- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
في واقعة الغدير دعا رسول الله (ص) الأمة الإسلامية إلى التمسك بالثقلين وهما القرآن والعترة، والتمسك بأهل البيت (ع) يدل على اصطفائهم في الدين الإسلامي، ومن هنا فإن واقعة الغدير تضمنت أمرين مهمين ومترابطين في الإسلام.
الأمر الأوّل
الإعلان في واقعة الغدير عن انفراد أهل البيت (ع) عن سائر هذه الأمة في الهدى، وهو يعني اصطفاء أهل البيت (ع) في الإسلام، وفرض هذا المبدأ اعتقاداً واتباعاً.
وهذا الأمر اشتملت عليه فقرة الثقلين، وقد نعبّر عنه بفقرة الهدى مقابل فقرة الولاء، وقد جاءت هذه الفقرة في الخطبة أولاً حيث جاء فيها: (فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين، فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا، والآخر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
الأمر الآخر
عقد الولاء الخاص للإمام علي (ع) فيها على حد الولاء الثابت للرسول (ص)، وهو الجانب الذي غلب على في واقعة الغدير وعُرفت به.
واشتملت على هذا الأمر الفقرة التي نعبّر عنها بفقرة الولاء، وهي قوله (ص): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه).
وهنا نركز على توضيح الأمر الأوّل.
والواقع أنه يمكن القول: إن دلالة هذه الفقرة على مكانة أهل البيت (ع) لهي دلالة واضحة وبيّنة جداً، فالتمسك بأهل البيت (ص) للأمن من الضلالة، يعني أنهم قد نُصبوا أعلاماً للهداية في هذه الأمة، فهم قادة الأمة إلى الحق والهدى والرشد في أمور دينها وفي جميع شؤون حياتها، وإنّ المرء ليعجب من إهمال هذه الفقرة أو التوقف في دلالتها ومن تصحيح السيرة الجارية على غير مقتضاها من قبل أهل الحل والعقد بعد النبي (ص).
ولتوضيح ثبوت هذه الفقرة ودلالتها نذكر هذه النقاط:
النقطة الأولى: ثبوت فقرة الثقلين في خطبة الغدير وسائر مواردها
إن فقرة الثقلين هي جزء ثابت من خطبة الغدير، إذ وردت فيها بالطرق الصحيحة والموثوقة، كما صح عن زيد بن أرقم، بل صرح غير واحد بأنها متواترة، بل هناك من اقتصر عليها في متن خطبة الغدير فلم يذكر فقرة الولاء أصلاً، كما في اللفظ الذي اختاره مسلم في صحيحه لخطبة الغدير على خلل في نقله لهذه الفقرة وينبغي الانتباه في شأن هذه الفقرة إلى أمور:
الأمر الأول
قد جاءت هذه الفقرة قبل واقعة الغدير في مناسبة أخرى تقع في حجة الوداع أيضاً وقبل تسعة أيام، وهي خطبة النبي (ص) بعرفات كما جاء فيما أورده الترمذي[1] وصححه هو وجمع من النقاد، وهي أيضاً مناسبة جماهيرية إذ كان الحجاج جميعاً حضوراً فيها، وكان الحضور أوسع من الحضور في واقعة الغدير؛ لأن واقعة الغدير كانت بعد خروج النبي (ص) من مكة فلم يحضرها أهل مكة أو أهل الطرق.
وقد صح في الحديث أنه وقعت ضوضاء عند تطرق النبي (ص) كون الأئمة من قريش أو بني هاشم وهم اثنا عشر إماماً، والراجح أن إحداث الضوضاء حال دون سماع الحاضرين لصوت النبي (ص) وفهمهم لكلامه.
ويرجح أن النبي (ص) كان بصدد الوصية بالولاء للإمام (ع) في تلك الخطبة، إلا أن ترقب بعض الحاضرين وحدسهم لذلك وحيلولتهم دونه أدّى إلى تأجيلها إلى خطبة الغدير.
وفي بعض الروايات أن النبي (ص) ذكر ذلك بعد رجوعه من الطائف في السنة الثامنة للهجرة[2]، وإذا صح ذلك فيكون هذا أوّل مورد مأثور بدأ (ص) فيه بالوصية بالتمسك بأهل بيته وذلك قبل وفاته بسنتين، وليس قبيلها بشهرين ونصف كما هو الحال لو كان قد صدر منه في خطبة عرفات ثمّ خطبة الغدير.
