- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
لقد أمضى الإمام الحسن العسكري (ع) الجزء الأكبر من عمره الشريف في العاصمة العبّاسية ـ سامراء ـ وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه الإمام عليّاً الهادي (ع)، ثم تسلّم مركز الإمامة وقيادة الأُمّة الإسلامية سنة (254ه) بعد وفاة أبيه (ع) وعمره الشريف آنذاك (22) عاماً.
وكانت مواقفه إمتداداً لمواقف أبيه (ع) بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده الشعبية وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية بالإضافة الى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي المنتظر (ع).
وبالرغم من الضعف الذي كان قد أحاط بالدولة العبّاسية في عصر الإمام (ع) لكن السلطة القائمة كانت تضاعف إجراءاتها التعسفيّة في مواجهة الإمام الحسن العسكري (ع) والجماعة الصالحة المنقادة لتعاليمه وإرشاداته (ع).
فلم تضعف في مراقبته ولم تترك الشدة في التعامل معه بسجنه أو محاولة تسفيره إلى الكوفة خشية منه ومن حركته الفاعلة في الأُمّة وتأثيره الكبير فيها.
ثم إنّ المواجهة من الإمام كقيادة للحركة الرسالية لم تكن خاصة بالخلفاء العباسيين الذين عاصرهم الإمام (ع) إذ كان هناك أيضاً خطر النواصب وهم الذين نصبوا العداء لأهل البيت النبوي (ع) ووقفوا ضد اُطروحتهم الفكرية والسياسية المتميزة التي كانت تتناقض مع اطروحة الحكم القائم والطبقة المستأثرة بالحكم والمنحرفة عن الإسلام النبوي.
والنواصب ـ الاُمويون منهم أو العباسيون ـ كانوا يعلمون جيّداً أن أهل البيت النبوي هم ورثة النبيّ الحقيقيون، ولا يمكنهم أن يسيطروا على السلطة إلاّ بإبعاد أهل البيت (ع) عن مصادر القدرة وذلك بتحديد الأئمة المعصومين وشيعتهم وشلّ حركتهم وعزلهم عن الأُمّة والتضييق عليهم بمختلف السبل وبما يتاح لهم من وسائل قمعية.
وقد يكون لطبيعة هذه الظروف والملابسات التي عانى منها الإمام العسكري وشيعته الدور الأكبر في ما كان يتّخذه الإمام (ع) من مواقف سلبية أو إيجابية إزاء الأحداث والظواهر التي منيت بها الأُمّة الإسلامية والتي ستعرفها فيما بعد.
لقد عاصر الإمام العسكري (ع) ثلاثة من خلفاء الدولة العبّاسية، فقد عاش (ع) شطراً من خلافة المعتز والذي هلك على أيدي الأتراك، ليخلفه المهتدي العبّاسي الذي حاول أن يتخذ من سيرة عمر بن عبد العزيز الاُموي مثلاً يحتذى به إغراء للعامّة ولينقل أنظارهم المتوجهة صوب الإمام العسكري (ع) لزهده وتقواه وورعه، وما كان يعيشه من همومهم وآلامهم التي كانوا يعانونها من السلطة وتجاوزاتها في الميادين المختلفة.
ولم يفلح المهتدي بهذا السلوك لازدياد الاضطراب في دائرة البلاط العبّاسي نفسه مما أثار الأتراك عليه فقتلوه عام (256ه)، وقد إعتلى العرش العبّاسي من بعده المعتمد الذي استمر في الحكم حتى عام (279 ه).
1ـ المعتز العبّاسي (252 ـ 255 ه)
لقد ازداد نفوذ الأتراك بعد قتلهم المتوكل عام (247ه) وتنصيب ابنه المنتصر بعده، حتى أنّ الخليفة العبّاسي أصبح مسلوب السلطة ضعيف الإرادة، فقد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في أيديهم كالأسير إن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه، وكان المعتز يخاف الأتراك ويخشى بأسهم ولا يأمن جانبهم وكان بُغا الصغير ـ وهو أشدّ هؤلاء خطراً ـ أحد قوّاد الجيش الذي أسهم في قتل المعتز مع جماعة من الأتراك بعد أن أشهدوا عليه بأنه قد خلع نفسه.
