- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 23 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
المقدّمة:
خلق الله تعالى الإنسان وجعلته خليفته في الأرض، واصطفاه وفضّله لذلك دون سائر المخلوقات، لما يمتلكه من إرادة وقدرة تؤهّله لتحقيق ما أُريد منه، وهي المؤهّلات النفسية والبدنية، وهذا ما يكشف عنه القرآن الكريم حينما قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1)، فالإباء سمة المخلوقات أمام ثقل السماء، بينما القبول والرضا سمة الإنسان أمام الأمانة الإلهية، فهو مضاف لخلافته أمين الله تعالى على وجه البسيطة، بما يحمله هذا المعنى من الحفظ والرعاية والقيام بشؤون الأمانة، لبعديها النفسي والخارجي، إذ الأوّل يعكس الفضائل والمزايا النفسية التي يحملها الإنسان، والآخر يعكس التوافقية والموازنة مع المخلوقات الأُخرى، والقدرة على الرعاية والقيام بالشؤون المتوخّاة من ذلك.
وبطبيعة الحال فإنّ ما يورد بحقّ الإنسان من مزايا وخصائص ووظائف تعمّ أفراد نوعه كافّة، من دون فرق بين صنّف وآخر، وفئة وأُخرى، فهي تشمل الرجل والمرأة على حدّ سواء؛ لأنّهما طبيعة واحدة، وحقيقة فاردة لا تختلف ولا تتخلّف، يقول الباري عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}(2).
فالخطاب عمّ الناس، والذي فسّره القرآن فسّر بالذكر والأُنثى، فهي إنسان حالها حال نظيرها الآخر، لا تختلف عنه ولا تفترق في الروح والنفس والبنية الجسدية، إلّا ببعض الوظائف الداخلية في تحقيق صنفها كامرأة وتمايزها عن الرجل، وإلّا فالحقيقة شيء واحد والذات من نسخ وحدوي ليس فيه أيّ تفاوت، في حين كانت بعض المجتمعات تنظر إلى غير ذلك، فترى السلبية عنوان المرأة، وأنّها رجس من عمل الشيطان، وأنّها رجل غير كامل، وقد تركتها ا لطبيعة في الدرك الأسفل من سُلّم الخليقة(3).
ووصل الأمر إلى اعتبارها بلا نفس أو خلود، وأنّها لن ترث الحياة الآخرة، وأنّها رجس يجب أن لا تأكل اللحم، ولا تضحك ولا تتكلّم، وعليها أن تمضي جميع أوقاتها في الخدمة والطاعة(4).
في حين يصف القرآن الكريم المرأة بأنّها إنسان تحمل كلّ صفاته وخصائصه، وهي أهل الكلّ خصيصة، وفعل يتناسب مع الطبيعة الإنسانية، سواء بسواء مع الرجل لا تفترق عنه بشيء، ويرتّب على ذلك أنّ يتكوّن منها مع الرجل الشعوب والقبائل، فهي العنصر أو الجزء الآخر الذي يحقّق الشعوبية، والاختلاف في الألوان والأجناس، وأحد المصادر المؤسّسة للمجتمعات البشرية المتفاوتة، حالها حال الرجل على حدّ سواء.
ويتحدّث القرآن الكريم في آية أُخرى عن الإنسان فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}(5).
والمقصود من النفس الواحدة وهو آدم(ع)، وخلق منها زوجها وهو حواء(عليها السلام)، فيدعو الله تعالى الناس كافّة إلى التقوى؛ لأنّه الخالق الموحّد، خلقهم من نفس واحدة وهوآدم(ع)، وأوجد من هذه النفس ومن جنسها حوّاء(عليها السلام)، ونشر من هذه النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل رجلاً كثيراً ونساء كثيرات.
وقريب من هذا المعنى الدالّ على وحدة الرجل والمرأة قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}(6)، بمعنى أنّهم جميعاً ذكر وأُنثى انحدروا من نفس واحدة، لا اختلاف فيها ولا تفاوت(7)، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإنّ الدين الإسلامي هادف وله غاية يريد تحقّقها في الخارج، وهي هداية الإنسان ـ الأعمّ من التكوينية والتشريعية ـ وكما له من خلال إيجاد بواعث نفسية وداخلية نحو ذلك، وأيضاً من الإرشاد والتعليم الخارجي، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يرتبط بما يتوافق مع طبيعة الإنسان وخصائصه، قال تعالى حكاية عن لسان موسى(ع): {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(8)، فالخلق والهداية بينهما تناسق وسواسية، والخلق متفاوت كما هو مشاهد ومعلوم، فالهداية تتبعه في ذلك تبعية تنافسية وليست اجحافية أو على خلاف العدل.
وإذا ما عكفنا النظر إلى الجانب التشريعي نجد أنّ القاعدة الحاكمة فيه هي الاشتراط، وأنّ الأصل في الأحكام أن يشترك فيهما عموم المكلّفين، إلّا أن يرد دليل خاصّ يخصصّ الحكم بصنف معيّن أو جهة خاصّة(9).
وهذا الأمر ليس خاصّاً بالشرائع السماوية، إنّما يستعمله حتّى المشرّع الوضعي، ففي القوانين الوضعية نلاحظ أنّ الصبغة العامّة فيها الاشتراك، وتخصيص بعض الأصناف بأحكام معينّة نتيجة الطبيعة التي يفرضها بناء الشخص ونفسيّته، فالحضانة وتربية الطفل مثلاً من حقوق المرأة، وكذلك عمل المرأة في بعض الأوقات، كالليل مثلاً حيث لا يتلاءم مع دورها وسلامتها كالمناجم والمحاجر وصهر المعادن وضاعة الموادّ المتفجّرة وغيرها؛ لأنّ جميع ذلك يؤثّر في حياتها وسلامتها الصحية(10).
كذلك الشرائع السماوية راعت بعض الجوانب الخاصّة عن المكلّفين، وعلى ضوء ذلك انصبّت التشريعات والأحكام، فالأعمال الشاقّة أو الوظائف التي تحتاج إلى جهد كبير فرضتها في بعض الأحيان على صنّف معيّن، وهم الرجال دون النساء، فالدفاع عن الأوطان وحفظ الأرض والعرض فُرضت ـ فيما إذا تعرّض المجتمع لخطر داهم ـ على الرجال خاصّة دون النساء؛ لأنّ الوضع البنيوي والنفسي للمرأة لا يتلاءم مع فرض ذلك عليها، وتكليفها به، لذا فرضت الشريعة على الرجال دون النساء.
ونحن بدورنا في هذا البحث نريد الأطلال على بعض الأحكام المرتبطة بخطبة المرأة والتقدّم للزواج منها، ومعرفة الضوابط الشرعية والأحكام الدينية المتعلّقة بذلك، والكيفية التي رسمت داخل المنظومة الدينية، ومراعاة أحوال المرأة الجسدية والنفسية، وحفظ كيانها وكرامتها، ودفع بعض الغوائل التي أُثيرت حول جملة من الأحكام الشرعية.
الزواج في الإسلام:
قال تعالى في محكم الكتاب العزيز: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(11).
الزواج في المنظور القرآني له بعده الأدقّ من الحاجة الجنسية والتكاثر، فهي وإن كانت لازمة وضرورية لاعتبارات شتّى، إلّا أنّها وسيلة لا غاية، وطريقاً لا هدفاً، فهو في المفهوم الإلهي سكن وقرار، فوجود الزوجة بقرب الرجل يخفّف عنهما التوتّر النفسي والقلق والإحباط، والأساس في هذا السكن المرأة؛ لأنّها القوّة الجاذبة والرجل المنجذب إليها، والذي بدلنا على ذلك تعبير القرآن (لكم) و(أنفسكم) حيث يعودان على الرجل، وكذلك قوله (لتسكنوا إليها)، ولم يقل (معها)، ممّا يعني أنّ روح المرأة وكيانها المحقّق للسكن لا وجودها الجسدي قرب الرجل، فالمرأة هي مصدر السكينة، وهي التي تستقطب الرجل وتُنمّي روح الرحمة والرأفة في داخله، فتشكّل بذلك الشريط الرؤوف والودود المطمئن لحياة عائلية وادعة.