ولكن لا بد من مزيد استيثاق من صدور هذا الحديث منه آنذاك، لأنّ مضمون هذا الحديث ليس مقام بيان لأهل البيت (ع)، بل هو وصية منه متعلقة بما بعد موته تتضمن إحلال أهل بيته (ع) محل نفسه حيث لم يذكر التمسك بنفسه الكريمة، وهذا الأمر يلائم صدور هذا الحديث منه قبيل وفاته كما في خطبة عرفات ثم الغدير، والله أعلم.
وفي بعض آخر من الروايات[3] أنه (ص) ذكر ذلك لأصحابه في مرض موته وهو في حجرته، وهو بطبيعة الحال تأكيد منه على ما ذكره في خطبة الغدير وفي خطبة عرفات.
الأمر الثاني
إن الذي يبدو بحسب القرائن هو أن النبي (ص) أراد أن يوصي بهذا القول كتباً في مرض موته فيما عرف برزية يوم الخميس، وهو حادث متفق عليه مروي في الكتب المنتقاة جميعاً كالصحيحين[4]، إذ قال (ص): ائتوني بقلم ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً، فمنعه عمر وأنصاره، واتهموه بالهجر، وكان ابن عباس يبكي عند ذكر ذلك ويسميها برزية يوم الخميس، وقد توفي (ص) يوم الاثنين الذي بعده.
وينبه على أنه (ص) قصد بذلك الوصية بالتمسك بالثقلين من بعده وحدة الفكرة والتعبير بين ما أراد أن يكتبه وهو: (ما لا يضلون بعده أبداً)، وبين ما ورد في فقرة الثقلين في خطبة الغدير وفي خطبة عرفات أيضاً حيث إنّه أوصى بالتمسك بالكتاب والعترة ما إن تمسكوا بهما لن يضلوا أبداً، ثم فرّع عليه عقد الولاء للإمام (ع).
كما أن جواب عمر رغم أنه اتهام للنبي (ص) بالهجر ـ وهو الكلام غير المعقول ـ يدل على أنّه فهم أيضاً أنه أراد الوصية بالتمسك بأهل بيته حذراً عن الضلالة والفتنة، ولذلك قال: (حسبنا كتاب الله)، ولو لم يعلم بذلك لم يكن هذا الجواب ملائماً، إذ ربما أراد (ص) أن يوصي بأمر خاص مما ورد في الكتاب يوجب التمسك به صيانة الأمة عن ا الضلالة.
وأن المسلم ليذكر موقف عمر هذا من رسول الله (ص) فيتعجب من هذه الجرأة والفظاظة مع الرسول (ص)، وانتصار جماعة في محضر النبي (ص) لعمر في مقابل أمر رسول الله (ص)، وهو منبه وموقظ لطبيعة تعامل هؤلاء مع النبي (ص) ومدى جرأتهم في الخروج عما يأمر به.
الأمر الثالث
إن هذا القول ـ نعني حديث الثقلين – روي على وجه مستقل في أخبار أخرى، بمعنى أنه لم يذكر في تلك الأخبار أنه (ص) ألقاه في سياق خطبة محددة، أو في زمان أو مكان خاص، وقد يحتمل أن يكون نقلاً لما جاء في خطبة عرفات أو في خطبة الغدير، ولكن الرواة لم يذكروا ذلك، فإنّ الرواة ليسوا مقيدين بذكر زمان الحدث ومكانه كما هو ظاهر، وقد روي مكرراً في الأخبار فقرة الولاء «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» من غير ذكر كون ذلك في خطبته (ص) في يوم الغدير، وعلى ذلك فليس هناك في هذه الروايات ما يقتضي تكرر هذا القول من النبي (ص) في غير الموارد المنصوصة.
فالحاصل إذاً أنّ الراجح هو صدور هذا الحديث من النبي (ص) في حجة الوداع في خطبة عرفات، ثمّ خطبة الغدير، ثم تأكيده عليه بعد شهرين وأيام في مرض وفاته وسعيه إلى تثبيته كوصية مكتوبة للأمة، وقد حيل بينه وبين ذلك.
