- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 12 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
المولد والنشأة
ولد عام ۱۹۶۴م في صفاقس بدولة تونس، ترعرع في أسرة مالكية المذهب، واصل دراسته الأكاديمية حتى أتم الثانوية ثم دخل الجامعة في فرع العلوم الطبيعية.
تبلور اهتمام الأخ الأسعد بعد بلوغه سن الرشد في مجال مطالعة الكتب والمقالات المختصة بالعلوم الحديثة والأفكار المعاصرة المهتمة بشأن طرح الايديولوجية من المنظور الاسلامي، وجعل يتصفّح ما يُقال في هذا المجال، وجعل يبحث حول التاريخ ونواميسه وقوانين حركته ليصل إلى رؤية شمولية حول التاريخ الذي يندمج فيه الانسان من جديد في الكون مع الله وبالله جل جلاله.
البحث عن الوعي الاسلامي:
حاول الأخ الأسعد أن يصل إلى الوعي الاسلامي الذي يقود الحياة إلى آفاق مستقبلية رحبة وأن يُرقي مستوى معرفته من أجل الإحاطة بالنظم الفكرية والثقافية والحضارية الشاملة للاسلام، والتي تخلّص الانسان والمجتمع وتبشّر بحياة سعيدة عادلة.
واجتهد الأخ الأسعد في رحلة بحثه هذه أن يتعرّف على الشخصيات المتبحرة في هذا المجال، فتعرّف خلال بحثه على كتب السيد محمد باقر الصدر (قدس سرّه الشريف)، فوجد انتاجه يشكل نسيجاً متماسكاً لمدرسة إسلامية متكاملة الأبعاد. فانبهر بشخصيته وذاب في عطائه الفكري.
وكانت من جملة المواضيع التي نالت اعجاب الأخ الأسعد من كتب السيد محمد باقر الصدر هي مسألة التجديد الكلامي والمضامين والأفكار الاعتقادية التي خاضها في ضوء منهجه الجديد.
ومن هذا المنطلق انفتح الأخ الأسعد على التراث الشيعي، وبدأ يتعرّف بالتدريج على اصول ومبادىء هذا المذهب، والمرتكزات الفكرية التي يعتمد عليها اتباع هذا المذهب.
معرفة الامامة:
تعرّف الأخ الأسعد خلال مطالعته لكتب السيد محمد باقر ومراجعته لباقي الكتب الشيعية على مسألة الإمامة ومكانتها في الدين، وتبيّن له أن الإمامة كالنبوة حاجة حضارية متأصلة في حركة المجتمع والتاريخ، وأن الإمام كالنبي شهيد وخليفة لله في الأرض من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة ضد الجاهلية والانحراف بكل محتواه الفكري والنفسي وبكل جذوره ومظاهره المختلفة من استبداد واستغلال، غير أن جزء من دور الرسول يكون قد اكتمل وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها، فالوصي ليس صاحب رسالة ولا يأتي بدين جديد بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التي جاء بها الرسول.
دارسته لموقف الرسول ازاء الخلافة من بعده:
واصل الأخ الأسعد بحثه حول الإمامة، ثم احبّ أن يتعرّف على موقف النبي(صلى الله عليه وآله)من الخلافة، فرأى أن الأمر لا يخرج من ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: الطريق السلبي وإهمال أمر الخلافة، وهذا لا يمكن قبوله في حق رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأنّه ناشىء من أحد أمرين: الأمر الأوّل: أن يعتقد الرسول أنّ ذلك غير مؤثر في مستقبل الرسالة، الأمر الثاني: نظرته للدعوة نظرة مصلحية ولا يهمه إلاّ أن يحافظ على الرسالة ما دام حياً ولا يعنيه مستقبلها وحمايتها من بعده.
الاحتمال الثاني: الموقف الإيجابي المتمثل في نظام الشورى، ولكن الأخ الأسعد خلال استقراء جملة من الشواهد من تاريخ الرعيل الأول ومواقفه لم يجد أن الرسول قد طرح هذا الأمر أو بيّن له الطريقة الخاصة للاتباع، ولم يجد سوى النصوص المصرّحة على خلافة الإمام علي (عليه السلام) من بعده.
