- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 20 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
كما أنّ للصلاة ذكرا وقولا كذلك لها حال وفعل ، ولكلّ من ذلك سرّ ، إذ الصلاة بأسرها ذات سرّ ، وقد تقدّم أنّ الطريق الوحيد لبيان سرّها هو : الكشف الصحيح ، أو النقل المعتبر ، إذ لا سبيل للعقل الطائف حوم كعبة الكلَّيّات أن يسعى بين مصاديقها الجزئيّة ، وأن يلزم أن لا يكون الجزئيّ المنكشف أو المنقول مناقضا للكلَّيّ المعقول المبرهن .
وأنّ الذي يوجّه به حال المصلَّي من القيام ونحوه لا خصيصة له بالصلاة ؛ لجريان غير واحد من ذلك في غيرها : كالوقوف في عرفات ، والمشعر ، وكذا الطواف والسعي ، حيث إنّ بعض ما يوجّه به أفعال الصلاة وأحوالها يجري في مناسك الحجّ والعمرة ونحوهما .
وحيث إنّ المهمّ هو النصّ الوارد في بيان أسرار الصلاة في المعراج ونحوه ، فلنأت بنبذ منه ، ثمّ نشير إلى ما يمكن توجيهه .
روي في العلل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام : كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ ( أي : في كلّ ركعة ركوع وسجدتان ) ، وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال عليه السّلام : « إذا سألت عن شيء ففرّغ قلبك لتفهم ، إنّ أوّل صلاة صلَّاها رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – إنّما صلَّاها في السماء بين يدي اللَّه تعالى قدّام عرشه تعالى . إلى آخره » « 1 » .
والمستفاد منه : أنّ « صاد » الذي أمر رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أن يغتسل ويتوضّأ منه هو عين تنفجر من ركن العرش كما تقدّم ، ويقال له : ماء الحياة ، وهو ما قال اللَّه عزّ وجلّ * ( « ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » ) * ، وأنّ أحوال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : من القيام والركوع والسجود ، والجلوس والانتصاب من ذلك كانت بالوحي الإلهيّ ، ولكلّ حال ذكر وقول ، كما عن دعوات الراونديّ عن النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه قال : « أمرني جبرئيل أن أقرأ القرآن قائماً ، وأن أحمده راكعا ، وأن أسبّحه ساجدا ، وان أدعوه جالسا » « 2 » . كما أنّه روي : « للانتصاب ذكر خاصّ » .
ولمّا كان الإنسان كونا جامعا بين الحضرات كلَّها فهو واجد لكلّ حال يجده الملك ، ولا عكس ، إذ قد ورد في الملائكة : « أنّ منهم : سجودا لا يركعون ، وركوعا لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون . » « 3 » ، ولكنّ الإنسان ينتصب تارة ، ويركع أخرى ، ويسجد ثالثة ، ويجلس رابعة ، ويتزايل إلى القيام خامسة ، كما فعله رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – في المعراج .
وحيث إنّ ما ورد في سرّ الركوع أنّ تأويله : « آمنت بوحدانيّتك ولو ضربت عنقي » « 4 » مثال لسائر أحوال الصلاة من القيام ونحوه ، فيمكن أن يقال : إنّ سرّ القيام وتأويله هو الإعلام بالإعداد لمحاربة العدوّ من قوّة ترهبه ، والمقاومة تجاه أيّ بلاء مبين ، إذ الصلاة ممّا يستعان بها للحوادث والكوارث حسبما قال تعالى : * ( « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ » ) * « 5 » .
وهكذا الإعلام بامتثال قوله تعالى * ( « قُومُوا لِلَّه ِ قانِتِينَ » ) * « 6 » .
وبإطاعة قوله تعالى : * ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّه ِ ) * . » « 7 » ، و « . * ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّه ِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) * » « 8 » ، ولا خفاء في أنّ المراقب على القيام للَّه وحده يصير قائماً بالقسط ، ثمّ يصير قوّاما به ، ثمّ يصير مظهرا للقيّوم الذي تعنو له الوجوه بالعرض والتبع ، كما أنّها عنت للحيّ القيّوم بالذات وبالأصالة .
والغرض : كما أنّ المحاورة قد استقرّت على التعبير عن الصبر والحلم والجهاد والاجتهاد بالقيام ؛ لأنّه أقوى حالة للإنسان بها يقدر على الذبّ أو الصول كذلك المشاهدة الملكوتيّة قد استمرّت على التمثّل بالقيام أو الانحناء أو السجود ، أو الجلوس ، لأحوال تعتري الإنسان تجاه ربّه من الحضور لديه ، والانقياد لأمره ، والتذلَّل في فنائه ، والتربّص لصدور أمره ، وحيث إنّ المهمّ في إقامة الصلاة هو كون المصلَّي قائماً للَّه لا يعجزه شيء ولا يقعده أمر من الأمور ورد في حقّ القيام والاهتمام به حال الصلاة : أنّه « لا صلاة لمن لم يقم صلبه » « 9 » ، وهذا وإن كان ظاهره الحكم الفقهيّ من لزوم الاستواء حال التكبير للإحرام ، وحال القراءة ، وقبل الركوع ونحو ذلك ممّا يجب فيه القيام ، ركنا أو جزء ولكنّ تأويله هو : أنّ المناجاة مع اللَّه تستلزم المقاومة مع الخواطر والهواجس ، فضلا عنها مع الكوارث والحوادث .
