- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
المولد والنشأة
ولد الأخ حسن بن شقرا بتاريخ ۳۰/۰۶/۱۹۴۰ في مدينة قابس،منحدرا من عائلة محافظة عريقة الجذور، و نشا في ظروف أقل ما يقل فيها أنها استثنائية، بالنظر إلى الاستعمار الفرنسي الذي كان جاثما على البلاد، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه،قبل أن يتحول إلى تونس العاصمة، ومن ثم قرر السفر إلى فرنسا بعد ما أتم المرحلة الثانوية باللغة الفرنسية .
اشتغل الأخ حسن موظفا في إحدى شركات التأمين، ثم خبيرا في مجال التامين بعد أن كسب خبرة طويلة في ذلك المجال.
قصة الإستبصار
يقول الأخ حسن متحدثا عن قصة استبصاره :
عندما كنت أحزم أمتعة السفر إلى باريس لم يدر بخلدي في ذلك اليوم أنه سيكون لي طريق أخر غير الذي اخترته لنفسي ومهدت له وعلقت عليه آمالا لا ترتقي إلى شيء سوى اللهث وراء الدنيا وزينتها .وكجل خلق الله الذين لم تنفتح بصائرهم على سر الوجود وحقيقته ، وحتمية الانتقال بين العوالم الثلاثة (الدنيا ، البرزخ ، الآخرة)، ولم يكن إعدادي لرحلتي تلك من قبيل الإعداد لرحلتي القادمة ، بل لعلها لم تدخل في حساباتي …و لم يكن ذلك كله صادرا عن سوء نية مني ولا تطاولا على مقام الربوبية من عبد آبق كل على مولاه … ولكنه كان نتيجة طبيعية لتداخل الخطوط المنتسبة للدين الإسلامية . وصورة واقعية لمجتمعات إسلامية بطم طميمها خضعت أجيالها راغبة أو راهبة لمنطق الأسلمة الذي انتهجته طوابير الأنظمة المنحرفة التي تعاقبت على رقابها ولا فريدا في ذلك الزبد نتيجة للعوامل التي ذكرتها …
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :إلا إن في الجسد لمضغة إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله .”
أيقنت أن المضغة التي بين أضلعي صالحة بفضل الله تعالى ، وقد اختبرتها في مواضع الخوف والرجاء فوجدتها مستجيبة لأمره تعالى داخلة في ميثاق طاعته.
لم أتوقع في يوم من الأيام ، وأنا اخطط لأشياء كنت أراها من الزاوية التي كان يرى بها مجتمعي الذي أنتمي إليه وجيلي الذي يعاصرني ، ضرورية وأساسية أن أصرف عن ذلك التخطيط ، وأحال عنه إلى بحث آخر وتخطيط آخر ، وحياة أخرى ، عرفتني المعنى الحقيقي للحياة فلسفة ووجودا ، والسبب الذي من اجله خلقنا الله تبارك وتعالى .. ولعل أبلغ ما قاله سيد البلغاء وغمام الفصحاء أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الإطار ما نقل عنه من أنه سئل :”بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفت ربي بفسخ العزائم ونقض الهمم، لما هممت حيل بيني وبين همي ، ولما عزمت خالف القضاء والقدر عزمي علمت أن المدبر غيري.”
وأكرم وأنعم به من صرف وتخيير وهداية وتسخير يحال فيها المرء من وجهته الدنيوية المادية إلى التجارة التي لا تبور ..الطريق إلى مرضاة الله تعالى.
عندما كنت أغادر وطني ومسقط رأسي ، ومرتع صباي ومخزون ذكرياتي، كان الأمل الذي يحدوني متعلق بخيوط واهية لا تتجاوز الزينة التي أخرج الله لعباده، لم يكن في حسابي أن أجد بعناية الله تعالى بينها خيطا يوصلني إلى ما رواء ذلك الزائل ، ليوقفني على الحقيقة التي أخذت بيدي إلى الإسلام المحمدي الأصيل، وقيض الله لي التمسك بحبله المتين ، وأخذني إلى عروته الوثقى، وأبدلني من ألطافه ما يعجز القبل عن أداء شكر تلك النعم والمنن، ولولاه لكنت من” الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ” ولقد رأيت من خلال ما مررت به من تجربة وأنا في تأملاتي وبحوثي الدينية ، أن أعزم على كتابة هذه التجربة، واضعها بين يدي كل باحث عن الإسلام الحق ، الذي لم تدنسه جاهلية الطغاة بأدناسها ، ولا أثرت فيه أيدي العابثين من زمر المنافقين والمشركين، من أدعياء التسلط على رقاب المسلمين، غايتي من ذلك إنارة قلوب المسلمين البسطاء ، البعيدين عن الرياء والتعالي ، المتبرئين من الكبر والمستكبرين ، الواضعين أنفسهم موضع العبودية لله تعالى وحده.
