هناك شبه اثيرت حول القرآن الكريم من قبل أعداء الإسلام، فما هي أسبابها، ثم أن هناك روايات تدل على التحريف في مصادر أهل السنة ومصادرنا، فما هو تأويلها وما قيل في بطلانها وإنكارها، ثم ما السبب من تدوين هكذا روايات في كتبنا المعتمدة؟
أسباب نشوء شبهة التّحريف وإشاعتها
من الواضح أن إثارة هذه الشبهة من قبل أعداء الإسلام القدامى منهم والمحدثين تستهدف ما يلي:
1ـ إدانة أهم دليل على حقّانية الإسلام وخلوده.
2ـ إسقاط أهم مصدر للتشريع من الحجّية وسلب الثقة به.
3ـ زعزعة ثقة المسلمين بكتابهم ورمز وحدتهم وأصالتهم، إن لم يستطيعوا كسبهم نحو دينهم الذي أثبت القرآن تحريفهم للكتب السماوية السابقة.
4ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين، حيث يتّهم بعضهم البعض الآخر بأنه يعتقد بتحريف القرآن.
5ـ تربية ذهنية الإنسان المسلم وترويضها على أن تتقبّل المنهج العلماني الذي يتناول النصوص القطعية المقدّسة عندنا بذهنية مشكّكة.
6ـ كما لا يبعد أن تكون هذه الإثارة ردّة فعل من قبل اليهود والنصارى الذين أدان القرآن سلوكهم تجاه كتبهم (التوراة والإنجيل) حيث حرّفوهما، وحين يشكك في سلامة النص القرآني لم يتميّز الإسلام وكتاب الإسلام عن الديانتين اليهودية والمسيحية من هذه الجهة.. قال تعالى: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم)[1].
الموقف من روايات التحريف في مصادر أهل السنّة
نذكر هنا نماذج من الروايات الموجودة في كتب أهل السُنّة، ونبيّن ما ورد في تأويلها، وما قيل في بطلانها وإنكارها، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها:
الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنّها كانت من القرآن وحُذِفت منه، أو زعم البعض نسخ تلاوتها، أو أكلها الداجن، نذكر منها:
الاُولى: أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة
رُوي عن عائشة: «أنّ سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمان النبي (ص) في مائتي آية، فلم نقدر منها إلاّ على ما هو الآن»[2].
وقد حمل ابن الصلاح الزيادة على التفسير، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ما كانت عليه سورة الأحزاب، الأمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها.
الثانية: لو كان لابن آدم واديان
رُوي عن أبي موسى الأشعري، أنّه قال لقُرّاء البصرة: «كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب»[3].
وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث على السُنّة، قال: «إنّ هذا معروف في حديث النبي (ص) على أنّه من كلام الرسول، لا يحكيه عن ربِّ العالمين في القرآن.
وإخبار أبي موسى بأنّه كان ثمّة سورة تشبه براءة في الشدّة والطول، فلو كانت لحصل العلم بها، وما غفل عنها رسول الله (ص) والصحابة وكُتّاب الوحي وحُفّاظه وقُرّاؤه.
الثالثة: سورتا الخلع والحفد
روي أنّ سورتي الخلع والحفد، كانتا في مصحف ابن عباس واُبي بن كعب وابن مسعود، وأنّ عمر بن الخطاب قنت بهما في الصلاة، وأنّ أبا موسى الأشعري كان يقرأهما… وهما:
1ـ «اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك».
2ـ «اللّهمّ إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إنّ عذابك بالكافرين ملحق»[4] .
وقد حملهما الزرقاني والباقلاني والجزيري وغيرهم على الدعاء، وقال صاحب الانتصار: «إنّ كلام القنوت المروي: أنّ اُبي بن كعب أثبته في مصحفه، لم تقم الحجّة بأنّه قرآن منزّل، بل هو ضرب من الدعاء، ولو كان قرآناً لنقل إلينا وحصل العلم بصحتّه» إلى أن قال: «ولم يصحّ ذلك عنه، وإنّما روي عنه أنّه أثبته في مصحفه، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل… الخ»[5].
الرابعة: آية الرجم
روي بطرق متعدّدة أنّ عمر بن الخطاب، قال: «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم.. والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم. فإنّا قد قرأناها»[6].
