عن أبي عبد الله×، ضعيف جدّاً، زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه، والأمر ملبس(66).
وإذا كان الحديث صحيحاً، مع أنّ السيّدة فاطمة(عليها السلام) أجنبية على جابر بن عبد الله، ولكن مع هذا كشفت عن وجهها أمامه، وفي محضر الرسول(ص)، وعليه نقول: إن إبداء الوجه جائز.
لكنّه نقول: إنّ ضعف الرواية ليس مقتصراً على السند، بل إنّها ضعيفة من جهة الدلالة أيضاً.
فعندما نقيس هذه الرواية برواية مجيء ابن كوّاء ـ وكان أعمى ـ إلى بيت النبي(ص)، يظهر ضعف الحديث المذكور.
الإشكال الآخر على هذا الحديث، قول الراوي: «فما جاعت بعد ذلك اليوم»، فإنّه لم يُنقل إلّا في هذا الحديث.
رأي الشيخ النراقي في الوجه والكفّين
الملّا أحمد النراقي+ من القائلين بجواز إبداء الوجه والكفّين، ويجوّز أيضاً نظر الرجل إلى الوجه والكفّين:
«النظر إلى وجه سائر النساء الأجنبيّات وأكفّهنّ، فإنّه يجوز ولو مكرّراً عند الشيخ في النهاية والتبيان وكتابي الحديث، بل الكليني وجماعة من المتأخّرين(67)».
ثمّ ینقل عدداً من الروایات وقد مرّ ذكر بعضها، لكنّه يُحقّق بعض الروايات الخاصّة وسنذكرها هنا مع التحقيق فيها.
يعتبر النراقي& الروايات المنقولة في غسل المرأة الميّتة التي ليس معها ذو محرم، دليل على جواز النظر إلى الوجه والكفّين، يلزم التنبيه أنّه لا يوجد فرق في حكم النظر إلى المرأة بين الأحياء والأموات، وعليه أجمع العلماء.
الحديث الأوّل:
محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد الرحمن بن سالم، عن المفضّل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله×: جُعلت فداك، ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم، ولا معهم امرأة، فتموت المرأة ما يُصنع بها؟ قال: يُغسّل منها ما أوجب الله عليه التيمّم ولا تُمس، ولا يُكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها، قلت: فكيف يُصنع بها؟ قال: يُغسل بطن كفّيها، ثمّ يُغسل وجهها، ثمّ يُغسل ظهر كفّيها(68)
يقول الشيخ النراقي:
الرواية تدلّ على جواز النظر إلى بطن الكفّين والوجه، بل مفهوم عبارة (من محاسنها التي أمر الله بسترها) أنّ الوجه والكفّين ليسا من المحاسن.
لا يخفى أنّ هذه الرواية في موضع الاضطرار، فلا يمكننا استنباط استثناء الوجه والكفّين استناداً عليها.
الحديث الثاني:
وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن علي بن النعمان، عن داود بن فرقد قال: مضى صاحب لنا يسأل أبا عبد الله× عن المرأة تموت مع رجال ليس فيهم ذو محرم، هل يُغسّلونها وعليها ثيابها؟ فقال: إذاً يدخل ذلك عليهم، ولكن يُغسّلون كفّيها(69)
وهذه كالرواية السابقة، إلّا أنّ الراوي يسأل: هل يمكن غسلها وعليها ثيابها؟ ويُجيبه الإمام(عليه السلام): ذلك صعب عليهم، ولكن يُغسّلون كفّيها.
وفي بعض النسخ (إذاً)، وفي التهذيب (إذاً يدخل ذلك عليهم)، يعني يصعب عليهم ذلك.
الحديث الثالث:
وبإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن الحسن بن خرزاد، عن الحسين بن راشد، عن علي بن إسماعيل، عن أبي بصیر قال:
سمعت أبا عبد الله× يقول: إذا ماتت المرأة مع قوم ليس لها فيهم محرم، يصبّون الماء عليها صبّاً، ورجل مات مع نسوة ليس فيهنّ له محرم، فقال أبو حنيفة: يُصببن الماء عليه صبّاً، فقال أبو عبد الله×: بل يحلّ لهن أن يمسسن منه ما كان يحلّ لهن أن ينظرن منه إليه وهو حيّ، فإذا بلغن الموضع الذي لا يحلّ لهن النظر إليه ولا مسّه وهو حي صببن الماء عليه صبّاً(70).
