تعد أقوال أئمة أهل البيت (ع) من كنوز الفكر الإسلامي، حيث تعكس عمق الإيمان وفهم توحيد الله وتجليات صفاته تعالى، وهنا نستعرض كلمات ثلاثة من أئمة أهل البيت (ع) الذين أضاءوا لنا دروب المعرفة الإلهية من خلال خطبهم وأقوالهم، سنبدأ بخطبة أمير المؤمنين (ع) التي تتناول جوهر توحيد الله، ثم خطبة الإمام الحسن والإمام الحسين في ذات الموضوع، ثم نختم بكلمات الإمام الحسن (ع) حول صفات الله تعالى.
1ـ خطبة الإمام علي في توحيد الله
قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في خطبته التي تجمع من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة حول توحيد الله:
مَا وَحَّدَه مَنْ كَيَّفَه ولَا حَقِيقَتَه أَصَابَ مَنْ مَثَّلَه، ولَا إِيَّاه عَنَى مَنْ شَبَّهَه، ولَا صَمَدَه مَنْ أَشَارَ إِلَيْه وتَوَهَّمَه، كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِه مَصْنُوعٌ وكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاه مَعْلُولٌ، فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ، لَا تَصْحَبُه الأَوْقَاتُ ولَا تَرْفِدُه الأَدَوَاتُ، سَبَقَ الأَوْقَاتَ كَوْنُه، والْعَدَمَ وُجُودُه والِابْتِدَاءَ أَزَلُه بِتَشْعِيرِه الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَه، وبِمُضَادَّتِه بَيْنَ الأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَه، وبِمُقَارَنَتِه بَيْنَ الأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَه.
ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ والْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، والْجُمُودَ بِالْبَلَلِ والْحَرُورَ بِالصَّرَدِ، مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ ولَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وتُشِيرُ الآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وحَمَتْهَا قَدُ الأَزَلِيَّةَ، وجَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ، ولَا يَجْرِي عَلَيْه السُّكُونُ والْحَرَكَةُ.
وكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْه مَا هُوَ أَجْرَاه، ويَعُودُ فِيه مَا هُوَ أَبْدَاه ويَحْدُثُ فِيه مَا هُوَ أَحْدَثَه، إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُه ولَتَجَزَّأَ كُنْهُه، ولَامْتَنَعَ مِنَ الأَزَلِ مَعْنَاه، ولَكَانَ لَه وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَه أَمَامٌ، ولَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَه النُّقْصَانُ، وإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيه، ولَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْه، وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ، مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيه مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِه الَّذِي لَا يَحُولُ ولَا يَزُولُ ولَا يَجُوزُ عَلَيْه الأُفُولُ، لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً ولَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الأَبْنَاءِ وطَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ.
لَا تَنَالُه الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَه ولَا تَتَوَهَّمُه الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَه، ولَا تُدْرِكُه الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّه ولَا تَلْمِسُه الأَيْدِي فَتَمَسَّه، ولَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ ولَا يَتَبَدَّلُ فِي الأَحْوَالِ، ولَا تُبْلِيه اللَّيَالِي والأَيَّامُ ولَا يُغَيِّرُه الضِّيَاءُ والظَّلَامُ ولَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الأَجْزَاءِ، ولَا بِالْجَوَارِحِ والأَعْضَاءِ ولَا بِعَرَضٍ مِنَ الأَعْرَاضِ، ولَا بِالْغَيْرِيَّةِ والأَبْعَاضِ.
ولَا يُقَالُ لَه حَدٌّ ولَا نِهَايَةٌ ولَا انْقِطَاعٌ ولَا غَايَةٌ، ولَا أَنَّ الأَشْيَاءَ تَحْوِيه فَتُقِلَّه أَوْ تُهْوِيَه، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُه فَيُمِيلَه أَوْ يُعَدِّلَه، لَيْسَ فِي الأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ ولَا عَنْهَا بِخَارِجٍ، يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ ولَهَوَاتٍ، ويَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وأَدَوَاتٍ يَقُولُ ولَا يَلْفِظُ، ويَحْفَظُ ولَا يَتَحَفَّظُ ويُرِيدُ ولَا يُضْمِرُ، يُحِبُّ ويَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، ويُبْغِضُ ويَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ.
يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَه كُنْ فَيَكُونُ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ ولَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وإِنَّمَا كَلَامُه سُبْحَانَه فِعْلٌ مِنْه أَنْشَأَه ومَثَّلَه، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، ولَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْه الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ، ولَا يَكُونُ بَيْنَهَا وبَيْنَه فَصْلٌ، ولَا لَه عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، ويَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ والْبَدِيعُ.
خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِه، ولَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِه، وأَنْشَأَ الأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ، وأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، ورَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ، وحَصَّنَهَا مِنَ الأَوَدِ والِاعْوِجَاجِ، ومَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ والِانْفِرَاجِ، أَرْسَى أَوْتَادَهَا وضَرَبَ أَسْدَادَهَا، واسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وخَدَّ أَوْدِيَتَهَا، فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاه ولَا ضَعُفَ مَا قَوَّاه.
هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِه وعَظَمَتِه، وهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِه ومَعْرِفَتِه، والْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِجَلَالِه وعِزَّتِه، لَا يُعْجِزُه شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَه، ولَا يَمْتَنِعُ عَلَيْه فَيَغْلِبَه، ولَا يَفُوتُه السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَه، ولَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَه، خَضَعَتِ الأَشْيَاءُ لَه وذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِه، لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِه إِلَى غَيْرِه، فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِه وضَرِّه، ولَا كُفْءَ لَه فَيُكَافِئَه، ولَا نَظِيرَ لَه فَيُسَاوِيَه.
هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا، ولَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا، بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا واخْتِرَاعِهَا، وكَيْفَ ولَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وبَهَائِمِهَا، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وسَائِمِهَا، وأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وأَجْنَاسِهَا، ومُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وأَكْيَاسِهَا، عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، ولَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا، ولَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وتَاهَتْ، وعَجَزَتْ قُوَاهَا وتَنَاهَتْ، ورَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ.
مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا وإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَه لَا شَيْءَ مَعَه، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلَا وَقْتٍ ولَا مَكَانٍ ولَا حِينٍ ولَا زَمَانٍ، عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآجَالُ والأَوْقَاتُ، وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ، فَلَا شَيْءَ * إِلَّا الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ *، الَّذِي إِلَيْه مَصِيرُ جَمِيعِ الأُمُورِ.
بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا، ولَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا، لَمْ يَتَكَاءَدْه صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَه، ولَمْ يَؤُدْه مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَه وبَرَأَه، ولَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، ولَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ ونُقْصَانٍ، ولَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ، ولَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ، ولَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِه، ولَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِه، ولَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْه، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا.
ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْه فِي تَصْرِيفِهَا وتَدْبِيرِهَا، ولَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْه، ولَا لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْه، لَا يُمِلُّه طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَه إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، ولَكِنَّه سُبْحَانَه دَبَّرَهَا بِلُطْفِه، وأَمْسَكَهَا بِأَمْرِه وأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِه، ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْه إِلَيْهَا، ولَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا، ولَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ، ولَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وعَمًى إِلَى حَالِ عِلْمٍ والْتِمَاسٍ، ولَا مِنْ فَقْرٍ وحَاجَةٍ إِلَى غِنًى وكَثْرَةٍ، ولَا مِنْ ذُلٍّ وضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وقُدْرَةٍ[1].
2ـ خطبة الإمام الحسن في توحيد الله
أمر الإمام أمير المؤمنين (ع) ولده الإمام الحسن (ع) ليخطب الناس في مسجد الكوفة، فصعد المنبر، وقال:
الحمد لله الواحد بغير تشبيه، والدائم بغير تكوين، القائم بغير كلفة، الخالق بغير منصبة، والموصوف بغير غاية، المعروف بغير محدود، العزيز، لم يزل قديماً في القدم، ردعت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزّته، وخضعت الرقاب لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصفون منهم لكُنه عظمته، ولا تبلغه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكّر بتدابير أُمورها، أعلم خلقه به الذي بالحدّ لا يصفه، يُدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير….
وجاء اليه رجل فقال له: يابن رسول الله! صف لي ربّك كأنّي أنظر إليه؟
فأطرق الإمام الحسن المجتبى (ع) مليّاً، ثمّ رفع رأسه فأجابه:
الحمد لله الذي لم يكن له أوّل معلوم، ولا آخر متناه، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بحتّى، ولا شخص فيتجزّأ، ولا اختلاف صفة فيتناهى، فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها، ولا الألباب وأذهانها صفته، فيقول: متى، ولا بدئ ممّا، ولا ظاهر على ما، ولا باطن فيما، ولا تارك فهلاّ، خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد ما استزاد[2].