لم يكن شغفي بالمطالعة يقف عند حد ، ولا يكتفي بصنف من الكتب ، صحيح أن ثقافتي باللغة الفرنسية كانت تدفعني بداية إلى اقتناء المؤلفات المكتوبة بها غالبا، ولكن ذلك لم يمنعني من قراءة بعض الكتابات العربية .
ذات يوم جاءني أحد الأصدقاء يحمل معه كتابا بعنوان :” la Bible le Coran et la science” لمؤلفه موريس بوكاي ، فقرأته في وقت قياسي ، لما لمست فيه من جدية في تناول الفكر الديني وعلاقته بالعلم ، فقد كان الرجل دقيقا في تحصيل المعاني الصحيحة للمصطلحات القرآنية ، وإيصالها كما هي إلى عقول قرائه.بينما أساء عدد من المترجمين المسلمين وغيرهم ترجمة تلك المصطلحات فلم تؤدي معناها المقصود ، بل كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة العلمية ، وهو ما حاول المؤلف أن يقرن به تلك المصطلحات، فصحح ترجمة “العلق” ودحو الأرض التي أساء ترجمتها غيره ، بما يتعارض والمدلول العلمي الذي أراده الله تعالى معنا اعجازيا في عصر يفتقد ابسط أبجديات العلوم التطبيقية والنظرية، ومن طريف القول أن موريس بوكاي لم يأنس لمعنى دحى الذي حاول البعض إقناعه به فسافر إلى البلاد العربية سعيا منه للوقوف على بعض آثار اللغة العربية التي كادت تندثر مع هجمة الأعداء عليها ، وتفريط أصحابها فيها. فوجد أن معنى دحى لا زال الليبيون يستعملونه في تسمية البيض ، فيطلقون على الواحدة دحية وهي مشتقة من دحى يدحو دحوا أي جعلها كالبيضة ، وبمعنى آخر فان الأرض ليست كروية الشكل بقدر ما هي بيضوية ، فلم يسبقه في هذا الخصوص مترجم غيره..
من خلال ملامستي لأسلوب موريس بوكاي، في البحث بكل تجرد وبصيرة وأناة،أثر ذلك بالنسبة لي في النظر إلى كل مسألة ، وحصلت لدي قناعة تمثلت في أن الحقيقة، لا تدرك إلا بالمعرفة والعلم والتجرد في البحث ، فالرجل أعطاني المثال الذي يجب أن يحتذى في طريقة البحث وتتبع الحقيقة.
يقول بوكاي: “لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم وذلك دون أي فكر مسبق ، وبموضوعية تامة باحثا عن درجة إتقان القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت اعرف قبل هذه الدراسة ، وعن طريق الترجمات أن القرآن الكريم يذكر أنواعا كثيرة من الظواهر الطبيعية ،ولكن معرفتي كانت وجيزة ، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول ، أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا تمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا. أما بالنسبة للأناجيل فما تكاد تفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة، ونعني بها شجرة أنساب المسيح، وذلك أن نص إنجيل متى يتناقض بكل جلاء مع إنجيل لوقا، وإن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض.”
ودفعني حب الاطلاع والتأكد من صحة كلام بوكاي، إلى تصفح عدد من الأناجيل المنسوبة للنبي عيسى عليه السلام، وهو منها براء ، فوجدت فيها كثيرا من التناقضات ، التي تؤكد على أن تلك الكتب هي مختلقة من أناس لم يرثوا تعاليم الأنبياء عليهم السلام ، ولا كانت معارفهم إلهية ، سوى نزر يسير من الأخلاق التي ضمنوها كتبهم للتمويه على الناس ، واختلاف الأناجيل كان لفضا ومعنى، فلا الواحد يشبه الآخر في شيء سوى العنوان. ولم يعد هناك ذكر للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، سوى ما ذكره برنابا في إنجيله مستبدلا اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمصطلح الفرقليط ، أي راكب الجمل.
