نحن كمسلمين نعتقد بالمعاد لأدلة قرآنية منها: الفطرة، وغائية الخلق، وعدالة الله تعالى، ومسير الإنسان التكاملي، ثم أننا نعتقد بوجود المعاد الجسماني للآيات والروايات، وأن شبهة (الأكل والمأكول) نابعة من الجهل، فهي ليست في واقعها شبهة علمية، ورغم ذلك رد عليها القرآن والفلاسفة، فهنا ثلاثة أبحاث نتطرق إليها:
الأول: إثبات أصل المعاد
إن من يقر بوجود الله تعالى، يعتقد بالمعاد أيضاً. فيبدو أنه لا يوجد من يؤمن بالمبدأ وهو ينكر المعاد في نفس الوقت. وهناك الكثير من الأدلة التي تثبت أصل المعاد. ولكون بحثنا في إطار القرآن الكريم، سوف نشير إلى الأدلة القرآنية فقط.
الفطرة
دليل الفطرة من بين الأدلة التي تثبت يوم الجزاء. فلو ترك الإنسان الخرافات لعرف (المبدأ) ومن بعده عرف (المعاد).
(الفطرة) تعني الإحساس الباطني مقابل (العلم) الذي يعني الإحساس الخارجي. فإحساسنا بالشخص الجالس أمامنا يسمى علماً، لكنه (علم بالعرض) لا (علم الذات) يعني عندنا علم بما انعكس في ذهننا من الخارج. أما إحساسنا بالعطش، فهو إحساس باطني. قال تعالى في القرآن الكريم:
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الَّذِينَ فَلَمَّا نَجَهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[1].
فالإنسان الذي تتقاذفه أمواج البحر وتحيط به الأخطار من كل مكان، يرى جميع الأسباب تتساقط وتتهافت، ولا يرى غير الله تعالى مسبب الأسباب فلا يتوسل إلا به سبحانه، لأنه يدرك بفطرته أن القادر على نجاته هو الله تعالى فقط، في هذه الحالة يكون الإيمان بالمبدأ كحصول الإحساس بالعطش، إحساس فطري. وحين ينجو الإنسان من البحر يغفل عن فطرته، ويصبح مشركاً. وإذا كان الإنسان ذا نفس سليمة فإن فطرته الإلهية ستهديه دائماً إلى الطريق الصحيح للمبدأ والمعاد. ويكون مصداقاً للآية الشريفة: (لا تُلْهِيهِمْ تَجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ…)[2].
هكذا أشخاص ينظرون إلى الباري تعالى بأبصار قلوبهم ودليلهم الدائم إليه سبحانه هو نور الفطرة، كما نقرأ في دعاء يوم عرفة: (متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك).
فالإنسان يعتقد فطرياً «بالمبدأ والمعاد» لكن الأهواء والشهوات الدنيوية تلوث فطرته وتطبع على قلبه فينكر المعاد ليتحرر من عذاب الضمير فيمضي حياته الدنيوية في اللهو واللعب.
غائية الخلق
الدليل الثاني لإثبات المعاد هو غائية الخلق. فلولا وجود المعاد لكان عالم الوجود عبثاً محضاً. كما الأطفال يمضون الساعات في صناعة بيت خشبي مثلاً، ثم تذهب كل أتعابهم أدراج الرياح بضربة واحدة يهشمون بها ما صنعوا. ولو أن عمل الأطفال هذا غايته اللعب، فستكون عبيثة الخلق أسوأ منه لبطلان ما لا غاية له. فكل عالم الوجود يشهد بالحكمة والتقدير في الخلق وهذا ليس خافياً على أحد.
كيف نصدق خلق النطفة من طين، ثم تحولها إلى إنسان يتحمل المشاق والمتاعب والآلام في حياته ثم عاقبته العدم؟ وما الفرق بين الظالم والمظلوم إن لم يكن هناك يوم الجزاء؟ وما هي الحكمة من الخلق؟
القرآن الكريم يتحدث في هذا الخصوص:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[3]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[4].