كما أنّ إحياء العدل ، وإجراء القسط ، وعون المظلوم ، وخصم الظالم تفتقر إلى القدرة المعبّرة عن ذلك بالقيام بالقسط ، حسبما ورد في حقّ اللَّه تعالى * ( شَهِدَ ا للهُ أَنَّه ُ لا إِله َ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) * « 10 » .
وحيث إنّ اللَّه سبحانه دائم في شهادته بالوحدانيّة فهو دائم القيام بالقسط ، وكذلك الملائكة الَّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، ويخافون من فوقهم ، ولا يعصونه طرفة عين ، بل وهكذا أولو العلم ، إذ الدوام في الشهادة بالتوحيد مستلزم للدوام في القيام بالقسط ، فهو قائم دائما ، ولعلّ من هذا القبيل : اتّصاف بقيّة اللَّه تعالى واتّسامه – عليه السّلام – بوصف القيام وسمته .
ولمّا كان القيام لإحياء كلمة اللَّه وإعلائها فمن أحياها وأعلاها فهو قائم واقعا وإن كان قاعدا ظاهرا . ومن لم يحيها ولم يعلها فهو قاعد واقعا وإن كان قائماً ظاهرا حسبما يذكر في تفسير القيام للجهاد ، والقعود عنه ، من أنّ المدار هو : إحياء الدين بالجهاد والاجتهاد ، وإعلاء كلمة الحقّ بالإيثار والنثار ، سواء كان المجيء قائماً أو قاعدا على ما بينهما من الميز المقوليّ ؛ لأنّ كلّ واحد منهما من مقولة الوضع ، ولا اعتداد بالقيام البدنيّ تجاه قيام القلب بإحياء الدين وصون تراثه عن الضياع ، ولعلّ من هذا القبيل : هو ما قاله أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : « . وما جالس هذا القرآن أحد إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى » « 11 » .
وما قاله – عليه السّلام – في وصف أولياء اللَّه « . بهم قام الكتاب وبه قاموا » ؛ لأنّ المراد من قيام القرآن بهم : هو ظهوره العلميّ في القلوب ، والأذهان ، وأثره العمليّ في الجوارح والأبدان بإرشادهم وتبليغهم ، كما أنّ المراد من قيام هؤلاء الأولياء بالقرآن : هو علمهم وعملهم به ، وتعليمهم الناس الكتاب والحكمة وتزكيتهم بما يبعدهم عن النار ، ويقرّبهم إلى الجنّة ، ويزلفهم إلى لقاء اللَّه سبحانه .
ومن هنا يظهر أيضا معنى قول عليّ – عليه السّلام – في طعن النفاق ، وقدح المنافق : « . قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا . » « 12 » .
والحاصل : أنّ القيام إنّما هو تمثّل للحالة الَّتي بها يقدر العبد على المسارعة ، ثمّ الاستباق ، ثمّ الإمامة بأتمّ وجه ، فمن قام واستقام للَّه تتنزّل عليه الملائكة وتبشّره بالولاية الطاردة للخوف والحزن ، كما قال تعالى * ( « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا ا للهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » ) * « 13 » .
فمن استمرّ على الاستقامة يمكن أن يشاهد المبشّرات من الملائكة ويراهم ، كما أنّه يسمع كلامهم ، إذ الذي يختصّ بالرسول هو ما يرجع إلى خصوص التشريع ، وأمّا ما يرجع إلى التسديد ونحوه فلا .