ثمّ أفاض تعالى بأنعامه فجعل المودّة والرحمة هي السمة الرابطة بين الزوجين، وهي الوشيجة المحرّكة لهما تجاه أحدهما الآخر، وبهذه المودّة والرحمة يبنيان بيت دافئ ومسكن وادع، وأُسرة ذات قيمة إنسانية وأخلاقية مملؤة بالحبّ والحنان، وفيّاضة بالعطاء.
وإذا ما انتقلنا إلى السنّة النبوية تجدها تجذر الآيات القرآنية وتكشح عن غور عمقها، ذاهبة إلى القول بأنّه: >ما بُني بناءً في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجل من التزويج<(12)، وهذا البناء ناشئ ممّا ينته الآية السابقة من أنّ المرأة سكن للرجل، إذ بدونه لا يكون هناك حياة مستقرّة، وتعثّر واضطراب نفسي ينعكس على كافّة جوانب حياة الإنسان.
ويتعدّى إلى مستوى أعلى من ذلك، فيُعدّ الزواج من المطهّرات، فعن رسول الله(ص) أنّه قال: >مَن أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليلقه بزوجة<(13)، وهذا التطهير يُراد به المعنوي الذي يلامس الروح وطرفه الزوجة كما هو واضح، وبهذا يتّضح البون الشاسع في نظرة الإسلام إلى المرأة، وأنّها جزء من طهارة روح الإنسان، وليست قذرة أو آلة للهو واللعب، كما تصوّرها بعض الأديان المحرّفة كاليهودية(14).
وحثّ كذلك على حبّ المرأة وإخبارها بذلك، قال رسول الله(ص): >قول الرجل للمرأة إنّي أُحبّك لا يذهب من قلبها أبداً<(15)، لما فيه من غرس لوشائج المودّة والأُلفة، وأنّ قلبها صاف من الشوائب تُزرع فيه الكلمة الطيّبة فتبنت، كما يُزرع الحبّ في الأرض الخصبة.
وجعل الزواج أحد أسباب إنعاش الحياة الاقتصادية للفرد، وأنّه سبب في الرزق، روي عن النبي الأكرم(ص) أنّه قال: >اتّخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم<(16)، فهي أحد الطرق التي من خلالها تنزل الأرزاق من السماء ليس عبثاً يثقل كاهل الرجل في المسكن والملبس والمأكل كما نلاحظه اليوم.
وهي المعين والشريك الحافظ لقرار الرجل ومكانته، والأُم الحنون التي تغرس الأُلفة والمحبّة بين الأبناء، وتملأ البيت من أريج قلبها الدافئ الحنون.
بهذا المنظار الدقيق والرقيق نظر الإسلام إلى المرأة، وبعد وجودها في الحياة بشكل عامّ، وحياة الرجل بنحو خاصّ، وحدّد بوضوح القيمة الوجودية والمعنوية وما تحمله مع الرجل، كإنسانة صاحبة رسالة إلهية وبشرية تؤدّيها في الحياة.
كلّ هذا بيّنته الشريعة من أجل رسم صورة صحيحة عن المرأة، ورفع الغوائل والشوائب والنظرات المسيئة عنها، ومن أجل الحفاظ على كيانها وقيمها أمام الإغراءات والإغواءات، التي تُعرض عليها من قبل أصحاب النفوس الضعيفة، ومن أجل بناء أُسرة إنسانية وإسلامية تستطيع أن تحمل الرسالة الموجدة من أجلها، وأن تعمر الأرض من خلال الطريق الناجح والصحيح، البعيد عمّا يمسّ الكرامة، ويؤدّي إلى الانحطاط والانشغال بغايات الدنيا التي لا تدوم طويلاً.
خطوبة المرأة وطلب يدها:
قال ابن منظور في بيان معنى الخطبة: >والخطب: الذي يخطب المرأة، وهي خطبة التي يخطبها، والجمع أخطاب.. والعرب تقول: فلان خطب فلانه إذا كان يخطبها، ويقول الخاطب: خطب: فيقول المخطوب إليهم: نكح<(17).
والفقهاء لم يزيدوا على المعنى اللغوي شيئاً آخر تبعاً للنصوص الواردة في ذلك، ما عدا بعض المسائل المتعلّقة بالخطبة، من استحباب ذكر الله سبحانه وتعالى وحمده، قال في الجواهر: >ويُستحبّ الخطبة أمام العقد، وأحكامها كما في المسالك: إضافة الشهادتين والصلاة على النبي(ص) والأئمّة(عليهم السلام) بعده، والوصية بتقوى الله، والدعاء للزوجين، وإنّما استُحبّت كذلك للتأسّي بالنبي(ص) والأئمّة(عليهم السلام)، وخطبهم منقولة في ذلك مشهورة..<(18).
وقد وردت في كيفية الخطبة أحاديث كثيرة أوردها الشيخ النوري في المستدرك، من شاء يرجع إليها هناك(19).
وسرّها أن يبدأ الارتباط بين الزوجين باسم الله تعالى وحمده وشكره؛ لأنّه ألف بين القلوب، وجعل النساء سكناً ورحمة، وجعل المودّة والرحمة العنصر الأساس المبقي للتآلف والترابط.
وأيضاً يُستحبّ الإعلان والإشهار بالزواج، وأعلام الناس بذلك، كما ورد في جملة كبيرة من النصوص الشرعية، قال في المسالك: >والإشهاد والإعلان المشهور بين أصحابنا، أنّ الإشهاد في نكاح الخطبة سنّة مؤكّدة، وليس بشرط في صحّة العقد.. لقول الإمام الصادق(ع): >لا بأس بالتزويج بغير شهود فيما بينه وبين الله تعالى، وإنّما جعل الشهود في تزويج البنت من أجل الولد ومن أجل المواريث.
والإعلان غير الإشهاد وأبلغ منه، فلذا جمع بينهما، وليس بواجب إجماعاً، وإنّما حكمته حكمة الإشهاد، وقد ذُكرت في النصوص السابقة، ويدلّ عليه بخصوص ما روي أنّ النبي(ص) كان يكره نكاح السر حتّى يضرب بدفّ ويقال: أتياناكم أتيانكم فحيّونا نحييكم<(20).
فالشريعة الإسلامية أكّدت على الخطبة والإشهاد والإشهار، وبيّنت الكيفية التي تستخدم فيها، والضوابط والشرائط التي ينبغي مراعاتها، وأشارت إلى حكمة ذلك فيما يرتبط بالإشهاد والإشهار من حفظ الولد والميراث، إذ ربما يؤدّي زواج السرّ إلى الإنكار، وينتهي إلى إنكار العُلقة النسبية فيما إذا نتج عنه الولد، وبقاء الأبناء بدون أب شرعي ينتسبون إليه، ويحملون اسمه ويرثونه ويرثهم.
والخطبة في المنظور الشرعي لا تنفصل عن العقد، والارتباط الشرعي والقانوني بين الزوجين، كما هو حاصل في العرف المدني، فحينما يتقدّم الزوج إلى طلب يد المرأة، فإذا ما حصلت الموافقة فيوقع العقد عليها وتصبح زوجة شرعاً، ولا يحقّ له الاقتراب منها أو الخلوة بها ما لم يعقد عليها، وهذا بخلاف الأعراف المدنية في زماننا، حيث يفصلون بين الخطبة وطلب الزواج من البنت وبين الاقتران بها، وتجعل فترة زمنية بين الاثنين يصطلحون عليها بالتعارف، واطّلاع أحدهما على الآخر، ممّا يسهل في التوافق لحياتهما المستقبلية، وفي هذه المدّة يخلو أحدهما بالآخر، ويخرج معه منفرداً، ويرى الرجل من المرأة ما لا يجوز يراه إلّا الزوج.
