- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
نحن نعتقد أن الأئمة (ع) عندهم العلم بالغيب لأن نفسهم تختلف عن سائر النفوس من جهة سعة الإدراك والاحاطة بالواقع والتجرد التام عن المادة، وأن غير الإمامية يثبتون العلم بالغيب لاُناس غير معصومين، وتناولوه بعنوان الكرامة والانكشاف لا العلم الحضوري الذي يرافق العصمة عندنا.
العلم بالغيب وعلم النفس الفلسفي
ليس بصحيح أن الأئمة الاثنا عشر (ع) لا يعلمون الغيب بناءً لمحدودية وجودهم الذي هو من الممكنات، وعدم أزليتها، مع أن العلم بالغيب لا حدود له، والمحدود لا يستوعب غير المحدود بحكم العقل، ولذلك اختص علم الغيب بالله تعالى الذي لا يُحد، وذلك لأن محدودية النبي والإمام أمر لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وكذلك اختصاص علم الغيب بالله أمر ثابت لم ينكره أحد من المسلمين.
لكن المدّعى أن الله أكرمهم وخصّهم العلم بالغيب ووهبهم علمها فبإذنه وأمره علموا ذلك، وأصبح ذلك لهم شهوداً، وإن كان لغيرهم «غيباً محجوباً»، وإنّما اختصّهم الله بذلك، لقربهم منه تعالى بالعمل الصالح والنيّة الصادقة واحراز الاخلاص والتقوى والجد .
ولم يعطوا (ع) ذلك بالجبر والاكراه، بل من جهة امتلاكهم للسمات المؤهلة للوصول الى الدرجات واستحقاق المقامات التي أثبتتها لهم الفتنة والابتلاء والامتحان والمعاناة الطويلة.
إن أمر الاستبعاد والانكار لعلم الأئمة (ع) بالغيب والشامل للماضي والحاضر والمستقبل، سوف يهون إذا عُرف أنه ليس بالاستقلال، بل بواسطة الوحي الإلهي المنزل على قلب رسول الله (ص)، ومن خلال الإلهام لآله الأطهار (ع).
ولما ثبت من خلال التحقيق النقلي بأنّ أئمة أهل البيت (ع) حازوا على تلك الموهبة والإفاضة الإلهية وهي العلم بالغيب، سنتناول المسألة هنا باطارها الفلسفي.
ونوعية التحقيق في هذه المسألة لا تتم إلاّ بالاُصول العقلية المستخدمة في البراهين الفلسفية، وهي الاُصول المستغنية عن الدليل ـ المفاهيم الثانوية الفلسفية ـ فمثلاً، لكي نعرف حقيقة العلم ما هو؟ فهل هو شيء مادي ومن أعراض الجسم الإنساني؟ أم هو ظاهرة متعالية عن اُفق المادة وشيء مجرد عنها، وبالتالي فهو خاصية الجانب اللامادي من الإنسان وما هي علاقته به، وكيف يقوم العلم بعمله، بل ما عمله أساساً وما هي حدوده التي يقف عندها؟ كل هذه الأسئلة لا يمكن الوقوف على أجوبتها إلاّ وفق الاُسس العقلية اليقينية.
والآن ما الذي يقدمه لنا هذا العلم بحيث ينفعنا فيما نحن فيه؟
1ـ يؤكد علم المعرفة أن العلم حقيقته تكمن «في كاشفيته للواقع» فهو يظهر الواقع ويكشفه لنا، الأمر الذي نعرفه بالبداهة.
2ـ إن الكاشفية عن الواقع من أخص خواص الموجود الإنساني بحيث يستحيل فرض انفكاكه عنه، وإلاّ لكان ذلك انفكاك نفسه عن نفسه.
3ـ العلم أو الكشف عن الواقع ظاهرة متعالية عن المادة لعدم انطباق خصائصها عليه من قبيل الانقسام والاضمحلال والتبدل وغيرها، فهو إذاً خاصية الموجود المجرد عن المادة، وعليه فالنفس أمر وراء المادة.