النقطة الثانية: دلالة هذه الفقرة على امتياز أهل البيت (ع) عن سائر الأمة بعدم وقوعهم في ضلالة أبداً
إن هذه الفقرة واضحة وصريحة في امتياز أهل البيت (ع) عن سائر هذه الأمة بعدم وقوعهم في ضلالة أبداً، فهم (ع) لا يبتلون بالشبهة ولا يقعون في الفتنة، بل يبصرون الحق على وجه اليقين.
والمراد بالضلالة: أن يضل المرء عن الحق ويقع في الباطل، وهو يكون على وجوه ثلاثة:
1ـ أن يتعمد الباطل فيصيبه، كما في القيادة المؤسسين للعقائد الخاطئة والفرق الضالة.
2ـ أن يشتبه عليه الأمر، فيغلب عليه هواه أو يتسرع دون تثبت، فيقع في الباطل، كما يقع فيه بعض العامة من الناس ممن يتبع أصحاب العقائد الخاطئة والقيادات الضالة.
3ـ أن يقع في الباطل من جهة قصوره وليس من جهة تقصيره، فهو أراد الحق ولكن شُبّه عليه ذلك، فلم تسعفه مداركه بأكثر مما وقع فيه، وقد قال الإمام علي (ع) في بعض كلامه «مَا كُلُّ مَفْتُونِ يُعَاتَبُ»[5]، وهذا مما يقع فيه فريق من عامة الناس ممن لم يملك البصيرة اللازمة فيما اشتبه فيه ولا عرف صاحب بصيرة يتبعه ويأخذ بحجزته.
فهذا الحديث يدل على صيانة أهل البيت (ع) عن الوقوع في الضلالة المستتبعة للهلاك في شيء من الموارد بتاتاً.
فهناك عصمة لهم عن الضلالة، وضمان لهم في إصابة الهدى وتأمين للأمة إذا تمسكت بهم وبهديهم، وهذه تزكية لهم في الدين.
كما أنه يدل على أن هذه الخاصية لأهل البيت (ع) بين هذه الأمة حصراً، فكل من عداهم من أفرادها هم عرضة للوقوع في الضلالة، فلا تزكية في الدين لغيرهم بتاتاً، لا صحابة الرسول (ص) ولا أزواجه، ولا سائر قرابته، ولا من تصدى للخلافة، بل تلك خاصة لأهل بيته لا تعدوهم.
وكذلك يدل الحديث على أنّه لا بد أن تكون نسبة سائر هذه الأمة إلى أهل بيت النبي (ص) هي نسبة من تمسك بالشيء ـ كالعروة الوثقى – إلى ذلك الشيء، فهم محور هذه الأمة ومركزها وملجؤها وهداتها، وإذا اختلف الناس في الرأي وجب على المسلم الانحياز إليهم والاستظلال برايتهم فإنهم راية الهدى.
وقد كرّر هذه المعاني كثيراً الإمام علي (ع) بعد توليه للخلافة وقد هجر ذكرها من قبله في زمان الخلفاء طيلة خمسة وعشرين عاماً هجراً تاماً.
النقطة الثالثة: مساوقة عصمة أهل البيت (ع) من الضلالة مع اصطفائهم في الدين
إن عصمة أهل البيت (ع) من الضلالة تساوق اصطفاءهم في الدين، ونيلهم التسديد الخاص من الله سبحانه كما هو شأن المصطفين.
ولنذكر لبيان ذلك مقدمة: وهي أن الاصطفاء الإلهي يعني تفضيل الله سبحانه من يصطفيه على سائر الناس بهدايته سبحانه إياه وتسديده له ورعايته في أموره، حتى يسلم عن الخطأ والخطيئة.
وهذا الاصطفاء قد يكون في مستوى النبوة، وقد يكون من دونها نظير اصطفاء مريم بنت عمران، إذ جاء عنها قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»[6].
ومن صفات المصطفين المأمورين بهداية الناس:
أولاً
إيتاؤهم علم الكتاب المنزل، فإن كان المصطفى هو صاحب الكتاب كالنبي (ص) في الإسلام فهو، وإن كان ممن يليه فإنه يؤتى علم الكتاب قسماً بالتعلم، وقسماً متمماً له بالإلهام والتسديد، ولذلك لا يصح للناس أن يكونوا في موضع التعليم لهم بحال.
وثانياً
سلامتهم عن الشبهات والأهواء التي تؤدي إلى الزيغ في خياراتهم واتجاهاتهم في الحياة، فهم يكونون على بصيرة من أمرهم، مصونين من الزلة فيه، لأنّ هناك تأميناً إلهياً لهم عن الخطأ والزلل بخضوعهم لله تعالى وعبادته وسؤالهم إياه واستمدادهم منه، فهو يوجههم في مظان الزيغ والزلل.