وهذا الأمر مرفوض في الشريعة الإسلامية، وغير موافق للموازين والضوابط الشرعية، فإنّ المرأة لا تحلّ للرجل إلّا بعد إجراء العقد الشرعي من الإيجاب والقبول، فلا يحلّ لأحدهما الخلوة بالآخر، والنظر إلى ما لا يحلّ إلّا بعد إجراء العقد الشرعي، ولا تكفي الخطوبة في تحليل ذلك.
قال الشهيد الثاني: >يحرم نظر الرجل إلى الأجنبية فيما عدا الوجه والكفّين موضع وفاق بين المسلمين، ولا فرق فيه بين التلذّذ وعدمه، ولا بين خوف الفتنة وعدمه.
وأمّا الوجه والكفّان، فإن كان في نظرهما أحد الأمرين حرم أيضاً إجماعاً، وإلّا ففي الجواز أقوال<(21).
ويدلّ على ذلك صريح القرآن الكريم، حيث قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}(22).
إلاعلان والإشهاد في خطبة النكاح:
ذكر بعض أنّه في جملة من القوانين المدنية ـ كالقانون اللبناني ـ يشترط الإعلان في عقد النكاح، ومن دون الإعلان والإشهار، فإذا ما ادّعى أحد الشخصين زوجية الآخر فلا تُسمع دعواه.
وقد ذكرنا سابقاً أنّ الشريعة الإسلامية استحبّت الإشهار والإعلان ولم توجبه على المكلّف، وبيّنت أنّ ثمرته حفظ الأنساب والمواريث، إذ أنّه إذا ما كان هناك إعلان وإشهار بأن فلاناً زوج فلانة، فلا يمكنه إنكار الولد الحاصل من ذلك الزواج؛ لأنّ المرأة تستطيع حينئذٍ إثبات الزوجية من خلال شهادة الشهود الذين علموا بالزواج من خلال الإشهار(23).
وهذا الاشتراط فيه خلط بين بابي النكاح والقضاء، وأقحام لأحدهما في الآخر، وذلك أنّنا تارة نبحث في أنّ عقد الزواج هل يصحّ أن يوقعه الزوجان من دون إشهار وإعلان؟ أو لابدّ من الإشهار وبدونه لا يصحّ؟
وتارة نبحث في باب القضاء والدعاوى، وأنّ إثبات الزوجية وما يترتّب عليها كيف يمكن إثباته وتحقّقه؟
ومن الواضح أنّ التساؤل الأوّل غير الثاني، ولا وجود للملازمة بينهما، وإنّ تحقّق الأوّل غير متوقّف على الثاني وبالعكس، بمعنى أنّ صحّة عقد الزواج غير متوقّفة على إمكانية إثبات الدعوى الزوجية، فيما إذا فُرض وقوع النزاع بين الزوجين حول حصول العقد بينهما وعدمه، إذ القول بتوقّف صحّة العقد على ذلك يعني تعليقه على أمرٍ متأخّر قد يقع وقد لا يقع، وهذا بنفسه تقييد لعقد الزوجية وحرية الزوجين، والذي اعترض عليه الكاتب في بحثه تحت عنوان (محدودية المرأة في حرّية اختيار الزوج)(24).
فهو يتناقض من جهة تقييد حرّية الزواج من جانب، والاعتراض على تقييد حرّية المرأة في اختيار الزوج من جانب آخر.
على أنّ افتراض احتياج صحّة العقد للإشهار والإعلان قد لا يتيسّر في بعض الحالات والظروف لكلا الطرفين، وحينئذٍ يكونان أقرب للوقوع في الحرام، إذا ما افترض توقّف صحّة العقد على ذلك، وهذا يخالف مقصد الشريعة وهدفها من سدّ غائلة الفساد، وعدم وقوع المكلّف في الحرام، والمواقعة غير الشرعية.
قال الشيخ الطوسي في الخلاف في بيان عدم شرطية الإشهاد في الزواج: >دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}(25) ولم يذكر الشهود.
قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ}(26).
وأيضاً: روى سهل بن سعد الساعدي، أنّ امرأة أتت النبي(ص) فقالت: يا رسول الله، وهبت نفسي منك.
فقال: ما لي اليوم بالنساء من حاجة، وذكر الحديث حتّى قال: >زوّجتكها بما معك من القرآن< (والمعلوم أنّه لم يكن شهود)(27).
ومن خلال ذلك يبيّن أنّ الإشهاد والإعلان غير دخيل في صحّة العقد ولا يتوقّف عليه، وما يتوقّف عليه في بعض الأحيان من النسب والإرث غير مانع من الحكم بصحّته.
الخطوبة وخطبة المرأة:
ذكر بعضهم تخصيص الخطوبة بالرجل دون المرأة نوع إجحاف وتميز لها عن الرجل، حيث ذكره المادّة 1034 من القانون المدني والتي ورد فيها: >كلّ امرأة خالية من موانع الزواج يجوز خطوبتها والتقديم لها)، واعترض على هذا النصّ بقوله: (هذه المادّة ناظرة إلى تصحيح الخطوبة، وشرط خلوالمخطوبة من موانع النكاح، إلّا أنّه يُستفاد منها أنّ الخطوبة لابدّ أن تكون من قبل الرجل، والقبول من المرأة، ولأجل ذلك ذكر أساتذة الحقوق في تعريف الخطوبة: بأنّها عبارة عن تقديم الرجل طلب الزواج من المرأة، وهذا الأمر ناشيء من العادة والعرف، أمّا عقلاً فلا محذور قانوني أو شرعي من أن تتقدّم المرأة خاطبة الرجل.
إنّ وجود مثل هذه النصوص في القانون المدني تفرض محدودية المرأة في الزواج، لذا فلابدّ من تصحيحها لأنّها مدوّنة طبقاً للأعراف والعادات الاجتماعية القديمة.
وعلى هذا يقترح أن تصافح المادّة على النحو التالي: (يحقّ للمرأة وأوليائها إبراز الميل إلى الزواج والرغبة فيه)(28).
ولأجل بيان وقوع جملة من الأخطاء في النصّ المقترح، نشر إلى أنّ الشريعة الإسلامية تمانع من أن يعرض الرجل نفسه على المرأة أو بالعكس، بأنّ تعرض المرأة نفسها على الرجل، فإنّه جائز في الشرع ولا محذور فيه، يدلّ عليه صريح القرآن الكريم في قصّة شعيب مع موسى(ع)، حيث عرض بناته عليه، قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}(29)، إذ عرض شعيب(ع) وهو وليّ بنتيه على موسى(ع) وخطبه إلى إحداهما، وكذلك تأسّياً بفعل النبي الأكرم(ص) وإقراره لمَن عرضت نفسها عليه، كما أوردنا النصّ السابق عن كتاب الخلاف(30).
هذا من جهة أصل الجواز، حيث لا تمانع الشريعة من ذلك.
والجهة الأُخرى، أنّ المرأة التي تخطب يشترط فيها ما لا يشترط في الرجل، لأنّ بناءها الجسدي والنفسي يختلف عنه، فيشترط فيها لا تكون في عصمة رجل آخر، فعن أديم بن الحر قال: >قال أبو عبد الله(ع): التي تتزوّج ولها زوج يُفرق بينهما ثمّ لا يتعاونان أبداً<(31)، وأن لا تكون ذات عدّة، روى عبد الله سنان قال: >سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عزّ وجل: {وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قال: السرّ أن يقول الرجل: موعدك بين آل فلان، ثمّ يطلب إليها أن لا تسبقه بنفسها إذا انقضت عدّتها..<(32)، وغيرها من الشرائط التي تختصّ بالمرأة دون الرجل.