فكما أنّ قيام اللَّه بالقسط منزّه عن الحالة الخاصّة البدنيّة كذلك سرّ القيام الملحوظ في سرّ الصلاة منزّه عنها ، وإن كان القيام المعتبر في صورة الصلاة وظاهرها هو عبارة عن تلك الحالة البدنيّة فالمصلَّي المناجي ربّه المتمثّل بين يدي معبوده القائم بالقسط لا بدّ له من التمثّل بالقيام ، إذ القلب القائم يظهر أثر قيامه في القالب والجوارح ، كما أنّ خشوع القلب يتجلَّى فيها ، أي : في الجوارح ، لما روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : أنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أبصر رجلا يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : « إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه » « 14 » ، ولا ينافيه ما ورد عن رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه كان يمسّ لحيته أحيانا في الصلاة ، فقيل له يا رسول اللَّه ، نراك تمسّ لحيتك في الصلاة ؟ فقال صلَّى اللَّه عليه وآله :
« إذا كثرت همومي » « 15 » ، لأنّ المسّ هو غير العبث فلا ينافي الخشوع القلبيّ أوّلا ، وأنّه نحو ابتهال وتضرّع لدى اللَّه عند ازدحام الهموم ثانيا ، وكان اهتمامه – صلَّى اللَّه عليه وآله – واحدا ، وهو خروج القرآن عن الهجران ، حيث اتّخذه قومه مهجورا ، وإيمان قومه ؛ لأنّهم كفروا باللَّه ورسوله ، وكان – صلَّى اللَّه عليه وآله – باخعا نفسه على آثارهم ، لأنّهم لم يأمنوا بما جاء به أسفا عليهم ، ولم تكن همومه للدنيا الَّتي طلَّقها وصيّه ثلاث تطليقات ، فضلا عنه – صلَّى اللَّه عليه وآله – نفسه . هذا بعض ما يرجع إلى سرّ القيام في الصلاة .
وأمّا الركوع وكذا السجود : فتأويله هو : أنّ المصلَّي المناجي ربّه وإن أقام صلبه وقام لامتثال أمره تعالى واستقام واعتدل ولكنّ ذلك كلَّه بالقياس إلى ما يعدّ عدوا للَّه ولأمره ونهيه من الشيطان الغويّ ، والنفس الأمّارة بالسوء ، والدنيا الغرور .
وأمّا بالقياس إلى اللَّه تعالى فكلّ قيام عنده قعود ، وكلّ اعتدال عنده انحناء ، وكلّ إقامة صلب عنده انكسار ونحو ذلك ؛ لأنّ كلّ حيّ بالقياس إليه تعالى ميّت ، وكلّ عليم بالقياس إليه جاهل ، وكلّ قادر بالنسبة إليه عاجز ، حيث إنّ كلّ شيء بالقياس إلى وجهه الباقي هالك ، ولذلك قال أمير الموحّدين عليّ عليه السلام : « كلّ قويّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلَّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها ، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر . » « 16 » .
فالمصلَّي المناجي ربّه لا بدّ وأن ينحني ، ويركع أو يسجد ليتمثّل ما هو السرّ في مرحلة التنزّل ، كما أنّ انحناء ظهره ومدّ عنقه للضرب ونحوه وإن كان ركوعا أو سجودا للَّه تعالى ولكنّه بالقياس إلى أعداء دين اللَّه تعالى قيام واعتدال ، كما أنّ القيام نفسه وإن كان للذبّ عن الدين قياما ولكنّه بالقياس إلى القيّوم المحض انخفاض وانحطاط ، حسبما يستفاد من قول مولى الموحّدين عليه السلام : « . غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، إذ كلّ شيء له داخر وساجد ، ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضرّا » « 17 » .
فالقويّ بالقياس إليه تعالى ضعيف أوّلا ، وبالقياس إلى أحياء أمره والدفاع عن دينه وإن كان قويّا ولكن لا بالذات وبالأصالة ، بل بالعرض والتبع ثانيا ؛ لأنّ قوّته كانت باللَّه الذي هو قوّة كلّ ضعف ، فلا يلتبس الأمر على أحد بأن يرى نفسه مقتدرا ، بل على الإنسان أن يعقل أوّلا ، ويقتديه جميع شؤون إدراكه وتحريكه الَّتي هي شيعة العقل وأمّته ثانيا ، بأنّه – بحول اللَّه تعالى وقوّته – يقوم ويقعد ، ويعتدل ، وينحني ، ويذبّ ويصول ، وما إلى ذلك من الأوصاف الَّتي يكون بعضها بالقياس إلى اللَّه تعالى ، وبعضها بالنسبة إلى الذبّ عن حرم دينه .
وحيث إنّ الركوع وكذا السجود للَّه سبحانه من الأجزاء الهامّة للصلاة وتمثّل للتذلَّل في فنائه فلذا قد يؤمر العبد بالصلاة نفسها كما في غير واحدة من الآيات الآمرة بها ، وبإقامتها ، وقد يؤمر بالركوع والسجود كما في قوله تعالى * ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » ) * « 18 » .
ولمّا كان كلّ واحد من الركوع والسجود تخضّعا فعليّا – قد قرّر في كلّ واحد منهما ما هو التخضّع القوليّ – فلذا شرع فيهما التسبيح حسبما في العلل في جعل التسبيح فيهما من التعليل بأن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذلَّله وتواضعه وتقرّبه إلى ربّه مقدّسا ممجّدا شاكرا لخالقه ورازقه . « 19 » .