كما قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [7]، وقال تعالى عن يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» [8].
ولذلك لا يصح للناس أن يخطئوهم في شيء من اتجاهاتهم واختياراتهم في الأمور الاجتماعية والسياسية والقضائية، فإنهم إذا استقروا على شيء ولم ينبهوا على خلافه من قبل الله سبحانه بإلهام أو بسبب خارجي فهم مصيبون ومسددون لا محالة.
وهذه المنزلة تثبت للنبي (ص) بحسب القرآن الكريم، فهو معلم الناس دينهم ومحدد الاتجاه الصائب لهم في دنياهم، فلا يصح للناس أن يخالفوه في شيء مما ذكره من أمور الدين في نفسه، أو الوظائف العملية كالحرب والسلم وغير ذلك.
اصطفاء وفي ضوء ذلك يُعرف أن مفاد فقرة الهدى في خطبة الغدير هو أهل البيت (ع)، وذلك لدلالة الحديث على أنهم ملازمون للهدى ومصونون عن الخطأ والخطيئة، وهذه صفة إذا تم تأمينها لأحد في الدين فإنها علامة الاصطفاء.
بیان ذلك: أن وجوب طاعة شخص يكون على وجهين:
الوجه الأول
أن يكون على سبيل التأصيل فحسب بمعنى أنه يكون ضرباً للقاعدة.
وفي هذا الوجه يكون وجوب طاعة الشخص في الدين محدوداً بما لم يحرز خطؤه، وهذا كما هو الحال في قول من تجب طاعته من جهة خبرته فحسب كالطبيب والفقيه، وكذلك من تجب طاعته لأنه مخول بموقع ما كالقائد العسكري، فهنا يقال يجب على المرء أن يطيع الخبير والمسؤول إلا فيما كان في معصية وضلالة.
الوجه الثاني
أن يكون على سبيل التشخيص، بمعنى أنه تجب طاعته لأنه لا يأمر إلا بالهدى ولا يتطرّق إليه الخطأ والخطيئة وحينئذ فلا حاجة في تحديد طاعته في الدين بأن لا يوجه إلى ضلالةٍ سواء كانت الضلالة عن خطأ أو عن إثم، لأنه لا يفعل ذلك بطبيعة الحال، فهو ملازم للهدى.
ولا ينافي ذلك طبعاً أن يحتاج إلى التوجيه والتسديد الإلهي العام أو الخاص، ولا أن يجب على بعضهم التحري والمشورة مع بعض الناس في شيء، لأن الله سبحانه قد يضمن الهدى للمرء من عباده المصطفين إذا تمسك بأسباب العلم المعتادة والمناسبة للموضوع، كما هو الحال في رصده للعدو واطلاعه على أحوال الناس ونحو ذلك مما لا محيص له من الاطلاع عليه بأسبابه الاعتيادية، ولكن إذا انتهى رأيه إلى شيء واستقر عليه كان مسدداً.
وهذا هو الحال في النبي (ص)، فإنه لم يكن هناك مجال لمخالفته على أساس الاجتهاد.
وهذا الوجه يختص في الدين بالمصطفين فيه، بمعنى أنه لا يحكم على شخص في الدين بالسداد الدائم والأمن من الخطأ والخطيئة إلا إذا كان من المصطفين بحسب الدين.
نعم، يذكر في نصوص الدين أن العالم المتقي ينظر بنور الله سبحانه ولا يشتبه عليه الأمر في شيء، ولكن هذا توصيف عام، وقد يبلغ بعض الناس فيما بينه وبين الله سبحانه هذه الدرجة بنفسه، أو يظن الناس في حقه أنه بلغها، ولكن لا يكون هناك شهادة في ضمن الدين في حق شخص بأنه ملازم للهدى ومصون عن الخطأ والخطيئة إلا وتكون هذه الشهادة دليلاً على اصطفاء الله سبحانه إياه في الدين.
وإذا عرفت ذلك تجد أنّ خطبة الغدير الواردة في واقعة الغدير تضمّنت الأمر بالتمسك بأهل البيت (ع) على الوجه الثاني؛ لثلاثة وجوه:
١. إنّها ضمنت ملازمتهم للهدى وصيانتهم عن الضلالة صريحاً.