الاحتمال الثالث: الايجابية المتمثّلة في اعداد من يقود الأمة، ويقول الأخ الأسعد: وجدت أن هذا الطريق هو الطريق الوحيد الذي ينسجم مع طبيعة الأشياء، ويعقل في ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبي(صلى الله عليه وآله)، وهو أن يقف النبي(صلى الله عليه وآله)من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً، فيختار بأمر الله سبحانه وتعالى شخصاً يعدّه اعداداً رسالياً وقيادياً خاصاً لتمثّل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية.
وكانت من جملة الشواهد التاريخية والنصوص المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والتي دفعت الأخ الأسعد للتثبت من صحة هذا المسلك هي حديث “الدار” وحديث “الثقلين” و”المنزلة” و”الغدير” وغيرها.
صعوبة التحول الفكري:
لم يكن من السهل للأخ الأسعد بعد اكتسابه القناعات الجديدة أن يتحرّر من الجانب العاطفي الذي كان يشدّه بمعتقداته السابقة، ولكنه وقف بكل صمود وتحدي ازاء كل التيارات التي حاولت أن تسلب منه القناعات التي توصّل إليها عبر الأدلة والبراهين الساطعة.
واستعان الأخ الأسعد بالله تعالى، فشعر بعدها أنه يمتلك القدرة على تخطي كافة الحواجز والعقبات التي وقفت بوجهه لتصرفه عن السير باتجاه الحقيقة.
اعلان الاستبصار:
ورغم الموانع النفسية التي واجهها الأخ الأسعد خلال اتخاذه القرار النهائي بشأن الانتماء المذهبي، لكنه واصل سيره نحو الحق هادىء النفس، قوي الحجة، ثابت الجنان، واعلن عام ۱۹۸۴م في تونس اعتناقه لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ثم سافر إلى سوريا وأقام في دمشق بجوار مرقد العقيلة زينب بنت الإمام علي (عليه السلام) والتحق بالحوزة العلمية الموجودة هناك من أجل تلقي علوم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) والالمام بسيرتهم ومنهجهم وتراثهم الذي جاؤوا به ليخرجوهم من الظلمات إلى النور.
مؤلّفاته:
(۱) “التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر(قدس سره)”:
صدر عن مركز الأبحاث العقائدية ضمن سلسلة الرحلة إلى الثقلين.
وهو دراسة تحليلة تستهدف الكشف عن أوجه التجديد والإبداع منهجياً ومفاهيمياً في دراسة اصول الدين عند الشهيد الصدر.
ويحتوي هذا الكتاب على ثلاثة فصول وخاتمه:
الفصل الأول: مراحل علم الكلام.
الفصل الثاني: معالم التجديد المنهجي.
الفصل الثالث: المضامين الجديدة في ضوء المنهج الجديد.
الخاتمة: على طريق التجديد الكلامي.
(۲) “المنهج الجديد في تدريس العقائد”: مخطوط.
(۳) “فصول في ثقافة الانتظار”: مخطوط.
وله أيضاً العديد من المقالات في مجلة الثقافة الاسلامية الصادرة في دمشق ومجلة المنهاج الصادرة في بيروت، ومجلة النور الصادرة في لندن.
وقفة مع كتابه: “التجديد الكلامي عند الشهيد الصدر(قدس سره)”
يقدّم الكاتب لكتابه هذا، فيقول:بدأ التاريخ في المشرق… وأذن التاريخ بنهايته في الغرب نهاية تمخضت في تحولات سياسية خطيرة عرفها المعسكر الاشتراكي… ولا نزال نترقب تمثلاتها في المعسكر الرأسمالي… بدأ التاريخ في المشرق بعودة الوعي وعودة الإسلام يقود الحياة إلى آفاق مستقبلية رحبة… ويؤسس لنظم فكرية وثقافية وحضارية شاملة… تخلص الإنسان والمجتمع.. وتبشر بحياة سعيدة عادلة.