وقد ورد في تعدّد السجود وذكره الخاصّ ما يشهد لما مرّ ، حيث إنّه سئل أمير المؤمنين – عليه السّلام – عن معنى السجود ؟ فقال عليه السّلام : « اللهمّ منها خلقتني ، يعني : من التراب ، ورفع رأسك من السجود معناه : منها أخرجتني ، والسجدة الثانية : وإليها تعيدني ، ورفع رأسك من السجدة الثانية : ومنها تخرجني تارة أخرى ، ومعنى قوله : سبحان ربّي الأعلى وبحمده : فسبحان : أنفة للَّه ، وربّي : خالقي ، والأعلى : أي علا وارتفع في سماواته حتّى صار العباد كلَّهم دونه ، وقهرهم بعزّته ، ومن عنده التدبير ، وإليه تعرج المعارج » ، وقالوا عليهم السّلام أيضا في علَّة السجود مرّتين : « إنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمّا أسري به إلى السماء ورأى عظمة ربّه سجد ، فلمّا رفع رأسه رأى من عظمته ما رأى ، فسجد أيضا فصار سجدتين » « 20 » .
فالمصلَّي العارف بالسرّ يجعل ما ذكر أو يذكر في توجيه أحكام الصلاة وأقوالها وأفعالها ذريعة إلى شهود ما هو المخزون عند اللَّه ، المذخور لخواصّ أوليائه ، من الأسماء الحسنى والصفات العليا ، ثمّ يصير إليها بعد أن سار إليها ، إذ السير مقدّمة للصيرورة الَّتي هي السرّ الواقعيّ للصلاة ، وما دون ذلك فكلّ ما قيل أو يقال لها فهي حكم وآداب وسنن لا مساس لها ذاتا بما هو سرّ الصلاة الذي هو الأمر العينيّ التكوينيّ ، وأين هو من المفاهيم الذهنيّة ، أو الأحكام الاعتبارية الَّتي لا أثر لها في الخارج عن نشأة الاعتبار ؟
وحيث إنّ المصلَّي يطوف حول كعبة العزّة بذلَّته ، وعرش الملكوت بالهوان ، وكرسيّ الجبروت بالمهان ، ولدى اللَّه السبحان بالصغار فلذا لا يزين أحواله في الصلاة ، فهو عبد داخر في الحالات كلَّها ، وبذلك يندرج تحت قوله تعالى : « * ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ا للهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) * . » « 21 » .
كما أنّ الذي يقدر على القيام ولا يعجز عنه وكذا الذي يقدر على القعود ويعجز عن القيام ، وهكذا القادر على الاضطجاع أو الاستلقاء العاجز عن القعود مندرج تحته ، حسبما روي عن مولانا أبي جعفر – عليه السّلام – أنّه قال : « الصحيح يصلَّي قائماً وقعودا ، المريض يصلَّي جالسا ، وعلى جنوبهم : الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلَّي جالسا » « 22 » .
وعن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : « المريض يصلَّى قائماً ، فإن لم يستطع صلَّى جالسا ، فإن لم يستطع صلَّى على جنبه الأيمن ، فإن لم يستطع صلَّى على جنبه الأيسر ، فإن لم يستطع استلقى وأومأ إيماء وجعل وجهه نحو القبلة ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه » « 23 » .
وبذلك يظهر : أنّ الخضوع الذي هو روح الصلاة متجلّ في جميع أحوالها ، وهكذا في جميع أفرادها . نعم ، للركوع والسجود خصيصة تختصّ بهما ، حيث ورد : « أنّ العبادة العظمى هي الركوع والسجود » « 24 » ، وهما متلازمان ؛ لأنّه لا يكون صلاة فيها ركوع إلَّا وفيها سجود « 25 » .
وكما أنّ تأويل مدّ العنق هو الإيمان باللَّه ولو ضرب العنق فكذلك تأويل أصل الركوع هو ذاك ، حسبما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام : ما معنى الركوع ؟ فقال عليه السّلام : « معناه : آمنت بك ولو ضربت عنقي » « 26 » ، ويلائمه الذكر الندبيّ الوارد فيه كما عن مولانا أبي جعفر عليه السّلام : « إذا أردت أن تركع فقل وأنت منتصب : اللَّه أكبر ، ثمّ أركع وقل : اللَّهمّ لك ركعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكَّلت ، وأنت ربّي ، خشع لك قلبي وسمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي وما أقلَّته قدماي ، غير مستنكف ولا مستكبر ولا مستحسر ، سبحان ربّي العظيم وبحمده . » « 27 » .
والفرق بين أصل الركوع ومدّ العنق فيه بعد أن كان تأويلهما المشترك هو الإعلام بالإيمان – ولو بلغ ما بلغ – هو التفاوت في الإعداد ، وتهيئة المبادي والمقدّمات ، وكما أنّ الركوع تخشّع للَّه تعالى كذلك رفع الرأس منه تواضع « 28 » له تعالى ، وانتصاب للامتثال حسبما مرّ ، وللاهتمام بالركوع والسجود في الصلاة .