بعد هذا نرجع إلى نصّ المادّة المتقدّم، والذي نصّ على أن تكون المخطوبة خالية من موانع الزواج، ونلاحظ أنّه نصّ تامّ وغير ناشيء من العادات والأعراف القديمة؛ لأنّ الشرائط اللازم توفّرها في المرأة المخطوبة مفصلية وأساسية، وهي غير لازمة في الرجل، فالمتزوّج يمكنه الزواج ثانية، لكن المرأة لا يمكنها أن تتزوّج ثانية، وهي في عهدة زوجها الأوّل، وكذلك إذا ما كانت في عدّة الزواج، وهذا ما لا يلحظه الكتاب في النصّ المتقدّم.
ومن جانب آخر تقدّم أنّ الزواج عبارة عن القرار والسكينة الذي تحقّقه المرأة للرجل، فهو الباحث عنه والفاقد له، كما نصّت الآية المباركة، فالأمر يتعلّق به من خلال سعيه نحو مطلوبه، وهي المطلوبة التي يسعى الرجل لنيلها وتحصيل الدفء والأُلفة معها، وعزّة المرأة وكرامتها والرقّة والرأفة التي تحملها تأبى أن تكون هي الساعية نحو إيجاد الربوج وعرض نفسها عليه، فإنّ في ذلك خدشة كبيرة وجرح عميق يشعرها بالابتذال وقلّة الحشمة والحياء، ولذلك نرى المشرّع ففي الوقت الذي أجاز فيه الخطوبة من كلا الطرفين، إلّا أنّه لاحظ لطافة المرأة ورقّتها وحياءها، فأوكل الخطوبة إليه دونها ؛ لأنّه الساعي والباحث، وهي الغاية والمطلوب.
فنصّ المادّة ناظر إلى الجهة الثانية مع مراعاة كيان المرأة وحسّها المرهف في الجهة الأُولى، وهي جواز عرض نفسها على الأزواج.
العدول عن الخطوبة وترك الارتباط:
ذكرنا العنوان بالنحو المتقدّم ولم نعنونه (فسخ الخطوبة)؛ لأنّ الفسخ معناه فكّ الارتباط بين شيئين، والخطوبة ليست ارتباط حتّى نفكّه بالفسخ، إنّما هي وعد الزواج ينكل عنه أحد الطرفين، ولأجل ذلك عنونّاه بما ذكرنا.
وسبب البحث، أنّ البعض اعترض على حذف نصّّ المادّة 1036) من القانون المدني، والتي تفرض جبران الخسارة عند عدم التزام أحد الطرفين بالخطوبة والعدول عن الزواج، وبعد التعديل حُذفت المادّة ولم تلزم أي الطرفين بجبران الخسارة المترتّبة على فسخ الخطوبة، و(استدلّ لإثبات لزوم جبران الخسارة المترتّبة على العدول عن الزواج بالمرأة ا لمخطوبة بوجوه أربعة:
الأوّل: إنّه وإن كان يحقّ لكلا الطرفين العدول عن الزواج وعدم الالتزام بالخطوبة، إلّا أنّه ينبغي أن يتحمّل الطرف الذي لا يلتزم بالخطوبة مع عدم وجود سبب موجّه الخسارة؛ لأنّه استغلّ الطرف الآخر حيث أعمل حقّه من دون مبرّر عقلائي أو شرعي(33).
والجواب عن ذلك: إنّ هذا الكلام لا يمكن تصوّره، بل لا يمكن تعقّله، إذ كيف يُفرض ترتيب الخسارة على الحقّ، وهل معنى الحقّ غير إعمال الشخص له كيفما أراد، ومتى أراد، بعد فرض كونه حقّاً ثابتاً له بنحو مطلق، وإلّا فلو فرضنا تقيّده في صورة وجود سبب عقلائي أو شرعي، كان إعماله في غير هذه الحالة إعمالاً غير صحيح، لعدم تحقّق موضوعه الذي يترتّب عليه، أمّا إذا ما التزمنا بإطلاقه كما التزم هو بذلك، فله الحقّ في العدول متى ما أراد، سواء وجد سبب عقلائي أو شرعي أو لم يجد.
ثانياً: الخطوبة في المفهوم الشرعي عبارة عن طلب الرجل الارتباط بالمرأة، ومن ثمّ العقد عليها من دون فصلٍ بين الأمرين، كما هو الحاصل في زمننا، ومعه لا معنى فرض الخسارة على الرجل أو المرأة فيما إذا أعرض عن الزواج ولو بعد ساعات من الخطوبة.
ثالثاً: إنّ الخطوبة عبارة عن وعد بالزواج، فإذا ما فرض التخلّف عنه فلا يوجب دفع خسارة أو تحمّل غرامة، إذ خلف الوعد، وإن كان مذموماً أخلاقياً لكنّه جائز شرعاً، ولم ترتّب الشرعية على خلفه شيئاً.
رابعاً: إنّ نفس الأدلّة الواردة في فسخ العقد تدلّ بإطلاقها المقامي على عدم ثبوت خسارة مالية على ترك الزواج وعدم الارتباط، حيث أنّ الروايات الكثيرة الواردة في بيان المقدار الذي يتحمّله الزوج عند فسخ العقد، والمفصّلة بين فسخ عقد غير المدخول بها، حيث أوجبت دفع نصف المهر(34)، وفسخ عقد المدخول بها، حيث أوجبت تمام المهر(35)، فهذه الروايات دالّة بنفسها على أنّه في غير هاتين الحالتين لا تترتّب خسارة مادّية على أحد الطرفين، وإلّا فإنّ المشرّع في مقام بيان الأحكام المتعلّقة بذلك، ولم يتعرّض لغرض الكلام، فيدلّ على عدم ترتّب أثر عليه، فلذلك لم يذكر حكمه ويبيّنه.
الثاني: قال: يحقّ له المطالبة طبقاً للقواعد المدنية، كقاعدة التسبّب والغرر، وقاعدة منع الاستفادة السلبية من الحقّ(36).
وهي مأخوذة من سيرتهم، ويصطلحون عليها أيضاً بقاعدة (السبب أقوى من المباشر)، وهي لا تجري في المقام، وذلك لأنّ العقلاء يفرّقون في موارد التسبيب بين ما إذا صدق على السبب أنّه المتلف والموقع في الخسارة، وبين ما إذا لم يصدق عليه ذلك، فيضمن في الأوّل لقاعدة الاتلاف دون الثاني، ومثال ذلك فيما لو أرسل شخص دابّته واتلف زرع الغير، أو أعطى سكيناً لصبي وأمره بضرب الغير، ففي هاتين الحالتين يصدق على الشخص المذكور عنوان المتلف والمسبّب في اتلاف زرع الغير وجرح الشخص، لأنّ المباشر إمّا فاقد للإرادة كالحيوان، أو إرادة ضعيفة بحيث يعدّ آلة بيد السبب، وينسب العرف بنحو الحقيقة الاتلاف إلى السبب دون المباشر.
وأُخرى لا يصدق التسبّب، وذلك فيما لو توسّطت الإرادة التامّة للمباشر، كما لو أمر شخص شخصاً آخر تامّ العقل والإرادة باتلاف زرع الغير أو جرحه، وقام بتنفيذ ذلك، فإنّ الاتلاف في مثل هذه الحالة يُنسب إلى المباشر، باعتبار توسّط إرادته التامّة، ولا يُنسب الاتلاف إلى السبب(37)، هذا ما يفهمه العقلاء من قاعدة التسبيب ويبنون عليه، وفي مقامنا لا يوجد تسبيب من النوع الأوّل، لتوسّط الإرادة التامّة للطرف الآخر، فهو باختياره أقدم على الخسارة من دون إلجاء أو اضطرار من الغير.
وكذلك لا يصحّ تطبيق قاعدة الغرر على المقام وذلك؛ لأنّ المقصود بالغرر الخديعة، يقال: غرّه غروراً بمعنى خدعه(38).
