حصلت في كربلاء ليلة عاشوراء عام 61 ه عدة وقائع مهمة للإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه، وهنا نشير إلى أهم تلك الوقائع التي وقعت، والتي نستلهم منها الدروس والعبر، ونعرف مدى مظلومية الإمام الحسين (ع)، ومدى قساوة الطرف الآخر، المتمثل بجيش عمر بن سعد.
لقاء الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه في ليلة عاشوراء
يروي الطبري عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن الإمام السجاد (ع) قال: «جمع الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.
أما بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي! ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد أذنت لكم! فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام! هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملا!»[1].
وفي رواية بعدها للطبري أيضاً أنه (ع) قال: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإنّ القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.
فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنو أخيه، وإبنا عبدالله بن جعفر: لم نفعل!؟ لنبقى بعدك!؟ لا أرانا الله ذلك أبداً!
بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي، ثمّ إنّهم تكلموا بهذا ونحوه!
فقال الحسين (ع): يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، إذهبوا قد أذنت لكم!
قالوا: فما يقول الناس!؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف! ولاندري ماصنعوا!؟ لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبّح ا الله العيش بعدك!»[2].
«قال فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك!؟ أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي! وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك! ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم بـه لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك!
وقال سعد بن عبدالله الحنفي والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله علل الله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أُحرق حياً ثم أُذَرُ، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!؟
وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلتُ حتَّى أُقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!
قال وتكلم جماعة بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فقالوا: والله لا تفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا! فإذا نحنُ قُتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا»[3].
وفي مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: «ثُمّ تكلّم بریر بن خضير الهمداني، وكان من الزهاد الذين يصومون النهار ويقومون الليل فقال: يا ابن رسول الله، إنذن لي أن آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعله يتعظ ويرتدع عما هو عليه!
فقال الحسين: ذاك إليك يا برير.
فذهب إليه حتى دخل على خيمته، فجلس ولم يسلّم! فغضب عمر وقال: يا أخا همدان مامنع من السلام علي!؟ ألستُ مسلماً أعرف الله ورسوله وأشهد بشهادة الحق!؟
فقال له برير: لو كنت عرفت الله ورسوله كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم وبعد فهذا الفرات يلوح بصفائه، ويلج كأنه بطون الحيات تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها، وهذا الحسين بن علي وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً! وقد حِلْتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه! وتزعم أنك تعرف الله ورسوله!؟
فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض، ثمّ رفع رأسه وقال: والله يا برير إنّي لأعلم يقيناً أن كل من قاتلهم وغصبهم حقهم هو في النار لامحالة، ولكن يا برير! أفتشير علي أن أترك ولاية الري فتكون لغيري!؟ فوالله ما أجد نفسي تجيبني لذلك، ثم قال:
دعاني عبيدالله من دون قومه ** إلى خطة فيها خرجتُ لِحيني
فوالله ما أدري وإني لحائر ** أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي ** أم ارجع مأثوماً بقتل حسين؟
وفي قتله النار التي ليس دونها ** حجاب، وملك الري قرة عيني»[4]
فرجع برير إلى الحسين وقال: «يا ابن رسول الله، إن عمر بن سعد قد رضي لقتلك بملك الري!»[5].
وفي رواية أخرى عن الإمام السجاد (ع) حول ليلة عاشوراء
روى السيد هاشم البحراني مرسلاً عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين زين العابدين (ع) يقول: «لما كان اليوم الذي استشهد فيه أبي، جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم.
فقال لهم: يا أهلي وشيعتي اتخذوا هذا الليل جملاً لكم، وانجوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، وأنتم في حلّ وسعة من بـيعتي وعهدي الذي عاهدتموني.
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد والله يا سيدنا يا أبا عبد الله، لا خذلناك أبداً، والله لا قال الناس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيدهم وحده حتى قتل ونبلوا بيننا وبين الله عُذراً ولا نخليك أو تقتل دونك!
فقال (ع) لهم : يا قوم إني غداً أقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبق منكم واحد!
فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك! أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله ؟
فقال (ع): جزاكم الله خيراً. ودعا لهم بخير، فأصبح وقتل وقتلوا معه أجمعون!!
فقال له القاسم بن الحسن (ع): وأنا فيمن يقتل؟
فأشفق عليه فقال له: يا بني كيف الموت عندك؟
قال: يا عم، أحلى من العسل!
فقال (ع): إي والله فداك عمّك ! إنّك لأحد من يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم! وإبني عبد الله!