قال إسحاق بن عمّار : سمعت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – يعظ أهله ونساءه وهو يقول لهنّ : « لا تقلن في ركوعكنّ وسجود كنّ أقلّ من ثلاث تسبيحات ، فإنّكنّ إن فعلتنّ لم يكن أحسن عملا منكنّ » « 29 » .
والميز بين الركوع والسجود بعد أن كان سرّهما المشترك هو التذلَّل في فناء المعبود والخضوع له هو : أنّ السجود لكونه أخفض تمثّل لما هو أقرب إلى اللَّه سبحانه ؛ لأنّ العبد كلَّما تقرّب بالتواضع كان وصوله أكثر ، ولذا ورد في غير واحد من النصوص أنّه : « أقرب ما يكون العبد من اللَّه – عزّ وجلّ – وهو ساجد مستشهدا بآية سورة « العلق » الَّتي هي من سور العزائم ، إذ فيها قد أمر بالسجدة والتقرّب معا « 30 » ، وللاهتمام بالسجود سمّي المصلَّى مسجدا ( إذا كان له عنوان خاصّ ) وجعل المسجد الذي سمّي بذلك لرعاية أهمّ أجزاء الصلاة مبدأ للإسراء ، حيث قال سبحانه * ( « سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِه ِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَه ُ » ) * « 31 » ، وهكذا جعل مبدأ للمعراج الذي ابتدئ من المسجد الأقصى وانتهى إلى * ( « ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى . فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى » ) * « 32 » ، كما أنّ أهمّ ما شوهد في المعراج وتمثّل هنالك هو نجوى العبد والمولى في كسوة الصلاة الَّتي صلَّاها العبد تجاه مولاه بأمره وإرشاده ، ومن ذلك صارت الصلاة معراجا للمصلَّي المناجي ربّه كما تقدّم .
وممّا يرشد إلى الاهتمام بالسجود هو : أنّ اللَّه الذي يبصر كلّ شيء لا بجارحة وإن كان بصيرا بالإطلاق إلَّا أنّه تعالى يعتدّ بخصوص القيام للَّه تعالى والسجدة له ، حيث قال تعالى * ( « الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » ) * « 33 » . ولا مرية في أنّ لذكر السجدة – كالقيام للَّه – خصوصية ، نحو : أنّ اللَّه الذي يرى كلّ شيء يصرّح برؤيته تعالى حالا خاصّا من أحوال العبد الَّتي تبعّده من مولاه ، قبال تلك الحالة الخاصّة الَّتي كانت تقرّبه منه تعالى ، حيث قال تعالى * ( « أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ ا للهَ يَرى » ) * « 34 » وذلك ترغيب إلى الحياء من اللَّه ، فوق ترهيبه من عقوبته تعالى بالنار .
والغرض : أنّ أبصار اللَّه تعالى بدون جارحة يعمّ كلّ شيء ، إلَّا أنّ الاهتمام بأمر مرغوب فيه ، أو مرهوب عنه يوجب التصريح بأنّ اللَّه يراه ، ومن هذا القبيل هو تعرّض القيام للَّه مع القائمين ، والسجود له تعالى مع الساجدين ، حيث إنّ كلّ واحد منهما بخصوصه مرئيّ له تعالى حسبما دلَّت عليه الآية المارّة الذكر .
وممّا ينبّه إلى الاعتداد بالسجود هو : أنّ اللَّه سبحانه لم يكرّم آدم – عليه السّلام – أعظم من أمر الملائكة بالسجود له « 35 » وإن لم تكن تلك السجدة إلَّا عبادة للَّه وطاعة له ، كما أنّ الأمر بالتوحيد العبوديّ ، ومدار النهي عن الشرك العباديّ هو : الأمر بالسجود للَّه ، والنهي عن السجود لغيره تعالى ، كما أنّ أساس عبادة الأشياء كلَّها وطاعتها له تعالى هو : السجود حسبما دلّ عليه قوله تعالى * ( « وَلِلَّه ِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ » ) * « 36 » .
ثمّ إنّ الاعتناء بأمر المعاد قد أوجب أن يستدلّ اللَّه تعالى له تارة ، ويستشهد له أخرى ، ويمثّل له ثالثة .
أمّا الاستدلال : فهو المستفاد من غير واحدة من الآيات الدالَّة على إطلاق القدرة من ناحية الفاعل ، وإمكان الإعادة كالبدء من ناحية القابل . وأمّا الاستشهاد : فهو المستنبط من غير واحدة من الآيات الدالَّة على أنّ وزان الموت والبعث هو وزان النوم واليقظة ، نحو قوله تعالى * ( « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيه ِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْه ِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ) * « 37 » .