والمقصود من القاعدة: إنّ كلّ من خدع غيره وأوقعه في الخسارة ضمن تلك الخسارة، فمَن غصب طعاماً وقدّمه لغيره وأكله يكون ضامناً ويرجع على مَن غرّره بالأكل، وإذا ما رجعنا إلى العقلاء نجدهم يفرّقون بين حالتي التغرير والمواعدة، فالتغرير كما في المقال المتقدّم، حيث يُقدّم لغيره طعاماً مغصوباً، فالآكل يضمن ويرجع على مَن غرّه، بينما لو قال شخص لآخر بأنّ التجارة بالشعير مثلاً مربحة فتاجر بها وخسر، فلا يرجع على مَن أمره بذلك، ومقامنا من هذا القبيل، فمَن تقدّم لخطبة امرأة ثمّ أعرض عن الزواج منها، فلا يرى العقلاء أنّه تغيّر وخديعة موجبة لضمان الخسائر إن وجدت(39).
وأمّا الروايات الواردة في الغرر فأصحّها رواية أبي بصير عن الإمام الصادق(ع) عن: >امرأة شهد عندها شاهدان بأنّ زوجها مات، فتزوّجت، ثمّ جاء زوجها الأوّل، قال: لها المهر بما استحلّ من فرجها الأخير، ويُضرب الشاهدان الحدّ، ويضمنان المهر بما غرّا الرجل، ثمّ تعتدّ وترجع إلى زوجها الأوّل<(40).
والباء في قوله (بما غرّا) سببية، أي يضمنان بسبب تغريرهما الرجل، ومن الواضح أنّه في صورة الإعراض عن الزواج من المرأة المخطوبة لا يوجد تغيّر يُوجب الضمان، وإنّما هي مواعدة تخلّف عن الالتزام بها، سواء كان بسبب أو بغير سبب.
الثالث: قال بأنّ هناك مَن يذهب من فقهاء العالم الإسلامي إلى تحمل الخسارة عند فسخ الخطبة، إمّا من باب جبران الخسارة الواردة على الغير بصورة مطلقة، أو تطبيقاً لقاعدة التسبيب، أو لأجل سوء الاستفادة من الحقّ، أو كما يذهب المالكية على أساس أوفوا بالعقود ولا ضرر ونحوها(41).
والجواب عن ذلك: أوّلاً: إنّ الكاتب ومَن سبقه ممّن نقل عنهم لزوم جبران الخسارة وقعوا في خلط شديد، حينما اقتحموا هذا الكم الهائل من القواعد الفقهية في بحث الخطبة مع اختلافها وعدم صدقها على مورد البحث.
وذلك لأنّ قاعدة التسبيب والغرر وسوء الاستفادة من الحقّ لا تجريان في المقام كما تقدّم.
وأمّا قاعدة (أوفوا بالعقود) فإنّ إيرادها في المقام من الغرائب التي لا تصدق من متفقّه، إذ لا يوجد عقد في خطبة النكاح لتطبّق عليه القاعدة، وأقصى ما هنالك مواعدة في الزواج لا غير.
وكذلك لا مورد لقاعدة لا ضرر ولا ضرار وتطبيقها في المقام، وذلك لأنّ معنى الضرر عبارة عن النقص الوارد على المال أو البدن أو العرض أو الحق(42)، ومنشأ تشريعه في قضية مسرّة بن جندب ودخوله على دار الأنصاري من دون استئذان من أجل جذعة، ممّا أدّى إلى تضرّره وشكايته سمرة إلى النبي الأكرم(ص) ورفضه الاستئذان أو البيع، ممّا جعل النبي(ص) يحكم بقلها(43)، وهي ظاهرة في أنّ إيراد الضرر على الآخر لا يجوز بحال من الأحوال، وأين هذا في موردنا الذي هو عبارة عن وعد بالزواج تخلّف عنه لا لسبب.
وثانياً: إنّ قاعدة الضرر بالخصوص لا تنطبق بصورة مطلقة على مقامنا بعد التنزّل عن الجواب الأوّل، وذلك لأنّ الضرر يعني النقص الوارد على المال أو البدن، وهذا يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فقد يكون مقدار معيّن من الأموال فقده بعد ضرر بالنسبة لفقير معدم، في حين لا يعدّ الضرر على إلغاء الخطوبة وآمنا بجبران الخسارة فلابدّ من تقييدها بذلك، ولا يصحّ تطبيقها بشكل مطلق(44).
الرابع: قال في عالمنا اليوم الكثير من الشباب عديمي المسؤولية، ولا يلتزمون بالوعود والعهود، لذلك يتقدّمون لخطبة النساء لمجرد حبّ أو شغف معيّن، ومن ثمّ يفسخون الخطوبة بدون سبب، لذا يفترض بالمشرّع القانوني وضع غرامة كبيرة تردعهم من التلاعب بمشاعر النساء والأعراض(45).
ويرد عليه:
أوّلاً: إنّ هذا الكلام شعري أقرب إلى كونه علمياً، لأنّ الأحكام والقوانين لا تُبنى على الاستحسان أو دفع بعض المفاسد، وإنّما تُبنى على علل موضوعية لها أثر على واقع المكلّف، والسلوكيات الفردية لا تصلح لأن تكون منطلقاً لتأسيس قانون أو قاعدة عامّة.
ثانياً: إنّ الضوابط والمقرّرات التي وضعتها الشريعة الإسلامية كافية المحيولة دون حصول ما ذكره الكاتب، حيث بيّنت الشريعة المواصفات المطلوبة في الزوج والزوجة على حدّ سواء، إذ حثّت الأهل على اختيار الزوج الذي يتمتّع بأخلاق حميدة ودين مرضي، وأن يكون عفيفاً وموسوراً(46)، وكراهة تزويج غير الملتزمين وأصحاب الخُلق السيء والمخنّثين ونحو ذلك(47)، وحثّ الرجل على اختيار المرأة العفيفة الملتزمة أخلاقياً ودينياً المطيعة ذات الأصل الكريم، البكر الولود الجميلة(48)، ومراعاة الإرشادات والبيّنات الشرعية تحول دون حضور ما أورده الكاتب.
ثالثاً: إنّ الشريعة الإسلامية بُنيت على التيسير لا العسر، وعلى السماحة دون الضيق والتشدّد، وذمّت الرهبة لما فيها من التضييق والفاقة، لأنّها أرادت أن يستمدّ المكلّف الحياة وما فيها من خلال الوسائل المشروعة والنافعة، وعدم هدر الطاقة والمنافع المنتشرة في الأرض في هلاك الإنسان وإفساد حياته، وحاجة الإنسان للارتباط بالشريك ملحّة وضرورية، وكما ذكرنا في مقدّمة البحث أنّ المرأة قرار وسكن، فهي عنصر حيوي في حياة الرجل، ولذا نجد أنّ الشريعة المقدّسة حبّذت أن يكون المهر قليلاً عند التزويج، وجعلته علامة من صلاح المرأة وديمومة بيت الزوجية.
روى السكوني عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: >قال رسول الله(ص): أفضل نساء أُمّتي أصبحهنّ وجهاً وأقلهنّ مهراً<(49)، وروى أيضاً: >إنّ من بركة المرأة قلّة مهرها، ومن شؤمها كثرة مهرها<(50).
والسرّ في تخفيف المؤونة رغبة الرجال والنساء في الزواج، وترك الوقوع في الحرام الذي يفضي إليه وضع العوائق من غلاء المهور أو الاشتراطات المحجفة التي تُؤدّي إلى العزوف عنه.
فما ذكره لا يؤدّي إلى الالتزام بالخطوبة وعدم التلاعب بمشاعر المرأة فحسب، بل يولّد حالة من العزوف والرغبة في الإقدام على الزواج والاقتران بالمرأة.