لقد ساهم في صنع هذه اللحظة التاريخية العظيمة من فجر هذه الأمة رجالات كثر.. يشمخ على رأس قائمتهم… (محمد باقر الصدر(قدس سره)) الذي استشهد ليمْنَحَ كيان الأمة الإسلامية نفحة من روحه الطاهرة.. فيشارك إلى جانب آخرين في بعث الحياة في هذا الكيان.
لقد مثل باقر الصدر نموذجاً متميزاً من منظري الساحة وعلماً بارزاً في سماء نهضتها الفكرية وانبعاثها الحضاري.
وبعد عقدين من رحيله لا يزال انتاج باقر الصدر يشكل نسيجاً متماسكاً لمدرسة إسلامية متكاملة الابعاد.. وبالرغم من التطورات الثقافية والفكرية التي عرفها العالم منذ استشهاده إلاّ أن مشروعه الفكري لا يزال يمثل من عناصر القوة والجدية ما يبقيه حاجة مستمرة إلى قراءة جديدة…
ثم يتحدّث عن الجانب الفكري والكلامي بالخصوص عند الشهيد الصدر(قدس سره)، فيقول:
يمتاز بأنه أسس لنقلات منهجية خطيرة خاصة على مستوى نظرية المعرفة، حيث أنّه بنى لنفسه نظرية خاصة في المعرفة (المذهب الذاتي) طبقها على العديد من المسائل في علم الكلام في بحوثه المتفرقة وهي ميزة يفتقدها غيره من المجددين.
إن باقر الصدر رغم عدم امتلاكه أثراً متكاملا لتجديد المنهج الكلامي وطرق مسائله وفق منظوره الجديد لكن ما تركه من نتاج عقائدي متناثر في مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العديدة يشكل أرضية صلبة لنقد المنهج القديم، وصياغة النهج الجديد، وقراءة لأصول الدين من وجهة نظر مبتكرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.
لقد تحولت لوحة أصول الدين في منهج الصدر إلى نظريات متكاملة في الثورة، والتغيير الاجتماعي والقيادة والخلافة والحياة..
وفي هذا السياق وفي مجال البحث العقائدي يتجلى إبداع (محمد باقر الصدر) في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجية كبرى من شأنها أن تسهم في أرساء أسس جديدة لعلم عقائدي جديد.
وباستقراء الانتاج الكلام والعقائدي للسيد محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه يمكن أن نستكشف: خمس نقلات منهجية أساسية:
أولا: من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذاتي
ثانياً: من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي ثالثاً: من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي رابعاً: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع خامساً: من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية.
ونقف هنا بعض الشيء عند النقلة المنهجية الأولى.
من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتي:
يقول الكاتب في هذا المجال:
في كتاب فلسفتنا تبنّى باقر الصدر النظرية الأرسطية في المعرفة حيث سلّم بالبديهيات الست، وضرورة مبدأ العلية، ومسألة: بداهة الواقع الخارجي، لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري وخاصة الكلامي الذي تأثر بالمباحث المنطقية والفلسفية إثر ترجمة التراث اليوناني. واتخذ طابعاً جدلياً وتطرف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الارسطي حتى سقط في التجريد المطلق، والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.
“لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكرون الإسلاميون، وقطع مع هذا التراث الطويل بأطروحته المتميزة: الأسس المنطقية للاستقراء، والذي قال عنها باقر الصدر نفسه.. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة البشرية لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال الفي سنة”(۱).
ليس كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، كما قد يوحي عنوانه دراسة لمشكلة الاستقراء فحسب، وحل لقضية التعميم الاستقرائي، وانما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر: المذهب الذاتي في المعرفة: إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجريبي والمذهب العقلي.