وقد حمل ابن حزم آية الرجم في المحلّى على أنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه، وهو حملٌ باطلٌ، لأنّها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف، وأنكر ابن ظفر في الينبوع عدّها ممّا نسخ تلاوة، وقال: «لأنّ خبر الواحد لا يُثبت القرآن»[7].
الخامسة: آية الجهاد
رُوي أنّ عمر قال لعبد الرحمن بن عوف: «ألم تجد فيما اُنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرة، فأنا لا أجدها؟ قال: اُسقطت فيما أسقط من القرآن»[8].
نقول: ألم يرووا في أحاديث جمع القرآن أنّ الآية تُكتب بشهادة شاهدين من الصحابة على أنّها ممّا أنزل الله في كتابه؟ فما منع عمر وعبد الرحمن بن عوف من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه؟
فهذا دليل قاطع على وضع هذه الرواية، وإلاّ كيف سقطت هذه الآية المدّعاة عن كُتّاب القرآن وحُفّاظه في طول البلاد وعرضها، ولم تبق إلاّ مع عمر وعبد الرحمن بن عوف؟
السادسة: آية رضاع الكبير عشراً
رُوي عن عائشة أنّها قالت: «نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلمّا مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها»[9].
وظاهرٌ من هذه الرواية أنه لم يحفظ القرآن ولم يكتبه غير عائشة، وهو أمرٌ في غاية البُعد والغرابة، فأين سائر الصحابة والحُفّاظ والكتبة منهم؟!
قال السرخسي: «حديث عائشة لا يكاد يصح، لأن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة اُخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث»[10].
ولو صحّ فهو رواية عن الرسول (ص)، فاعتقدت عائشة كونها من القرآن فكتبتها.
وأخيراً فإنّ الملاحظ على كثير ممّا ادّعي أنّه من القرآن مخالفته لقواعد اللغة واُسلوب القرآن الكريم وبلاغته السامية، ممّا يدل على أنّه ليس بكلام الخالق تعالى، وليست له طلاوته، ولا به حلاوته وعذوبته، وليست عليه بهجته، بل يتبرّأ من ركاكته وانحطاطه وتهافته المخلوقون، فكيف برب العالمين، وسموّ كتابه المبين؟!
الموقف من روايات التحريف في المصادر الشيعية
سنورد هنا شطراً من الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإمامية، والتي ادّعى البعض ظهورها في النقصان أو دلالتها عليه، ونبيّن ما ورد في تأويلها وعدم صلاحيتها للدلالة على النقصان، وما قيل في بطلانها وردّها، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها، وهي على طوائف:
الطائفة الاُولى
الروايات التي ورد فيها لفظ التحريف، ومنها:
1ـ ما رُوي في الكافي بالإسناد عن علي بن سويد، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن موسى الكاظم (ع) وهو في الحبس كتاباً… وذكر جوابه (ع)، إلى أن قال: «اُؤتمنوا على كتاب الله، فحرّفوه وبدّلوه»[11].
2ـ ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب من خطبة الحسين الشهيد (ع) في يوم عاشوراء وفيها: «إنّما أنتم من طواغيت الاُمّة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب»[12].
فمن الواضح أنّ المراد بالتحريف هنا حمل الآيات على غير معانيها، وتحويلها عن مقاصدها الأصلية بضروب من التأويلات الباطلة والوجوه الفاسدة دون دليل قاطع، أو حجة واضحة، أو برهان ساطع، ومكاتبة الإمام (ع) لسعد الخير صريحة في الدلالة على أ نّ المراد بالتحريف هنا التأويل الباطل والتلاعب بالمعاني، قال (ع): «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه…»[13] أي إنّهم حافظوا على ألفاظه وعباراته، لكنهم أساءوا التأويل في معاني آياته.
الطائفة الثانية
الروايات الدالّة على أنّ بعض الآيات المنُزّلة قد ذُكِرت فيها أسماء الأئمة الاثنا عشر (ع)، ومنها:
1ـ ما رُوي في الكافي عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع)، قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد (ص) هكذا: (وإن كُنتم في ريب ممّا نزَّلنا عَلَى عَبْدِنا ـ في عليّ ـ فأتُوا بسُورة مِن مِثْلِهِ)[14]،[15].
2ـ ما رُوي في الكافي عن أبي بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) في قول الله تعالى: (ومَن يُطِع الله ورَسُولهُ ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فَقد فازَ فوزاً عظيماً)[16]،
هكذا نزلت[17].
