الشارع المقدس قد لفت نظر المسلمين الى أهمية زيارة القبور فندب إليها في أكثر من موضع، وذلك لتحقيق جملة من الأغراض التربوية التي تعود بالفائدة الى الفرد والمجتمع الإنساني معاً.
ونلخص بعض هذه الفوائد كما يلي:
أ ـ العبرة والاتّعاظ
تشكّل زيارة القبور وسيلة للاتّعاظ والعبرة، حيث يدرك الزائر للقبور بأن مصيره مهما طال فهو إلى الفناء، وهذا الشعور بنفسه يكون رادعاً عن تماديه في الرذيلة، ولذا ركّز الحديث الوارد عن رسول الله (ص) على هذه الفائدة للزيارة، حيث ورد قوله (ص): «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّ فيها عبرة»[1].
ولا تقتصر العبرة من زيارة القبور على زيارة قبور الأولياء والصالحين من عباده فحسب، بل نجد القرآن الكريم يرشدنا الى مواطن العبرة حتى بالنسبة لقبور الجبابرة والطواغيت، إذ في زيارتها كمال العبرة والاتّعاظ، قال تعالى بالنسبة لفرعون : (فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[2].
فشاء الله أن يجعل جسد فرعون الطاغي جثّة هامدة لا حراك فيها بعد أن ملك القدرات في مختلف أنواعها وظن قومه أنه لا يموت.
فالآية ذات دعوة صريحة لبني اسرائيل والأجيال اللاحقة لزيارة قبر فرعون ليشاهدوا المصير الذي انتهى إليه فرعون، وينتهي إليه أمثاله.
ب ـ التذكير بالآخرة والزهد في الدنيا
تساهم زيارة القبور في تعميق الاعتقاد باليوم الآخر الذي هو أصل من اُصول الدين، فإذا آمن الإنسان بأن وراءه يوماً يُسئل فيه عما فعل وأنه لم يخلق عبثاً، فهذا الشعور العميق باليوم الآخر يجعل الإنسان ذا قصد في فعله فيتجنب فعل الشر والإفساد ويتجه نحو فعل الخير الذي هدفه الاصلاح.
فتكون الزيارة للقبور هنا وسيلة لتربية الإنسان المسلم على أن يكون ذا قصد إيجابي في فعله، كما أنها ترسخ الاعتقاد بالآخرة والكف عن الحرص للوصول الى متطلبات الدنيا الفانية ولو بالطرق اللامشروعة، ولهذه الفائدة أشير في حديث روي عن رسول الله (ص) وهو: «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكّر الآخرة»[3].
ج ـ تنمية مشاعر الحب والعواطف النبيلة
تؤدي زيارة القبور الى تنمية مشاعر الخير وحب الفضيلة، فقد ورد النص عن رسول الله (ص) أنه قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ليزيدكم زيارتها خيراً»[4].
وفي حديث آخر: «… فزوروها فإنّه يرق القلب وتدمع العين وتذكّر الآخرة ولا تقولوا هجراً»[5].
فالبكاء الناشئ من الحبّ لله ينمي الصلة الطيبة بين الإنسان الحي والإنسان الميت وصلة الإنسان الفرد بالمجتمع، فيحدث الوئام والتراحم والتعاطف والمحبة والبرّ بين الناس، فتعطى الحقوق وتؤدّى الأمانات.
مشروعية زيارة القبور ومدى صلتها بالعقيدة
البحث عن هذه المشروعية ضمن عدة اُمور:
أولاً: الدليل القرآني على مشروعية زيارة القبور
لقد نهى الله تعالى نبيّه محمداً (ص) عن الصلاة على جنازة المنافق والقيام على قبره بقوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ)[6].
ولسائل أن يسأل ما معنى: لا تقم على قبره؟ هل هو القيام وقت الدفن فقط أو القيام وقت الدفن وغيره؟
والجواب: أن الآية تتشكل من جملتين:
الاُولى قوله: (لا تصلّ على أحد منهم مات أبداً) وقوله: (ولا تقم على قبره) هذه الجملة الثانية معطوفة على الجملة السابقة، وكل ما ثبت للمعطوف عليه يثبت للمعطوف أيضاً.
وقد قيّد المعطوف عليه بقيد هو «أبداً». وهذا يستلزم أن يكون هذا القيد للمعطوف أيضاً. ويكون المعنى لا تقم على قبر أحد منهم أبداً، كما كان بالنسبة للصلاة.
