- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
إن الشيعة الإمامية ترى المسح على الأرجل في الوضوء لدلالة الآية على ذلك، ولكن بعض أئمة أهل السنة يرى وجوب غسل الأرجل، وآخر منهم يرى التخيير، ورابع يرى الجمع بينهما في الوضوء، ولكل منهم دليله وهو غير تام، إلا دليل الشيعة.
مسألة حكم الرِجلين في الوضوء
مسألة حكم الرِجلين في الوضوء من حيث المسح أو الغسل من جملة هذه المسائل التي يفترض وضوحها وعدم وقوع الخلاف فيها، لكنها وخلافاً للمتوقع كانت معركة الآراء بين الفقهاء، والمدارس الفقهية.
بين قائل بوجوب المسح ـ وهم الإمامية، وعليه ابن عباس[1] ـ وقائل بوجوب الغسل ـ وهم بعض أئمة أهل السنة[2] ـ وقائل بالتخيير ـ كمحمد بن جرير الطبري، والحسن البصري، فيما نقله الرازي وغيره عنهما[3] ـ وقائل بوجوب الجمع بينهما في الوضوء، وعليه داود بن علي الظاهري، والناصر للحق من الزيدية[4].
مع آية الوضوء أولاً
وقبل الورود في بحث هذه الآراء وأدلتها، لابد من إيراد آية الوضوء الوحيدة في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ)[5].
وهذه الآية تتضمن بحوثاً فقهية من جهات عديدة ترتبط بأجزاء الوضوء، ومنها الجزء الأخير المتمثل بحكم القدمين، فالآية تخاطب المكلفين وترسم لهم كيفية الوضوء، وتبين أن الأعضاء التي يقع عليها الوضوء من بدن الإنسان على قسمين: قسم يُغسل، وآخر يُمسح.
أما القسم المغسول، فهو قوله تعالى: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ)، وأما القسم الممسوح، فهو قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ).
وهكذا فالآية تشتمل عى وضوح تام فيما يرتبط بحكم القدمين ووظيفتهما الوضوئية، فهما من القسم الممسوح الذي جاء بعد قوله: وامسحوا، ولو كان من القسم المغسول لكان من المناسب مجيؤهما بعد قوله: فاغسلوا، وهذا من بديهيات اللغة، وهو ثابت لا يتغير سواءٌ قرئت كلمة «أرجلكم» الواردة في الآية بالجر أو بالنصب.
فإنها إن قرئت بالجر، كما هي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه، فقراءة الجر تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، وهما معاً يشكلان القسم المحكوم بالمسح من أعضاء الوضوء.
وإن قرئت بالنصب، كما هي قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه، فإنها توجب المسح أيضاً، لأن كلمة «رؤوسكم» في قوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) هي في محل نصب لكنها مجرورة بالباء، ثم عطفت آية الأرجل على الرؤوس، فقالت: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأصبحت الأرجل معطوفة على محل الرؤوس، فجاز قراءتها بالنصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز قراءتها بالجر عطفاً على الظاهر.
وهذا ما ذكره الفخر الرازي وعقب عليه، بقوله: وهذا مذهب مشهور للنحاة[6].
أدلة القائلين بالغسل
القول بالغسل هو الذي مضت عليه المذاهب الأربعة، واستدلوا عليه بأدلة عديدة، منها ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره، حيث كتب يقول:
«إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب الى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها.
وإن فرض الرجلين محدود الى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح…»[7].
أدلة القائلين بالمسح
والقائلون بأن حكم الأرجل في الوضوء هو المسح هم الإمامية، وأدلتهم على ذلك هي آية الوضوء والأخبار الكثيرة، فضلاً عن أخبار أئمة أهل البيت (ع).
وآية الوضوء هي قوله تعالى: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ)، والاستدلال بالآية تارة يكون على أساس قراءة الجر في (وأرجلكم) واُخرى على أساس قراءة النصب.
فإن قُرئت بالجر ـ كما هي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم ـ فدلالتها على وجوب مسح الأرجل تكون من أوضح الواضحات، فالآية جمعت بين الرؤوس والأرجل بحكم واحد هو المسح، وجعلت الأرجل معطوفة على الرؤوس ومحكومة بحكمها.
ورغم وضوح هذه النتيجة، وتسليم عدد من الأعلام بها كالفخر الرازي في تفسيره للآية، وابن حزم في المحلّى، نجد علي بن محمد الماوردي يدّعي بأن القراءة المخفوضة: (يمكن حملها على أحد وجهين، أحدهما على مسح الخفين فيكون اختلاف القراءتين على اختلاف المعنيين، الثاني: أنه محمول على عطف المجاورة دون الحكم…)[8].