فقال: يا عم ويصلون إلى النساء حتى يُقتل عبدالله وهو رضيع!؟
فقال (ع): فداك عمّك يُقتل عبد الله إذ جنّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خيمنا فطلبت ماءً ولبناً فلا أجد قط ! فأقول: ناولوني إبني لأشرب من فيه! فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحمله لأدنيه من في فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يناغي! فيفيض دمه في كني! فأرفعه إلى السماء وأقول: اللهم صبراً واحتساباً فيك! فتعجلني الأسنّة فـ الأسنة فيهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا! فيكون ما يريد الله فبكى وبكينا، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول الله (ص) في الخيم.
ويسأل زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عنّي، فيقولون: يا سيدنا! فسيدنا علي ـ فيشيرون إليَّ ـ ماذا يكون حاله؟
فيقول مستعبراً: ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا ! فكيف يصلون وهو أبو ثمانية أئمة !؟»[6].
قول الحضرمي في ليلة عاشوراء: أكلتني السباع حياً إن فارقتك
وروى السيد ابن طاووس (ره) أنه: «وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِر ابنك بثغر الري! قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعده!
فسمع الحسين (ع) قوله: فقال: رحمك الله! أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك!
فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك!!
قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه! فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار!»[7].
إشارة
في زيارة الناحية المقدّسة ورد السلام على بشر بن عمر الحضرمي والثناء عليه بما قاله للإمام الحسين (ع) هكذا: «السلام على بشر بن عمر الحضرمي، شكر الله لك قولك للحسين وقد أذن لك في الإنصراف: أكلتني إذن السباع حياً إن فارقتك! وأسأل عنك الركبان!؟ وأخذلك مع قلة الأعوان!؟ لا يكون هذا أبداً!»[8].
وقال المحقق السماوي (ره): «بشر بن عمرو بـن الأحدوث الحضرمي الكندي: كان بشر من حضرموت، وعداده في كندة، وكان تابعياً، وله أولاد معروفون بالمغازي، وكان بشر ممن جاء إلى الحسين (ع) أيام المهادنة.
وقال السيّد الداودي: لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ووقع القتال، قيل لبشر وهو في تلك الحال: إن إبنك عمراً قد أُسر في ثغر الري! فقال: عند الله أحتسبه ونفسي! ما كُنت أحب أن يؤسر وأن أبقى بعده فسمع الحسين (ع) مقالته، فقال له: رحمك الله! أنت في حلّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك إبنك!
فقال له: أكلتني السباع حياً إن أنا فارقتك يا أبا عبدالله!
فقال له: فأعط إبنك محمّداً – وكان معه – هذه الأثواب البرود يستعين بها في فكاك أخيه. وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار!»[9].
فالمستفاد مما أورده المحقق السماوي (ره): «أن هذا الشهيد (رض) إسمه بشر، وإسم إبنه الذي كان معه محمّد، وإسم ابنه الأسير في ثغر الري عمرو.
إذن فإسم هذا الشهيد (رض) – وهو الموافق لما ورد في زيارة الناحية المقدسة – بشر بن عمرو أو عمر الحضرمي وليس اسمه محمد بن بشير الحضرمي كما ورد في تاريخ ابن عساكر واللهوف هذا أولاً.
أما ثانياً: فإن ما أورده المحقق السماوي (ره) صريح في أن هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر كما يُشعر به سیاق کتاب اللهوف.
ويؤيد أن هذه الواقعة كانت يوم العاشر ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتابه مقاتل الطالبيين مشيراً إلى هذه قصة، حيث يقول: «وجاء رجل حتى دخل عسكر الحسين، فجاء إلى رجل من أصحابه فقال له: إن خبر إبنك فلان وافي أن الديلم أسروه! فتنصرف معي حتى نسعى في فدائه؟
فقال: حتى أصنع ماذا!؟ عند الله أحتسبه ونفسي!
فقال له الحسين (ع): انصرف، وأنت في حلّ من بيعتي، وأنا أعطيك فداء إبنك!
قال: هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك! لا يكن والله هذا أبداً ولا أفارقك!
ثم حمل على القوم فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه ورضوانه»[10].
ولا ندري.. فلعل العبارة الأخيرة في خبر أبي الفرج الأصبهاني كانت مستند القول فيما بعد أن هذه الواقعة كانت يوم العاشر وليس ليلة العاشر، كما قال به الشيخ السماوي (ره) نقلاً عن السيد رضي الدين الداودي، والله العالم.
في ليلة عاشوراء الإمام (ع) يُري أنصاره منازلهم في الجنة
روى القطب الراوندي (ره) عن أبي حمزة الثمالي (ره) قال: «قال علي بن الحسين (ع): كُنت مع أبي الليلة التي قُتل صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جملاً، فإن القوم إنما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حلّ وسعة!