3ـ ما رُوي في الكافي عن جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): (ولو انّهم فعلوا ما يُوعظون به ـ في عليّ ـ لكان خيراً)[18].
ويكفي في سقوط هذه الروايات عن درجة الاعتبار نصّ العلاّمة المجلسي (ره) في مرآة العقول على تضعيفها، ويغنينا عن النظر في أسانيدها واحداً واحداً اعتراف المحدّث الكاشاني بعدم صحّتها[19].
قال السيد الخوئي (قده): «إنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن، وليس من القرآن نفسه، فلابدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأئمة في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتمّ هذا الحمل فلابدّ من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسُنّة والأدلّة المتقدّمة على نفي التحريف»[20].
وعلى فرض عدم إمكان الحمل على التفسير، فإنّ هذه الروايات معارضة بصحيحة أبي بصير المروية في الكافي، قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن قول الله تعالى: (… أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم)[21]. قال: فقال: «نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين (ع)».
فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته في كتاب الله؟ قال (ع): «فقولوا لهم: إنّ رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله (ص) هو الذي فسّر لهم ذلك»[22]. فتكون هذه الرواية حاكمة على جميع تلك الروايات وموضحة للمراد منها.
ويضاف إلى ذلك أنّ المتخلفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجّوا بذكر اسم علي (ع) في القرآن، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في الحجة، فهذا من الأدلّة الواضحة على عدم ذكره في الآيات.
الطائفة الثالثة
الروايات الموهمة لوقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، ومنها:
1ـ ما رواه العياشي في تفسيره عن مُيسّر عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع)، قال: «لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه، ما خفي حقّنا على ذي حجا، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن»[23].
2ـ ما رواه الكليني في الكافي والصفار في البصائر عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (ع)، يقول: «ما ادّعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (ع) والأئمة من بعده (ع)»[24].
3ـ ما رواه الكليني في الكافي والصفار في البصائر عن جابر عن الإمام محمد الباقر (ع)، أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»[25].
وهذه الطائفة قاصرة أيضاً عن الدلالة على وقوع تحريف القرآن في اللفظ والنصّ، فالحديث الأوّل من مراسيل العياشي، وهو مخالف للكتاب والسنّة، ولاجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرف واحد.
وقد ادعى الاجماع جماعة كثيرون من الأئمة الأعلام، منهم السيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي وغيرهم كما عرفت. أما النقص المشار إليه في الحديث الأول فالمراد به نقصه من حيث عدم المعرفة بتفسيره وعدم الاطلاع على باطنه، لا نقص آياته وكلماته وسوره.
وقوله: «ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن» فإنّ الذي يصدّق القائم (ع) هو هذا القرآن الفعلي الموجود بين أيدي الناس، ولو كان محرّفاً حقّاً لم يصدقه القرآن، فمعنى ذلك أنّ الإمام الحجة (ع) سوف يُظهر معاني القرآن على حقيقتها بحيث لا يبقى فيها أي لبس أو غموض، فيدرك كلّ ذي حجا أن القرآن يصدّقه.
فالمراد من الحديث الأول ـ على فرض صحّته ـ أنّهم قد حرّفوا معانيه ونقصوها وأدخلوا فيها ما ليس منها حتّى ضاع الأمر على ذي الحجا.
أما الرواية الثانية ففي سندها عمرو بن أبي المقدام، وقد ضعّفه ابن الغضائري[26]، وفي سند الرواية الثالثة المنخّل بن جميل الأسدي، وقد قال عنه علماء الرجال: ضعيف فاسد الرواية، متّهم بالغلوّ، أضاف إليه الغلاة أحاديث كثيرة[27].
وعلى فرض صحّة الحديثين فإنّه يمكن توجيههما بمعنى آخر يساعد عليه اللّفظ فيهما، قال السيد الطباطبائي: قوله (ع): «إنّ عنده جميع القرآن… إلى آخره» الجملة وإن كانت ظاهرةً في لفظ القرآن، ومشعرة بوقوع التحريف فيه، لكن تقييدها بقوله «ظاهره وباطنه» يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن، من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي، ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي»[28].
وقد أورد السيد عليّ بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنين (ع) والأوصياء من أبنائه، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعياً بتأييد إلهي، وإلهام رباني، وتعليم نبوي، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترة بين الفريقين»[29].