بمعنى أن القراءة المخفوضة لا تحتم الحكم بالمسح. وهو ادعاء غريب جدّاً، فإن الظاهر من (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) المباشرة بين الأيدي والأرجل، والمباشرة لا تتم مع وجود الخف، وحينئذ يحتاج الفقيه في مسألة الخف الى دليل آخر غير هذه الآية، ولو كان الأمر كما يدّعي لكان واجباً على من آمن بالقراءة المخفوضة أن لا يمسح رجليه ولا يغسلهما، بل يلبس الخف ويمسح عليه، وسيرة المتشرعة جرت على مسح الرجلين أو غسلهما. وليس فيها لزوم لبس الخف والمسح عليه.
ثم لماذا يرتكب الفقيه هذا التأويل البعيد للآية ويهجر التأويل الطبيعي الذي يساعد عليه العرف والسيرة واللغة؟ هذا في الاحتمال الأول الذي احتمله.
أما الاحتمال الثاني فهو مردود من قبل اللغويين والمفسرين معاً.
أما قراءة النصب فهي الاُخرى توجب الحكم بالمسح، وذلك كما قال الرازي: لأن قوله: (وامسحوا برؤوسكم) فرؤوسكم في محل النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس والجر عطفاً على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة.
إذا ثبت هذا، فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»، ويجوز أن يكون قوله: «فاغسلوا»، لكن العاملان ـ كذا ـ إذا اجتمعا على معمول واحد كان اعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»، فثبت أن قراءة النصب (وأرجلَكم) بنصب اللام توجب المسح أيضاً…[9].
وأن إيجاب الغسل في هذه القراءة لا يتم إلاّ على مذهب نحوي باطل، وهو عطف الأرجل على الوجوه، وهو باطل لوجود الفاصل بينهما، وأن المعطوف عليه إذا تعدد اُختير الأقرب وهو الرؤوس في الآية، وتُرك الأبعد وهو الوجوه.
ومن هنا آمن الفخر الرازي بأن آية الوضوء توجب المسح، لكنه ردّ هذا الحكم ولم يسلّم به محتجاً بوجوه ضعيفة ذكرها في تتمة كلامه السابق وهي:
الوجه الأول
الأخبار الواردة بإيجاب الغسل، وهي أخبار بعضها غير دال على الغسل، وهناك ما يعارضها ويوافق حكم المسح، ومع التعارض لابد من القول ـ على الأقل ـ بالتساقط والرجوع الى الكتاب العزيز.
وقد أجاد السيد عبد الحسين شرف الدين في ردّ هذا الوجه، حيث كتب يقول:
أخبار الغسل قسمان
منها: ما هو غير دال عليه، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال: ـ كما في الصحيحين ـ تخلّف عنّا النبي (ص) في سفر سافرناه معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: «ويل للأعقاب من النار».
وهذا لو صحّ لاقتضى المسح، إذ لم ينكره (ص) عليهم بل أقرهم عليه كما ترى، وإنما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا غرو، فإنّ فيهم أعراباً جهلة بوالين على أعقابهم ولا سيما في السفر فتوعدهم بالنار، لئلاّ يدخلوا في الصلاة بتلك الأعقاب المتنجسة.
ومنها: ما هو دال على الغسل، كحديث حمران مولى عثمان بن عفان، إذ قال: رأيت عثمان وقد أفرغ على يديه من انائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر… الحديث[10].
وقد جاء فيه ثم غسل كل رجل ثلاثاً. ثم قال: رأيت النبي (ص) يتوضأ نحو وضوئي، ومثله حديث عبدالله بن زيد بن عاصم الأنصاري،وقد قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله (ص) فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه… الحديث[11] وفي آخره ثم غسل رجليه الى الكعبين.
ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله (ص) غير ذلك من أخبار جاءت في هذا المعنى.
وفيها نظر من وجوه:
أحدها: أنّها جاءت مخالفة لكتاب الله عزّ وجلّ ولما أجمعت عليه أئمة العترة الطاهرة والكتاب والعترة ثقلا رسول الله (ص) لن يفترقا أبداً ولن تضل الاُمة ما إن تمسكت بهما، فليضرب بكل ما خالفهما عرض الجدار.