فالاعتقاد بعبثية الخلق من شأن الكافر والمنكر للمبدأ، وإلا فالمؤمن يؤمن حتماً بالمعاد، وفي مكان آخر يقول القرآن الكريم:
لو لم يكن خلق السموات والأرض وما بينهما مؤدياً إلى غاية ثابتة باقية وهي الله تعالى، ولو انتفى يوم الحساب، لكان الخلق باطلاً والباطل بمعنى ما لا غاية له مستحيل من الحكيم ولا ريب في حكمته تعالى. فوجب وجود المعاد لينتفي العبث والبطلان عن عالم الوجود.
عدالة الله تعالى
العدالة هي الدليل الثالث على إثبات المعاد. فعدالة الله تعالى تقتضي بوجود يوم يحاسب فيه الإنسان على أعماله وأقواله، ولولا المعاد والحساب لكان ذلك ظلماً من الباري، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. فانتفاء المعاد لا ينسجم والعدالة الإلهية.
فلو لم يكن المعاد، فكيف يعاقب مجرم مثل صدام الذي قتل الآلاف من الأبرياء واعتدى على الأعراض ودمر إمكانيات المسلمين؟ أيمكن الاقتصاص من كل هذه الجرائم في الدنيا؟ وهل يعوض حكم إعدامه وشنقه عن آلاف الدماء البريئة؟ فلا يمكن الاقتصاص للمظلومين إلا بوجود المعاد. ولما كانت العدالة الإلهية تقتضي الاقتصاص بلا زيادة أو نقصان فلا يتيسر تحققها إلا يوم المعاد.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْنَانًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[5].
على ضوء هذه الآية يكون استثناء حتى مثقال ذرة من عمل الخير أو الشر في الجزاء ما لا يتناسب والعدالة الإلهية. فوجود المعاد ضرورة وحتم، وبعبارة أخرى وجود المعاد واجب على الله تعالى. بالطبع ليس هذا الوجوب كالواجبات التي في عهدة الناس. بل هو كنور الشمس. فإشراق نور الشمس جزء لا ينفك عنها. فلا تكون الشمس شمساً وهي عديمة النور.
كذلك (العدل) وتابعه (المعاد) من ضرورات وجود الباري تعالى.
هل يستوي المقاتل الزاهد في اللذات والمقتحم لأهوال الحرب مع القاعد؟ لا يستويان في الدنيا والآخرة. فنورانية القلب وصفاء الروح والمقامات المعنوية نصيبه في الدنيا، والسعادة الأبدية ومرافقة الأولياء والأنبياء والصديقين في الآخرة.
فأية عدالة أن يساوى في مكافأة المجاهد بماله ونفسه والقاعد؟ لهذا خاطب القرآن الكريم أولئك الذين يذودون ويدافعون عن ثغور الإسلام والإنسانية ويسطرون الملاحم الخالدة بقوله تعالى:
(يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)[6].
مسير الإنسان التكاملي
الدليل الرابع لإثبات المعاد هو قانون التكامل. وقد بين القرآن الكريم هذا القانون بالشكل التالي: بادئاً كان الإنسان تراباً ثم صار نطفة وبعدها علقة ثم مضغة ثم أصبح إنساناً حياً. وهو حين يخرج من بطن أمه يكون طفلاً، ثم يبلغ أشده، وبعدها يهرم، ثم يموت. وبعد الموت هناك تكامل آخر، فالموت لا يطوي الصفحة لكتاب حياة الإنسان. فمسير التكامل للإنسان لا يتوقف بالموت وإنما يستمر، وهذا ما تؤكده الآيات المباركة:
(… إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[7].
(وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[8].
(يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ تُخْرِجُكُمْ ا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ…)[9].
2ـ المعاد الجسماني
المعاد الجسماني يعني حضور الإنسان يوم القيامة بروحه وجسمه نفسهما. وبعد الحساب يكون مصيره إما الجنة أو النار والمعاد الجسماني كالصلاة والصوم يعتبر من ضروريات الإسلام.
وقد اختلف الفلاسفة في كون البعث جسدياً أم روحياً، فاعتقد بعض الفلاسفة المسلمين مسلمين بالبعث الجسدي.
فالشيخ الرئيس وبعد بحث المعاد يقول في كتاب الشفاء: حتى لو لم نستطع إثبات المعاد الجسدي بالدليل، إلا أن الصادق المصدق النبي الأكرم (ص) أخبر عنه فعلينا القبول به تعبداً.