4ـ يحدث العلم وانكشاف الواقع بالاتصال الوجودي والواقعي بين النفس ـ العالم ـ والشيء المراد معرفته ـ المعلوم ـ وبغير الاتصال هذا، فرض حدوث الانكشاف وتحقق العلم محال إذ لا سبب له.
5ـ وسائل الاتصال العلمي بالواقع ثلاثة: الاتصال عبر الحواس المتعلق بالوقائع المادية، والاتصال عبر العقل المتمثل في إدراك الكليات، والاتصال المباشر بالشيء من دون تحقق وساطة العقل أو الحسّ، ويعبر عنه بالمعرفة الشهودية أو القلبية والفؤادية.
6ـ الاتصال ومعرفة الوقائع المجردة عن المادة أمر متاح للنفس الإنسانية، إذ هي في رتبتها لا يفصلها عنها فاصل، إذ موانع العلم والانكشاف منها خارجية وتتمثل في الزمان والمكان ـ الزمكان ـ المتعلقة بالجسمانيات، ومنها باطنية معنوية وتتمثل في الانشغال وعدم الإلتفات، ولما ثبت تعالي النفس وإدراكها عن المادة، فالفواصل الزمكانية ساقطة عنها غير متعلقة بها، وإنّما متعلقة بجانبها الجسماني الذي ليست له علاقة بالعلم وكشف الواقع.
إذاً يبقى الفاصل المعنوي وهو الانشغال بما تلتقطه الحواس والاُنس بها وإهمال ما ورائها من حقائق الأمر، الذي دل عليه الكتاب العزيز كذلك، ففي قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[1]. ذم لمن ركن بعلمه الى ظاهر النشأة هذه ولم ينحدر عنها الى باطنها، فلو لم يكن ذلك متاحاً لها لما استقام الذم في محله.
الجهة الاُولى
فقد خلصنا الى أن معرفة الواقع المجرد بنحو من أنحاء المعرفة متاحة للنفس الإنسانية، وليس بأمر فوق طاقة النفس وخارجاً عن إمكانياتها.
الجهة الثانية
التي تتوجه نحوها المسألة هي صوب «العالم» وفي مورد المسألة يكون «الإمام» سلام الله عليه، وله بُعدان: بُعد يشترك به مع سائر الخلق، وبتعبير دقيق: «جهة العالمية هي نفسه الشريفة التي تشبه سائر النفوس من جهة النفسانية» وبعد يختلف به عن سائر الناس ويرتقي بوجوده الى الاُفق الأعلى حيث مقام الولاية العظمى.
ومرة اُخرى نلجأ للتعبير الدقيق ـ إن كان كذلك فعلاً ـ: «جهة كيفية العالمية وسعة اُفقها التي تختلف نفسه بها عن نفوس سائر الناس» فالتحقيق هذا ينهض به علم «معرفة النفس» الفلسفي، وليس التحليلي الذي تتشبث به مدارس علم النفس الحديثة.
فالفرق الحقيقي الواقع بين علم النفس التحليلي الحديث وبين علم النفس الفلسفي الذي هو إحدى فروع علم الفلسفة الإسلامية أن الأوّل يغض النظر عن البحث في النفس ويركّز على دراسة مظاهرها المتمثلة في صفاتها وأفعالها، بينما الآخر يقوم بدراسة النفس من جهة إثبات وجودهها وكيفية نشأتها وحالاتها الباطنية بعد الموت وحشرها ومعادها، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بها.
والآن لنستشير هذا العلم فيما نحن فيه لنرى بما يمدنا به:
1ـ أوّل ما تثبته تحقيقاته في النفس الإنسانية أن لها رتباً ومقامات ومنازل من جهة شدة التجرد عن المادة والارتفاع الى العالم الأعلى ونقصه، وإن قلة الإلتفات وحدّته راجعة إليه، ولما كان الإدراك مجرداً عن المادة وخاصية النفس الإنسانية فدراسة مستوى تجرده دال على مستوى تجرد النفس، والدراسة هذه تصنف مرتبة إدراك المحسوسات من أضعف مراتب التجرد.