وحسبك في انكار الغسل ووهن أخباره ما كان من حبر الاُمة وعيبة الكتاب والسنّة عبد الله بن عباس إذ كان يحتج للمسح فيقول[12]: افترض الله غسلتين ومسحتين، ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين.
وكان يقول[13]: الوضوء غسلتان ومسحتان، ولما بلغه أن الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية تزعم أن النبيّ (ص) توضأ عندها فغسل رجليه، أتاها يسألها عن ذلك وحين حدثته به، قال ـ غير مصدق بل منكراً ومحتجاً ـ إن الناس أبوا إلاّ الغسل ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح.
ثانيها: إنها لو كانت حقّاً لأربت على التواتر، لأن الحاجة الى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامة لرجال الاُمة ونسائها، أحرارها ومماليكها، وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بحكم الآية، لعلمه المكلفون في عهد النبوّة وبعده، ولكان مسلَّماً بينهم، ولتواترت أخباره عن النبي (ص) في كل عصر ومصر.
فلا يبقى مجال لانكاره ولا للريب فيه. ولما لم يكن الأمر كذلك، ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.
ثالثها: إنّ الأخبار في نوع طهارة القدمين متعارضة، بعضها يقتضي الغسل كحديثي حمران وابن عاصم وقد سمعتهما، وبعضها يقتضي المسح كالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، ورواه كلّ من أحمد، وابن أبي شيبة، وابن أبي عمر، والبغوي، والطبراني، والماوردي، كلّهم من طريق كلّ رجاله ثقات عن أبي الأسود عن عباد بن تميم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله (ص) يتوضأ ويمسح على رجليه.
وكالذي أخرجه الشيخ في الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين عن الباقر (ع) أنه حكى وضوء رسول الله (ص) فمسح رأسه وقدميه الى الكعبين بفضل كفيه ولم يجدد ماءً[14].
وعن ابن عباس أنه حكى وضوء رسول الله (ص) فمسح على قدميه[15].
وحيث تعارضت الأخبار، كان المرجع كتاب الله عزّوجلّ لا نبغي عنه حولاً. هذا نص ما أفاده (قده).
كما آمن ابن حزم بأن القرآن يحتم حكم المسح بالنسبة للرجلين في الوضوء، وقال: (إن القرآن نزل بالمسح) سواءٌ قرأنا الآية بالخفض أو بالنصب، وأن جماعة من السلف قد قالوا بالمسح، منهم: الإمام علي (ع)، وابن عباس، والحسن، وعكرمة، والشعبي، وجماعة غيرهم، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار[16].
لكنه ذكر بعد ذلك خبر «ويل للأعقاب من النار» واعتبره ناسخاً للآية القرآنية، وقد اتضح أن هذا الخبر يؤيد الآية فكيف يكون ناسخاً لها؟ ويرد عليه أيضاً ـ كما ذكره الفخر الرازي ـ بأن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز[17].
الوجه الثاني
إن الغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب الى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها.
وردّ عليه السيد عبدالحسين شرف الدين بقوله: «وأما قوله بأن الغسل مشتمل على المسح فمغالطة واضحة، بل هما حقيقتان لغة وعرفاً وشرعاً، فالواجب إذاً هو القطع بأنّ غسل الأرجل لا يقوم مقام مسحها.
لكن الإمام الرازي وقف بين محذورين: هما مخالفة الآية المحكمة ومخالفة الأخبار الصحيحة في نظره، فغالط نفسه بقوله: إن الغسل مشتمل على المسح وانّه أقرب الى الاحتياط وانّه يقوم مقام المسح، ظنّاً منه بأنه قد جمع بهذا بين الآية والأخبار، ومن أمعن في دفاعه هذا وجده في ارتباك، ولولا أن الآية واضحة الدلالة على وجوب المسح ما احتاج الى جعل الغسل قائماً مقامه، فأمعن وتأمل ملياً».
الوجه الثالث
أن الآية جعلت حكم الرجلين محدود الى الكعبين، وهذا التحديد ينسجم مع الغسل، لأن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، وقد تصدى السيد عبد الحسين شرف الدين للإجابة عليه بقوله:
«الكعبان في آية الوضوء، هما: مفصلا الساقين عن القدمين بحكم الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين إذ سألا الباقر (ع) عنهما وهو الظاهر مما رواه الصدوق عنه أيضاً وقد نصّ أئمة اللغة على أن كل مفصل للعظام كعب».