فتحصل أن الله ينهى نبيّه (ص) عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق سواءٌ كان بعد الصلاة أو مطلق الدعاء، وينهى عن مطلق القيام على القبر سواءٌ كان زمن الدفن أو بعده.
ومفهوم ذلك هو أن هذين الأمرين، الصلاة والقيام على القبر، يجوزان في حق المؤمن، ولا يجوزان في حق المنافق.
وعليه يثبت جواز زيارة قبر المؤمن وجواز قراءة القرآن على روحه حتى بعد مئات السنين.
ثانياً: الدليل الروائي على مشروعية زيارة القبور
أما الروايات التي حثّت على زيارة القبور والدعاء لأهلها أو التقرب الى الله عن طريق الزيارة فهي على طائفتين:
الطائفة الاُولى
1ـ ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال:
«ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلّم عليه ويقعد عنده إلاّ ردّ عليه السلام وأنس به حتّى يقوم من عنده»[7].
2ـ جاء عن بريدة أنه قال:
كان رسول الله (ص) يعلمهم إذا خرجوا الى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية»[8].
الطائفة الثانية
تشير هذه الطائفة الى ندبية زيارة القبور بعد النهي عنها بالاضافة الى ذكر علّتها وغرض الشارع من سنّه هذه العبادة.
1ـ زار النبي (ص) قبر اُمه فبكى وأبكى من حوله… ثمّ قال: «استأذنت ربي في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت»[9].
2ـ روي أن عائشة قالت: إنّ رسول الله رخّص في زيارة القبور[10].
ويستفاد من هذه الطائفة أن النبي محمد المصطفى (ص) كان قد نهى عن زيارة القبور نهياً مؤقتاً ثم رفع النهي وحبّذ زيارة القبور في ما بعد.
ويذكر أن العلّة في النهي المؤقت ترجع الى أن المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام، فكانوا ينوحون على قبور موتاهم نياحة باطلة تخرجهم من نطاق الشريعة، ولما تركّز الإسلام في قلوبهم وأنسوا بالشريعة والأحكام الإسلامية وكثرت قبور المسلمين، ألغى النبي (ص) ذلك النهي عن زيارة القبور بأمر الله تعالى لما فيها من الآثار الحسنة والنتائج الطيبة.
ثالثاً: الدليل التاريخي
إنّ المتتبع لسيرة المسلمين في الصدر الأوّل قبل وبعد وفاة الرسول الأعظم (ص) سيجدها قائمة على زيارة القبور، وإليك جملة من الشواهد التاريخية على ذلك:
1 ـ أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري فقال: جئت رسول الله (ص) ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غيرأهله»[11].
2 ـ إن فاطمة الزهراء (س) جاءت الى قبر النبي (ص) فأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها وبكت[12].
3ـ إن أعرابياً جاء الى قبر النبي محمد (ص) وحثا من ترابه على رأسه، وخاطبه وقال: وكان في ما أنزل عليك: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك…) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك. وكان هذا بمحضر من الإمام علي بن أبي طالب (ع)[13].
إذاً من خلال الرؤية القرآنية والأحاديث الشريفة وسيرة المسلمين، تثبت مشروعية زيارة قبور المؤمنين بشكل عام.
رابعاً: التوسل عند قبر النبي (ص)
ويمكن الاستدلال على شرعية زيارة القبور عن طريق مشروعية التوسل عند قبر النبي (ص) باعتباره عبادة لا غبار عليها، وبإمكان الإنسان المسلم أن يتقرّب الى الله عن طريقها، وقد أ كّدها القرآن الكريم في أكثر من آية، نذكر منها طلباً للاختصار قوله تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)[14].
نجد أن أبناء يعقوب قد طلبوا المغفرة من يعقوب، لكن ليس بمعزل عن القدرة الإلهية، وإنّما جعلوا يعقوب واسطة في طلب المغفرة بسبب كونه مقرّباً عند الله وذا جاه عنده سبحانه.
وهذا واضح من خلال جواب يعقوب (ع) لأبنائه: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)[15].
كما أكدت الأحاديث الشريفة أيضاً مشروعية التوسل.
فعن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله (ص) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا اُمي بعد اُمي. وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، ثم دعا رسول الله (ص) اُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود لحفر القبر، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللّحد، حفره رسول الله (ص) بيده، وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله (ص) فاضطجع فيه، ثم قال: «الله الذي يُحيي ويُميت وهو حيّ لا يموت، اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيّك والأنبياء الذين قبلي»[16].