وتحريف الكتب السماوية لم يكن سببه تقصير الأنبياء عليهم السلام في أداء عهدتهم ، ولا هو نقص حاصل في تشاريعهم ، بل العلة كامنة في انحراف أممهم عن المسار المرسوم لهم ، ومخالفتهم للنهج الذي تركهم عليه أنبياءهم عليهم السلام .قال تعالى :” وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.”.
وحصلت لدي قناعة بأن منشأ اختلاف الناس سياسي مدار صراعه السلطة والحكم ، ولم يكن الدين في ذلك إلا ضحية تلك الصراعات، وكان تحريف الأحكام تأويلها على غير حقيقتها ، السلاح الذي استعمله البغاة من أجل تضليل أممهم .
لم تكن فترة إقامتي بفرنسا تكتسي أهمية ، ولا حصل لي فيها تطور ، أو تغيير عقائدي ، فالمهم بالنسبة لي حصل بعد انتقالي من فرنسا إلى سويسرا، وتحديدا أثناء فترة إقامتي بها.
هناك تطورت علاقاتي وتنوعت بشكل نوعي على وجه الخصوص،فالغربة عامل مهم في صقل الوجدان ، وسبب من أسباب انطلاق الروح والعقل إلى فضاءات متنوعة من المعرفة والتأمل.
علمتني الغربة الاعتماد على نفسي في كل صغيرة وكبيرة، والصبر على كل حال، وبذل الجهد في الظفر بصديق يكون رفيق الدرب، وحافظ السر ، ومعين النوائب.
وقد كنت محظوظا في جميع ذلك، فقد وفقني الله تعالى إلى الكثير من مننه وعطاياه، وخصوصا قلبا منفتحا على الخير وأهله ، وعقلا مرنا يقبل النقاش ويتعامل بالمنطق السليم.
وباعتبار أن المغترب يسعى دائما إلى التقرب من بني جلدته، وأهل ملته لأنهم ملاذه في الشدائد ، وأهل السلوى والمواساة عند المصائب ، فعرفت الكثيرين ، في أماكن متفرقة من سويسرا،
فكرت في أداء مناسك العمرة استعدادا لأداء فريضة الحج على أحسن الوجوه، ولما عرضت علي فكرة السفر إلى الحجاز مع عدد من الإخوة الغاربة وافقت فورا على مرافقتهم للعمرة، وسجلت اسمي في المركز الإسلامي في Lausanne، والذي أسسه مغتربوا شمال إفريقيا ، وكنت أتردد على ذلك المركز لمزيد التعرف على الدين والتفقه فيه ، وكان المشرف عليه يدعى الهرري الحبشي ،قد سيطر عليه مرض الزعامة، فقرب من أبناء بلده ما قوى بهم ظهره ، وثبت مطامعه ، ومن هذه النقطة كان المركز بؤرة للتوترات بين مختلف الأطياف والمذاهب من رواده ، ومسرحا لصراعات من اجل السيطرة عليه ، وامتلاك سلطة القرار فيه،وزاد ذلك الجو المشحون ضغينة وتنافسا غير نزيه من قلقي وحيرتي ،وتساؤلي عن السبب الذي فرق الأمة وجعلها طرائق قددا ، لا تزيد الأعداء إلا شماتة وتشفيا.
سألت عن المسئول عن المركز فقيل لي إنه رجل فاضل ، له بركات وكرامات أكثر من أن تحصى، والمحيطين به لا يتحدثون إلا عن خوارقه التي أشيعت عنه ، كانتقاله بسرعة ويسر من لبنان إلى سويسرا ، دون الحاجة إلى تأشيرة دخول ، وطي الأرض له ومواظبته على الصلوات في مكة المكرمة انه الهرري الحبشي ، ذلك الرجل الذي استطاع أن يستولي على عقول وأفئدة أتباعه بما كان يروجه عن نفسه من ظواهر وقدرات إعجازية ، كطي الأرض له ، فقد حدث انه في عدد من المرات عندما كان مقيما في بيت أحد المغاربة وحلول وقت الصلاة يفتقد الرجل فلا يجده صاحب البيت، وعند ظهوره ، يقول إنه كان يصلي في مكة المكرمة.