والحركة الجوهرية للمرحوم صدر المتألهين كانت أساساً لإثبات البعث الجسدي.
فالمعاد الذي هو من أصول الدين هو المعاد الجسمي. وهذا عند كل المسلمين سنة وشيعة، وفقهاء وفلاسفة وعلماء الكلام. فبنفس تركيبه البدني يحشر الإنسان يوم القيامة للحساب، وبالهيئة عينها ينتقل إلى الجنة أو النار.
لذائذ الجنة
لذائذ الجنة قسمان:
1- اللذائذ الروحية
كالكلام مع الله تعالى ومجالسة النبي الأكرم (ص) وأهل البيت (ع).
٢- اللذائذ الجسدية
كالأكل والشرب ومقاربة حور العين ومشاهدة مناظر الجنة والسكن في القصور.
عذاب النار
١- العذاب الروحي
كعذاب الضمير، والحسرة وباقي الآلام الروحية.
(نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةِ)[10].
فحسب الآية الشريفة، تتعرض الروح الإنسانية لنار جهنم كما تتعرض الأجساد.
٢- العذاب الجسدي
كاحتراق اللحم والجلد والعظم، وشرب الحميم وأكل الزقوم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)[11].
الثاني: المعاد الجسمي من خلال الآيات والروايات
وردت حكايتان في سورة البقرة (الآيتين ٢٥٩ – ٢٦٠). بخصوص النبي عزير (ع) وحضرة إبراهيم (ع).
حكاية النبي عزير (ع)
عزير من أنبياء الله تعالى وعباده الصالحين، خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، فوقف معتبراً بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرأى ومنظر منه (ع)، فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها وعند ذلك قال:
(… أَنَّى يُحْيِ هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)[12].
وقد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين:
إحداهما: استعظام طول المدة والإحياء مع ذلك.
الثانية: استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولية الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة.
ورغم أن «عزير» كان معتقداً بالمعاد الجسدي ويعلم أن الله تعالى قادر على إحيائها لكنه أراد الوصول إلى (حق اليقين) وحين جلس قرب الماء وإلى جانبه حماره، أماته الله تعالى، ثم بعثه بعد مائة عام، وسأله: كم لبثت؟
قال: (… لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)[13].
فرد الله سبحانه عليه وقال: (.. بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَةٌ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ…)[14].
وقد فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك ولنجعلك آية وحجة للناس، حتى لا ينكروا المعاد. فانظر إلى العظام كيف ننميها ونكسوها باللحم ثم نحييها.
و«عزير» الذي شاهد حماره الميت قبل مئة عام وقد جمعت عظامه قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وهذه الحادثة تثبت المعاد الجسدي بشكل رائع.
قصة إبراهيم (ع)
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[15].
لما سأل إبراهيم (ع) ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى أمره الله تعالى أن يأخذ أربعة طيور ثم يقتلها ويخلط ويمزج أجزاءها وأن يفرق الأجزاء المختلطة ثم يضع كل قسم في مكان بعيد عن الآخر على قمة جبل، ثم يدعوهن ليأتينه سعياً، ويعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء وهو بكل شيء عليم.
فعمل إبراهيم (ع) بالأمر الإلهي، ودعى الطيور إليه فتميزت عظام وجلود ولحوم الطيور عن بعضها البعض، وعادت الروح لكل طير وأتته مسرعة.
وهذه القصة تمثل نموذجاً آخر لإحياء الموتى.
نطق الأيدي والأرجل في يوم القيامة
حين تقدم صحيفة أعمال المسيئين إلى أصحابها يوم القيامة ينكرونها، لكن الله تعالى يقول:
(الْيَوْمَ تَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[16].
ويظهر من عبارة (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم) أن أجسادهم ستنطق يوم القيامة، فالروح لا تملك يداً ورجلاً، وهذا يثبت المعاد الجسمي.
قصة أُبي بن كعب
(أُبي بن كعب رجل معاند، حضر عند رسول الله (ص)، ومعه مجموعة عظام نخرة فقام بتهشيمها حتى صارت كالتراب فأخذ حفنة منها بيده ونفخها في الهواء، ليسأل الرسول (ص): كيف يحيي هذه العظام؟
فنزلت هذه الآية الشريفة: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)[17].