مقارنة بين المذهب الذاتي والمذهب العقلي:
سنحرّر هذه المقارنة في النقاط التالية:
أولا: تحديد مصدر المعرفة: فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي حول وجود قضايا وإدراكات قبلية التي تمثّل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.
ثانياً: يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي، فالمذهب العقلي يستند في هذا التعميم إلى مبادىء ثلاثة: مبدأ السببية ومبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار، ومبدأ: ان الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة، ويعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة، ومستقبل برهانيا عن مبدأ السببية، ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القياس حسب المنطق العقلي ينطلق باقر الصدر ليشيد نظريتة في المعرفة.
ثالثاً: إن المذهب العقلي يؤمن اساساً بالتوالد الموضوعي في المعرفة، والقياس هو العمدة في الاستدلال، وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا، وكبراه ان الصدفة لا تتكرر باستمرار.
والتلازم الموضوعي يعني أنه اعتماداً على التلازم بين قضية وأُخرى، أو بين قضية ومجموعة قضايا أخرى يمكن أن تحصل معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضية أو القضايا التي تستلزمها. مثال ذلك من قولنا: (سقراط انسان) و(كل إنسان فان) نستنج ان (سقراط فان)، فهذا توالد موضوعي لأنه ناشىء عن التلازم بين الجانب الموضوعي للمقدمات والجانب الموضوعي للنتيجة. (فالتوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي، لأن النتيجة دائماً ملازمة للمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قياسية(۲).
أما التوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي أنها الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا فهي تؤمن بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج دون تلازم في الجانبين الموضوعيين والمقصود من الجانب الذاتي الادراك. في حين ان المنطق الأرسطي يعتبر أن هذا التلازم الذاتي دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة وهكذا حاول المنطق الارسطي أن يفسّر كل معارفنا بأنها إمّا أن تكون أولية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي. أما المذهب الذاتي فيؤمن: بوجود معارف أولية تمثل الجزء العقلي القبلي من المعرفة (مبدأ عدم التناقض)، وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي (مثال ذلك نظريات الهندسة الاقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة)، وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي (التعميمات الاستقرائية) وهي تهم أكثر معارفنا.
رابعاً: إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأولية يقينية: فهو يُرجع بداية المعرفة إلى قسمين: أحدهما: المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال. والآخر: نفس الخبرة الحسية بالموضوعات، فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسيّة والسحاب في السماء هو موضوع هذهِ المشاهدة، ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أولية وليست مستدلة، وأما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلة بطريقة استقرائية، ومع تمسك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية، لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية ويتصور المذهب الذاتي المعرفة الأولية احتمالية في مجالين: المجال الأول: مجال الخبرة الحسيّة والثاني مجال القضايا العقلية الأولية التي يكون ثبوت المحمول فيها للموضوع ثبوتاً مباشراً دون حدّ أوسط. هذه القضايا التي لا يمكن اثباتها باستنباط عقلي قد تكون متقدمة بدرجة عالية من التصور، وكذلك بدرجات أقل (وما دامت بعض المعارف الأوليّة بالامكان أن تحصل بقيم احتمالية في البداية فمن الممكن تنمية هذه القيم الاحتمالية وفقاً لنظرية الاحتمال، فكلما وجدت احتمالات تتضمن تلك المعرفة الأولية المحتملة ازدادت قيمتها الاحتمالية(۳).
ومن المهم ونحن نتحدث عن نظرية المذهب الذاتي كنقلة منهجية في المبحث الكلامي أن نلخص طريقة التوالد الذاتي للمعرفة.
ذكرنا سابقاً أن المذهب الذاتي يرى أن أكثر معارفنا تتوالد بطريقة ذاتية لا موضوعية، وهذا التوالد يمر بمرحلتين مرحلة موضوعية ومرحلة ذاتية: (إن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين إذ تبدأ أولا مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير ان طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين)(۴).
