في نهج البلاغة عن علي عليه السلام: (أَلاَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الإنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ).. لربما أراد الإنسان الانطلاق في الكلام والتعبير عما يجيش في صدره، فيعجز عن ذلك ولا يُسعفه اللسان لسبب نفسي مثلاً، على الرغم من أن اللسان جزء منه، وتحت إمرته وإرادته، وبتعبير الفرزدق: “أنا أشعر تميم، وربما أتت عليّ ساعة: نَزْعُ ضرسٍ أهونُ عليّ من قول بيت”.
وبالمقابل فإنه: (وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ) فقد تجد أن الكلام ينحدر عنه كالسيل فلا يعطيه مجالاً أحياناً للتفكير في ما سيقول، فيسبقه القول إما صواباً وإما خطئاً.. ولربما ندم على ذلك.
(وَإِنَّا) أي أهل بيت النبوة (لأمَرَاءُ الْكَلاَمِ) فلا تعترينا الحالة الأولى من العجز عن النطق حينما نريد التعبير عن شئ.. ولا ننطق بباطل أو كلام نندم عليه، وبتعبير الإمام علي أيضاً: “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”.
(وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ) أي تدلت علينا فأظلتنا.. وكل الشواهد التاريخية تؤكد ذلك.. وكم من موقف يُنصَح فيه المتعرض لهم بسوء أن لا يفتح لهم المجال للحديث، لأنه سيُفتضَح بذلك.. وكم من موقف يُبدي فيه الندم ذلك المتعرض لهم بسوء لأنه فعل ذلك.
فصاحة الإمام زين العابدين:
في بعض كتب مقتل الإمام الحسين عليه السلام أن الإمام زين العابدين عليه السلام قال ليزيد في مجلسه: (أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد، فأتكلم بكلام فيه لله تعالي رضى، و لهؤلاء أجر و ثواب؟) فأبى يزيد، قائلاً: (إن هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة و زقوا العلم زقاً). وفعلاً وقع ما خاف منه يزيد، فأمر المؤذن أن يؤذن، فقطع عليه الكلام. ولما وصل المؤذن إلى قوله (أشهد أن محمداً رسول الله) التفت علي بن الحسين من أعلى المنبر وقال: يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت، وإن زعمت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟).
فصاحة العقيلة زينب:
وفي الكوفة وصف بشر الأسدي موقف العقيلة زينب لدى خطبتها فقال: (ونظرت إلى زينب بنتِ علي يومئذ، فلم أر خَفِرة) امرأة شديدة الحياء متسترة (أنطق منها، كأنها تُفْرِغ عن لسان أمير المؤمنين(ع).
فصاحة فاطمة الزهراء:
وأما أمها فاطمة الزهراء عليها السلام فقد وصف الإربلي في (كشف الغمة) خطبتها بقوله: (إنّها من محاسن الخطب وبدايعها، عليها مسحة من نور النبوّة، وفيها عبقة مِن أرَج الرسالة)، وهي القائلة في بدايتها: (الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإْدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلايِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها). فيا لروعة البيان ويا لعظمة الدلالة ويا لقوة المنطق ويا لفخامة الكلام.. وإنهم بحق لأمَرَاءُ الْكَلاَمِ.