الآيات الأولى من سورة (القيامة) تثبت المعاد الجسمي
لا يُقسم الله تعالى في سورة (القيامة) بالقدرة على جمع العظام الرميم وحسب وإنما بالقدرة على تصوير البنان على صورها التي هي عليها بحسب الخلق الأول. فبعبارة (بلى قادرين على أن نُسَوِّي بَنَانَهُ)[18]، هي الدليل المحكم على أصل المبدأ. فهناك بين الناس وجوه اشتراك واختلاف، بحيث لا يمكن العثور بين أربعة مليارات إنسان على شخصين متماثلين في كل الأوصاف وهذه من دلائل القدرة الإلهية وهو ما أشار إليه تعالى:
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)[19].
ومن الأدلة الأخرى على عظيم صنع الباري عز وجل هو ما على بنان الإنسان من الهيئات والخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.
فمن بين كل الناس لا تتشابه أشكال الخطوط لشخصين أبداً.
ولهذا صرح القرآن الكريم: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن تُسَوِّى بَنَانَهُ)[20].
الأكل والشرب في عالم الآخرة
نقرأ في سورة الحاقة: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَبِيَهُ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَمْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[21].
فالخطاب بـ (كلوا واشربوا) يقتضي في المخاطب «فماً ويداً…»، وجهازاً هضمياً متكاملاً وإلا كان الخطاب لغواً. ومن هذه العبارة نستفيد وجود المعاد الجسمي. وهناك الكثير من هذه الآيات التي تصرح بالمعاد الجسمي بحيث لا تبقي مجالاً للتأويل.
الثالث: شبهة الأكل والمأكول
للجاحدين بالمعاد الجسماني شبهات لا تصمد أمام البرهان والدليل العلمي. فكما قال الشيخ الرئيس في (الشفاء): أن الصادق المصدق يعني النبي محمد المصطفى (ص)، قد أخبر عن المعاد الجسماني، فعلينا التصديق به حتى لو لم يثبت بالبرهان. والشبهة مقابل كلام الله تعالى، هي كالجهل مقابل العلم، وهي في حقيقتها نوعاً من الجهل وليست بشبهة.
تقرير الشبهة
هذه الشبهة قديمة ترجع إلى ما قبل ميلاد المسيح (ع) فقد ذكرها أفلاطون والعلماء الذين جاءوا بعده وعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين بتقارير مختلفة من بين هذه التقارير اخترنا أشملها وأقربها إلى الأسلوب العلمي،
تقول الشبهة
إن عملية التحول والتبدل ماضية على الدنيا منذ آدم (ع) وإلى يوم القيامة، على هذا يتجدد تكون الإنسان في هذه الدنيا، فهو يموت ويُصبح تراباً ثم يتحول التراب إلى نبات والنبات إلى نطفة والنطفة تصبح إنساناً، ومرة أخرى يموت الإنسان وهكذا يعيد مسيره السابق .
والمتغير في هذه الحالات هو الصورة وليس المادة. وبعبارة ثانية فإن ما يصبح تارة نباتاً وأخرى حيواناً وثالثة تراباً ورابعاً إنساناً هو الإنسان نفسه.
في ضوء ذلك أي الحالات سيشملها الحشر يوم القيامة؟ فقد تبدل جسم الإنسان عدة مرات، وتلبست مادته بصورة مختلفة، فروح الإنسان الذي مات قبل ملايين السنين وتبدل إلى جسم آخر وربما تمثل صوراً متعددة، هذه الروح لأي الأجسام ستكون تابعة؟
كما إنه إذا صار إنسان معين غذاءً بتمامه لإنسان آخر، فالمحشور لا يكون إلا أحدهما، ثم إن الأكل إذا كان كافراً والمأكول مؤمناً يلزم أما تعذيب المطيع وتنعيم العاصي أو كون الأكل كافراً معذباً والمأكول مؤمناً منعماً مع كونهما جسم واحد.
تقرير آخر للشبهة
في تقرير آخر للشبهة يقال أن هذا السؤال يصدق على الإنسان دون (الأكل والمأكول). فالإنسان يتغير كلياً كل بضع سنوات. فبعد كل سبع سنوات تتغير كل خلايا البدن. فالإنسان في الرابعة عشرة هو غيره في السابعة من العمر وفي الحادية والعشرين غير الأوليين. بناء على ذلك يكون البدن في حالة تحلل وتبدل دائميين.