إذ يكاد لا يفارق المادة بل لا يتحقق إلاّ بالاتصال بها وهي مرتبة يشترك الحيوان فيها مع الإنسان، وربما قد يفوقه وتصنف مرتبة إدراك الكليات، وهي الجهة التي يرتقي الإنسان عن الحيوان في اُفق التجرد من المراتب المتوسطة منها، أما أعلى مراتب الإدراك تجرداً وشمولاً فهي المرتبة التي تسمى بالإدراك القلبي أو الشهودي والتعبير الفلسفي العلم الحضوري بالواقع وهو أيضاً منازل ومراتب أضعفها المنامات الصادقة، وأوسطها الإلهام وحديث الملائكة وأشدها في سلم العلم والإدراك الإنساني بطوله الظفر بالوحي وتلقيه.
2ـ إن الجهة التي تختلف فيها نفس الإمام (ع) عن سائر النفوس هي هذه، أي جهة سعة الإدراك وإحاطته بالواقع وتجردّه التام عن المادة بحيث لا يستعين لأجل الكشف والعلم بوساطة الحس أو العقل وهو دال على سعة النفس وعلو رتبتها ورفعة مقامها ومنزلتها والبحث القرآني أيضاً يعضد ما انتهينا إليه، ففي قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[2].
وقد رتّب الإمامة التي هي الهداية بأمر الله على الصبر ورتّب الصبر على اليقين بالآيات، واليقين هو أعلى درجة من درجات الإدراك إذ متعلقه في اُفق متسام عن المادة بنص قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)[3].
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ)[4].
فقد بان إذاً أن مسألة انكشاف الواقع غير المادي للنفس الحاصلة على مقام الإمامة يعتبر من ضروريات مقامها الوجودي.
الجهة الثالثة
التي تتعلق المسألة بأذيالها هي«المعلوم» أو «متعلق الإدراك» أي الواقع المراد معرفته والظفر به، ومن هذا الجانب ترتمي المسألة في أحضان معرفة وجود الأشياء ومراتبها وبحساب التعبير الدقيق المتكرر الذكر: «معرفة الشيء بعلله» إذ من الضروري الوقوف على هذا البعد من المسألة أيضاً لنرى أن معرفة المصير على وجه التفصيل أين يكون موقعه من التحقق وكيف يظفر به العلم؟
1ـ وفق النظام العلّي والمعلولي الحاكم على الكون تغدو مسألة وقوع التشكك في وجود الأشياء متعيناً بالبرهان، فما هو واقع في المرتبة المادية للأشياء مترشح عما قبلها، بل هو لون من ألوان وجودها الشاحب والمحدود، فإذاً للأشياء وجود آخر متعال عن المادة والزمان واقع في صقع التجرد والدهر، والاطلاع عليه هناك يساوق كمال الاطلاع وتمامه.
2ـ أما الوقائع الواقعة في ظرف اختيار الإنسان لها والتي ليست من الأعيان فإن الاطلاع على عللها اطلاع عليها وفق ما حقق في محله أن «العلم بالعلّة علم بمعلولها» فالاطلاع على الإرادة ـ التي هي احدى هذه العلل إطلاعاً تاماً، وكذا لسائر العلل المنتجة للواقعة ـ محقق لوقع الكشف وحدوث العلم.
3ـ هذا، وإن أعلى مرتبة وجود الأشياء بأسرها ومنها الواقعة تحت جريان الاختبار الإنساني عليها هي وجودها في صقع علمه سبحانه التام بها، فعبر طريقه وبإخباره جلّ وعلا يتم العلم بها.
إنّ هذا الذي انتهينا إليه قد حكى الكتاب العزيز عنه، فقد أثبت لسائر الأشياء لوناً من الوجود المتعالي عن المادة وجعل الوجود المادي بمثابة تنزل عن ذلك، فكأنّه يثبت وجوداً واحداً للأشياء ذا تشكك كما في قوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)[5].
فقدر محدود من الشيء هو الواقع لظرف التنزل، وليس تمام الشيء وفي قوله تعالى: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[6].