مضامين جديدة في ضوء المنهج الجديد:
يبين الكاتب ذلك بالقول:
مع تحقق النقلات المنهجية الهامة كان لابد لعلم الكلام أن يتجدد لا في آليات البحث فقط وانما في المضامين والمفاهيم، حتى انه يمكن القول أن (العقيدة) اضحت في تعريفها كنظرية للانسان والحياة والثورة أقرب ما تكون من قاعدة للنهضة والتقدم والتغيير.
ولكن كيف يمكن أن ندرس المضامين الجدية والمفاهيم الناتجة عن المنهج المبتكر؟ خاصة وأن العقيدة في ضوء هذا المنظور الجديد تتقاطع مع الرؤية الكونية وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ والنظام الاجتماعي.
إن دراسة هذه المضامين خارج الاطار الكلاسيكي (التقسيم الخماسي) يجعلنا نواجه صعوبات ما.. أدناها انه لن تتضح العلاقات بين المطالب العقائدية والمجالات الأخرى.
خاصة في ظل العقليّة القديمة التي تشكلت عبر قرون عديدة ورؤيتها المسبقة لأصول الدين في تعيناتها الثابتة، في حين أن المشروع الفكري العام لباقر الصدر يستند إلى حلقات متلاحمة ومتراصة تحتل فيها العقيدة (الرؤية الكونية) إلى جانب نظرية المعرفة الأسس الجذرية للبناء الفكري العام في شتى ميادين الحياة (اجتماع، سياسة، اقتصاد… الخ).
لأجل ذلك حافظنا على الاطار القديم للتصنيف المعروف في أصول الدين (اللوحة الخماسية) وهذا سيساعد على تلمس معالم التجديد العميق الذي أحدثه باقر الصدر في مستوى المفاهيم والمضامين، والتي لا تقل أهمية التجديد في مجالها عن التجديد من المناهج والآليات. لأن السيد باقر الصدر يولي دائماً المفاهيم أهمية خاصة.. ويعتبرها قاعدة السلوك والخط الذي يختاره ويشقه الانسان في الحياة.
وسوف نقف مع بعض ما أورده في الأصل الأول.
التوحيد:
أدرك القدماء أهمية التوحيد ومحوريته لكل الأصول الاخرى فسمّوه: أصل الأصول. واطلق على العقائد اسم (علم التوحيد)، لأن الأصول الاخرى متوقفة عليه. وعرّف بعضهم علم الكلام بأنّه العلم الذي يبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ويندرج تحت أفعاله: النبوة والامامة والمعاد، لانها تمثل تجليات الفعل الإلهي في الكون والحياة وما بعد الحياة.
يلتقي باقر الصدر مع رؤية القدماء حول مركزية التوحيد، ويفجر في كتاباته مفاهيم عديدة وتصورات مستجدة تواكب المعركة التي يعيشها الإسلام في عصره الحالي ولحظته التاريخية.
ويختار القضية التالية كعنوان للتجديد في مستوى هذا الأصل:
التوحيد والمثل الأعلى المطلق:
نظرة جديدة تلك التي يطرحها باقر الصدر عبر مفهوم (المثل الأعلى المطلق)، فالمجتمع والفرد سواء بسواء يتشخص سيرهما، ومعالم هذا السير من خلال اختيار المثل الأعلى (فبقدر ما يكون المثل للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً)(۵). فالمثل الأعلى هو محور أي حركة تاريخية لأنه يحدد غاياتها وأهدافها، وبدورها هذه الأهداف هي التي ترسم حدود الانشطة والحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.
لقد صنف المثل العليا إلى ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: المثل الأعلى المنتزع من الواقع المعيش بكل ما يحويه من ظروف وملابسات.
ـ القسم الثاني: المثل الأعلى المحدود هذا النوع ليس تعبيراً تكرارياً عن الواقع كما هو القسم الأول بل هو تطلع للمستقبل، لكنه منتزع عن جزء من هذا الطريق المستقبلي الطويل.
ـ القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق: الذي تؤمن به عقيدة التوحيد وهو الله جل جلاله.