فالشبهة تكون أي بدن تتبع الروح، بدن الشباب أم بدن الشيخوخة، ولو افترضنا أن الإنسان ارتكب ذنباً في شبابه ومات في مشيبه، فأي البدنين تتبع الروح؟ البدن الذي عصى في الشباب أم ذاك البدن العابد والزاهد في الشيخوخة؟
فلو تبعت الروح البدن الشاب لاقتضى عذاب الشخص، لكن ما هو حساب سنوات الشيخوخة التي قضاها الشخص بالعبادة والزهد؟ ولو تبعت الروح بدن الشيخوخة لاقتضى تنعم ذلك الإنسان، ولكن ما هو حساب المعصية في شبابه؟
دفع الشبهة عقلياً
يعتبر أستاذنا الكبير قائد الثورة الإسلامية العظيم، مسألة استحقاق العقاب والثواب من الأمور العرفية، فيقول: لننظر لما يستحسنه العقلاء من الثواب والعقاب وما يستقبحون[22]. فمن فر بعد ارتكاب جريمته وعثر عليه بعد عشر سنوات، ألا يقال أنه نفسه الذي أجرم قبل عشر سنوات؟ أفلا يكون مستحقاً للعقاب؟ هل يعترض عاقل على عقابه؟ فرغم تغير خلايا بدنه كلية، يبقى نفسه ذلك الظالم المستحق للعقاب.
كذلك لو أحسن أحد الأشخاص إليك وحدث أن التقيته بعد عشرين عاماً، فهل ترد له الجميل؟ أفلا تشكره؟ وعلى الرغم من تغير خلايا بدنه وتحوله إلى شخص ثاني، ألا تعتبر نفسك مديوناً لإحسانه؟ هذان المثالان في الثواب والعقاب، خير جواب عقلي على شبهة (الأكل والمأكول).
إن شبهة (الأكل والمأكول) نابعة من الجهل، فهي ليست في واقعها شبهة علمية، ورغم ذلك رد عليها القرآن والفلاسفة.
الأساس الفلسفي للمبنى العقلي
لا يتوهم ضعف الأساس الذي يقف عليه المبنى العقلي، فأساسه فلسفياً، يتمثل بالعبارة الفلسفية المعروفة (أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة).
فحقيقة الإنسان في آنيته. بعبارة ثانية الإنسان هو الشيء الذي يشار إليه بألفاظ مثل «أنا» و «أنت» و «هو» وهذه الألفاظ لا تتغير أبداً، ومرور الوقت الباعث على تبدل خلايا البدن والتغير الكامل لجسم الإنسان لا يؤثر عليها. فكما لاحظنا في مثالنا السابق، فإنك حين ترى المحسن إليك قبل عشرين عاماً، تعتبره نفسه، وتخاطبه (أنت) الذي أحسنت إلي قبل عشرين عاماً. «أنت» نفسك قبل عشرين عاماً، و «أنا» نفسي قبل عشرين عاماً.
و(أنا) و «أنت» و «هو» لا تُعدم ولا تتغير أبداً، إنما المتغير هو البدن وبتعبير حافظ «الخرقة». فالبدن كاللباس، والبدن الجديد كاللباس الجديد، وكما اللباس وسيلة الإنسان للوقاية من البرد والحر كذلك البدن واسطة الإنسان للإحساس باللذة والعذاب.
فالذي يتعرض للتعزير تحس روحه بالألم عن طريق بدنه. كذلك اللذات الروحية يتم الإحساس بها بواسطة البدن لهذا لا يلتذ الميت بأكاليل الورد المقدمة تكريماً له، فقد فارقت روحه بدنه. أما الإنسان الحي فهو يلتذ بأكاليل الورد وهي لذة روحية. فاتضح أن البدن بمثابة اللباس للإنسان الذي يعيش اللذة أو الألم هو «أنا» أو حقيقة الإنسان، والبدن وسيلة تحقق اللذة أو الألم.
فبدون البدن لا يمكن أن تلتذ أو تتعذب الحقيقة الإنسانية أو الـ (أنا) والـ «أنت».