وفي الرواية المنقولة عن الشيخ النراقي ذكر (أبي سعيد) بدل (أبي بصير)، بسبب نقل بعض الروايات عنه.
ثمّ يقول: (دلّت على حلّية النظر على بعض أعضائه، ولا أقلّ من الوجه والكفّين إجماعاً)(71).
استظهار الملازمة من بيان الشيخ النراقي
نظراً إلى استظهار النراقي من هذه الرواية، ربّما كان رأيه الملازمة بين جواز نظر المرأة إلى وجه الرجل وكفّيه، وجواز نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفّيها.
فإنّه ينقل هذا القسم من الرواية: (يحلّ لهن أن يمسسن منه ما كان يحلّ لهن أن ينظرن منه إليه وهو حيّ)، ثمّ يقول: (دلّت على حلّية النظر على بعض أعضائه، ولا أقلّ من الوجه والكفّين إجماعاً).
مع أنه لم يعبّر بالملازمة، لكن استدلاله بهذه الرواية لا تتمّ إلّا بها.
نقول: لا توجد ملازمة، بل یظهر من جميع الروايات التي ينقلها لإثبات هذا الحكم في باب غسل الميّت جواز مسّ المرأة ما كان يحلّ لها أن تنظر من الرجل إليه وهو حي، كالوجه والكفّين، لكنّه لا يجوز للرجل أن يمسّ وجه المرأة وكفّيها، لأنّ الإمام(عليه السلام) لم يذكر ما ذكره في غسل الرجل الميّت، في غسل المرأة الميّتة مع رجال ليس لها فيهم محرم، بل قال: (يغسلون كفّيها)، ويمكن إنجاز هذا الغسل دون الحاجة إلى المسّ.
تتمّة البحث في الوجه والكفّين
هناك ثلاثة أقوال بين العلماء في ما يستنبطونه من الآية في حكم إبداء الوجه والكفّين:
1- عدم الجواز: بعض الفقهاء ـ كصاحب الجواهر وصاحب كشف اللثام والمحقّق الخوئي وغيرهم ـ يحكمون بعدم جواز إبداء الوجه استناداً إلى هذه الآية، إلّا في موضع الضرورة.
2- جواز إبداء الوجه والكفّين: بعض الأعاظم ـ كالشيخ النراقي وصاحب الحدائق والشيخ الأنصاري وغيرهم ـ يحكمون بجواز إبداء الوجه والكفّين استناداً إلى هذه الآية.
3- هناك فريقين ممّن يحكم بجواز النظر إلى الوجه والكفّين: الفريق الأوّل كالسيّد اليزدي في العروة، حيث يُفصّل بين النظرة الأُولى والنظرة الثانية، ويحكم بجواز النظرة الأُولى، وعدم جواز النظرة الثانية.
والفريق الثاني يحكمون بجواز النظر إلى الوجه والكفين دون هذا التفصيل.
وواضح أنّ هذا التفصيل يُخالف الآية الشريفة.
مستندات القول بالتفصيل
قال المحقّق الحلّي في الشرائع، والعلّامة الحلّي في القواعد بالتفصيل بين النظرة الأُولى والنظرة الثانية، ويستندون إلى رواية مرسلة عن الشيخ الصدوق&:
قال×: أوّل النظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك(72).
وهناك رواية أُخرى في من لا يحضره الفقيه:
وروى ابن أبي عمير عن الكاهلي قال: قال أبو عبد الله×: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة(73).
فكما قلنا: لا توجد روايات كثيرة في هذا الموضوع، والروايات المنقولة فيها إشكال من حيث السند، مع أنّ يحيى الكاهلي ممدوح، لكنّه بغض النظر عن السند يوجد إشكال في دلالة الرواية.