3ـ كلام الإمام الحسين في توحيد الله
للإمام الحسين (ع) تراث رائع، خاض في جملة منه مجموعة من البحوث الفلسفية والمسائل الكلامية التي مُنيت بالغموض والتعقيد، فأوضحها (ع)، وبيَّن وِجهة الإسلام فيها ، ونعرض فيما يلي لبعض ما أُثِر عنه:
في معنى توحيد الله
وعَرَّض الإمام الحسين (ع) في كثير من كلامه إلى توحيد الله، فَبيَّنَ حقيقته وجوهره، وفَنَّد شُبَه المُلحدين وأوهامهم، ونعرض فيما يلي لبعض ما أُثِر عنه:
1ـ قال الإمام الحسين (ع) في معنى توحيد الله: أيُّها النَّاس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبِّهون الله بأنفسهم، يضاهون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
استخلص الوحدانية والجَبَروت، وأمضى المشيئة، والإرادة، والقدرة، والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كُفو له يعادِلُه، ولا ضِدّ له ينازعه، ولا سَمِيّ له يشابهه، ولا مثل له يشاركه.
لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا ينزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كُنهَ عظمته، ولا يخطر على القلوب مَبلغ جبروته، لأنه ليس له في الأشياء عديل.
ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق، إيقانا بالغيب لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، فذلك الله لا سَمِيّ له، سبحانه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير[3].
وحذّر الإمام الحسين (ع) من تشبيه الخالق العظيم بعباده، أو بسائر الممكنات التي يلاحقها العدم، ويطاردها الفناء.
2ـ يقول المؤرخون إن حَبْر الأمة عبد الله بن عباس كان يُحدِّث الناس في مسجد رسول الله (ص)، فقام إليه نافع الأزرق فقال له: تُفتي الناس في النملة والقَملة، صف لي إِلَهَك الذي تعبُد؟
فأطرقَ إعظاما لقوله، وكان الإمام الحسين (ع) جالساً فانبرى قائلاً: إِليَّ يا بن الأزرق؟
فقال نافع: لَستُ إِيَّاك.
فثار ابن عباس، وقال له: إنه من بيت النبوة، وهم وَرَثة العلم.
فأقبل نافع نحو الإمام الحسين (ع)، فقال (ع): يا نافع، من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس سائلاً ناكباً عن المنهاج، ظاعناً بالاعْوِجَاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل.
أصفُ لك إلهي بما وصفَ به نفسه، وأعَرِّفُه بما عَرَّف به نفسه، لا يُدركُ بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريبٌ غير مُلتَصِق، بعيد غير منتقص يوحد ولا يبغض معروف، بالآيات موصوف، بالعلامات لا إله إلا هو الكبير المُتَعَال.
فحارَ الأزرق، ولم يُطِق جواباً، فقد مَلَكَته الحيرة، وسدَّ عليه الإمام الحسين (ع) كل نافذة ينفذ منها، وبُهِر جميع من سمعوا مقالة الإمام (ع)، وراحوا يُرَدِّدُون كلام ابن عباس: إِنَّ الحُسين (ع) مِن بيت النبوَّة، وَهُم وَرَثَة العلم[4].
في معنى الصَّمَد
كتب إليه (ع) جماعة يسألونه عن معنى الصمد في قوله تعالى: اللهُ الْصَّمَدُ.
فكتب الإمام الحسين (ع) لهم بعد البسملة: أما بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادلوا فيه، ولا تتكلموا فيه بِغَير عِلم، فقد سمعت جَدِّي رسول الله (ص) يقول: مَن قال في القرآن بغير عِلمٍ فَلْيَتَبَوَّأُ مقعدُهُ من النار.
وإن الله سبحانه قد فَسَّر الصمد فقال: اللهُ أَحَدُ * اللهُ الْصَّمَدُ.
ثم فَسَّرهُ فقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
لَمْ يَلِدْ: لم يخرج منه شيء كثيف، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة، التي تخرج من المخلوقين.
ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب من البدوات كالسِّنَة والنوم والخطرة، والهم والحزن، والبهجة والضحك، والبكاء والخوف، والرجاء والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى عن أن يخرج منه شيء، وأن يتولَّدَ منه شيء كثيف أو لطيف.