النوع الأول يمثل محاولة لتجميد الواقع، ويكون المستقبل تكراراً للواقع و(هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع، وتحويل ظروفه النسبية إلى مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية أن تتجاوز الواقع، وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع)(۶).
إن تبني هذا النوع من المثل العليا يرجع إلى أحد سببين:
أولا: سبب نفسي: وهي حالة الخمول والالفة التي تجعل المجتمع يعيش حالة ضياع فينغلق على آلهة ينتزعها من واقعه يحوّلها إلى حقيقة مطلقة، وقد عبّر القرآن الكريم عن ظاهرة تقديس الواقع الموروث وتحويل رموزه النسبية إلى حقائق مطلقة في آيات عديدة(۷).
(قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْـاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: ۱۷۰).
السبب الثاني: اجتماعي ويتمثّل في التسلط الفرعوني: فالفراعنة يرون في التوحيد تجاوزاً للواقع الذي يسيطرون عليه، وبالتالي خطراً يهدد سلطانهم ويزلزل كيانهم، فيكون من مصلحتهم أن يغمضوا عيون الناس عن أي أفق وراء الواقع.. ولن يحصل ذلك إلاّ بتحويل هذا الواقع إلى مطلق إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه.. ففرعون يحاول دائماً أن يعبىء الجماهير ويؤطرها في ظل وجوده ورؤيته هو (قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَ مَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: ۲۹)، (وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَـأَيُّهَا الْمَلاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرِي) (القصص: ۳۸).. إنه خط الطاغوت في التاريخ الذي يسعى لتجميد حركة المجتمع البشري، وتحويل الواقع إلى مطلق، وسجن الجماعة البشرية في ضيق الماضي وحُدُودِ رموزه.. هكذا تتحول معركة التوحيد والكفر إلى معركة بين قوى التقدم وقوى التآمر والجمود، وتكون (الفرعونية) بكل مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسة.. المؤسسة وتحررها الرسالي.. إن مصير الأمم التي تخضع لهذه المثل العليا المنخفضة إنها تتحول إلى ما أسماه(قدس سره).. (شبح أمة) تعيش الفرقة والتمزق، لأنه بغياب عقيدة التوحيد.. ينتفي الإطار الذي يوحد صفوف الأمة، و(يبقى كل إنسان مشدود إلى حاجاته المحدودة إلى مصالحه الشخصية إلى تفكيره في أموره الخاصة، كيف يصبح؟ كيف يمسي؟ كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ كيف يوفر الراحة والاستقرار لأولاده ولعائلته أي راحة؟ أي استقرار؟ الراحة بالمعنى الرخيص للراحة والاستقرار بالمعنى الرخيص من الاستقرار.. يبقى كل انسان سجين حاجاته الخاصة سجين رغباته الخاصة..)(۸)، ويحدد باقر الصدر هذه الأمة النهائي بأحد الإجراءات الثلاثة التالية:
الاجراء الأول: ان تتداعى الأمة لغزو عسكري من الخارج، لأن الأمة أفرغت من محتواها وصار كل فرد يفكّر في ذاته.
الاجراء الثاني: الذوبان والانصهار في مثال أعلى أجنبي مستورد.
الاجراء الثالث: أن ينشأ في اعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمة.
أما النوع الثاني (المثل الأعلى المحدود) فقد نجد لتبني المجتمعات والأفراد لهذا النوع عذراً، لأنّهم لا يستطيعون أن يستوعبوا المطلق بحكم محدودية الأذهان، ويكمن الخطر هنا أيضاً في أن يضفي على هذا المستقبل القريب الاطلاق من جميع الجهات، لا شك أن هذا النوع يعطي للجميع طاقة نحو المستقبل ودفعاً، ولكن في حدود آفاق هذا المثل الأعلى، لأنه سرعان ما يبلغ مداه الاقصى فيتحول إذا لم نتجاوزه إلى عائق يعطل المسيرة ويشدها إلى عهود تكرارية.