لقد عاصر الإمام الحسن العسكري (ع) أواخر خلافة المعتز الذي كان استشهاد الإمام الهادي (ع) على يده بدس السمّ إليه فكانت سياسة المعتز إمتداداً لسياسة المتوكّل في محاربة الإمام الحسن العسكري ـ والشيعة ـ بل ربما ازدادت ظروف القهر في هذه الفترة حتى أنّ المعتز أمر بتسفير الإمام الحسن العسكري (ع) الى الكوفة حين رأى خطر وجود الإمام (ع) واتّساع دائرة تأثيره وكثرة أصحابه.
وكتب أبو الهيثم ـ وهو أحد أصحاب الإمام (ع) ـ إلى الإمام الحسن العسكري (ع) يستفسر عن أمر المعتز بإبعاده الى الكوفة قائلاً:
«جُعلت فداك بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منا»، فكتب الإمام (ع): «بعد ثلاث يأتيكم الفرج» فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل[1].
فلم تكن العلاقة بين الإمام (ع) والمعتز إلاّ تعبيراً عن الصراع والعداء الذي ابتدأ منذ أن استلم بنو العبّاس الخلافة بعد سقوط الدولة الاُموية وإمتدّ على طول عمر الدولة إلاّ في فترات قصيرة جدّاً، فكان كيد السلطة ورصدها لتحرّك الإمام (ع) دائماً ومستمراً وذلك لما عرفه الخلفاء من المكانة السامية والدور الفاعل للأئمّة في الأُمّة وما كانوا يخشونه منهم على سلطتهم وكيانهم الذي أقاموه بالسيف والدم على جماجم الأبرياء والأتقياء من أبناء الأُمّة الإسلامية.
ويروي لنا محمّد بن عليّ السمري توقّع الإمام الحسن العسكري (ع) هلاك المعتزّ قائلاً: «دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمّد ـ العسكري (ع) ـ فيها: «إني نازلت الله في هذا الطاغي يعني الزبيري ـ لقب المعتز ـ وهو آخذه بعد ثلاث»، فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل»[2] فقد قتل شرّ قتلة.
2ـ المهتدي العبّاسي (255 ـ 256 ه)
هو محمّد بن الواثق بن المعتصم، اُمّه اُم ولد تسمى وردة، ولي الخلافة بعد مقتل أخيه المعتز سنة (255ه)، وما قبل أحد ببيعته حتى جيء بالمعتزّ واعترف أمام شهود أنّه عاجز عن الخلافة ومدّ يده فبايع المهتدي فارتفع حينئذ الى صدر المجلس[3]، وبويع بالخلافة.
سياسة المهتدي تجاه معارضيه
أ ـ الخليفة وأُمراء الجُند
كانت سياسة المهتدي تجاه الأتراك تتمثل بالحذر والحيطة والخشية من انقلابهم عليه كما فعلوا بالمتوكل والمعتز، لذا أمر بقتل موسى ومفلح من اُمراء جنده الأتراك الذين كانوا يتمتّعون بنفوذ كبير وتأثير فاعل في مجريات الأحداث، غير أن (بكيال) الذي أمره المهتدي بقتلهما توقّف عن قتل موسى بن بغا، لإدراكه أنّ للمهتدي خطة للحد من نفوذ الأتراك وتقليص الدور الذي كانوا يتمتعون به، وقال بكيال: «إنّي لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا»، فأجمعوا على قتل المهتدي فكان بين الأتراك ومناصري الخليفة قتال شديد وقُتل في يوم واحد أربعة آلاف من الأتراك ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة المؤلّف من المغاربة والفراغنة والأشروسنية، ومن ثم اُمسك الخليفة فعصر على خصيتيه فمات في عام (256 ه )[4].
ومن الأحداث المهمّة في عصر المهتدي
1 ـ انتفاضة أهل حمص بقيادة ابن عكار على محمّد بن إسرائيل.
2 ـ إخراجه أُمّ المعتز وأبي أحمد وإسماعيل ابني المتوكل وابن المعتزّ إلى مكّة ثم ردّهم إلى العراق.
3 ـ إعطاؤه الأمان لمعارضيه.
4 ـ الحرب بين عيسى بن شيخ الربعي وأماجور التركي عامل دمشق وهزيمة الأوّل.