وَلَمْ يُولَدْ: لم يتولد منه شيء، ولم يخرج منه شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرهم، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار.
ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر.
لا، بل هو الله الصمد الذي لا شيء، ولا في شيء، ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، ويبقى ما خلق للبناء بعلمه، فذلكم اللهُ الصَّمد، الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة، الكبير المُتَعال، وَلم يَكُن لَهُ كُفوا أحد[5].
4ـ أقوال الإمام الحسن حول صفات الله
أـ قال الحسن المجتبى (ع): الحمد لله الذي كان في أوّليّته، وحدانياً في أزليّته، متعظّماً بإلهيته، متكبّراً بكبريائه وجبروته، ابتدأ ما ابتدع، وأنشأ ما خلق، على غير مثالٍ كان سبق ممّا خلق.
ربّنا اللطيف بلطف ربوبيّته، وبعلم خبره فتق، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق، فلا مبدّل لخلقه، ولا مغيّر لصنعه، ولا معقّب لحكمه، ولا رادّ لأمره، ولا مستراح عن دعوته.
خلق جميع ما خلق ولا زوال لملكه، ولا انقطاع لمدّته، فوق كلّ شيءٍ علا، ومن كلّ شيءٍ دنا، فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى، وهو بالمنظر الأعلى.
احتجب بنوره، وسما في علوّه، فاستتر عن خلقه، وبعث إليهم شهيداً عليهم، وبعث فيهم النبيين مبشّرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بيّنةٍ، ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروه.
والحمد لله الذي أحسن الخلافة علينا أهل البيت، وعنده نحتسب عزانا في خير الآباء: رسول الله (ص)، وعند الله نحتسب عزانا في أمير المؤمنين، ولقد أصيب به الشرق والغرب.
والله ما خلّف درهماً ولا ديناراً إلاّ أربعمائة درهمٍ، أراد أن يبتاع لأهله خادماً، ولقد حدّثني حبيبي جدّي رسول الله (ص): إنّ الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم[6].
ب ـ جاء رجل إلى الإمام الحسن المجتبى (ع) فقال له: يا ابن رسول الله صف لي ربك حتى كأني أنظر إليه، فأطرق الحسن بن علي (ع) مليا، ثم رفع رأسه، فقال:
الحمد لله الذي لم يكن له أوّل معلوم، ولا آخر متناهٍ، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بحتّى، ولا شخص فيتجزأ، ولا اختلاف صفةٍ فيتناهى، فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها، ولا الألباب وأذهانها صفته، فيقول: متى؟ ولا بدئ ممّ؟ ولا ظاهر على ممّ؟ ولا باطن ممّ؟ ولا تارك فهلاّ؟ خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد ما استزاد، ذلكم الله ربّ العالمين[7].
ج ـ قال الإمام الحسن (ع): الحمد لله الذي من تكلّم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده.
والحمد لله الواحد بغير تشبيهٍ، الدائم بغير تكوينٍ، القائم بغير كلفةٍ، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غايةٍ، ؤ، العزيز لم يزل قديماً في القدم، وعنت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزّته، وخضعت الرقاب لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصلون منهم لكنه عظمته، ولا تبلغه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتدبير أمورها.
أعلم خلقه به الذي بالحدّ لا يصفه، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير، أمّا بعد فإنّ القبور محلّتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، وإنّ عليّاً باب من دخله كان آمناً، ومن خرج منه كان كافراً، أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
د ـ عن الفتح بن يزيد الجرجاني، قال: لقيت الإمام الحسن (ع) على الطريق عند منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق، فسمعته يقول: من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع.
فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلّمت فرد عليّ السلام ثم قال: يا فتح! من أرضى الخالق، لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلّط عليه سخط المخلوق، وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به ! جلّ عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، قريب وفي قربه بعيد، كيّف الكيف، فلا يقال له: كيف، وأيّن الأين، فلا يقال له: أين، إذ هو مبدع الكيفوفية، والأينونية.
يا فتح، كلّ جسمٍ مغذّىً بغذاء، إلاّ الخالق الرازق، فإنّه جسّم الأجسام، وهو ليس بجسمٍ ولا صورةٍ، لم يتجزّأ، ولم يتناه، ولم يتزايد، ولم يتناقص، مبرّاً من ذات ما ركّب في ذات من جسّمه، وهو اللطيف الخبير، الواحد الأحد، الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لو كان كما تقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق، ولا الرازق من المرزوق، ولا المنشئ من المنشأ، لكنّه المنشئ، فرّق بين من جسّمه وصوّره، وشيّأه وبيّنه، إذا كان لا يشبهه شيء.