فالحقيقة الإنسانية هي «أنا» و «أنت» ولولا البدن لما احترقت (أنا) و «أنت» ولما أحسست بعذاب جهنم.
نستخلص من عرض الأساس الفلسفي للمبنى العقلي أن روح الإنسان تثاب وتعاقب. والوسيلة لإثباتها ومعاقبتها هو بدن الإنسان.
دفع الشبهة بالآيات القرآنية
الفلاسفة المسلمون وعلماء الكلام والمفسرون دفعوا هذه الشبهة. إلا أن أحسن الأجوبة عليها ما جاء به القرآن الكريم، حيث أشارت بعض الآيات القرآنية الشريفة إلى الرد دون أن تطرح أصل الشبهة.
حيث نجد الإشارة إلى هذا الموضوع الدقيق في ثلاث مواضع في القرآن الكريم.
1- سورة الإسراء
(… أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرُ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ…)[23].
فعبارة (أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) تعني أن العالم مثل هذه الدنيا، وليس عينها. فلو كان عينها لقال: «أن يخلقهم» وقد جاءت هذه الحقيقة في آية أخرى:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[24].
فعالم الآخرة غير هذه الدنيا (ففي يوم القيامة) تطوى المنظومة الشمسية وتتلاشى الدنيا بينما ذلك العالم يبقى حياً. والبدن الدنيوي يختلف عن بدن العالم الآخر.
فهناك تنطق الأبدان: (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[25].
فيخاطبهم الإنسان: (لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا)[26].
فتجيبه جوارحه: (أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
وأرض ذلك العالم تحدث أخبارها: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[27].
2ـ سورة ياسين
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ)[28].
3ـ سورة النساء
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العَذَابَ)[29].
نستنتج من مجموع الآيات المذكورة أعلاه ما يلي:
1ـ معاد الإنسان معاد جسماني.
2ـ البدن في عالم الآخرة غير البدن الدنيوي.
3ـ يحس الإنسان بألم العقاب ولذة الثواب بواسطة بدن الآخرة، وكلما نضج هذا البدن من شدة العذاب الإلهي، استبدل ببدن آخر كوسيلة لعذاب المجرمين.
الاستنتاج
أن المعاد موجود لأدلة قرآنية وهي: الفطرة، وغائية الخلق، وعدالة الله تعالى، ومسير الإنسان التكاملي، ثم أن المعاد جسماني كما ورد في الآيات والروايات، وأن شبهة (الأكل والمأكول) نابعة من الجهل، ورد عليها القرآن والفلاسفة.
الهوامش
[1] العنكبوت، ٦٥.
[2] النور، ۳۷.
[3] المؤمنون، ١١٥.
[4] ص، ۲۷.
[5] الزلزلة، ٦ – ٨.
[6] الفجر، ۲۷ – ۳۰.
[7] البقرة، ١٥٦.
[8] النجم، ٤٢.
[9] الحج، ٥.
[10] الهمزة، ٦ – ٩.
[11] النساء، ٥٦.
[12] البقرة، ٢٥٩.
[13] البقرة، ٢٥٩.
[14] البقرة، ٢٥٩.
[15] البقرة، ٢٦٠.
[16] يس، ٦٥.
[17] يس، ۷۸ – ۷۹.
[18] القيامة، ٤.
[19] الروم، ۲۲.
[20] تتضمن هذه الآية الدلالة المطابقية لمعاد الجسم والدلالة التضمينية على المبدأ.
[21] الحاقة، ١٩ – ٢٤.
[22] الإمام الخميني لم يطرح لعامة الناس أياً من مسائل الجبر والاختيار بطريقة البحوث الفلسفية والكلامية أو العرفانية المعمقة، بل طرحها وحلها بالاستفادة من عرف العقلاء.
[23] الإسراء، ۹۹ .
[24] إبراهيم، ٤٨.
[25] فصلت، 20.
[26] فصلت، 21.
[27] الزلزلة، 1ـ 4.
[28] ياسين، 81.
[29] النساء، 56.
مصدر المقالة (مع تصرف)
المظاهري، حسين، المعاد في القرآن، ترجمة وتحقيق لجنة الهدى، بيروت، دار ومكتبة الرسول الأكرم (ص)، الطبعة الأُولى، 1412 ه.