أما سيرة المسلمين في التوسل بعد رسول الله (ص) فقد كانت جارية، فنجد أبا بكر بعدما توفي رسول الله (ص) قال: اذكرنا يا محمد عند ربّك ولنكن في بالك[17].
وأن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب وقال: اللهم كنا نتوسل إليك بنبيّنا فتُسقينا، وأنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا، قال: فيسقون[18].
فإذا كان التوسل من العبادات المشروعة وكان المسلمون يتوسلون بالرسول (ص) والأنبياء والصالحين فالزيارة لقبره (ص) تتضمن التوسل به، أو أن التوسل يتم بواسطة الزيارة لقبره الشريف احتذاءً بسيرة السلف الصالح.
خامساً: زيارة قبر النبي (ص)
تدعو الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الى زيارة قبر الرسول الأعظم (ص) والسؤال عنده، بالإضافة الى إجماع عامة المسلمين خلفاً عن سلف من عهد رسول الله (ص) الى يومنا هذا، ولا يوجد من ينكر زيارة قبر الرسول (ص) إلاّ الوهابية.
فأمّا شهادة القرآن الكريم فقد قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)[19].
بهذه الآية يأمر القرآن الكريم المذنبين بأن يحضروا عند رسول الله ويسألوا منه أن يستغفر لهم، لأن دعاء النبي مستجاب فيهم.
ولم تكن هذه الآية خاصة بحياة النبي وفترة وجوده بين الناس بل نستخلص منها حكماً عاماً وشاملاً يتعدى حياة النبي (ص). لأن القرآن الكريم يصرح بحياة الأنبياء والأولياء في الحياة البرزخية ويعتبرهم مبصرين وسامعين في ذلك العالم، بالإضافة الى ورود كثير من الأحاديث الشريفة التي تصرح بأن الملائكة تبلّغ خاتم الأنبياء (ص) سلامَ من يسلّم عليه.
فقد جاء في الصحاح: أن رسول الله (ص) قال: «ما من أحد يُسلّم عليَّ إلاّ ردّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام»[20].
من هنا يجوز للإنسان أن يقف عند قبر رسول الله (ص) بعد وفاته ويسأل منه أن يستغفر الله له، وبهذا يثبت جواز الزيارة لقبر الرسول (ص) لأن حقيقتها تعني حضور الزائر عند المزور.
أمّا الأحاديث التي وردت في الصحاح حول زيارة قبر الرسول الأعظم (ص) فكثيرة جداً نقتصر على ذكر بعض منها:
1ـ عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله (ص) قال: «من زار قبري وجبت له شفاعتي»[21].
2ـ عن رسول الله (ص) أنه قال: «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني»[22].
3ـ وعن رسول الله (ص) أنه قال: «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي»[23].
الوهابية وزيارة قبر النبي (ص)
استدل ابن تيمية ومن تبعه في تطرّفه على حرمة زيارة قبر النبي (ص) بالحديث المنقول عن أبي هريرة عن رسول الله (ص).
«لا تُشدّ الرحال إلاّ الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى»[24].
وعلق ابن تيمية على هذا الحديث قائلاً: (هذا الحديث صحيح اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر الرجل أن يصلي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة)[25].
لا شك في وجود هذا الحديث في الصحاح ولسنا الآن في مقام المناقشة في سنده، بل مقصودنا هو مفاد الحديث.
ولنفترض أن نص الحديث هو: «لا تُشدُّ الرحال إلاّ الى ثلاثة مساجد…» فمن الثابت أن «إلاّ» هي أداة الاستثناء ولابد من وجود المستثنى منه، ويجب تحديده، وبما أنه مفقود في النص فلابد من تقديره في الكلام.
وقبل الإشارة الى القرائن الموجودة يمكن تقدير المستثنى منه في صورتين:
1ـ لا تُشدّ الرحال الى مسجد من المساجد إلاّ ثلاثة مساجد…
2ـ لا تُشدّ الرحال الى مكان من الأمكنة إلاّ الى ثلاثة مساجد…
إن فهم الحديث والوقوف على معناه يتوقف على أحد هذين التقديرين.
فإن اخترنا التقدير الأول كان معنى الحديث عدم شد الرحال الى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم جواز شدّ الرحال الى أيّ مكان حتى لو لم يكن مسجداً.
فلا يشمل النهي مَن يشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين، لأن موضوع البحث هو شدّ الرحال الى المساجد ـ باستثناء المساجد الثلاثة المذكورة ـ وأمّا شدّ الرحال الى زيارة المشاهد المشرّفة فليس مشمولاً للنهي ولا داخلاً في موضوعه. هذا على التقدير الأول.