٢. إنها قرنتهم بالقرآن الكريم، بل أناطت تحقق التمسك بالقرآن وبلوغ الهدى به بالتمسك معه، وهذا معنى عظيم جداً، وهو يدل على اصطفائهم، بهم فإن قرن الشخص بالمصطفين من عباد الله وذكره معهم وفي عدادهم دليل على اصطفائه، فما بالك بقرنه بالرسالة الإلهية نفسها التي بعث بها المصطفون من الرسل والأنبياء، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في النقطة التالية.
3ـ إنها أمرت الأمة بالتعلم منهم (ع) ونهت عن تعليمهم لأنهم أعلم من الأمة.
إذا اتضح وضوحاً لا لبس فيه أنّ الخطبة الواردة في واقعة الغدير تدل في فقرة الثقلين منها على اصطفاء أهل البيت (ع) في الدين.
النقطة الرابعة: عظمة قرن أهل البيت (ع) بالقرآن الكريم
إن قرن أهل البيت (ع) بالقرآن الكريم – وهو معنى كبير وعظيم جداً ۔
ينبئ عن مكانة عظيمة لأهل البيت (ع) للغاية؛ وذلك لوجهين:
الوجه الأول
أصل هذا القرن، بأنّ القرآن الكريم هو الرسالة الإلهية بعينها التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهي أس الإسلام ورسالة الله تعالى في هذا الدين إلى الخلق المشتمل على تعاليم الدين وبه كان الرسول (ص) رسولاً إلى الأمة، وهو النور المبين، والذكر الحكيم، والآيات البينات، إلى عشرات الأوصاف التي جاءت عنه في القرآن نفسه.
فقرن أهل البيت ( ع) به ـ وهو بهذه المنزلة – يُنبئ عن مكانة عظيمة، ويدل على أنهم صفوة الله من هذا الخلق والمصطفون من هذه الأمة، والمسددون من عند الله تعالى في العمل وفق منهاج القرآن الكريم كما عمل به الرسول (ص) في حياته، ولذا كان مسارهم هو مسار الهدى الذي يقي المسلم من الشبهات والضلالات.
وإذا كان (ص) قد وصف القرآن الكريم بالثقل الأكبر وأهل بيته بالثقل الأصغر ـ كما في بعض ألفاظ الحديث ـ فإنّ أصل هذا القرن يبقى منبهاً على المكانة الخطيرة جداً لأهل البيت (ع).
وقد جاء تأكيد هذا القرن بالتعبير عن القرآن الكريم وأهل البيت (ع) بالثقلين، وهو من جملة تعابيره (ص) الفصيحة والبليغة التي عرف (ص) بها.
وقد بقي هذا التعبير لخصوصيته وغرابته محفوظاً في الحديث ورمزاً باقياً لأهل البيت (ع) في لغة المسلمين والأدب الإسلامي.
الوجه الثاني
أنه (ص) في واقعة الغدير أناط الاهتداء بالكتاب والتوقي به عن الضلالة بالتمسك معه بالعترة، ومعنى ذلك أن المسلم لن يتوقى من الضلالة بالقرآن وحده، بل لا بد من التمسك معه بالعترة، وهذا أمر عظيم، فإنّ الكتاب موصوف في القرآن الكريم بأنه هدى ونور وبصائر، فاشتمل كلامه (ص) على أن حصول الاهتداء بالكتاب من بعده (ص) منوط بالتمسك بالعترة.
فلا يجدي التمسك بالكتاب وحده للوقاية عن الضلالة والهلاك ونيل الهدى والصلاح، أو قل لا يحصل التمسك به من دون العترة، وليس الوجه في ذلك إلا أن العترة هم ترجمان علم الكتاب ودليل اتجاهه في حوادث الحياة وما يعرض فيها من الشبهات والفتن والأهواء، كما كان الرسول (ص) في حياته كذلك.
النقطة الخامسة: التأكيد البالغ في الخطبة على التمسك بأهل البيت (ع)
إن خطبة الغدير الواردة في واقعة الغدير اشتملت على مؤكدات بالغة وأكيدة للغاية على التمسك بأهل البيت (ع) من بعده (ص)، كما يتضح ذلك من خلال الإيضاح العام المتقدم لمدلول الحديث، وما تقدم في النقاط السابقة.