وهكذا يبدو بوضوح أن اختيار فقه الجمهور للقول بالغسل قد أوقعهم في محنة التعارض مع القرآن الكريم، فراحوا يتأولون الوجوه البعيدة ويركبون كل صعب وذلول من أجل إثبات مدعاهم ومن جملة من أدلى بدلوه في هذا المضمار الزمخشري في تفسير الكشاف، وقد ذكر السيد عبدالحسين شرف الدين محاولته التوفيقية ثم أجاب عنها، فكتب يقول:
وتفلسف الإمام الزمخشري في كشافه حول هذه الآية إذ قال: «الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنّة للاسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، (قال): وقيل (الى الكعبين) فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة»[18].
هذه فلسفته في عطف الأرجل على الرؤوس وفي ذكر الغاية من الأرجل، وهي كما ترى ليست في شيء من استنباط الأحكام الشرعية عن الآية المحكمة، ولا في شيء من تفسيرها، ولا الآية بدالّة على شيء منها بشيء من الدوال، وإنّما هي تحكم في تطبيق الآية على مذهبه بدلاً من استنباط المذهب من الأدلة، وقد أغرب في تكهنه بما لا يصغي إليه إلاّ من كان غسل الأرجل عنده مفروغاً عنه بحكم الضرورة الأوّلية، أما مع كونه محل النزاع فلا يعتنى به ولا سيما مع اعترافهم بظهور الكتاب في وجوب المسح. وحسبنا في ذلك ما توجبه القواعد العربية من عطف الأرجل على الرؤوس الممسوحة بالاجماع نصاً وفتوى».
ومن جملة المحاولات أيضاً قولهم: إن الحكم بالغسل هو المنطبق على حكمة الطهارة، وأن الطهارة هي المبالغة في النظافة التي شُرع الوضوء والغسل لأجلها.
وقد ذكر السيد عبد الحسين شرف الدين هذه المحاولة وأجاب عليها، حيث كتب يقول:
«ربما احتج الجمهور على غسل الأرجل انّهم رأوه أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل إذ كان القدمان لا ينقى دنسهما إلاّ بالغسل غالباً بخلاف الرأس فإنه ينقى غالباً بالمسح، وقد قالوا إن المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة، حتى الشرع لاحظ فيها معنيين، معنىً مصلحياً ومعنىً عبادياً، وعنوا بالمصلحي ما يرجع الى الاُمور المحسوسة، وبالعبادي ما يرجع الى زكاة النفس.
فأقول: نحن نؤمن بأن الشارع المقدس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم، ولم ينههم إلاّ عما فيه مفسدة لهم، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبّدهم بأدلّة قوية عيّنها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها الى ما سواها.
وأوّل تلك الأدلة الحكيمة كتاب الله عزّ وجلّ وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أما نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من إحرازه قبل المسح عليها، عملاً بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه، ولعلّ غسل رسول الله (ص) رجليه ـ المدعى في أخبار الغسل ـ إنّما كان من هذا الباب، ولعلّه كان من باب التبرد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء والله تعالى أعلم».
ومن جملة المحاولات قولهم: إن المراد بمسح الرجلين غسلهما. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : «قال ابن عطية: وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر الى أن المسح في الرجلين هو الغسل» وعلّق القرطبي على ذلك بقوله: «وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل»[19].
وهذه من أسوأ المحاولات. فأين الغسل من المسح؟ ولو كان الأمر كما يقول من الناحية اللغوية للزم أن يكون المسح بمعنى الغسل عندما تكون هناك قرينة مساعدة، وهي مفقودة في الآية، بل الموجود في الآية قرينة معاكسة، وهي أن الآية الكريمة ذكرت الغسل ثم عقبت عليه بذكر المسح، وهذا يعني أنها في مقام التفصيل بين الأمرين، ولو كان المراد بالمسح في الآية هو الغسل لوجب غسل الرأس أيضاً، فلماذا يفرق صاحب هذه المحاولة بين الرأس والرجلين؟ وكيف يكون المسح في الرأس بمعنى المسح، والمسح للقدمين بمعنى الغسل؟ على أن كلامه لا يقتضي وجوب الغسل بل يقتضي التخيير بينه وبين المسح، فما الوجه في الحكم ببطلان المسح؟
ومما لا شك فيه أن هذه المحاولة تجعل مقتضى الاحتياط هو المسح لا الغسل، لأن الغسل تدور شبهات من حوله بخلاف المسح.