5 ـ نفي وإبعاد بعض الشيعة من بلدانهم إلى بغداد كما فعل بجعفر بن محمود.
ب ـ المهتدي وأصحاب الإمام الحسن العسكري (ع)
لم تكن الظروف المحيطة بالإمام العسكري (ع) وأصحابه في عهد المهتدي أحسن ممّا كانت عليه من الشدة والنفي والتهجير والقتل إبّان عهود المعتز والمتوكل ومن سبقهما من خلفاء الدولة العبّاسية، بل كانت سياسة المهتدي إمتداداً للمنهج العبّاسي في التصديّ للإمام وشيعته وخاصته والنكاية بهم، والتجسس عليهم ومصادرة أموالهم ومطاردتهم.
لقد قاسى الشيعة والإمام الحسن العسكري (ع) في عهد المهتدي الكثير من الظلم والتعسّف، ويمكن أن نقف على ذلك من خلال ما رواه أحمد بن محمّد حيث قال: كتبت إلى أبي محمّد (ع) ـ حين أخذ المهتدي في قتل الموالي ـ يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنك، فقد بلغني أنّه يتهدّدك ويقول: «والله لأخلينّهم عن جديد الأرض» فوقّع أبو محمّد (ع) بخطه: «ذاك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة أيّام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به»، فكان كما قال (ع)[5].
ومن مظاهر اضطهاد الشيعة ومصادرة أملاكهم وأموالهم ما روي عن عمر بن أبي مسلم حيث قال: قدم علينا (بسرّ من رأى) رجل من أهل مصر يقال له سيف بن الليث يتظّلم الى المهتدي في ضيعة له قد غصبها إياه شفيع الخادم وأخرجه منها، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمّد (ع) يسأله تسهيل أمرها، فكتب إليه أبو محمّد (ع): «لا بأس عليك ضيعتك تردّ عليك فلا تتقدّم الى السلطان والق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوّفه بالسلطان الأعظم الله ربّ العالمين».
فلقيه، فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة قد كُتب إليّ عند خروجك من مصر أن أطلبك وأردّ الضيعة عليك، فَرَدَّها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم يحتج الى أن يتقدّم الى المهتدي.
ويمكن الاستدلال من خلال النصّ على اتساع القاعدة الشعبية للإمام (ع) وصلته بهم وعمق الأواصر التي كانت تصله بهم، فهو يتفقّد ما يحتاجونه، ويساهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قضاء حوائجهم، وأنّ لبعض أصحابه في الأمصار تأثيراً وعلائق بالولاة ومن يديرون الاُمور في الولايات، فكانت أخبار شيعته تصله أوّلاً بأوّل، ويحاول إبعادهم عن الوقوع في حبائل السلطان وشركه كما في قصة سيف بن الليث المصري.
ج ـ سجن الإمام الحسن العسكري (ع)
ولمّا رأى المهتدي أنّ وسائل النفي والإبعاد والمصادرة، لم تكن لتحدّ من نشاط الإمام (ع) وشيعته، واتّساع حركته، لما كان لتعليمات الإمام (ع) ورقابته لشيعته من أثر في إفشال محاولات السلطة العباسيّة لم تجد السلطة بُدّاً من اعتقال الإمام (ع) والتضييق عليه في السجن، وكان المتولي لِسجنه صالح بن وصيف الذي أمر المهتدي موسى بن بغا التركي بقتله.
وقد جاءه العباسيّون إبان اعتقال الإمام (ع) فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال صالح: «ما أصنع به قد وكّلت به رجلين، شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم»، ثمّ أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ ـ يعني الإمام الحسن العسكري (ع) ـ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة فإذا نظر إلينا ارعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا فلمّا سمع العباسيّون ذلك انصرفوا خاسئين[6].
لقد كان المهتدي يهدّد الإمام بالقتل وقد بلغ النبأ بعض أصحاب الإمام (ع) فكتب إليه: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنك فقد بلغني أنّه يتهددك. وذلك حين انشغل المهتدي بفتنة الموالي، وعزم على استئصالهم. وهنا نجد الإجابة الدقيقة من الإمام (ع) حول مستقبل المهتدي حيث كتب الجواب ما يلي: «ذاك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به»[7]. وكان كما قال فقد انهزم جيشه ودخل سامراء وحده مستغيثاً بالعامة منادياً يا معشر المسلمين: أنا أمير المؤمنين قاتلوا عن خليفتكم، فلم يجبه أحد[8].