وأمّا التمثيل له : فهو ما تقدّم من تأويل السجود بأنّ الإنسان من تراب ، ثمّ يعود فيه ، ثمّ يبعث منه ، فالمصلَّي الساجد للَّه في كلّ ركعة مرّتين يتمثّل له المعاد الذي إليه يصير ، فمن عثر على سرّ الصلاة يقف على مواقف القيامة ويراها كأنها قامت ، وتدعو نارها من أعرض وتولَّى ، فيجد ويجاهد ويجتهد في إخمادها ، كما هو المأثور عن الإمام زين العابدين – عليه السّلام – من وقوع حريق في حال صلاته عليه السّلام ، ولم يلتفت إليه حتّى فرغ من صلاته ، وقيل له عليه السّلام : ما الذي ألهاك عنها ؟ قال عليه السّلام : ألهتني عنها النار الكبرى « 38 » .
والغرض : أنّ السجدتين تمثّلان للبدء والعود ، فتدبّر تجد سرّه .
وممّا يشهد للاستناد بالسجود في نيل الفضل الخاصّ من الجنّة والحشر مع أهل العصمة ونحو ذلك هو ما رواه الكلينيّ رحمه اللَّه ، عن أبي عبد اللَّه – عليه السّلام – أنّه قال : مرّ بالنبيّ رجل وهو يعالج بعض حجراته ، فقال : يا رسول اللَّه ، ألا أكفيك ، فقال عليه السّلام : شأنك ، فلمّا فرغ قال له رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : حاجتك ؟ قال : الجنّة ، فأطرق رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – ثمّ قال : نعم ، فلمّا ولَّى قال له : يا عبد اللَّه أعنّا بطول السجود « 39 » ، لدلالته على أنّ للسجود وطوله دخلا في الوصول إلى طول اللَّه وفضله الخاصّ .
كما أنّ قوما أتوا رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – وقالوا : يا رسول اللَّه ، اضمن لنا على ربّك الجنّة ، قال : فقال صلَّى اللَّه عليه وآله : « على أن تعينوني بطول السجود » « 40 » ويلائمه أيضا ما قاله – صلَّى اللَّه عليه وآله – لربيعة بن كعب حيث سأله – صلَّى اللَّه عليه وآله – أن يدعو له بالجنة : « أعنّي بكثرة السجود » « 41 » ونحو ما قاله – صلَّى اللَّه عليه وآله – لرجل جاءه فقال : يا رسول اللَّه ، كثرت ذنوبي وضعف عملي ، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : « أكثر السجود فإنّه يحطَّ الذنوب كما تحتّ الريح ورق الشجر » « 42 » إذ المستفاد من نطاق هذه الطائفة الَّتي أتينا ببعضها هو : أنّ لأصل السجود ولطوله ولكثرته سهما في نيل الشفاعة بالوصول إلى الغفران عن الذنوب ، وإلى الرضوان الإلهيّ ، وهو الجنّة بدرجاتها ، ومعنى قول الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله :
« أعنّي . » هو : أنّ العبد يستعين بالصلاة كما قال سبحانه * ( « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » ) * « 43 » ، وهذه الاستعانة تكون لأمور شتّى ، منها : الوصول إلى الشفاعة ، ومن أهمّ أجزاء الصلاة الَّتي بها يستعان هو السجود ، فمن صلَّى وأطال سجوده فقد استعان للجنّة بالشفاعة بالصلاة والسجود ، كما أنّ من أطال السجود فقد استعان به للحشر مع الرسول – صلَّى اللَّه عليه وآله – حسبما يستفاد ممّا رواه الديلميّ ، عن أمير المؤمنين – عليه السّلام – أنّه جاء إلى النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – فقال : علَّمني عملا يحبّني اللَّه ، ويحبّني المخلوقون ، ويثري اللَّه مالي ، ويصحّ بدني ، ويطيل عمري ، ويحشرني معك ، قال صلَّى اللَّه عليه وآله : « هذه ستّ خصال تحتاج إلى ستّ خصال ، إذا أردت أن يحبّك اللَّه فخفه واتّقه ، وإذا أردت أن يحبّك المخلوقون فأحسن إليهم وأرفض ما في أيديهم ، وإذا أردت أن يثري اللَّه مالك فزكَّه ، وإذا أردت أن يصحّ اللَّه بدنك فأكثر من الصدقة ، وإذا أردت أن يطيل اللَّه عمرك فصل ذوي أرحامك ، وإذا أردت أن يحشرك اللَّه معي فأطل السجود بين يدي اللَّه الواحد القهار » « 44 » .
وحيث إنّ لطول السجود وكثرته فضلا خاصّا عدا ما لأصل السجود من الفضل ، كان بين عيني عليّ بن الحسين السجاد – عليه السّلام – سجّادة كأنّها ركبة عين « 45 » ، وكانت مواضع سجوده – عليه السّلام – كمبارك البعير « 46 » .