قلت: فالله واحد، والإنسان واحد، فليس قد تشابهت الوحدانية؟
قال (ع): أحلت – ثبّتك الله – إنّما التشبيه في المعاني، وأمّا في الأسماء فهي واحدة، وهي دلالة على المسمّى، وذلك أنّ الإنسان وإن قيل: واحد فإنّه يجزّأ، إنّه جثّة واحدة، وليس باثنين، والإنسان نفسه وليس بواحدٍ، لأن أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء متجزأة، ليس سواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى، والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره، ولا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة، ولا نقصان، فأمّا الإنسان، المخلوق المصنوع المؤلّف، فمن أجزاءٍ مختلفةٍ، وجواهر شتّى، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد.
قلت: فقولك: اللطيف، فسّره لي، فإنّي أعلم: أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل، غير أنّي أحبّ أن تشرح لي.
فقال (ع): يا فتح إنّما قلت: اللطيف للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف، ألا ترى إلى اثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف، وفي الخلق من أجسام الحيوان، من الجرجس، والبعوض، وما هو أصغر منهما، ممّا لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره، الذكر من الأنثى، والمولود من القديم.
فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتداءه للسفاد، والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه ممّا في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وإفهام بعضها عن بعضٍ منطقها، وما تفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثمّ تأليف ألوانها: حمرةً مع صفرة، وبياضاً مع حمرةٍ، علمنا: أنّ خالق هذا الخلق لطيف، وإنّ كلّ صانع شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق اللطيف الجليل، خلق وصنع لا من شيء.
قلت: جعلت فداك وغير الخالق الجليل خالق؟
قال (ع): إنّ الله تبارك وتعالى يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقد أخبر: أنّ في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى (ع) خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، فنفخ فصار طائراً بإذن الله، والسامريّ خلق لهم عجلاً جسداً له خوار.
قلت: إنّ عيسى خلق من الطين طيراً، دليلاً على نبوّته، والسامريّ خلق عجلاً جسداً لنقض نبوة موسى (ع)، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك، إنّ هذا لهو العجب.
فقال (ع): ويحك يا فتح، إنّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتمٍ وإرادة عزمٍ، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنّه نهي آدم وزوجته: أن يأكلا من الشجرة، وهو شاء ذلك، لو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشية الله..، وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (ع)، وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشية الله عزّ وجلّ.
قلت: فرّجت عنّي، فرّج الله عنك[8].
الاستنتاج
تستند خطب أئمة أهل البيت (ع) إلى مفهوم عميق في توحيد الله، حيث يُظهر الإمام أمير المؤمنين (ع) في خطبته أن الله لا يُشبهه شيء، فهو خالق بلا بداية أو نهاية، وذو صفات لا تدركها العقول، كما يوضح الإمام الحسن (ع) أن الله واحد بلا شبيه أو كفؤ، وأن صفاته تفوق كل تصور بشري، ويركز الإمام الحسين (ع) على أهمية توحيد الله وينفي أي تشبيه له بالمخلوقات، مُبينًا أن الله هو الصمد الذي لم يلد ولا يُولد، جميع هذه الأقوال تعزز فكرة أن الله تعالى متعالٍ عن كل وصف أو تصور، مما يُعزز إيمان المؤمنين ويُقوي عقيدتهم.
الهوامش
[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص272، خطبة 186.
[2] المجمع العالمي لأهل البيت، أعلام الهداية، الإمام الحسن، ج4.
[3] الحراني، تحف العقول، ص244.
[4] القرشي، حياة الإمام الحسين، ج1، ص151، رقم 2.
[5] الصدوق، التوحيد، ص91.
[6] الخزاز، كفاية الأثر، ص160.
[7] الصدوق، التوحيد، ص45، ح5.
[8] الصدوق، التوحيد، ص61، ح18.
مصادر البحث
1ـ الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404 ه.
2ـ الخزّاز، علي، كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر، تحقيق عبد اللطيف الحسيني، قم، انتشارات بيدار، طبعة 1401 ه.
3ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، بلا تاريخ.
4ـ القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه.
5ـ المجمع العالمي لأهل البيت، أعلام الهداية، (الإمام الحسن)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت، الطبعة الأُولى، 1422 ه.
إعداد: مركز آل البيت العالمي للمعلومات