وقال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي: في هذه الليلة يبتر الله عمره، فلمّا أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولّي المعتمد مكانه[9].
3ـ المعتمد ابن المتوكل العبّاسي (256 ـ 279 ه)
وعاصر الإمام الحسن العسكري (ع) بعد المعتزّ والمهتدي، المعتمد العبّاسي، الذي إنهمك في اللهو واللّذات واشتغل عن الرعيّة فكرهه الناس وأحبّوا أخاه طلحة.
وكان المعتمد ضعيفاً يعمل تحت تأثير الأتراك الذين يديرون اُمور الحكم، ويقومون بتغيير الخلفاء والاُمراء.
وكانت الفترة التي عاشها الإمام الحسن العسكري (ع) في عهد المعتمد تقرب من خمس سنين، وهي من بداية خلافة المعتمد سنة (256ه) وحتى استشهاد الإمام (ع) سنة (260ه)، وكان الوضع العام مضطرباً لسيطرة الأتراك على السلطة أوّلاً، ولما كان يحدث من حركات ضد السلطة في أقاليم الدولة ثانياً. فضلاً عن مطاردة السلطة للشيعة والمضايقة على الإمام (ع) وعليهم وتشديد المراقبة من جهة ثالثة.
أهم الأحداث في عصر المعتمد
أـ ثورة الزنج
كانت ثورة الزنج حدثاً مهماً لما نتج عنها من آثار سيئة، فقد صحب حركة الزنج هذه، قتل، ونهب، وسلب، وإحراق مما أدّى الى اضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عدّة من الأمصار التي سيطر عليها صاحب الزنج، فبدأت ثورتهم في البصرة وامتدّت إلى عبّادان والأهواز وغيرهما.
والقضاء على هذه الحركة قد كلف الدولة كثيراً من الأموال والجند الذين هزمهم صاحب الزنج في أكثر من واقعة، وأخيراً تمكّنت الدولة من القضاء عليهم.
ب ـ حركة ابن الصوفي العلوي
وقد ظهر في صعيد مصر في سنة (256 ه) وهو إبراهيم بن محمّد وكان يعرف بإبن الصوفي وملك مدينة إسنا. وكانت معارك بينه وبين جيش الدولة بقيادة ابن طولون اقتتلوا فيها قتالاً شديداً فقتل من رجال ابن الصوفي الكثير، وانهزم ثمّ كانت وقعة أُخرى مع جنده عام (259 ه) وانهزم ابن الصوفي أيضاً إلى المدينة وألقي القبض عليه واُرسل إلى ابن طولون في مصر[10].
ج ـ ثورة علي بن زيد في الكوفة
كانت حركته في الكوفة سنة (256 ه) واستولى عليها، وأزال عنها نائب الخليفة، واستقرّ بها، وسَيَّر إليه المعتمد الشاه بن مكيال في جيش كثيف فالتقوا واقتتلوا وانهزم الشاه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه ونجا الشاه، ثمّ وجّه المعتمد كيجور التركي لمحاربته، وأمره أن يدعوه إلى الطّاعة ويبذل له الأمان، وطلب عليّ بن زيد اُموراً لم يجبه كيجور إليها، فخرج عليّ بن زيد من الكوفة وعسكر في القادسية فبلغ خبره كيجور فواقعه فانهزم عليّ بن زيد وقُتل جماعة من أصحابه[11].
وقد استوعبت هذه الحركات التي كانت ضد الدولة العبّاسية مساحة زمنية واسعة لعدم شرعيّة الدولة ولإبتعاد الخلفاء وولاتهم عن مبادئ الإسلام الحنيف واستمرت حتى بعد عصر الإمام الحسن العسكري (ع) وحتى سقوط بغداد على يد التتار عام (656 ه).