فهناك إذاً نحو من الوجود «الجمعي» للأشياء عبّر عنه تعالى بالكتاب المبين، ومن الواضح أن المبين هنا غير راجع للباري تعالى إذ كل شيء له كذلك ولا معنى للأخبار عنه.
وحكت آيات الكتاب العزيز أن هذا الكتاب أو الوجود الجمعي للأشياء يقبل نيل العلم شيئاً منه، وأنه يساوق ـ أي العلم به ـ التمكن من الشيء المعلوم فيه نحو التمكن، كما في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)[7].
وأخيراً حكى القرآن أن هذا الوجود الجمعي للأشياء محصىً في «إمام مبين»: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)[8].
ومهما اختلف المفسرون في تحديد هوية الإمام المبين فتحقيقنا في المسألة قد أصبح في قرار مكين[9].
علم الغيب عند غير الإمامية
يصطلح الاتجاه الآخر المخالف لمدرسة أهل البيت (ع) على ظاهرة العلم بالغيب في حياة الأنبياء والصالحين والأولياء بعدّة اصطلاحات، منها المكاشفة والكرامة والفراسة التي تمنح لهؤلاء، حيث نجد مشهور هذا الاتجاه يذهب الى إثباتها، إلاّ أن الاختلاف في ما بينهم قد وقع في الاُسس والمباني التفسيرية والأدلة الشرعية لإثبات هذه الظاهرة، وقد طغى على تلك التفسيرات الضعف والاضطراب.
وكما يبدو أن المسألة مغفول عن دراستها وتعميقها من قبل هذا الاتجاه، ولعل الأمر يعود الى عدم الاعتقاد بالإمامة التي هي خلافة للنبوة، والتي تستلزم العصمة، حيث تعرض هذا الاعتقاد ـ علم المعصوم بالغيب ـ عند من تبناه الى جدل ومناقشات وحوارات عميقة ساهمت في تشييد مبانيه بتقنية عالية.
أما الاتجاه الآخر الذي لا يعترف بالعصمة لأحد بعد النبي محمد المصطفى (ص) قد تناول المسألة بسطحية ولم ينفذ الى جذورها ولم يلم بأبعادها، فقد خلط مثلاً بين المكاشفة والفراسة والكرامة والعلم الحضوري عند المعصوم.
المحاولات التفسيرية لظاهرة علم بالغيب
من هنا سوف نقف على أهم المحاولات التفسيرية لهذه الظاهرة، من قبل علماء أهل السنة:
1ـ الشوكاني
قد استدلّ الشوكاني على إثبات هذه المسألة بالطريق النقلي فَحَسِبَ العلم بالغيب فراسة فاستدل بقوله (ص): «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله» ويضرب لها مثالاً بالعلم الذي امتلكه الصحابي حذيفة بن اليمان، على أنه كان يعرف المنافقين بالفراسة.
والصحيح أن الفراسة غير العلم الذي عند حذيفة، فعلمه بهؤلاء كان قد أخذه من النبي (ص)، للياقة في حذيفة وهو موهوب منه سبحانه، فالعلم من هذا اللون غير الفراسة، وإن كانت الفراسة ضرباً من ضروب المنح الإلهية.
ثم يظهر خلط آخر في كلام الشوكاني بأن الكرامة أو المكاشفة يعتريها الشيطان، فبناءً على ذلك نقول: إن صاحب العلم الحضوري الموهوب للمعصوم عن الخطأ لا يعتريه الشيطان، فعلمه غير الكرامة أو المكاشفة المقصودة في كلام الشوكاني.
وأما استفادته لصحة الولاية أو الكرامة بالإخبارات الموافقة للواقع دليلاً على صحة المكاشفة، فهذا بعيد لأن العلم الذي عند حذيفة يختلف عن العلم الذي عند غيره، فحذيفة لم يعرفهم بالمكاشفة وإن كان إخباره موافقاً للواقع كما هو صاحب العلم الحضوري أو الذي امتلك منه بقدر، وإليك ما قاله الشوكاني:
إنّ المكاشفات أمرٌ ممكن الوقوع لا يجوز لأحد انكاره، ومن الأمثلة على ذلك الصحابي حذيفة بن اليمان ومعرفته بالمنافقين، لذا نقول: ليس لمنكر أن ينكر على أولياء الله ما يقع منهم من المكاشفات الصادقة الموافقة للواقع، ففي ذلك حديث النبي محمد (ص): «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله» ولكن لابد من عرض المكاشفات على الشرع للتثبت منها[10].