فقالوا: لا والله لا يكون ذلك أبداً!
قال: إنكم تقتلون غداً كذلك لا يفلت منكم رجل![11].
قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك!
ثم دعا، وقال لهم: إرفعوا رؤوسكم وانظروا!
فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان وهذا قصرك يا فلان وهذه درجتك يا فلان!
فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزله من الجنّة!».
حبيب بن مظاهر وسر المزاح ليلة عاشوراء
نقل الكشي (ره) عن كتاب (مفاخر الكوفة والبصرة) قائلاً:
«ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسدي، فقال له يزيد بن خضير الهمداني، وكان يُقال له سيّد القراء: يا أخي! ليس هذه بساعة ضحك!
قال: فأي موضع أحق من هذا بالسرور!! والله ماهو إلا أن تميل علينا هذه الطعام بسيوفهم فنعانق الحور العين!»[12].
إشارة
ليس في أنصار الإمام الحسين (ع) الذين استشهدوا بين يديه في كربلاء رجل من آل همدان إسمه يزيد بن خضير الهمداني، بل إن هذا الرجل هو برير بن خضير الهمداني، ويؤكد صحة هذا ما وصفه الخبر بأنه كان سيد القراء، لأن بريراً كان معروفاً بشيخ القراء أو سيّد القرّاء في الكوفة، إذن فيزيد تصيحف البرير.
ونقل السيد المقرّم (ره) في المقتل[13] هذه الواقعة عن رجال الكشي أيضاً قائلاً: «وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك!… .
وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة أيضاً: «السلام على يزيد بن حصين الهمداني المشرقي القاري»[14].
قال المحقق السماوي (ره): «برير: في ضبط هذا الإسم وضبط إسم أبيه خلاف، فقد كتب في الرجال: يزيد بن حصين …»[15].
وقال المحقق التستري: «هذا، وقد قلنا في عنوان برير بن حصين: إن يزيد بن حصين في نسخة الكشي محرّف بریر بن خضير» هذا[16].
أصحاب الحسين (ع) لا يجدون ألم مس الحديد!
روى القطب الراوندي (ره) بسنده عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «قال الحسين بن على (ع) لأصحابه قبل أن يُقتل: إن رسول الله (ص) قال: يا بني، إنك ستساق إلى العراق، وهي أرض التقى بها النبيون وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى (عمورا)، وإنك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك، لا يجدون ألم مس الحديد، وتلا: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ»، تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً! فأبشروا! فوالله لئن قتلونا فإنا نرد على نبينا…»[17].
قول الإمام (ع) في ليلة عاشوراء: يا دهرُ أُفٍّ لك من خليل!
قال الشيخ المفيد (ره): «قال علي بن الحسين (ع): إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يـا دهرُ أُنّ لك من خليل ** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ** والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ** وكل حي سالك سبيلي
فأعادها مرتين أو ثلاثاً، حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل وأمّا عمّتي فإنها سمعت ما سمعتُ، وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها إذ وثبت تجرُّ ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه.
فقالت: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن (ع)! يا خليفة الماضين وثمال[18] الباقين.
فنظر إليها الحسين (ع) فقال لها: يا أُخيّة لا يُذهبن حلمك الشيطان! وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام!
فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدُّ على نفسي!
ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشياً عليها!
فقام إليها الحسين (ع)، فصب على وجهها الماء، وقال لها: إيها يا أختاه! إنّي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعيدهم، وهو فرد وحده، جدّي خير مني، وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خيرٌ منّي، ولي ولكل مسلم برسـول الله (ص) أسوة !
فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أُخيّة، إنّي أقسمت عليك فأبري قسمي، لا تشقّ علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت!
ثم جاء بها حتى أجلسها عنده ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، قد حقت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم، ورجع (ع) إلى مكانه فقام الليل كله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرّع وقام أصحابه كذلك يُصلّون ويدعون ويستغفرون»[19].
الحسين (ع) يتفقد التلاع والروابي في ليلة عاشوراء
«وخرج (ع) في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه.
قال: يا ابن رسول الله! أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي!
فقال الحسين (ع): إني خرجت أتفقد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون!
ثم رجع (ع) وهو قابض على يد نافع ويقول: هي هي والله! وعد لاخُلف فيه!
ثم قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟
فوقع نافع على قدميه يُقبلها ويقول: ثكلتني أمي! إن سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي منَّ بك عليَّ لا فارقتك حتى يكلاً عن فري وجري!
ثم دخل الحسين خيمة زينب ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره، فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نياتهم؟ فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة! فقال لها: والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس[20] يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه.
قال نافع: فلما سمعت هذا منه بكيت، وأتيتُ حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن أخته زينب.