لم يتقبل عقلي تلك الكرامات الغريبة على ذلك الشخص ، من ناحية عدم توافق مواقيت الصلاة بين مكة ومدينة لوزان السويسرية، ولم يفلح استنتاجي في إقناع صاحبنا المغربي الذي أسر لي بتلك الكرامات ، رغم محاولاتي لدفعه إلى مزيد من التحري عن ذلك الرجل ،لأنه لم يكن بتلك الدرجة من التقوى، حتى تكون له كرامة كالتي ادعاها لنفسه، بل كان يتعمد الاختفاء عن الأنظار بشكل سري يوحي أنه فعلا لم يكن موجودا في ذلك المكان، طلبا للشهرة ومزيد كسب ولاء الناس له.
وشاءت القدرة الإلهية أن تكشف لي حقيقة ذلك الرجل فعند رجوعنا من أداء مناسك العمرة إلى سويسرا عبر مطار لوزان ، وفي انتظار دورنا إلى المرور من البوابة الأمنية للمغادرة ، وجدنا الهرري الحبشي بصدد المغادرة إلى لبنان، وكانت المفاجئة متمثلة في تعطل الرجل أمام شرطة المطار ، وتعطيل الطابور معه ، فما كان مني إلا أن التفت إلى الأخ المغربي المعتقد لكرامة الرجل وقلت له : “أنظر إلى صاحبك الذي تطوى له الأرض،ويدخل ويخرج من سويسرا بسرعة عجيبة ، كيف لم يستطع طي جواز سفره والمرور من أمام البوابة الأمنية للمطار.
وذلك الاعتقاد لم يكن منفكا عن ظاهرة ابتليت بها الأمة الإسلامية ، وهي التصوف السلبي الذي يستخدمه متصنعوه في إستبلاه البسطاء والسذج، الذين تنطلي عليهم ادعاءات شيوخ الصوفية ، فيتبعونهم ويسخرون أنفسهم وممتلكاتهم في خدمة من يعتقدون أنهم أولياء الله.
من شطحات الصوفية إلى عمى الوهابية
حان موعد السفر إلى بلاد الحجاز ، والذي استأثرت باسمه أسرة لم تخف حقيقتها على الناس، وكان الشوق يكاد يطير بي إلى تلك الربوع قبل أن تطير الطائرة، إنها منة من منن الباري تعالى في أن التحق بالأماكن المقدسة، لأداء فريضة العمرة، وزيارة مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالشكر له أولا وأخيرا .
امتطينا الطائرة ، وتحركت بنا إلى الحجاز في أجواء روحية منعشة، ورغم طول السفرة فلم اشعر بالزمن يمر ، بين تفكر وذكر وشوق.
وحطت الطائرة في مطار جدة، ومنه إلى مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على متن طائرة أخرى ، وفي يثرب مكثنا ثمانية أيام في ضيافة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله وسلم، تلك المدينة التي ما تزال تحتفظ بطابعها القديم في الاحتفاء والفرح بضيوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأمام مقامه الشريف ، شهدت تطاولا عليه وانتهاكا لحرمته ، وتعديا صارخا على المسلمين الذين جاؤوا ليسلموا عليه ، ويتكرر المشهد مع كل الذين يحاولون الاقتراب من شباك الحجرة الشريفة،صيحات الجلاوزة الذين انتصبوا على جانبي الحجرة : القبلة من هنا .. ابتعد يا مشرك . ذلك ما تعلموه من مؤسس ضلالتهم محمد بن عبد الوهاب الذي قال : عصاي هذه انفع من محمد. لذلك فالوهابية يرون أن التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطلب الحاجات عنده ،من البدع والضلالات والشرك الذي يخرج عن الإسلام، وبناء على ذلك الاعتقاد، فهم يتعاملون مع ضيوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى القسوة و الفظاظة .
سمعت الكثير عن تلك الانتهاكات بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضيوفه من الحجاج والزوار والمعتمرين، لكنني لم اصدق كل ما كان يقال، مستبعدا أن يقدم أحد من المسلمين مهما كانت درجة استهتاره، على التعدي على حرمة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، تقدمت إلى الحجرة الشريفة لأسلم وأدعوا، وقد تملكتني أحاسيس وغمرت كياني مشاعر اختلطت فيها الهيبة بوجود النبي والفرح بزيارته ولقائه ،أردت أن أعبر له عن ولائي المطلق الذي لا قيد له، لم أملك نفسي أن بكيت وأنا أقترب من الحجرة الشريفة، فأوقفني الحراس المكلفون بالحجرة الشريفة، ونهرني أحدهم بغلظة قائلا: “القبلة من هنا”. ولما قلت له إنني أريد أن أتوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزوره ، قال لي :” ذلك شرك لا يجوز أن تتوجه للنبي(قال ذلك بدون صلاة عليه) التوجه إنما يكون لله.”