وروى ابن طاوس ، عن السجّاد – عليه السّلام – أنّه برز إلى الصحراء فتبعه مولى له ، فوجده ساجدا على حجارة خشنة ، فأحصى عليه ألف مرّة « لا إله إلَّا اللَّه حقّا حقّا ، لا إله إلَّا اللَّه تعبّدا ورقّا ، لا إله إلَّا اللَّه إيمانا وصدقا » ، ثمّ رفع رأسه « 47 » .
ولمّا كان لطول السجود وكثرته أثرا هامّا كثر سجود إبراهيم عليه السّلام ، ولذا اتّخذه اللَّه خليلا له كما قاله الصادق عليه السّلام « 48 » . وطال سجود أبي عبد اللَّه الصادق – عليه السّلام – حسبما قال منصور الصيقل : حججت فمررت بالمدينة ، فأتيت قبر رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – فسلَّمت عليه ، ثمّ التفتّ فإذا بأبي عبد اللَّه – عليه السّلام – ساجد ، فجلست حتّى مللت ، ثمّ قلت : لاسبّحنّ ما دام ساجدا ، فقلت : سبحان ربّي العظيم وبحمده ، أستغفر اللَّه ربّي وأتوب إليه ثلاثمائة مرّة ونيفا وستّين مرّة ، فرفع رأسه ثمّ نهض « 49 » .
وقال حفص بن غياث « 50 » : رأيت أبا عبد اللَّه – عليه السّلام – يتخلَّل بساتين الكوفة ، فانتهى إلى نخلة فتوضّأ عندها ، ثمّ ركع وسجد ، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة ، ثمّ استند إلى النخلة ، فدعا بدعوات ثمّ قال : يا حفص ، إنّها واللَّه النخلة التي قال اللَّه – عزّ وجلّ – لمريم عليها السّلام : * ( « وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا » ) * « 51 » .
ومن هنا قال الصادق عليه السّلام : « السجود منتهى العبادة من بني آدم » « 52 » ، وقال سلمان الفارسيّ : « لولا السجود للَّه ومجالسة قوم يتلفّظون طيب الكلام كما يتلفّظ طيب الثمر لتمنّيت الموت » « 53 » .
وقد ورد في مدح الساجدين قوله تعالى : * ( « سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ » ) * « 54 » لأنّ السجود الطويل أو الكثير يؤثّر في الجبهة ، فتنقش فيها سمة السجدة ، وهكذا ورد في قدح الفاقدين لسمة الإيمان والسجود قول أمير المؤمنين عليه السّلام : « إنّي لأكره للرجل أن أرى جبهته جلحاء ليس فيها أثر السجود » « 55 » ، والجلحاء هي الجبهة الَّتي انحسر شعرها عن جانبي الرأس .
ومن طال سجوده أو كثر ينحسر شعره ، أو تتّسم جبهته بما وصفه اللَّه حسبما مرّ ، وقد قال السجّاد – عليه السّلام – لقوم يزعمون التشيّع لأهل البيت عليهم السّلام : « .
أين السمة في الوجوه ؟ أين أثر العبادة ؟ أين سيماء السجود ؟ إنّما شيعتنا يعرفون بعبادتهم وشعثهم ، قد قرحت منهم الآناف ، ودثرت الجباه والمساجد » « 56 » .
والسرّ في ذلك كلَّه – عدا ما تقدّم من أنّه تمثّل للبدء من التراب ، وللعود فيه ، وللنشور منه – هو ما قاله النبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله : « إنّ الأرض الَّتي يسجد عليها المؤمن يضيء نورها إلى السماء » « 57 » ، ومن المعلوم أنّ الأرض الغبراء الَّتي تقلّ الساجد إنّما تضيء للسماء الخضراء الَّتي تظلَّه ببركة السجدة الَّتي سرّها الضياء ، فإذا كان السجود ضياء كان الساجد أكثر ضياء ؛ لأنّ خيرا من الخير فاعله ، كما قاله عليّ : « فاعل الخير خير منه » « 58 » إذ المؤثّر أقوى من أثره ، والفعل أضعف من فاعله ، فإذا كان السجود وصفا بعنوان الحال للساجد ، ثمّ صار ملكة له ، ثمّ صار فصلا مقوّما لهويّته الأصليّة بمعنى : ما ليس بخارج منه ، لا لماهيته الاعتباريّة يصير الساجد نورانيّا جعل له نور يمشي به في الناس ، وكفى بذلك سرّا للسجود ، ولعلّ ما حكم بأنّ الساجد شكرا يرى وجه اللَّه تعالى « 59 » فإنّما هو بذلك الضياء .