قد يقود تلبيس الشيطان بعض الناس عند قوة وجدهم وغليان عاطفتهم الى أنواع التبصير والحركات المستغربة التي لا تتوافق مع أحكام الإسلام مما يسمى شطحات وعندهم أنها رموز وأن ظاهرهم لا يعبر عن حقيقة حالهم، ولكن هذا السلوك المسمّى شطحات هو ما أفسد على كثيرين عقيدتهم فقادهم الى ردّة عن الإسلام[11].
2ـ ابن تيمية
فقد قسّم ابن تيمية الأفعال الخارقة للعادة الى قسم المكاشفة التي هي من جنس العلم والى قسم التصرفات التي هي من جنس القدرة والملك، وقسم من هذه الأفعال ما يرجع الى جنس الغنى[12]، وفي موضع آخر قال: وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الاُمور إن استعان بها على ما يحبه الله ويرضاه ويقرّبه إليه ويرفع درجته ازداد بذلك رفعة وقرباً الى الله ورسوله، وإن استعان بها على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش استحق بذلك الذمّ والعقاب.
ولذا كثيراً ما يعاقب أصحاب الخوارق تارةً بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة تسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة الى العامة، وتارة ينزل الى درجة الفسّاق، وتارة يرتد عن الإسلام[13].
هذا التقسيم للأعمال الخارقة للعادة أو ما يسمى بالمكاشفة يغاير تماماً ما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (ع)، لأن الله لا يسلب العصمة من المعصوم المتضمنة للعلم الحضوري بعد أن استحقها بتقدير منه سبحانه.
والعصمة تنفي ـ كما هو العلم الحضوري الموهوب الذي تضمنته العصمة ـ أن يوظف (العلم) خلاف الإرادة الإلهية، لأنه علم استحق به المعصوم عصمته والمولى يمنح العلم للإمام المنصوص عليه من النبي (ص)، لغرض تصديق النبوة وتطبيق ما جاءت به والإرشاد إليها من قبل الإمام، فالسلب للعلم يتنافى مع الغرض الإلهي الذي لابد من أدائه عن طريق وجود المعصوم بعد النبي (ص).
لكن يمكن حمل كلام ابن تيمية للخوارق بأنها من نوع آخر لا العلم الموهوب الخارق للعادة والذي هو من لوازم العصمة، حسبما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (ع).
3ـ ابن أبي الحديد
لم يتناول ابن أبي الحديد المسألة بتفاصيلها، وإنّما اقتصر على نفي المعارضة بين قوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا…) وبين علمه (ص) بفتح مكة وما سيكون من قتال الناكثين والمارقين.
فيقول: إن الآية غاية ما تدل عليه نفي العلم بما يكون في الغد، وأما إذا كان بإعلام الله عزّ وجلّ فلا، فإنه يجوز أن يُعلم الله نبيّه بما يكون[14].
وتناول المسألة بهذا المقدار لا يفي بالقدر المطلوب، إلاّ أن جمعه بهذه الطريقة لا يتعارض مع ما يذهب إليه أتباع مدرسة أهل البيت (ع).
4ـ ابن خلدون
فيفهم الولاية والمكاشفة والعلم بالغيب والاتصاف بهذه الاُمور، على أنها لا تستلزم تحصيل العلم ولا الاتصاف بالسلوك السوي المنسجم مع أوامر الرسالة ونواهيها، لذا يؤكد بأن الله منح هذه الولاية والمكاشفة والعلم بالغيب لناس معتوهين، ومن هؤلاء:
(قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء أو هم مع ذلك صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين، ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء، فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب. وربما يفكر الفقهاء أنّهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية لا تحصل إلا بالعبادة، وهو غلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها)[15].