بهذه الموازنة بين هذه الأنواع المختلفة للمثل العليا يبرز الصدر الأهمية الحضارية لعقيدة التوحيد، وللمثل الأعلى المطلق الذي يجعل من الله غاية للمسيرة (يَـأَيُّهَا الاِْنسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ) (الانشقاق: ۶) بكل ما يعنيه ذلك من تألق المسيرة وديمومتها وتكاملها اللامحدود.
إن عقيدة التوحيد تصنع التوافق بين الوعي البشري والواقع الكوني الذي يفرض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة ثابتة.. ولذلك عبرت الآية عن الكدح بصيغة خبرية لا بصيغة إنشائية. فالبشرية تكدح نحو الله شاءت أم أبت حتى الذين يتمردون على الله هم يسيرون نحو الله ولكن من حيث لا يشعرون.. لأن كونه سبحانه مثلا أعلى حقيقة كونية على الانسان أن يعيها ويرتبط بها.. (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْـَانُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )(النور: ۳۹).
وعقيدة التوحيد عندما توحد بين الوعي والواقع وبين الاعتقاد والحقيقة.. يحدث تغيراً كمياً وكيفياً على مسيرة الإنسان، فالمثل الأعلى المطلق يحفز الانسان والمجتمع نحو التقدم ويضفي على المسيرة اندفاعاً وتجدداً لا ينضب، فعلى المستوى الكمي يفتح آفاقاً لا نهاية لها، لأنه كلما قطعت المسيرة شوطاً نحو الله انفتحت أمامها أشواطاً جديدة.. وتسقط حينئذ وتتهاوى كل الاشكال من الالوهيات المزيفة على هذا الطريق الزاحف نحو المطلق (من هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع كل اشكال الآلهة، والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت أن تحدد من كمية الحركة من أن توصل الحركة إلى نقطة ثم تقول قف أيها الإنسان)(۹).
(أما التغير الكيفي تتجلى في حل الجدل الداخلي للإنسان بإعطاء الشعور الداخلي بالمسؤولية الموضوعية، لأن الانسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مر التاريخ)(۱۰).
وسبب ذلك أن المثل الأعلى المطلق حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان، وبذلك يتفق الشرط المنطقي للمسؤولية وجود جهة عليا يؤمن هذا الإنسان بأنه مسؤول أمامها.
على طريق التجديد الكلامي:
إن أطروحة الصدر الكلامية لا تزال تختزن داخلها مشاريع عدة تستوجب جهوداً كبيرة لتفجيرها، والرقي بالطرح العقائدي إلى مستويات أعلى قادرة على مقارعة كل التيارات المستحدثة، واقتحام كل الساحات الفكرية والفضاءات الثقافية وتحدي كل المشاريع المضادة..
نعم انه من الطبيعي أن المجددين الكبار يرحلون قبل أن يتموا مشاريعهم الكبرى، لأن مشاريعهم الفكرية والحضارية هي دوماً أكبر من أعمارهم وتحتاج إلى أجيال عديدة تستوفي اغراضها على أيديهم..، ولكن مع ذلك.. لابد من توجه صادق وقوي نحو هذه المهمة حتى نحقق بعد سنين نتائج مثمرة على هذا الطريق.
(۱) محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العلمي للشهيد الصدر، مج۴، ص۱۴۰٫
(۲) محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، ۱۹۸۱، ص۱۳۵٫
(۳) م. ن، ص۵۰۴٫
(۴) م. ن، ص۱۴۱٫
(۵) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، م. س، ص۱۴۵٫
(۶) م. ن، ص۱۴۹٫
(۷) من نماذج هذه الآيات: (المائدة ۱۰۴)، (يوسف ۷۸)، (ابراهيم ۱۰)، (الزخرف ۲۲)، (هود ۶۲)..).
(۸) م. ن، ص۱۶۱٫
(۹) م. ن، ص۱۸۵٫
(۱۰) م. ن. ص۱۸۵٫
المصدر: مركز الأبحاث العقائدية