د ـ المعتمد والإمام العسكري (ع)
سعى المعتمد جاهداً في التخلص من الإمام العسكري (ع) أي أنّه سارَ على ذات المنهج الذي اتّبعه أسلافه من الخلفاء الأُمويين والعبّاسيين مع الأئمة المعصومين (ع) غير أنّ موقفه هذا سرعان ما تغيّر ظاهراً، وقدّم الاعتذار للإمام (ع) بعد محاولة لتصفيته برميه مع السباع كما عمل مثل ذلك المتوكّل مع أبيه عليّ الهادي (ع) وذلك حين سلّم الإمام العسكري (ع) إلى يحيى بن قتيبة الذي كان يضيّق على الإمام (ع) حيث رمى به إلى مجموعة من السباع ظنّاً منه أنها سوف تقتل الإمام (ع)، مع العلم بأن امرأة يحيى كانت قد حذّرته من أن يمس الإمام بسوء بقولها له: «اتقِّ الله فإني أخاف عليك منه»، فقال: والله لأرميّنه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها، ولم يشكّوا في أكلها إيّاه، فنظروا إلى الموضع، فوجدوه قائماً يصلي، فأمر بإخراجه الى داره[12].
وروي أن يحيى بن قتيبة قد أتاه بعد ثلاث مع الاُستاذ فوجده يصلّي، والاُسود حوله، فدخل الاُستاذ الغيل ـ أي موضع الأسد ـ فمزّقته الاُسود وأكلته وانصرف يحيى إلى المعتمد وأخبره بذلك، فدخل المعتمد على العسكري (ع) وتضرّع إليه[13].
واستمر المعتمد في التضييق على الإمام الحسن العسكري (ع) فيما بعد حتى ألقى به في سجن عليّ بن جرين وكان يسأله عن أخباره فيجيبه: إنّه يصوم النهار ويقوم الليل[14].
وقال ابن الصباغ المالكي: حدث أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري قال: كنت في الحبس الذي بالجوشق أنا والحسن بن محمّد العتيقي ومحمّد بن إبراهيم العمري وفلان وفلان خمسة ستة من الشيعة، إذ ورد علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكري (ع) وأخوه جعفر فحففنا بأبي محمّد، وكان المتولي لحبسه صالح بن الوصيف الحاجب، وكان معنا في الحبس رجل جمحي.
فالتفت إلينا أبو محمّد وقال لنا سرّاً: «لولا أنّ فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج عنكم وترى هذا الرجل فيكم قد كتب فيكم قصته الى الخليفة يخبره فيها بما تقولون فيه وهي مدسوسة معه في ثيابه يريد أن يوسع الحيلة في إيصالها الى الخليفة من حيث لا تعلمون، فاحذروا شرّه».
قال أبو هاشم: فما تمالكنا أن تحاملنا جميعاً على الرجل، ففتشناه فوجدنا القصة مدسوسة معه بين ثيابه وهو يذكرنا فيها بكل سوء فأخذناها منه وحذرناه، وكان الحسن يصوم في السجن، فإذا أفطر أكلنا معه من طعامه وكان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة.
إزالة شبهة عن الناس
قال أبو هاشم: ثم لم تطل مدّة أبي محمّد الحسن في الحبس إلاّ أنّ قحط الناس بسرّ من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكّل بخروج الناس الى الاستسقاء فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون ويدعون فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع الى الصحراء وخرج معه النصارى والرهبان وكان فيهم راهب كلّما مدّ يده الى السماء ورفعها هطلت بالمطر.
ثم خرجوا في اليوم الثاني وفعلوا كفعلهم أوّل يوم فهطلت السماء بالمطر وسقوا سقياً شديداً، حتى استعفوا، فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصفا بعضهم الى دين النصرانية فشقّ ذلك على الخليفة، فانفذ الى صالح بن وصيف أن أخرج أبا محمّد الحسن بن عليّ من السجن وائتني به.
فلمّا حضر أبو محمّد الحسن عند الخليفة قال له: أدرك أُمّة جدّك محمّد فيما لحق بعضهم في هذه النازلة، فقال أبو محمّد: «دعهم يخرجون غداً اليوم الثالث، قال: قد استعفى الناس من المطر واستكفوا فما فايدة خروجهم؟ قال: لأزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدوا فيها عقولاً ضعيفة.
فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث على جاري عادتهم وأن يخرجوا الناس، فخرج النصارى وخرج لهم أبو محمّد الحسن ومعه خلق كثير، فوقف النصارى على جاري عادتهم يستسقون إلاّ أنّ ذلك الراهب مدّ يديه رافعاً لهما الى السماء، ورفعت النصارى والرهبان أيديهم على جاري عادتهم، فغيمت السماء في الوقت ونزل المطر.
فأمر أبو محمّد الحسن القبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعه عظم آدمي، فأخذه أبو محمّد الحسن ولفه في خرقة وقال: استسقِ فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت الشمس فعجب الناس من ذلك، وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمّد؟! فقال: عظم نبي من أنبياء الله عزّ وجلّ ظفر به هؤلاء من بعض قبور الأنبياء وما كشف نبي عن عظم تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر، واستحسنوا ذلك فامتحنوه فوجدوه كما قال».
فرجع أبو محمّد الحسن (ع) الى داره بسرّ من رأى وقد أزال عن الناس هذه الشبهة وقد سرّ الخليفة والمسلمون ذلك وكلّم أبو محمّد الحسن الخليفة في إخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن، فأخرجهم وأطلقهم له، وأقام أبو محمّد الحسن بسر من رأى بمنزله بها معظماً مكرّماً مبجلاً وصارت صِلات الخليفة وأنعامه تصل إليه في منزله الى أن قضى تغمّده الله برحمته[15].
ه ـ المعتمد وموقفه من الشيعة
لم تتغير الإجراءات القمعية التي كانت تمارسها السلطة العبّاسية تجاه الشيعة في عصر المعتمد بل كانت إمتداداً للسياسة المعهودة والتي أصبحت تقليداً يتوارثه الخلفاء العبّاسيون إزاء الأئمة الأطهار وشيعتهم وذلك لما كان يخشاه الخلفاء من تطور الوضع لصالحهم واتّساع نشاطهم السياسي مما قد ينجم عنه تغيّر الوضع ضد السلطة القائمة، والتفاف الناس بشكل أكبر حول الإمام (ع) وبالتالي قد يتّخذ الإمام موقفاً جهاديّاً تجاه الخليفة وسلطته.
وكانت أساليب السلطة تجاه الحركة الشيعية لا تتجاوز الأساليب التي عهدتها في عصور سابقة وهي:
1ـ المراقبة ورصد تحرّكات أصحاب الإمام وشيعته.
2ـ السجن وكانت تعمد إليه السلطة من أجل الحدّ من نشاط أصحاب الإمام (ع).
3ـ القتل: وكانت ترتكبه السلطة حين لا ترى جدوىً في أساليبها الاُخرى تجاه الشيعة، أو تشعر بتنامي نشاطهم فتلجأ الى قتل الشخصيّات البارزة والمقرَّبين من الإمام (ع).
الاستنتاج
أن الإمام الحسن العسكري (ع) عاصر ثلاثة من الخلفاء العباسيين وكانت السلطة القائمة آنذاك تضاعف إجراءاتها التعسفيّة في مواجهته (ع) ومع ذلك كانت مواقفه إمتداداً لمواقف أبيه (ع) بوصفه المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده الشعبية وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية.
الهوامش
[1] الطوسي، الغيبة، ص208.
[2] الطوسي، الغيبة، ص205.
[3] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص198.
[4] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص230.
[5] الكليني، الكافي، ج1، ص510.
[6] الكليني، الكافي، ج1، ص512.
[7] الكليني، الكافي، ج1، ص510.
[8] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص230.
[9] الطوسي، الغيبة، ص205.
[10] انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج7، ص238.
[11] ابن الأثير، الكامل في التأريخ، ج7، ص239.
[12] الكليني، الكافي، ج1، ص513.
[13] انظر: ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص530.
[14] ابن طاووس، مهج الدعوات، ص330.
[15] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص526.
مصادر البحث
1ـ ابن الأثير، علي، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، طبعة 1386 ه.
2ـ ابن شهر آشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
3ـ ابن طاووس، علي، مهج الدعوات ومنهج العبادات، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الثانية، 1424 ه.
4ـ الطوسي، محمّد، الغيبة، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1425 ه.
5ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
المجمع العالمي لأهل البيت، أعلام الهداية، قم، المجمع العالمي لأهل البيت، الطبعة الأُولى، 1422 ه.