ولاية الأب على البنت الباكر:
ذكر الكاتب بأنّ هناك جملة من الانتقادات التي تُطرح حول وضع ولاية الأب على البنت الباكرة في إجراء عقد الزواج، حيث ورد في المادّة القانونية (1043) النصّ التالي: (نكاح البنت الباكر البالغة موقوف على إجازة الأب أو الجدّ، وإذا امتنع الأب أو الجد عن الإذن في زواج البنت بدون سبب موجّه فإنّ ولايته ساقطة، وعندها يمكن للبنت الذهاب للمحكمة وأخذ الموافقة وإجراء عقد الزواج وتثبيته في الدوائر الرسمية).
وذكر المؤلّف أنّ هذا النصّ يتضمّن ثلاثة مواضيع:
الموضوع الأوّل: توقّف نكاح البنت الباكرة على إجازة الأب أو الجد.
والموضوع الثاني: في صورة عزل الولي فإنّ ذلك يوجب سقوط إجازته.
والموضوع الثالث: في صورة سقوط إجازة الأب والجدّ تنتقل الإجازة إلى المحكمة(51).
والمهم في البحث هو الموضوع الأوّل الذي ركّز عليه وبحثه في كتابه، مستعرضاً الأقوال النقلية فيه مع الإشارة إلى أدلّتها ومناقشة البعض منها.
وقبل البحث في بيان ثبوت ولاية الأب والجدّ على البنت الباكر وعدمها، نستعرض الأقوال في ذلك مع الإشارة إلى أدلّتها، مع بيان مناقشة الأدلّة إن كان فيها ما يرد عليها.
آراء الفقهاء حول ولاية الأب والجدّ على البنت الباكر:
للفقهاء في ولاية الأب والجدّ على البنت البالغة الباكر ثلاثة، مع اتّفاقهم على عدم ثبوت ولايتهما على البنت.
القول الأوّل: ثبوت الولاية للأب والجدّ:
يذهب إلى هذا الرأي جملة من الفقهاء الأقدمين منهم:
1ـ الشيخ الصدوق حيث قال: >لا ولاية لأحدٍ على الابنة إلّا لأبيها مادامت بكراً، فإذا صارت ثيّباً فلا ولاية له عليها، وهي أملك بنفسها.
وإذا كانت بكراً وكان لها أب وجدّ، فالجدّ أحقّ بتزويجها من الأب ما دام الأب حيّاً<(52).
2ـ قال أبو الصلاح الحلبي: >فإمّا نكاح الغبطة وهو نكاح الدوام، فمَن شرط صحّته الولاية، وعقد الولي له بلفظ مخصوص يقتضي الإيجاب.. والولاية مختصّة باب المعقود عليها وجدها له في حياته..<(53).
3ـ قال الشيخ الطوسي: >ولا يجوز للبكر أن تعقد على نفسها نكاح الدوام إلّا بإذن أبيها، فإن عقدت على نفسها بغير إذن أبيها كان العقد موقوفاً على رضا الأب<(54).
4ـ قال المحقّق البحراني: >الخلاف في ولاية البكر والثيّب بغير الجماع البالغة الرشيدة في النكاح مع وجود الأب أو الجدّ في أقوال خمسة:
أحدهما: وهو المختار، استمرار الولاية عليها مطلقاً..<(55).
أدلّة القول الأوّل:
استدلّ لهذا القول بعدة أدلّة نوردها تباعاً كما ذكرت:
الدليل الأوّل: الاستدلال بجملة من الروايات الواردة في اشتراط إذن الولي في نكاح الباكر وهي كثيرة، قال الشهيد الثاني: >فمنها قول النبي(ص): (لا نكاح إلّا بولي) خرج منه ما أجمع على عدم اعتبار الولاية فيه فيبقى الباقي، وأبلغ منه ما روي عنه(ص) أنّه قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، ثلاثاً).
ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور عن الصادق(ع) قال: (لا تزوّج ذوات الآباء من الأبكار إلّا بأذن أبيها)، وهو خبر معناه النهي، والأصل فيه التحريم.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما(ص) قال: (لا تستأمر الجارية إذا كانت بكراً بين أبويها، ليس لها مع الأب أمر، وقال: يستأمر كلّ أحد ما عدا الأب.
ومنها صحيحة العلاء بن زرّين عن أبي عبد الله(ع): (لا تزوّح ذوات الآباء من الأبكار إلّا بإذن آبائهن).
ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع) في الجارية يزوّجها أبوها من غير رضا منها؟
قال: >ليس من أبيها أمر إذا أنكحها جاز نكاحه وإن كانت كارهة..<.
الثاني: الأصل: بمعنى الاستصحاب، فإنّ الولاية كانت ثابتة عليها قبل محلّ النزاع، فتستصحب إلى أن يثبت المزيل.
الثالث: الاعتبار: فإن سلبها الولاية لحكمة واضحة، لقصور رأي المرأة خصوصاً في معرفة الصالح من الرجال، فلولا كون نكاحها منوطاً بنظر الأب لزم الضرر عليها وعلى أهلها غالباً<(56).
القول الثاني: عدم ثبوت الولاية لأحدهما:
ذهب جملة من الفقهاء إلى سقوط ولاية الأب والجدّ عن البنت الباكر الرشيدة، وأنّها مالكة لنفسها.
1ـ قال المحقّق في الشرائع: >وهل تثبت ولايتهما على البكر الرشيدة، فيه روايات، أظهرها سقوط الولاية عنها، وثبوت الولاية لنفسها في الدائم والمنقطع<(57).
2ـ قال العلّامة الحلّي: >المرأة إن كانت صغيرة أو مجنونة كانت الولاية في نكاحها لكلّ من الأب والجدّ للأب.. وإن كانت بالغة رشيدة، فإن كانت ثيّب كانت الولاية لها خاصّة.. وإن كانت بكراً فكذلك على أقوى القولين<(58).
3ـ قال المحقّق الكركي وهو ينقل الأقوال في ثبوت الولاية على البكر من عدمه: >نفي الولاية عنها في الدائم والمنقطع، اختاره المفيد في أحكام النساء، وابن الجنيد والمرتضى وسلّار والمصنّف وأكثر المتأخّرين وهو الأصح<(59).
4ـ قال الشهيد الأوّل: >ولا ولاية في النكاح لغير الأب والجدّ له، والمولى والحاكم والوصي، فولاية القرابة على الصغيرة والمجنونة والبالغة سفيهة، وكذا الذكر لا على الرشيدة في الأصح<(60).
5ـ قال في الرياض: >وأمّا البكر البالغة الرشيدة فأمرها بيدها إجماعاً إذا لم يكن لها الوليان، وفي المشهور مطلقاً<(61).
6ـ قال في الجواهر في شرح عبارة المحقّق: >ولا يشترط في نكاح الرشيدة وإن كانت بكراً حضور الولي على الأصحّ<(62).
7ـ قال الشيخ الأنصاري: >ولا تثبت ولايتهما على البالغة الرشيدة وإن كانت بكراً على رأي مشهور، بل في النكت عن السيّد دعوى الإجماع<(63).
8ـ اختار الاستقلال كلّ من الشيخ النائيني والعراقي والإصفهاني في تعليقاتهم على العروة الوثقى(64).
9ـ قال السيّد الروحاني بعد نقل الأقوال في المسألة وأدلّتهم: >فتحصّل أنّ الأظهر هو تقديم الطائفة الخامسة، الدالّة على استقلال البكر وعدم ثبوت الولاية للأب عليها<(65).
أدلّة القول الثاني: عدم ثبوت ولاية للأب على البنت الباكر:
استدلّ للقول باستقلال البنت الباكر الرشيدة مطلقاً، وعدم توقّف عقد الزواج على إذن الأب أو الجدّ بعدّة أدلّة نوردها تباعاً:
الدليل الأوّل: الآيات القرآنية المباركة الدالّة على إضافة النكاح إلى النساء من غير تفصيل، كقوله تعالى: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، وقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(66)، حيث نسبت النكاح إلى المرأة، وهي تشمل بإطلاقها البكر والثيّب على حدّ سواء.