أحسست بالحرقة والغبن ، وتملكني حزن عميق على ذلك التصرف الذي لا مبرر له ، والذي يعتبر انتهاكا لحرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستخفافا بشخصه الكريم، أردت أن أدافع عن حقي في أداء واجبي تجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن أحد المرافقين أسر إلي بان أتراجع عن موقفي ،خشية تطور الأمر إلى الإيقاف والإيذاء ، فقد حصل ذلك مع عدد من المسلمين ،الذين أصروا على إمضاء زيارتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تجب الزيارة. قلت له : أليس هؤلاء على المذهب المالكي السني كما هي الحال بالنسبة لنا؟ فقال لي : لا هؤلاء مختلفون عنا في عدد من المسائل ، والتي بموجبها نسبوا بقية المسلمين إلى الشرك بالله، واستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم .
لم يكن هناك من بد سوى أن أسلم سلاما مختصرا، ومجردا عما كنت أريده ، تفاديا لتطور الخلاف مع أولئك الوهابية الغلاظ .
وعدت من تلك العمرة إلى سويسرا، وعندي قناعة مثبتتة بالدليل المادي تقول: إن الوهابية وهي مذهب أسسه عميل المخابرات البريطانية ابن عبد الوهاب، منحدر من ضلال ابن تيمية الحنبلي، لا تمثل في نظري، غير طريق من طرق الانحراف عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ودينه الخاتم.
في بداية صيف ۱۹۸۷ وبينما كنت في قضاء شأن من الشؤون الخاصة في مدينة” منترو”السويسرية اعترضت طريقي عائلة عربية ظهر من زيها التقليدي أنها سعودية ، فشعرت وأنا ارمقهم بالفخر والاعتزاز، عرب مسلمون يتنقلون إلى بلاد الغرب بأزياء تعبر عن هويتهم بلا عقد ، أعجبت بالموقف ، وبقيت ارقب تنقلات تلك العائلة ، وإذا هي تدخل إلى قصاب سويسري مسيحي لاشتراء اللحم، فصدمت لذلك التصرف، واقترب من المحل ، وانتظرت لحين خروج رب العائلة ، وكان شيخا في الستين من عمره، فحييته وسلمت عليه ، ثم ابتدرته سائلا: لقد رأيت تشتري لحما ؟ فقال :نعم، فقلت له : لكنك اشتريته من قصاب مسيحي ، ليس عنده لحم مذبوح على الطريقة الإسلامية.فقال: ما فيه مشكلة ، سنغسل اللحم بالماء وسوف يطهر.
صعقت من ذلك الجواب ، وتساءلت وقتها عن صحة ما قاله الرجل، وهل غسل الميتة بالماء يعتبر تذكية ، وهل تصح تلك التذكية؟ ومع قلة إلمامي بالفقه وقتها ، لم اصدق شيئا مما قاله ذلك السعودي.
ودفعني الاطلاع إلى شراء كتاب من المكتبة العربية ، عنوانه فقه المذاهب الأربعة، فلم يرفع حيرتي في ما أنا فيه، ولا وجدت فتاوى تجيب عن إشكالات العصر وتجد حلول لها،
بينما أنا منهمك ذات يوم داخل البيت في مطالعة بعض المصادر الروائية ، إذ رن جرس الهاتف ، فأخذت السماعة ، فإذا أنا بصوت رجل شرقي يكلمني ويود التعرف علي، فوافقت على لقائه وأعطيته عنواني على أن انتظره أمام مقر سكناي ، وجاء الرجل على متن سيارة، نزل منها وسلم علي وعرفني نفسه قائلا : عدنان الكاظمي من الكويت. وبادلته نفس التحية والترحيب وقدمت له نفسي ، طلب مني الخ عدنان بعد أن ركبت معه في السيارة قائلا:أنا أريد أن أشتري اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية، فهل ذلك ممكن في هذه الديار؟ فقلت له : نعم ذلك ممكن ، ولكن يحتاج إلى التنقل مسافة للحصول عليه، ولكن لماذا لا تشتري اللحم الذي يبيعه المسيحيون كما فعل الأخ السعودي، ورويت له قصة الرجل.