وقد ورد اختصاص السجود للَّه تعالى ، وانّ ما أتى به الملائكة لآدم عليه السّلام ، وكذا ما فعله يعقوب عليه السّلام وولده ليوسف عليه السّلام فإنّما كان ذلك كلَّه سجودا للَّه ، وطاعة له تعالى ، وائتمارا بأمره سبحانه ، ومحبّة لآدم وفضيلة له ، وكذا تحيّة ليوسف وتكرمة له عليه السّلام « 60 » .
فتبيّن في هذه الصلة أمور :
الأوّل : أنّ لفعل الصلاة كذكرها ، سرّا ، وأنّ الإنسان كون جامع للحضرات بأسرها ، وأنّ تأويل القيام حال الصلاة هو الإعلام بالاستقامة تجاه أيّ عدوّ .
الثاني : أنّ من أحيا كلمة اللَّه فهو قائم وإن كان قاعدا ، ومن قصّر في إحيائها فهو قاعد وإن كان قائماً .
الثالث : أنّ القيام إنّما هو تمثّل للحالة الَّتي بها يقدر المؤمن على الذبّ عن الوليّ ، أو الصول على العدوّ .
الرابع : أنّ القائم بأمر اللَّه تتنزّل عليه الملائكة المبشّرة الَّتي قد يمكن أن يشاهدها السالك على صراط الاستقامة .
الخامس : أنّ سرّ القيام منزّه عن الحالة الجسميّة ، كما أنّ القيام بمعنى : تحمّل أعباء الامتثال منزّه عنها وإن لم يخل من حالة ما بدنيّة .
السادس : أنّ خشوع القلب يتجلَّى في الجوارح ، لأنّها أمته ، وهو – أي : القلب – إمامها .
السابع : أنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – إذا كثرت همومه فإنّه يمسّ لحيته في الصلاة .
الثامن : أنّ الركوع وكذا السجود تمثّل للانقياد للَّه تعالى ، وأنّ ما كان قياما لمحاربة عدوّ اللَّه فهو بعينه قعود وانخفاض لدى اللَّه سبحانه ، إذ كلّ قوّة بالقياس إليه تعالى ضعف ، كما أنّ القعود للَّه قيام على عدوّه .
التاسع : أنّ الاهتمام بالركوع وكذا السجود قد أوجب أن يؤمر بهما كما يؤمر بالصلاة ، وأنّ ذكر الركوع وكذا السجود مناسب لفعلهما .
العاشر : أنّ السجود وتعدّده تمثّل للبدء من التراب ، والعود فيه ، والنشور منه .
الحادي عشر : أنّ المناجي ربّه لا ينساه في حال من الأحوال ، فلذا يذكره قائماً وقاعدا ومضطجعا .
الثاني عشر : كما أنّ مدّ العنق واعتدال الظهر في الركوع تمثّل للانقياد التامّ كذلك الذكر الندبيّ المأثور في الركوع شاهد له .
الثالث عشر : أنّ ميز السجود عن الركوع بعد اشتراكهما في أصل التذلَّل هو : أنّ السجود لكونه أخفض فهو معدّ لأن يكون العبد أقرب من مولاه .
الرابع عشر : أنّ الاهتمام بالسجود قد أورث أن يسمّى مكان الصلاة بالمسجد دون غيره من الأجزاء ، وأنّ المسجد هو المبدأ للإسراء أوّلا ، وللمعراج ثانيا .
الخامس عشر : أنّ للسجود أثرا يهمّه الشرع بالتعرّض له دون غيره من أحوال الصلاة ، وأنّ اللَّه سبحانه كرّم آدم بأمر الملائكة بالسجود له ، كما أنّه نهى عن السجود لغيره تعالى ، وأنّ السجود – كما تقدّم – تمثّل للمعاد قبال الاستدلال له ، والاستشهاد عليه .
السادس عشر : أنّ لطول السجود إعانة للشفيع ، وأثرا في دخول الجنّة ، كما أنّ لكثرته أثرا هامّا في حطَّ الوزر ، وهكذا له أثر في الحشر مع الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله .
السابع عشر : أنّ آثار السجدة الطويلة والكثيرة كانت مشهودة بين عيني السجّاد عليه السّلام .
الثامن عشر : أنّ اللَّه سبحانه قد اتّخذ إبراهيم خليلا له لطول السجود وكثرته .
التاسع عشر : أنّ الصادق – عليه السّلام – قد طال في سجوده ، وأنّ السجود منتهى العبادة ، وأنّ المؤمن ينبغي أن يتّسم بالسجود ، ويكره أن تكون جبهته جلحاء ، وأنّ الشيعة هم الَّذين سيماهم في وجوههم من أثر السجود .
الموفي عشرين : أنّ مسجد المصلَّي يضيء لأهل السماء ، وأنّ الساجد قد جعل له نور يمشي به في الناس .