الدليل الثاني: الروايات الكثيرة، فمنها: رواية ابن عباس عن النبي(ص): >الأيم أحقّ بنفسها من وليّها، والباكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمتها<(67).
ومنها: حسنة الفضلاء الفضيل بن يسار ومحمّد بن مسلم وزرارة وبريد عن الإمام الباقر(ع) قال: >المرأة التي ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولّى عليها إن تزويجها بغير ولي جائز<(68).
ومنها: صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الباقر(ع) قال: >تستأمر البكر، ولا تنكح إلّا بأمرها<(69).
ومنها: رواية سعدان بن مسلم عن الإمام الصادق(ع) قال: >لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن وليّها<(70).
الدليل الثالث: الإجماع، حيث أدّعى السيّد المرتضى على عدم اشتراط إذن الأب في زواج البكر الرشيدة، قال: >فأمّا الولاية فعندنا أنّ المرأة العاقلة البالغة تزول عنها الولاية في بضعها.. فأما الدليل.. بعد الإجماع المتقدّم قوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، فأضاف عقد النكاح إليها، فدلّ على أنّ لها أن تتولّاه<(71).
الدليل الرابع: إصالة عدم اشتراط إذن الولي في صحّة العقد، ويؤيّده بأنّ البلوغ والرشد هو المدار في صحّة التصرّف، وبعد البلوغ يصحّ استقلالها في التصرّفات المالية، فتستقلّ في النكاح أيضاً للملازمة بين الأمرين(72).
القول الثالث: اشتراكهما في الولاية:
هذا الرأي يرى أنّ إذن البنت البكر والأب كلاهما معتبر في صحّة العقد، بحيث لو امتنع أحدهما لا يكون العقد صحيحاً.
اختار هذا الرأي بعض الفقهاء كالسيّد الخوئي(قدس سره)، إذ بعد أن ذكر السيّد اليزدي الآراء في المسألة قال: >والتشريك بمعنى اعتبار إذنهما معاً< علّق السيّد الخوئي قائلاً: >هذا القول هو المتعيّن في المقام، لما فيه من الجمع بين النصوص الواردة، ولخصوص ظهور قوله(ع) في معتبرة صفوان: >فإنّ لها في نفسها نصيباً< أو: >فإنّ لها في نفسها حظّاً<، فإنّهما ظاهران في عدم استقلالها، وكون بعض الأمر خاصّة لها<(73).
مناقشة أدلّة القول الأوّل:
وأُجيب عن أدلّة القول الأوّل بما يلي:
إنّ النصوص التي أوردها المستدلّ لو لم يكن لها ما يعارضها لتعيّن الالتزام بها، إلّا أنّه يوجد في المقام عدّة روايات تدلّ على لزوم استشارة البكر، وعدم استقلال الأب في أمرها، وهي:
أوّلاً: معتبرة منصور بن حازم عن الصادق(ع) قال: >تستأمر البكر وغيرها ولا تنكح إلّا بأمرها<(74).
ثانياً: معتبرة صفوان حيث روى: >استشار عبد الرحمن بن موسى بن جعفر(ع) في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: افعل ويكون ذلك برضاها، فإنّ لها في نفسها نصيباً، قال: استشار خالد بن داود بن موسى بن جعفر(ع) في تزويج ابنته علي بن جعفر! فقال: افعل ويكن ذلك برضاها، فإنّ لها في نفسها حظّاً<(75).
وحينئذٍ لابدّ من ملاحظة مجموع الروايات وإعمال ما تقتضيه القواعد، وبما أنّ هاتين الروايتين المعتبرتين توافقان الكتاب الكريم، واطلاقات القرآن الكريم تقتضي عدم اعتبار إذن غير المرأة في العقد عليها ونفوذه، وكذلك تخالفان ما عليه جمهور السنّة، فإنّ المنقول عن الشافعي وأحمد ومالك القول باستقلال الأب في العقد على البنت البالغة الباكر، فتقدّم هذه الروايات على الروايات التي تحكم بولاية الأب مطلقاً؛ لأنّها موافقة للكتاب ومخالفة للعامّة، والنتيجة اشتراك البنت والأب والبنت في الأمر، كما يرشد إليه التعبير بلفظ (الحظ) و(النصيب) الصريحتين في اعتبار إذنها(76).
وأمّا ادّعاء عدم صحّة الروايات التي استند إليها صاحب القول من ضعفها سنداً ودلالة، كما ذكر ذلك الشهيد الثاني في المسالك(77) وصاحب الجواهر، فهو غير صحيح؛ لوجود جملة من الروايات الصحيحة والصريحة في ولاية الأب على البنت البالغة البكرة.
إذ منها الصحيح كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع): >سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب<(78)، وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما(ص) قال: >لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها، ليس لها مع الأب أمر، وقال يستأمرها كلّ أحد ما عدا الأب<(79).
وأمّا الدليل الثاني: وهو التمسّك بالاستصحاب، بمعنى استصحاب بقاء الولاية لما بعد البلوغ.
فيرد عليه: مع وجود الدليل المحرز، وهي الروايات الصحيحة المشترطة إذن الأب لا تصل النوبة إلى الأصل؛ لأنّها رافعة الموضوعة.
وأمّا الدليل الثالث: وهو التمسّك بالاعتبار والحكمة، فأجاب عنه الشهيد بقوله: >لا تصلح بمجرّدها تأسيس الأحكام، ولو ثبتت لزم ثبوت الولاية للأقارب، وهم لا يقولون به<(80).
مناقشة أدلّة القول الثاني:
والذي يذهب إلى استقلال البنت الباكر الرشيدة وعدم احتياجها لأذن الأب استناداً لعدّة أدلّة كما تقدم ذكرها، إلّا أنّه يردّ عليها:
أوّلاً: إنّ النساء المحدّث عنهنّ في الآيات، والذي أُضيف النكاح اليهنّ هنّ المطلّقات للعدّة، وبعضهنّ مطلّقات ثلاثاً، والكلام عن الإبكار اللواتي لم يتزوّجن، فهي غير واردة في محلّ النزاع(81).
مضافاً إلى وجود نصوص خاصّة تقتضي ثبوت الولاية للأب ولو على نحو التشريك(82).
ثانياً: وأمّا الروايات التي بيّنت استقلال البنت، وبعضها صحيح السند لا كما ذُكر في المسالك والجواهر(83)، إلّا أنّه لا يمكن الركون إليها بعد وجود نصوص صريحة تدلّ على ثبوت الولاية للأب، فلا يمكن المصير إلى هذا القول بعد ثبوت ما يعارضه(84).
وثالثاً: وأمّا الدليل الثالث وهو الإجماع المدّعى من قبل السيّد المرتضى، فقد ردّه في المسالك بقوله: >فواقعة في معركة النزاع، ويكفي في فسادها بالنسبة إلى السابقين على المرتضى مخالفة مثل الصدوق والمفيد وابن أبي عقيل من أهل الفتوى، وأمّا أهل الحديث فستعرف أنّ الصحيح منه دالّ على خلافه، فكيف يُنسب إليهم القول بخلافه<(85).
مضافاً إلى احتمال المدركية فيه، واستناده إلى الروايات المتقدّمة المصرّحة باستقلالها وملكها لأمر نفسها، ومعه لا يمكن الاستدلال به.
رابعاً: وأمّا الاستدلال بالأصل فهو غير تام، بعد وجود دليل محرز يشترط إذن الأب في مضي العقد، وبدونه يبقى موقوفاً عليه.
وجعل البلوغ والرشد مناط صحّة التصرف مطلقاً أوّل الكلام، ومورد الخلاف بين الأعلام لاختلاف النصوص في ذلك، ومنع الملازمة بين الاستقلال المالي والاستقلال في النكاح للفرق بينهما، سيما وأنّ اطّلاع النساء الباكرات على مزايا الرجال وخفاياهم أمر عزيز ونادر، وضرره شديد على المرأة إذا ما تبيّن الخلاف، فلذلك تحتاج إلى معين يمتلك الاطّلاع والمعرفة.