وينبغي ذكر مطالب للبحث في مفاد هذه الرواية:
المطلب الأوّل
هل أنّ الرواية تريد التفصيل بين النظرة الأُولى والنظرة الثانية من الناحية العددية؟ أو أنّها فصّلت النظر إلى متعمّد واختياري؟
ببيان آخر: هل يحرم النظر إلى المرأة مرّتين مهما كانت النية ونوعية النظرة؟ أو أنّ العمد والسهو له دخل في المسألة؟ يعني أنّ النظرة الأُولى بما أنّها تصدر عن سهو ودون اختيار فإنّها حلال، والنظرة الثانية التي تصدر عن اختيار فإنّها حرام؟
أو نقول: كلّ نظرة إلى المرأة صدرت دون الريبة ونية التلذّذ فإنّها النظرة الأُولى، والنظرة التي تصدر بريبة وبنية التلذّذ فإنّها النظرة الثانية وهي حرام، لا من باب أنّها الثانية، بل الحرمة تتعلّق بكيفية النظرة.
يعني: أنّ النظرة الأُولى دون قصد وريبة، لكنّها تدفع الناظر ليعيدها، وهذه النظرة الثانية تختلف عن الأُولى، فإنّها مع ريبة وبنية التلذّذ فهي حرام.
قلنا سابقاً عدم استفادة التفصيل بين النظرة الأُولى والثانية من الآية الشريفة، وأنّ هذا التفصيل يُخالف الآية، ولا يمكن القول أنّه من الناحية العددية، وإن أرجعناه إلى التعمّد في النظرة من عدمها أو كيفية النظرة، فلا يمكن القول أنّ النظرة الأُولى حلال والثانية حرام، بل نقول: إنّ النظرة المتعمّدة أو التي تصدر بنية شهوة وريبة فهي حرام، سواءاً كانت الأُولى أو الثانية، فيصبح النظر سهواً أو من دون تعمّد، ونية التلذّذ معفو عنها.
المطلب الثاني
إذا جعلنا العدد أساساً في هذه المسألة، فإنّ نظر الرجل إلى إمرأة متعمّداً وبنية التلذّذ، هل نستطيع أن نصف تلك النظرة بأنّها معفوٍ عنها؟
إذا قلنا: إنّ النظرة الأُولى مطلقة، وتشمل المتعمّد وغير المتعمّد، يظهر إشكال وهو: أنّ النظرة الأُولى جائزة، سواءاً للتلذّذ كانت أو دونه، وسواءاً كانت إلى الوجه والكفّين أو ما عداهما من أعضاء المرأة، وسواءاً كانت المرأة مستورة أو عارية، بسبب الإطلاق في عبارة (النظرة الأُولى لك) .
ونعلم أن هذا مخالف للشرع المقدّس.
المطلب الثالث
إذا اعتبرنا النظرة الأُولى مطلقة وعددية، قد يقول أحدهم: النظرة الأُولى جائزة وإن طالت مدّتها، ولا يمكن التزام ذلك، وهذا يبطل اعتبار النظرة الأُولى من الناحية العددية.
رأي آية الله الحكيم في التفصيل
يقول آية الله الحكيم+ في كتاب المستمسك، بعد تضعيف سند هذه الأحاديث: إنّ النظرة الأُولى هي (النظر من دون الريبة)، والنظرة الثانية هي (النظر مع الريبة)، ويستدلّ بالقسم الثالث من الرواية (والثالثة فيها الهلاك) لإثبات رأيه.
ولا يخلو كلامه من إشكال، فإنّه فسّر النظرة الأُولى بمطلق النظر من دون الريبة، فقد يُقال ـ بناءاً على كلام آية الله الحكيم ـ: يجوز نظر الرجل إلى امرأة من دون ريبة، سواءاً كان إلى الوجه والكفّين وما عداهما كالرأس والصدر، ولا تجوز النظرة الثانية، لكن الفقهاء يجمعون على أنّ النظر المتعمّد إلى الشعر والصدر وبدن المرأة حرام، سواءاً كان بريبة أو من دونها، وعليه فالنظرة الأُولى هي بمعنى النظر غير المتعمّد وليس مطلق النظر.
وقال المحقّق الخوئي& في النظرة الأُولى: إنّها تعني النظر غير المتعمّد.