فاستعاذ الأخ عدنان من ذلك السلوك وقال: أنا مختلف تماما عن ذلك الرجل ، ولست مستعدا للقيام بما قام به حتى لو قضيت مدة إقامتي بسويسرا بدون لحم.
وسألني بعد ذلك عن تديني ومذهبي، فقلت له: إنني لا أعرف من الإسلام إلا القليل ، وأنا الآن في بداية اطلاعي وبحثي وتعرفي، فنصحني بان أقرأ وأبحث عن الحقيقة وسط هذا الركام الذي وصل إلينا من قنوات مختلفة وعلى مدى أربعة عشرة قرنا، مبينا لي بأن الأمة منقسمة إلى طائفتين ومذاهب عدة ، مستدلا بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حول انقسام الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقون في النار.
دللت الأخ عدنان في الأثناء على الطريق إلى إحدى الضياع لاختيار خرفان ، وتكفل أحد الإخوة المسلمين لذبحهم، كنت قد طلبت منه مساعدتنا على ذلك، فكان من لطفه وكرمه أن أعطاه الأخ عدنان أجره ، وأهدى إلينا خروفين، فشكرته على ذلك وودعته.
ثم تعددت اللقاءات مع الأخ عدنان وفي كل مرة اكتشف من خلاله الإسلام من نبعه الصافي ، أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين عرفتهم عن طريق سلوكه وكلامه وشخصه، وعرفني بعد ذلك على عائلته الكريمة ، من خلال دعوة وجهها إلي لزيارته في محل إقامته ، وانبهرت بالالتزام الذي يعيشه الأخ عدنان في وسطه العائلي، وبالروح الإسلامية التي تتحلى بها العائلة بكافة أفرادها، فزاد في ذلك اندفاعي إلى اعتناق خط أهل البيت عليهم السلام ، وتبني إسلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وتعهدني ذلك الأخ الكريم وأحاطني إحاطة لم أعهدها من قبل أن تصدر من إنسان مسلم غيره، وكان في ذلك مقايسة بالنسبة لي بين ذلك السعودي الذي تبيح له عقيدته المنحرفة أكل لحم الميتة لمجرد غسله بالماء، وذلك الهرري الذي أحاط نفسه بهالة من الدعاية الكاذبة…
قال لي الأخ عدنان في أحد الأيام : هل سمعت يوما بالدكتور التيجاني السماوي التونسي؟ فقلت له : لا لم أسمع بهذا الاسم من قبل. فقال: هذا الرجل قد أعلن تشيعه منذ مدة ، وقد كانت له في إطار تعرفه على إسلام أهل البيت عليهم السلام ، سفرات وأبحاث ولقاءات أدت به إلى اعتناق الإسلام الشيعي الاثني عشري. وقدم لي كتابا قائلا: وهذا واحد من كتبه بعنوان:” ثم اهتديت”.
أخذت من أخي وصديقي الكتاب شاكرا له اهتمامه الكبير بي ، ثم خلوت بنفسي لمطالعة الكتاب الذي التهمته بسرعة قياسية ،فكان بحق الانطلاقة الحقيقية نحو التشيع ، والإقلاع الصحيح نحو فضاءات أئمة الهدى ، والوجهة التي طالما بحثت عنها للخروج من دوامة التعبد العشوائي بلا إمامة ولا قيادة ولا بيعة ، تاركا وراء ظهري إسلام بني أمية الذي لا يزال الناس يتعبدون به إلى اليوم على أساس أنه الإسلام الصحيح،ولو خرجوا منه واطلعوا عليه لوجدوه خليطا غير متجانس من أحكام وعقائد لا يمكن أن تبنى بها أمة الإسلام .
ومع ما كان الأخ عدنان يمدني به من كتب ، كان يتعهدني كذلك بالحديث ، والإجابة على أسئلتي واستفساراتي، ولم يتركني إلا وقد ثبتت روحي على المنهاج المحمدي الصافي الذي عليه المسالمون الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، وكانت هدايتي على يديه، مدعومة بكتاب ثم اهتديت للدكتور السماوي، فالحمد لله على نعمة الهداية ، وله الشكر على بلوغ درجة إتباع أهل الولاية وصراطهم المستقيم .