دليل القول الثالث:
وأمّا الرأي الثالث وهو الذي يذهب إلى التشريك، فيمكن القول بأنّ دليله هو محصّل الجمع بين الروايات الواردة في المقام، والمتعارضة فيما بينها، وذلك لورود جملة من النصوص التي بيّنت أنّ للبنت في نفسها نصيب، ففي معتبرة صفوان المتقدّمة عن الإمام الصادق(ع) قال: >فإنّ لها في نفسها نصيب< وكذلك ورد: >فإن لها في نفسها حظّاً< فإنّ هذين النصّين ظاهران في عدم استقلال الأب في شأن البنت، وعدم استقلالها في شأن نفسها، وفي المقابل ورد في صحيحة زرارة عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: >لا ينقض النكاح إلّا الأب<(86).
وكذلك صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع) أنّه قال: >لا ينقض النكاح إلّا الأب<(87).
فإنّ التعبير بالنقض لا يصحّ إلّا بعد الإبرام، أي أنّ هناك شيئاً مبرماً فيرد عليه النقض، ولا يمكن أن يكون المراد من العقد المبرم في المقام الصحيح اللازم، وإلّا لما أمكن نقضه، إذ ليس لأحد الخيار في فسخ النكاح الصحيح الفعلية، وهو يعني أنّه صادر من أهله، وممّن يصحّ منه العقد، وعلى هذا الأساس تدلّ الروايات المتقدّمة على اشتراك الأمر في التزويج بين البنت وأبيها، فالبكر أن زوّجت نفسها فصحّة العقد متوقّفة على رضا الأب، فإنّ رضي به صحّ بالفعل، وإلّا انتقضت الصحّة الشأنية أيضاً(88).
ومن خلال كلّ ما تقدّم يتّضح أنّ القول بالتشريك هو الأقرب للصواب، وأنّ البالغة الباكرة ليست مستقلّة في أمرها، وليس الأب مستقلّ فيه كذلك، إنّما الأمر في العقد بينهما، فصحّته متوقّفة على رضاهما معاً، بحيث لا يصحّ أن يتصرّف أحدهما مستقلّاً عن الآخر، وذلك للأدلّة المتقدّمة من الأخبار، وكذلك يؤيّده الاعتبار المقتضي لاحتياج المرأة إلى معين ومرشد يطلعها على خفايا الرجال، لعدم اطّلاعها وخيرتها في ذلك.
ــــــــــــــــــ
1ـ الأحزاب: 72.
2ـ الحجرات: 13.
3ـ المرأة والإسلام: 23.
4ـ حقّ الزوج على زوجه، وحقّ الزوجة على زوجها، طه عبد الله العفيفي: 12 ـ 13.
5ـ النساء: 1.
6ـ آل عمران: 195.
7ـ المرأة في الإسلام: 45.
8ـ طه: 50.
9ـ القواعد الفقهية للشيخ فاضل اللنكراني 1: 295.
10ـ حقوق المرأة العاملة، دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: 417.
11ـ الروم: 21.
12ـ وسائل الشيعة 20: 14، ح4.
13ـ المقنع: 98، وسائل الشيعة 20: 18، ح15.
14ـ سفر الخروج 15: 19 ـ 25.
15ـ الكافي 5: 568.
16ـ الكافي 5: 329.
17ـ لسان العرب 5: 98 ـ 99.
18ـ جواهر الكلام 29: 40.
19ـ مستدرك الوسائل 14: 201، ب33.
20ـ مسالك الإفهام 7: 18 ـ 19.
21ـ مسالك الإفهام 7: 46.
22ـ النور: 31.
23ـ خواستگاري ونامزدي: 4.
24ـ خواسگاري ونامزدي: 8.
25ـ النساء: 3.
26ـ النور: 32.
27ـ الخلاف 4: 262.
28ـ خواستگاري ونامزدي: 3.
29ـ القصص: 27.
30ـ الخلاف 4: 262، نقلاً عن صحيح البخاري 7: 22.
31ـ وسائل الشيعة 20: 446، باب من تزوّج بامرأة ذات بعل حرمت عليه مؤبّداً.
32ـ وسائل الشيعة 20: 497، باب تحريم التصريح بالخطبة لذات العدّة.
33ـ خواستگاري ونامزدي: 7.
34ـ وسائل الشيعة 21: 307، ح8.
35ـ وسائل الشيعة 21: 319، باب إنّ المهر يجب ويستقرّ بالدخول.
36ـ خواستگاري ونامزدي: 7.
37ـ التنقيح في شرح العروة 2: 323، القواعد الفقهية 2: 161 ـ 162.
38ـ لسان العرب 11: 30.
39ـ دروس تمهيدية في القواعد الفقهية 2: 155 ـ 157.
40ـ وسائل الشيعة….
41ـ خواستگاري ونامزدي: 7 ـ 8.
42ـ دروس تمهيدية في القواعد الفقهية 1: 112.
43ـ وسائل الشيعة، الباب12 من أحياء الموات، ح3.
44ـ دروس تمهيدية في القواعدة الفقهية 1: 112.
45ـ خواستگاري ونامزدي: 8.
46ـ وسائل الشيعة 20: 76، باب استحباب اختيار الزوج الذي يرضى خُلقه ودينه.
47ـ وسائل الشيعة 20: 81، باب كراهة تزويج سيء الخُلق والمخنّث.
48ـ وسائل الشيعة 20: 33 و47 و49 و55 و58.
49ـ وسائل الشيعة 20: 112، باب استحباب تخفيف مؤنة الزواج.
50ـ من لا يحضره الفقيه 3: 387، ح4360، باب بركة المرأة وشؤمها.
51ـ خواستگاري ونامزدي: 9.
52ـ الهداية: 260.
53ـ الكافي: 292.
54ـ النهاية: 465.
55ـ الحدائق الناضرة 23: 211.
56ـ مسالك الإفهام 7: 129 ـ 132.
57ـ شرائع الإسلام 2: 502.
58ـ تحرير الأحكام 3: 433.
59ـ جامع المقاصد 12: 123.
60ـ شرح اللمعة الدمشقية 5: 116.
61ـ رياض المسائل 10: 95.
62ـ جواهر الكلام 29: 146.
63ـ كتاب النكاح: 112.
64ـ العروة الوثقى 5: 615.
65ـ فقه الصادق 21: 162.
66ـ آيات سورة البقرة: 230 ـ 234.
67ـ سنن الدارمي 2: 138.
68ـ الكافي 5: 391، ح1.
69ـ التهذيب 7: 377، ح1535.
70ـ التهذيب 7: 380، ح1538.
71ـ الناصريات: 320 ـ 321.
72ـ مسالك الإفهام 7: 124.
73ـ كتاب النكاح 2: 264.
74ـ وسائل الشيعة، ج13، الباب3 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح10.
75ـ وسائل الشيعة، ج14، الباب4 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح2.
76ـ كتاب النكاح 2: 257 ـ 258.
77ـ مسالك الإفهام 7: 133.
78ـ جواهر الكلام 29: 180 ـ 182.
79ـ وسائل الشيعة، ج14، باب3 أولياء العقد ح11.
80ـ وسائل الشيعة، ج14، باب4 أولياء العقد، ح3.
81ـ مسالك الإفهام 7: 125.
82ـ كتاب النكاح 2: 258.
83ـ مسالك الإفهام 7: 125.
84ـ كتاب النكاح 2: 262.
85ـ مسالك الإفهام 7: 128.
86ـ وسائل الشيعة، ج14، الباب4 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح1.
87ـ وسائل الشيعة، ج14 باب4 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح5.
88ـ كتاب النكاح 2: 264 ـ 265.
بقلم: الشيخ لؤي المنصوري