ويمكن حمل الروايتين أيضاً على معنى الزيادات الموجودة في مصحف أمير المؤمنين (ع)، والتي أخذها عمّن لا ينطق عن الهوى تفسيراً، أو تنزيلاً من الله شرحاً للمراد، إلاّ أنّ هذه الزيادات ليست من القرآن، الذي اُمر رسول الله (ص) بتبليغه إلى الاُمّة.
الطائفة الرابعة
الروايات الدالّة على أنّ في القرآن أسماء رجال ونساء فاُلقيت منه، ومنها:
1ـ ما روي في تفسير العياشي مرسلاً عن الإمام الصادق (ع)، قال: «إنّ في القرآن ما مضى، وما يحدث، وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فاُلقيت، إنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا تُحصى، يعرف ذلك الوصاة»[30].
2ـ ما روي في الكافي عن البزنطي، قال: دفع إليّ أبو الحسن الرضا (ع) مصحفاً، فقال: «لا تنظُر فيه». ففتحته وقرأت فيه (لم يكن الذين كفروا…)[31]، فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال: فبعث إليّ: «ابعث إليّ بالمصحف»[32].
3ـ ما رواه الشيخ الصدوق (قده) في ثواب الأعمال عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: «سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يابن سنان، إنّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقّصوها وحرّفوها»[33].
وهذه الروايات لا نصيب لها من الصحّة، فهي بين ضعيف ومرسل ومرفوع.
ومن الممكن القول بأنّ تلك الأسماء التي اُلقيت إنّما كانت مثبتةً فيه، على وجه التفسير لألفاظ القرآن وتبيين الغرض منها، لا أنّها نزلت في أصل القرآن، وقد ذكر ذلك الفيض الكاشاني في الوافي والسيد الخوئي في البيان وغيرهما… بل إنّ الشيخ الصدوق ـ وهو رئيس المحدّثين ـ الذي روى الخبر في كتابه «ثواب الأعمال» ينصّ في كتابه الاعتقادات على عدم نقصان القرآن، وهذا ممّا يشهد بأنّهم حين يروون هذه الأحاديث لا يعتقدون بصحّتها سنداً ولا دلالة لها على التحريف اللفظي للقرآن الكريم.
لماذا دوّنوا هذه الأخبار في الكتب المعتمدة إذا لم تمثل آراءهم؟
والجواب على ذلك: أنّ طبيعة الأعمال الموسوعية لا تتقيد بوجهات نظر أصحابها وبخاصة في عالم نقل الأحاديث.
ولقد كان من المألوف قديماً أن مؤلفي كتب الحديث، ما كان ليهمهم تمحيص الأحاديث بقدر ما كان يهمّهم تدوينها، وكأن مهمّة التمحيص موكولة إلى المجتهدين في مجالات استنباط أحكامهم.
ومن هنا احتجنا إلى تسليط الأضواء على جميع كتب الحديث، وإخضاعها لقواعد النقد والتمحيص التي عرضت في كتب الدراية، وحسب هؤلاء المؤلفين أمثال: الكليني، والشيخ الطوسي، وأصحاب الصحاح والمسانيد، أن لا يكونوا موضعاً للطعن في أمانتهم في مجالات النقد والتجريح، ولعل لهم من وجهات النظر في نقل مختلف الأحاديث ما يحمدون عليه.
وإلاّ فإن الاقتصار على ما يراه صاحب الكتاب حقاً من الأحاديث وإلغاء ما عداه، معناه تعريض ثرواتنا إلى كثير من الضياع، وإخضاع أكثرها إلى الزاوية التي ينظر منها المؤلف إلى الحديث، وهي تتأثر عادة بعوامل بيئية، بالإضافة إلى ترسّبات أصحابها وقيمهم وعواطفهم، على أن في ذلك ما فيه من تحديد لطبيعة الاجتهاد وتضييق نطاقه وحصره في غير اطار صاحبه، بل في اُطر رواة الحديث بما لهم من ثقافات ضيّقة لو بالغنا في توسعتها لما تجاوزنا بها طبيعة عصورهم وبيئاتهم، مع أ نّ الدين بطبعه يتسع لجميع العصور.