وهكذا يتضح بطلان القول بالغسل، وفشل كل المحاولات والأدلة الرامية لإثبات وجوبه بالنسبة الى القدمين في الوضوء.
القول بالجمع والتخيير
ويبقى هنا قولان في المسألة: قول بالجمع بين الوظيفتين، وقول بالتخيير بينهما، وجواب القول بالجمع: انّه يجري عند الاحيتاط، والاحتياط يأتي عند الشك في الوظيفة الشرعية، فإذا قام الدليل على الوظيفة الشرعية، وتم إثبات المسح، ينتفي الشك، وكلما انتفى الشك انتفى الحكم بالجمع كوظيفة احتياطية.
أما القول بالتخيير: فيجري بعد إثبات شرعية العملين معاً في الوضوء، فإذا ثبت لدى المكلف أن الغسل والمسح كلاهما عمل مشروع بالنسبة الى القدمين، وأن آية الوضوء تدل على صحتهما معاً، وأن النبي محمد (ص) قد عمل بهما معاً، تارة بالمسح واُخرى بالغسل، جاز لنا التخيير، ومع عدم إثبات ذلك لا يجوز لنا القول بالتخيير، إذ لا معنى لتخيير المكلف بين عملين أحدهما صحيح شرعاً والآخر لم تثبت صحته، وقد اتّضح أن كل المحاولات الرامية لإثبات شرعية الغسل كوظيفة في الوضوء بالنسبة الى القدمين قد باءت بالفشل.
فيبقى الحكم بالمسح هو المؤيد بالأدلة والسالم عن الاشكال.
منشأ اختلاف الروايات
قد انكبّ أحد الباحثين على دراسة الظروف التاريخية التي احاطت بهذه المسألة دراسة تحليلية معمقة انتهى من خلالها واعتماداً على شواهد وأدلة وقرائن تاريخية كثيرة على أن القول بغسل القدمين في الوضوء قد ظهر في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وانّه هو المنشأ لذيوع وانتشار هذا الرأي بين المسلمين، فمن أراد التفصيل التاريخي في ذلك فعليه مراجعة هذا الكتاب الموسوم بـ «وضوء النبي من خلال ملابسات التشريع» للسيد علي الشهرستاني.
الاستنتاج
إنّ آية الوضوء تحتّم القول بوجوب مسح القدمين في الوضوء على كل التقادير وهو الضروري في مذهب أهل البيت (ع)، وأن وضوء النبي (ص)، والصحابة وسائر المسلمين كان على هذا النحو، وان القول بغسل القدمين لا يرجع الى أساس في الكتاب ولا السنّة، وانّه قول مبتكر مبتدع ظهر في أيام الخليفة الثالث.
الهوامش
[1] انظر: الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (ع)، ج1، ص122.
[2] الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج1، ص54.
[3] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص166.
[4] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص166.
[5] المائدة، 6.
[6] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص161.
[7] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص162.
[8] الماوردي، الحاوي الكبير، ج1، ص125.
[9] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص161.
[10] البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص140، باب 120.
[11] مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج3، ص121، كتاب الطهارة، باب آخر في صفة الوضوء.
[12] المتّقي الهندي، كنز العمال، ج5، ص103، ح2213.
[13] المتّقي الهندي، كنز العمال، ج5، ص103، ح2211.
[14] الطوسي، تهذيب الأحكام، ج1، ص56، ح158.
[15] الطبرسي، مجمع البيان، ج3، ص207.
[16] ابن حزم، المحلى، ج2، ص56.
[17] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج11، ص163.
[18] الزمخشري، تفسير الكشاف، ج1، 611.
[19] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص92.
مصادر البحث
1ـ ابن حزم، علي، المحلّى، دار الفكر، بلا تاريخ.
2ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
3ـ الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (ع)، بيروت، دار الثقلين، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
4ـ الزمخشري، محمود، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، مصر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، طبعة 1385 ه.
5ـ الطبرسي، الفضل، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
6ـ الطوسي، محمّد، تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق السيّد حسن الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1365 ش.
7ـ فخر الرازي، محمّد، تفسير الرازي، الطبعة الثالثة، 1420 ه.
8ـ القرطبي، محمّد، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1405 ه.
9ـ الماوردي، علي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
10ـ المتّقي الهندي، علي، كنز العمّال، بيروت، مؤسّسة الرسالة، طبعة 1409 ه.
11ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
البهبهاني، عبد الكريم، مسألة المسح على الأرجل في الوضوء، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.