وأمّا على التقدير الثاني فلازمه أن تكون كافة السفرات المعنوية ـ ما عدا السفر الى المناطق الثلاث المذكورة ـ محرّمة، سواءٌ كان السفر من أجل زيارة المسجد أو زيارة مناطق اُخرى.
ولكن القرائن والدلائل تُشير الى أن التقدير الأول هو الصحيح، بناءً على صحة سند الحديث واعتباره.
أمّا القرائن على صحة التقدير الأوّل فهي كالآتي:
أولاً: لأن المساجد الثلاثة هي المستثناة، والاستثناء هنا متّصل ـ كما هو واضح ـ فلابدّ أن يكون المستثنى منه هو المساجد لا المكان.
ثانياً: لو كان الهدف هو منع كافة السفرات المعنويّة لما صحّ الحصر في هذا المقام، لأن الإنسان يشدّ الرحال في موسم الحجّ للسفر الى «عرفات» و «المشعر» و«منى» فلو كانت السفرات الدينية ـ لغير المساجد الثلاثة ـ محرّمة، فلماذا يُشدّ الرحال الى هذه المناطق؟! ألا يكون هذا شاهداً على أن الحديث بهذا النحو منحولٌ على النبي (ص).
ثالثاً: لقد أشار القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الى بعض الأسفار الدينية، وجاء التحريض عليها والترغيب فيها، كالسفر من أجل الجهاد في سبيل الله وطلب العلم وصلة الرحم وزيارة الوالدين وما شابه ذلك.
من هنا.. فإن المنهيَّ عنه ـ في هذا الحديث ـ هو شدّ الرحال الى غير المساجد الثلاثة، من المساجد الاُخرى، ولا علاقة له بالسفر الى المساجد أو البقاع المباركة للزيارة أو لأهداف معنويّة اُخرى.
ويدلّ عليه ما رواه أصحاب الصحاح والسُنن أن رسول الله (ص) كان يأتي مسجد قُبا راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين[26].
ولنا أن نتساءل: كيف يمكن أن يكون شدّ الرحال وقطع المسافات من أجل إقامة الصلاة ـ مخلصاً لله ـ في بيت من بيوته سبحانه حراماً ومنهيّاً عنه؟!!
وإذا كانت الصلاة في المسجد مستحبّة فإن مقدمة المستحبّ مستحبّة أيضاً.
ومن هنا لا يلتزم الوهابيون بتحريم زيارة قبر الرسول (ص) بقول مطلق، بل نجدهم يعترفون بأصل الزيارة ومشروعيتها، إلاّ أن السفر لأجلها يعدّونه حراماً.
سادساً: الإجماع على جواز زيارة القبور وقبر النبي (ص)
قد أجمع المسلمون قولاً وعملاً على زيارة قبر النبي (ص) بل استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين، ومشروعيتها ملحق بالضروريات عند المسلمين، فضلاً عن الاجماع وسيرتهم القائمة عليها.
قال السمهودي نقلاً عن السبكي: قال عياض: زيارة قبره (ص) سنّة بين المسلمين. مجمع عليها، وفضيلة مرغوب فيها[27].
قال السبكي: وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها واختلفوا في النساء، وامتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به، لهذا أقول: إنه لا فرق بين الرجال والنساء[28].
أقوال العلماء في جواز زيارة القبور
وإليك جملة من أقوال العلماء الناصّة على جواز زيارة القبور بل استحبابها عند عامة العلماء:
1ـ قال الإمام محمد بن ادريس الشافعي: ولا بأس بزيارة القبور، ولكن لا يقال عندها هجر، وذلك مثل الدعاء بالويل والثبور والنياحة، فإذا زرت فاستغفر للميت ويرقّ قلبك[29].
2ـ يقول الحاكم: قد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنّة مسنونة[30].
3ـ قال ابن حزم: وتستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرة، وقد صح عن اُم المؤمنين وابن عمر وغيرهما زيارة القبور، وروي عن عمر النهي عن ذلك ولم يصح[31].
4ـ قال أبو حامد الغزالي: زيارة القبور مستحبة على الجملة للتذكّر والاعتبار، وزيارة قبور الصالحين مستحبة لأجل التبرك مع الاعتبار[32].
5ـ مذهب أهل البيت (ع): يتأكد استحباب زيارة القبور يوم الاثنين وغداة السبت، تأسياً بالنبي (ص)[33] فإنه كان يخرج في ملأ من الناس من أصحابه كل عشية خميس الى بقيع المدنيين، فيقول: «السلام عليكم يا أهل الديار (ثلاثاً) رحمكم الله (ثلاثاً)»[34].