قال حبيب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة!
قلت: إنّي خلّفته عند أخته، وأظنُّ النساء أفقن وشاركتها في الحسرة! فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهوهن بكلام يطيب قلوبهن!
فقام حبيب ونادى يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!
فتطالعوا من مضاربهم كالأسود الضارية! فقال لبني هاشم: إرجعوا إلى مقركم لاسهرت عيونكم ! ثم التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع.
فقالوا بأجمعهم: والله الذي منَّ علينا بهذا الموقف، لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطب نفساً وقُرَّ عيناً!
فجزاهم خيراً، وقال: هلموا معي لنواجه النسوة ونطيب خاطرهن.
فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح يا معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يغمدوها إلا في رقاب من يريد السوء فيكم! وهذه أسنة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم!
فخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيها الطيبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين!
فضح القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تميد بهم»[21].
الاستنتاج
من أهم الوقائع التي وقعت ليلة عاشوراء: لقاء الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه، حيث اعطاهم الرخصة في الذهاب، ولكن رآى تصميمهم على البقاء معه، فعندئذ أراهم منازلهم في الجنة، وأخبرهم أنهم لا يجدون ألم مس الحديد، ومنها: لقاؤه مع أخته زينب (س) وإخباره لها بما يجري عليه وعليها، ثم صبرها وعزاها.
الهوامش
[1] الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص317، والمفيد، الإرشاد، ص٢٥٨.
[2] الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص317.
[3] الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص317.
[4] ونسب إليه لعنه الله أيضاً هذه الأبيات:
حسين ابن عمي والحوادث جمّة ** لعمري، ولي في الري قرّة عين
لعل إله العرش يغفر زلتي ** ولو كنت فيها أظلم الثقلين
[5] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج1، ص351.
[6] البحراني، مدينة المعاجز، ج4، ص21، حديث 295.
[7] ابن طاووس، اللهوف: ٤٠.
[8] المجلسي، بحار الأنوار، ج 45، ص70، وج101، ص272.
[9] السماوي، إبصار العين، ص١٧٣.
[10] أبو الفرج الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص78.
[11] الراوندي، الخرائج والجرائح، ج2، ص847، رقم 62.
[12] الكشي، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص293، رقم133.
[13] المقرّم، مقتل الحسين، ص٢١٦.
[14] المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص70.
[15] السماوي، إبصار العين، ص١٢٥.
[16] التستري، قاموس الرجال، ج2، ص296، رقم ١٠٧٧.
[17] الراوندي، الخرائج والجرائح، ج2، ص848، رقم ٦٣.
[18] الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه، والملجاً.
[19] المفيد، الإرشاد، ص٢٥٩، والطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص318.
[20] الأشوس: ذو النخوة، الأبي، الجريء على القتال، الشديد. الأقعس: الثابت، العزيز، المنيع، (راجع، ابن منظور، لسان العرب، ج٦، مادّة: شوس وقعس).
[21] المقرّم، مقتل الحسين، ص218.
مصادر البحث
1ـ ابن طاووس، علي، اللهوف في قتلى الطفوف، قم، أنوار الهدى، الطبعة الأولى، 1417 ه.
2ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه.
3ـ الإصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثانية، 1385 ه.
4ـ البحراني، هاشم، مدينة المعاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، تحقيق عزة الله المولائي الهمداني، قم، نشر مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
5ـ التستري، محمّد تقي، قاموس الرجال، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
6ـ الخوارزمي، الموفّق، مقتل الحسين (ع)، تحقيق محمّد السماوي، قم، أنوار الهدى، الطبعة الثانية، 1423 ه.
7ـ الراوندي، سعيد، الخرائج والجرائح، قم، مؤسّسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأولى، 1409 ه.
8ـ السماوي، محمّد، إبصار العين في إنصار الحسين (ع)، تحقيق محمّد جعفر الطبسي، مركز الدراسات الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
9ـ الطبري، محمّد، تاريخ الأُمم والملوك، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الرابعة، 1403 ه.
10ـ الكشي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الأولى، 1348 ش.
11ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
12ـ المفيد، محمّد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، 1413 ه.
13ـ المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين (ع)، مؤسّسة البعثة، بلا تاريخ.
مصدر المقالة
الشاوي، علي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، قم، مركز الدراسات الإسلامية، طبعة 1421 ه.
مع تصرف بسيط.
احسنتم جزاك الله خير الجزاء اجركم على الحسين والزهراء والامام علي ونبينا محمد عليه وعليهم سلام الله اجمعين
مقال يدمي القلب والعين حسرة على مصاب الحسين واهل بيته واصحابه