الطفل الأول في الأسرة يكون موضع حب وحنان وعناية من قبل والديه لأنه الطفل الأول والطفل الوحيد، فيمنح الاهتمام الزائد، والرأفة الزائدة، وتلبى كثيرا من حاجاته المادية والنفسية، فنجد الوالدين يسعيان إلى إرضائه بمختلف الوسائل ويوفرون له ما يحتاجه من ملابس وألعاب وغير ذلك من الحاجات، ويكون مصاحباً لوالديه في أغلب الأوقات سواء مع الأم أو مع الأب أو مع كليهما وبعبارة أخرى يلقى دلالاً واهتماماً استثنائياً، ومثل هذا الطفل وبهذه العناية والاهتمام، سيواجه مشكلة صعبة عليه في حالة ولادة الطفل الثاني، وتبدأ مخاوفه من الطفل الثاني، لأنه سيكون منافساً له في كل شيء، ينافسه في حب الوالدين ورعايتهم له، وينافسه في منصبه باعتباره الطفل الوحيد سابقاً، وينافسه في ألعابه، وتبدأ بوادر الغيرة عليه منذ أول يوم الولادة، إذ ينشغل الوالدان بالوضع الطارئ الجديد وسلامة الوالدة والطفل، فإذا لم ينتبه الوالدان إلى هذه الظاهرة، فان غيرة الطفل الأول ستتحول بالتدريج إلى عداء وكراهية للطفل الجديد، وينعكس هذا العداء على أوضاعه النفسية والعاطفية، ويزداد كلما انصب الاهتمام بالطفل الجديد وأخرج الطفل الأول عن دائرة الاهتمام، فيجب على الوالدين الالتفات إلى ذلك والوقاية من هذه الظاهرة الجديدة، وإبقاء الطفل الأول على التمتع بنفس الاهتمام والرعاية واشعاره بالحب والحنان، وتحبيبه للطفل الثاني، وإقناعه بأنه سيصبح أخاً أو أختاً له يسليه ويتعاون معه، وأنه ليس منافساً له في الحب والاهتمام، ويجب عليهما تصديق هذا الاقناع في الواقع بأن تقوم الأم باحتضانه وتقبيله ويقوم الأب بتلبية حاجاته أو شراء ألعاب جديدة له، إلى غير ذلك من وسائل الاهتمام والرعاية الواقعية، والحل الأمثل هو العدالة والمساواة بين الطفل الأول والثاني فإنها وقاية وعلاج للغيرة والكراهية والعداء وتتأكد أهمية العدالة والمساواة كلما تقدم الطفلان في العمر، إذ تنمو مشاعرهما وعواطفها ونضوجهم العقلي واللغوي بالتدريج يجعلهما يفهمان معنى العدالة ومعنى المساواة، ويشخصان مصاديقها في الواقع العملي، وقد وردت الروايات المتظافرة لتؤكد على إشاعة العدالة بين الأطفال، قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) (۱).
والعدالة بين الأطفال مطلقة وشاملة لكل الجوانب الحياتية التي تحيط بالأطفال في جانبها المادي والمعنوي، أي في إشباع حاجاتهما المادية وحاجاتهما المعنوية للحب والتقدير والاهتمام جاء عن رسول الله “صلى الله عليه وآله”: أنه نظر إلى رجل له ابنان فقبل أحدهما وترك الآخر، فقال “صلى الله عليه وآله”: (فهلا ساويت بينهما) (۲). وقال “صلى الله عليه وآله”: (إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القبل) (۳).
وأكد “صلى الله عليه وآله” على العدالة في العطاء والهدية سواء في الأكل والشرب والثياب والألعاب إلى غير ذلك، كما جاء في قوله “صلى الله عليه وآله”: (ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) (۴).
وقال “صلى الله عليه وآله”: (اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) (۵).
والعدالة لا تعني عدم التفضيل بين الأطفال، فبعض الأطفال يكونون أكثر جاذبية من بعض من قبل الوالدين، فعن رفاعة الأسدي قال: (سألت أبا الحسن -موسى بن جعفر “عليه السلام” -عن الرجل يكون له بنون وأمهم ليست بواحدة، أيفضل أحدهم على الآخر؟ قال “عليه السلام”: نعم، لا بأس به، قد كان أبي “عليه السلام” يفضلني على أخي عبد الله) (۶).
والتفضيل يجب أن يكون مستوراً لا يظهره أمامهما ويحتفظ به في مشاعره القلبية، أما في الواقع فلا يعمل إلاّ بالعدالة والمساواة، كما قال الإمام جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام”: (قال والدي: والله لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي وأكثر له المحبة، وأكثر له الشكر، وإن الحق لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوته) (۷)، لأن عدم العدالة له تأثيره السلبي على نفسية الأطفال تؤدي إلى زرع روح الكراهة والبغضاء بينهم وتؤدي بهم في النتيجة إلى العداء المستحكم، واتخاذ الموقف غير السليم كما فعل اخوة يوسف به حينما ألقوه في البئر.
وقد كانت السيرة قائمة على أساس إشاعة العدالة بين الأطفال سواء كانوا أخوة أو أرحام، فعن عبد الله بن عباس قال: (كنت عند النبي “صلى الله عليه وآله” وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، وهو تارة يقبل هذا وتارة يقبل هذا) (۸).
فإبراهيم ابن رسول الله “صلى الله عليه وآله” والحسين ابن بنته، ومع كل هذه الاختلافات في الروابط فإنه “صلى الله عليه وآله” لم يفرق في المعاملة بينهما.
وفي رواية (كان النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” يصلي فجاء الحسن والحسين فارتدفاه، فلما رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً فلما عاد عادا، فلما انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر) (۹).