الاستنتاج
إن الشريعة المقدسة قد أقرّت زيارة القبور بل اهتمّت بها، والثابت عن رسول الله أنه (ص) كان يزور قبور الموتى كقبر اُمه وقبور الموتى في البقيع. وسيرة المسلمين كانت مستمرة على زيارة قبور الموتى من الأنبياء والصالحين من حياة رسول الله وبعد وفاته وحتى يومنا هذا. ثم إن زيارة قبر الرسول (ص) ثابتة بالأدلة القرآنية والأحاديث الشريفة، وأنها لا تختص بحياة الرسول ولا بالدعاء له بل تمتد الى بعد وفاته ثم سؤاله بشتى الدعوات.
الهوامش
[1] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص375، كتاب الجنائز.
[2] يونس، 92.
[3] ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج1، ص501، باب 47، ح1571.
[4] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص376، كتاب الجنائز.
[5] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص376، كتاب الجنائز.
[6] التوبة، 84.
[7] المتّقي الهندي، كنز العمال، ج13، ص656، ح42601.
[8] ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج3، ص78، كتاب الجنائز، باب 36، ح1547.
[9] مسلم، صحيح مسلم، ج3، ص65، باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر اُمه.
[10] السجستاني، سنن أبي داود، ج2، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، ح1955.
[11] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج4، ص515.
[12] الأمين، كشف الارتياب، ص436، نقلاً عن تحفة ابن عساكر.
[13] السمهودي، وفاء الوفاء، ج2، ص1361.
[14] يوسف، 97.
[15] يوسف، 98.
[16] الأمين، كشف الارتياب، ص312، نقلاً عن وفاء الوفاء.
[17] زيني دحلان، الدرر السنية في الرد على الوهابية، ص36.
[18] البخاري، صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء، ج2، ص32، ح947.
[19] النساء، 64.
[20] السجستاني، سنن أبي داود، ج1، ص470، كتاب الحج.
[21] القاضي عياض، الشفا، ج2، 83.
[22] السمهودي، وفاء الوفاء، ج4، ص1342.
[23] السمهودي، وفاء الوفاء، ج4، ص1340.
[24] مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص126، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال.
[25] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج27، ص219.
[26] مسلم، صحيح مسلم، ج4، ص127.
[27] القاضي عياض، الشفا، ج2، ص83.
[28] السبكي، شفاء السقام، ص69.
[29] البيهقي، السنن الكبرى، ج3، ص203، باب زيارة القبور.
[30] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص377.
[31] ابن حزم، المحلّى، ج5، ص160، مسألة 600.
[32] الغزالي، إحياء العلوم، ج4، ص521.
[33] النجفي، جواهر الكلام، ج4، ص321، كتاب الطهارة، استحباب زيارة القبور.
[34] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص223، ح3467.
مصادر المقالة
1ـ ابن تيمية، أحمد، مجموعة الفتاوى، المدينة المنوّرة، مجمع الملك فهد، طبعة 1416 ه.
2ـ ابن حزم، علي، المحلّى، دار الفكر، بلا تاريخ.
3ـ ابن ماجة، محمّد، سنن ابن ماجة، بيروت، دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
4ـ الأمين، محسن، كشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهاب، تحقيق حسن الأمين، قم، محكتبة الحرمين، الطبعة الثانية، 1382 ه.
5ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
6ـ البيهقي، أحمد، السنن الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1414ه.
7ـ الحاكم النيسابوري، محمّد، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار التأصيل، طبعة 1435 ه.
8ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
9ـ زيني دحلان، أحمد، الدرر السنية في الرد على الوهّابية، استانبول، مكتبة ايشيق، طبعة 1396 ه.
10ـ السبكي، علي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام، استانبول، مكتبة ايشيق، الطبعة الثانية، 1318 ه.
11ـ السجستاني، سليمان، سنن أبي داود، تحقيق سعيد محمّد اللحّام، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
12ـ السمهودي، علي، وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
13ـ الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، جدّة، دار المنهاج، الطبعة الأُولى، 1432 ه.
14ـ القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، بيروت، دار الفكر، طبعة 1409 ه.
15ـ المتّقي الهندي، علي، كنز العمّال، بيروت، مؤسّسة الرسالة، طبعة 1409 ه.
16ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
17ـ النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق عباس القوجاني، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1367 ش.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
الموسوي، عبد الرحيم، زيارة القبور، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.