فرق الريبة والتلذّذ
الريبة هي الخوف من الوقوع في الحرام، أمّا في التلذّذ يجب التحقيق فيما إذا كان التلذّذ بذاته حرام أو يستلزم قصد التلذّذ.
بعض الفقهاء ـ كالشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه ـ يُقيّد الحكم بقصد التلذّذ دون وقوعه في الخارج.
وخلاصة القول: إنّ الآية ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ مطلقة، ولا تقيّد إبداء الوجه والكفّين بكيفية النظر، ولا تتعرّض إلى حكمه.
هناك احتمالين حول المسألة
الاحتمال الأوّل:
الآية تُبيّن تكليف المرأة فقط، سواءاً كانت النظرة مع الريبة أو بقصد التلذّذ، وفي كلّ الأحوال يجوز للمرأة إبداء الوجه والكفّين والزينة الظاهرة، كما يجوز لها إظهار بعض الزينة الباطنة أمام المذكورين في الآية، سواءاً كان نظرهم إليها مع الريبة وبقصد التلذّذ أو من دونهما.
الاحتمال الثاني:
قيد عدم الريبة وعدم قصد التلذّذ كان ملحوظاً منذ البداية.
صاحب الجواهر& يقول بعدم جواز إبداء الوجه والكفّين، ويُجيب المشكلين بأنّ عدم جواز إبداء الوجه يتعلّق بقصد تلذّذ الناظر ووجود الريبة، ويقول: يلزم على هذا القول حمل المطلق على الفرد النادر.
وببيان آخر: إنّ هذا القسم من الآية ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ مطلق، ومن جهة أُخرى فإنّ أغلب نظر الرجل إلى المرأة بقصد التلذّذ، وإن لم يكن كذلك فهو مع الريبة، فإن قيّدنا إطلاق الآية بعدم وجود الريبة أو عدم قصد التلذّذ، يلزم ذلك حمل المطلق على الفرد النادر.
جواب على شبهة صاحب الجواهر
إطلاق الآية يختصّ بإبداء الوجه والكفّين والزينة الظاهرة، فهذا الإطلاق يتعلّق بإبداء المرأة لزينتها الظاهرة ولم يُقيّد بقيد، فيجوز لها إبداء الوجه والكفّين مطلقاً، فلا يمكن استناداً إلى الآية استنباط وجوب ستر الوجه والكفّين في حال وجود التلذّذ والربية في نظر الرجل إلى المرأة.
معنى ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾.
الجيب يعني الصدر، وقلنا: إنّ النساء في صدر الإسلام كنّ يلبسن مقنعة تستر الرأس وخلف الأذن، فأمرهن الشارع المقدّس بستر جيوبهن بتلك المقانع، وقد يكون هذا دليل على عدم وجوب ستر الوجه، لعدّ ذكر (وجوههن) في الآية.
ينبغي هنا التحقيق في معنى الخمار، فبعضهم كصاحب المدارك فسّرها بالمقنعة، وقد ذكرنا بعض تلك المباحث في بحث معنى (الجلباب).
وعلى كل حال، فإنّ الخمار كان يستر شعر الرأس دون الوجه، فنقول: إنّ هذا القسم من الآية يدلّ على جواز إبداء الوجه كما دلّ على ذلك ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
لكنّه هل إبداء الوجه جائز مطلقاً؟ أو يتغيّر الحكم إن زُيّن بزينة عرضية؟
الجواب: البحث هنا في مطلق زينة الوجه والكفّين، دون أدوات التجميل والزينة التي تُوجب الفتنة والريبة، ربّما تكون الزينة بصورة تُوجب الفتنة عادة فلا يتعلّق بها بحثنا، بل المقصود من الزينة والتجميل في بحثنا المتداول منها، وما لا يُوجب فتنة أو ريبة، وفي هذه الحالات نقول: إنّ إطلاق الآية والروايات التي تُبيّن مصاديق الزينة الظاهرة، تدلّ على جواز تلك الزينات.
أمّا لو كانت المرأة تعلم أنّها تُسبّب الفتنة وتحريك الشهوة بتجميل الوجه والكفّين، فهذا ما يجب بحثه وتبيينه استناداً على أدلّة أُخرى، كحرمة الإعانة على الإثم وغيره.
ـــــــــــــــــــ