وكان رسول الله “صلى الله عليه وآله” يخطب على المنبر فجاء الحسن والحسين يمشيان ويعثران (فنزل رسول الله “صلى الله عليه وآله” من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه) (۱۰).
ومن مصاديق العدالة والمساواة هو عدم إقامة المقارنة بين الأطفال، في صفاتهم الجسمية والمعنوية والنفسية، فلا يصح أن يقال فلان أجمل من فلان، أو أذكى منه أو أكثر خلقاً منه لأنها ستكون منبعاً للحقد، لأن المقارنة بين الأطفال تؤدي إلى (الغيرة من بعضهم وإلى التنافس) (۱۱).
والمقارنة تؤدي إلى فقدان الثقة بين الأشقاء والعكس صحيح (عدم التفرقة في المعاملة هو أكبر دعامة لخلق جو من الثقة المتبادلة بينه وبين سائر أفراد العائلة) (۱۲).
ونلاحظ عند كثير من الآباء مواقف غير مقصودة بأن يقول: إن ابني فلان يشبهني، وفلان لا يشبهني، فحتى هذه المقارنة تعمل عملها في الغيرة والتنافس، والأفضل اجتنابها.
ومن العدالة هو عدم التمييز بين الولد والبنت، لأن التميز يؤثر تأثيراً سلبياً على نفسية البنت، وعلى زرع العداوة والحقد بين الأخت وأخيها، وهذه ظاهرة شائعة في أغلب البلدان، حيث يميل الأبوين إلى الإبن أكثر من ميلهما إلى البنت، ويلبيان مطاليب الولد أكثر من مطاليب البنت، ولغرض التقليل من شأن هذه الظاهرة جاءت الروايات لتعطي للبنت عناية استثنائية وتمرن الأبوين عليها كما جاء عن ابن عباس عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” : (من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور …) (۱۳).
والبدء بالإناث لا يولد أي تأثير سلبي على الطفل الابن، لأنه يراه أمراً طبيعياً فلابد من تقديم أحدهم، وغالباً ما يسكت الطفل ولا يلتفت إلى التمييز إن حصل على عطاء والديه، سواء كان العطاء أولاً أو ثانياً.
والعدالة بين الأطفال لا تعني أن لا نتخذ أسلوباً للتشجيع بان تخصص هدية إضافية لمن يعمل عملاً صالحاً، فان ذلك ضروري لتشجيع الطفل على السلوك الصالح، وقد ينفع في إقامة المنافسة المشروعة بين الأطفال فلا تؤثر على نفسياتهم بصورة سلبية، بل يجدونها أمراً مشروعاً وحقاً طبيعياً، وعلى الوالدين التعامل بحذر في مثل هذه الحالة بالتعرف على نفسية أطفالهم، وابتكار الأساليب الناجحة في التشجيع المنسجمة مع حالاتهم النفسية التي لا تؤدي إلى الشعور بعدم العدالة.
ومهما تحققت العدالة والمساواة بين الأطفال فإنها لا تستطيع إنهاء بعض المظاهر السلبية كالشجار والصراع بين الأطفال، وهي ظاهرة طبيعية تحدث بين الأطفال في كل أو أغلب الأسر، فتحدث حالات من النقاش الحاد أو الاشتباك بالأيدي بين الأطفال، ويتهم أحد الأطفال أخاه أو أخته بأنه المقصر في حقه أو البادئ في العدوان عليه، وفي مثل هذه الحالة على الوالدين ان يدرسا المشكلة دراسة موضوعية وان ينظرا إلى الشجار والصراع بأنه حالة طبيعية، فإذا كان سهلاً وبسيطاً ومحدوداً، فالأفضل عدم التدخل في إنهائه، وان يترك الأطفال يعالجون أمورهم بأنفسهم لإنهاء الشجار، وليس صحيحاً أن يدخل الوالدان أو أحدهما كقاضي في الحكم بينهما، لان الحكم لأحد الأطفال دون الآخر لا ينسجم مع مبدأ تطبيق العدالة والمساواة مع الأطفال، أما إذا تكرر الشجار والصراع عدة مرات أو كان مستمراً طول النهار، أو كان قاسياً وخطراً على الأطفال، يأتي دور الأبوين في التدخل لإنهائه ، بإصدار الأوامر لكليهما بالتوقف السريع عن الاستمرار به، أو إلفات نظرهم إلى موضوع آخر، واشغالهم به، أو التدخل لإبعاد أحدهم عن الآخر، وإذا تطلب الأمر استخدام التأنيب أو العقوبة المعنوية فالأفضل أن تكون موجهة لكليهما انسجاما مع تطبيق العدالة بين الأطفال. (*)
_______________________
(۱) مكارم الأخلاق: ۲۲۰٫
(۲) مكارم الأخلاق: ۲۲۱٫
(۳) كنز العمال ۱۶: ۴۴۵ / ۴۵۳۵۰٫
(۴) كنز العمال ۱۶: ۴۴۴ / ۴۵۳۴۶٫
(۵) كنز العمال ۱۶: ۴۴۴ / ۴۵۳۴۷٫
(۶) مكارم الأخلاق: ۲۲۱٫
(۷) مستدرك الوسائل ۱۲: ۶۲۶٫
(۸) بحار الأنوار ۴۳: ۲۶۱٫
(۹) بحار الأنوار ۴۳: ۲۷۵٫
(۱۰) بحار الأنوار ۴۳: ۲۸۴٫
(۱۱) حديث إلى الأمهات: ۶۸٫
(۱۲) قاموس الطفل الطبي: ۲۷۴٫
(۱۳) مكارم الأخلاق: ۲۲۱٫
المصدر: موقع عقبات الأنوار