وطبيعي أن الولاية والمكاشفة التي يعنيها ابن خلدون في كلامه غير الولاية والعلم عند المعصوم، الذي لا تفكيك بين علمه الموهوب منه سبحانه وبين سلوكه وتصرفاته العملية، فالعلّة المنتجة للسلوك هي العلم والقاطعية بوجود الشيء وانكشافه، ثم الحاجة الى تحصيله عند ذاك يحدث السلوك والمحركية، وليس بصحيح أن السلوك يتأتّى بعلّة عدم العلم أو أن سلوكه يخالف علمه وإلاّ فهو كالذي يقطع بوجود الماء خلفه وهو محتاج إليه فيذهب الى غير وجهته.
5ـ الفخر الرازي
ما يقرره الفخر الرازي في تفسيره[16] فإنّه محاولة تقريبية لإثبات الكرامة في القرآن لا أكثر، والذي نريده هو إثبات العلم الموهوب منه سبحانه كصفة تلازم المعصوم، فالذي ينفعنا من بحثه هو مجرد إمكانية حصول الكرامة لغير المعصوم، كما أن الكرامة لا تصلح كمورد لإثبات الولاية لأحد من الناس .
وهذا المبنى يخالف مذهبنا في إثبات الولاية التي لا تثبت إلاّ بالنصّ من قبل الرسول (ص)، الكاشف بدوره عن العصمة المتضمنة للعلم الحضوري، ولهذا لم تكن الكرامة كطريق لإثبات الولاية عندنا.
الاستنتاج
أن النفس الإنسانية وفق ما يحققه علم النفس الفلسفي لها مقامات ورتب، وتتصف بقدرتها على إدراك الكليات، وعليه، فإن نفس الإمام تختلف عن سائر النفوس من جهة سعة الإدراك والاحاطة بالواقع والتجرد التام عن المادة.
وأما المنظور غير الإمامي لمسألة العلم بالغيب فهو يؤكدها بما لا يقبل الشك بأن العلم بالغيب قد منح لا للأنبياء فحسب، بل لاُناس غير معصومين أيضاً، إلاّ أن العلم أو الانكشاف الذي قالوا به لا يحقق الولاية، وإنّما تتحقق الولاية بالنص، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى أنهم تناولوه بعنوان الكرامة والانكشاف لا العلم الحضوري الذي يرافق العصمة عندنا.
الهوامش
[1] الروم، 7.
[2] السجدة، 24.
[3] الأنعام، 75.
[4] التكاثر، 5 ـ 6.
[5] الحجر، 21.
[6] الأنعام، 59.
[7] النمل، 40.
[8] يس، 12.
[9] الطباطبائي، علم الإمام ونهضة سيد الشهداء، ص30.
[10] الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص249.
[11] الشوكاني، قطر الولي على حديث الولي، ص250.
[12] ابن تيمية، فقه التصوّف، ص298.
[13] ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص151.
[14] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص427.
[15] ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ج1، ص110.
[16] فخر الرازي، التفسير الكبير، ج21، ص91.
مصادر البحث
1ـ ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1378 ه.
2ـ ابن تيمية، أحمد، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دمشق، مكتبة دار البيان، طبعة 1405 ه.
3ـ ابن تيمية، أحمد، فقه التصوّف، بيروت، دار الفكر، طبعة 1417 ه.
4ـ ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الرابعة، بلا تاريخ.
5ـ الشوكاني، محمّد، قطر الولي على حديث الولي، تحقيق إبراهيم هلال، بيروت، إحياء التراث العربي، بلا تاريخ.
6ـ الطباطبائي، محمّد حسين، علم الإمام ونهضة سيد الشهداء (ع)، بيروت، دار المحجة البيضاء، الطبعة الأُولى، 2010 م.
7ـ فخر الرازي، محمّد، التفسير الكبير، الرازي، الطبعة الثالثة، 1420 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الموسوي، عبد الرحيم، علم الأئمة الاثني عشر (ع) بالغيب، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.