وشبهة التحريف ـ بعد هذا ـ من الشبه التي لا تستحق أن يطال فيها الحديث لكونها شبهة في مقابل البديهة، فأخبار التحريف ـ مع تضارب مضموناتها وتهافتها في أنفسها ـ لا تزيد على كونها أخبار آحاد، وهي لا تنهض للوقوف أمام التواتر الموجب للقطع بأن هذا القرآن الذي بأيدينا هو القرآن الذي نزل على النبي محمد المصطفى (ص)، دون أن يزاد أو ينقص فيه.
الاستنتاج
لقد ثبت من خلال استقصاء الأدلّة الروائية والتاريخية، بالإضافة الى ما تفرضه طبيعة الأشياء: أن القرآن قد حظي باهتمام بالغ من قبل المسلمين، يمنع دخول يد التحريف إليه، وهو يمثل دستور الاُمّة والمصدر الأساسي لكيانها، ثقافةً وسياسةً وعقيدةً.
أمّا الروايات التي تنقلها كتب الحديث، والتي يُفهم منها احتمال وقوع التحريف في القرآن، فلا يؤمن بها إلاّ الاتجاه الخاطئ الذي يعتقد بقطعية صدور ما جاء في كتب الصحاح، أما المنهج الذي يتعامل بموضوعية معها ـ كما هو المنهج الذي يسلكه علماء مدرسة أهل البيت (ع) مع كتبهم فهو يدين هذه النصوص المرويّة من حيث أسنادها ومن حيث دلالتها على التحريف.
الهوامش
[1] البقرة: 109.
[2] السيوطي، الإتقان، ج3، ص82.
[3] مسلم، صحيح مسلم، ج2، ص726، ح1050.
[4] الآلوسي، روح المعاني، ج1، ص25.
[5] الزركشي، البرهان، ج2، ص128.
[6] ابن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص23.
[7] الزركشي، البرهان، ج2، ص43.
[8] السيوطي، الإتقان، ج3، ص84.
[9] ابن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص269.
[10] السرخسي، اُصول السرخسي، ج2، ص79.
[11] الكليني، الكافي، ج8، ص125، ح95.
[12] المجلسي، بحار الأنوار، ج8، ص45.
[13] الكليني، الكافي، ج8، ص53، ح16.
[14] البقرة، 23.
[15] الكليني، الكافي، ج1، ص417، ح26.
[16] الأحزاب، 71.
[17] الكليني، الكافي، ج1، ص414، ح8.
[18] النساء، 66.
[19] الفيض الكاشاني، الوافي، ج2، ص273.
[20] الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص230.
[21] النساء، 59.
[22] الكليني، الكافي، ج1، ص286، ح1.
[23] العياشي، تفسير العياشي، ج1، ص13، ح6.
[24] الكليني، الكافي، ج1، ص228، ح1.
[25] الكليني، الكافي، ج1، ص228، ح2.
[26] ابن داود الحلّي، رجال ابن داود، ص281.
[27] ابن داود الحلّي، رجال ابن داود، ص281.
[28] الكليني، الكافي، ج1، ص228، في الهامش.
[29] ابن معصوم، شرح الصحيفة السجادية، ص401.
[30] العياشي، تفسير العياشي، ج1، ص12.
[31] البيّنة، 1.
[32] الكليني، الكافي، ج2، ص631، ح16.
[33] الصدوق، ثواب الأعمال، ص100.
مصادر المقالة
1ـ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، 1416 ه.
2ـ ابن داود الحلّي، الحسن، رجال ابن داود، تحقيق محمّد صادق بحر العلوم، النجف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1392 ه.
3ـ ابن معصوم، علي، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
4ـ الآلوسي، محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني، تحقيق علي عبد الباري عطية، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
5ـ الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار الزهراء، الطبعة الرابعة، 1395 ه.
6ـ الزركشي، محمّد، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1376 ه.
7ـ السرخسي، محمّد، أُصول السرخسي، بيروت، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1414 ه.
8ـ السيوطي، عبد الرحمن، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق سعيد المندوب، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1416 ه.
9ـ الصدوق، محمّد، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، قم، منشورات الرضي، الطبعة الثانية، 1368 ش.
10ـ العياشي، محمد، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، بلا تاريخ.
11ـ الفيض الكاشاني، محمّد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني، إصفهان، منشورات الإمام أمير المؤمنين (ع)، الطبعة الأُولى، 1411 ه.
12ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
13ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
14ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الموسوي، عبد الرحيم الموسوي، صيانة القرآن الكريم من التحريف، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.