ومن جملة تلك الأدوات والأساليب المؤكدة في هذه الخطبة:
الأسلوب الأول
إنه (ص) في واقعة الغدير قرن العترة بالقرآن الكريم مع موقع القرآن العظيم في الدين، وذلك أنّ التمسك بالقرآن لم يذكر في الخطبة لذاته، فإنّ الخطبة كما يرشد سياقها معقودة لبيان استخلاف أهل البيت (ع) في الأمة كهداة واستخلاف الإمام علي (ع) كمولى للأمة.
الأسلوب الثاني
إنه (ص) في واقعة الغدير أكد تأكيداً بالغاً على عدم افتراق الكتاب والعترة أبداً حتى يوم القيامة وورود الأمة عليه الحوض ليسقيهم من معينه، وقد أسند ذلك إلى الله تعالى كي لا يتوهم متوهم أن ذلك انحياز منه لعترته فقال: «وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وسألت ذلك لهما ربي».
وقوله (ص): «وسألت ذلك لهما ربي» تأكيد على أنه (ص) يتمسك بموقفه هذا حتى يوم القيامة، فلا يقبل الإعراض عن أهل بيته (ع) بتاتا، ولن يشفع الأحد في هذا الشأن أبداً؛ لأنه هو الذي سأل ذلك ربّه من قبل.
الأسلوب الثالث
إنه (ص) في واقعة الغدير فصّل أنحاء الانفصال عن العترة والذي يقع في مقابل التمسك بهم، وذلك اهتماماً منه بالموضوع، وهما اثنان:
الأوّل: التقدم عليهم
ومعنى ذلك أن تسبق الأمة أهل البيت (ع) في اتخاذ موقف أو اتجاه في شيء من الأحوال، بل لا بد أن يكونوا تابعين لأهل البيت (ع) في الأمور كلها، وفي حادثة السقيفة مثال واضح من التقدم على أهل البيت (ع) في القرار.
والتقدم تعبير قرآني في أدب التعامل مع الله تعالى ونبيه (ص) حيث قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»[9].
الثاني: التقصير عنهم
ومعناه أن يتركوا الأخذ بقول العترة فيما علموه.
الأسلوب الرابع
إنه (ص) في واقعة الغدير عبّر في شأن الكتاب والعترة بالتمسك بهما دون طاعتهما أو ولائهما، والتمسك هو أخذ الشيء بقوة فهو أقوى تعبير لغوي عن التعلق بشيء ما، ويدل على الحذر الأكيد من الإفلات منه، ومثله الاعتصام بهما في لفظ آخر للحديث.
الاستنتاج
خمس نقاط توضيحية لثبوت فقرة التمسك بأهل البيت في واقعة الغدير، الأولى: ثبوتها في خطبة الغدير، والثانية: دلالتها على امتياز أهل البيت (ع) عن سائر الأمة بعدم وقوعهم في ضلالة أبداً، والثالثة: مساوقة عصمة أهل البيت (ع) من الضلالة مع اصطفائهم في الدين، والرابعة: عظمة قرن أهل البيت (ع) بالقرآن الكريم، والخامسة: التأكيد في الخطبة على التمسك بهم (ع)
الهوامش
[1] الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص329.
[2] ابن أبي شيبة، المصنف، ج7، ص498، وإن كان في صحته خلاف.
[3] لاحظ مثلاً: القندوزي، ينابيع المودة، ج1، ص124، وج2، ص403، أخرجه عن ابن عقدة في كتابه.
[4] لاحظ: البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص31، وص٦٥، مسلم، صحيح مسلم، ج5، ص75.
[5] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص٤٧١.
[6] آل عمران، ٤٢.
[7] الحج، ٥٢.
[8] يوسف، ٢٤.
[9] الحجرات، ١.
مصادر البحث
1ـ ابن أبي شيبة، عبد الله، المصنف في الأحاديث والآثار، الرياض، الطبعة الأولى، 1409 ه.
2ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401هـ
3ـ الترمذي، محمد، سنن الترمذي، بيروت، دار الفكر، الطبعة الثانية، طبعة 1403 هـ.
4ـ الشريف الرضي، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأولى، 1387 هـ.
5ـ القندوزي، سليمان، ينابيع المودة لذوي القربي، قم، دار الأسوة، الطبعة الثانية، 1422 هـ.
6ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
مصدر المقالة
السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 هـ.
مع تصرف بسيط