تمهيد
إن للحسين ( عليه السلام ) موقعاً رسالياً تميّز به عن سائر أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) ، وجعل منه رمزاً خالداً لكل مظلوم يصحر بظلامته عبر التاريخ ، وصرخة حق تدوّي في وجه الظالمين إلى يوم الدين . وليس جزافاً قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حقّه ( عليه السلام ) إن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين .
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : “كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بيت أم سلمة فقال لها : لا يدخل عليَّ أحد ، فجاء الحسين ( عليه السلام ) وهو طفل ، فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبي ، فدخلت أم سلمة على إثره فإذا الحسين على صدره ، وإذا النبي يبكي ، وإذا في يده شئ يقلّبه .
فقال النبي : يا أم سلمة ، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول ، وهذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك ، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، سل الله أن يدفع ذلك عنه ؟
قال : قد فعلت فأوحى الله عزّ وجلّ إليّ أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين ، وأن له شيعة يشفعون فيشفَّعون ، وأن المهدي من ولده ، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته ، هم والله الفائزون يوم القيامة” . (۱)
وهو الذي نزل الوحي بتسميته حسيناً ، فقد روي أنه عندما زُفّت البشرى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بولادة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، في اليوم الثالث من شهر شعبان المبارك في السنة الرابعة من الهجرة ، أسرع ( صلى الله عليه وآله ) إلى دار الزهراء ( عليها السلام ) فقال لأسماء بنت عمير : “يا أسماء ، هاتي ابني” ، فحملته إليه ، وقد لُفّ في خرقة بيضاء ، فاستبشر ( صلى الله عليه وآله ) وضمَّه إليه وأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثم وضعه في حجره وبكى ، فقالت أسماء : فداك أبي وأُمّي ، ممَّ بكاؤك ؟
قال ( صلى الله عليه وآله ) : “من ابني هذا” . قالت : إنه ولد الساعة . قال ( صلى الله عليه وآله ) : “يا أسماء ، تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي” . ثم قال : “يا أسماء ، لا تخبري فاطمة فإنها حديثة عهد بولادته” .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : “أي شئ سمّيت ابني” ؟ فأجابه علي ( عليه السلام ) : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله . فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاملاً اسم الوليد المبارك ، قال لعلي ( عليه السلام ) : “سمّه حسيناً” . (۲)
وتتوالى بيانات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في وصف مقام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وموقعه الرفيع من الرسالة والرسول ، منها : عن يعلى بن مرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : “حسين مني وأنا من حسين ، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً ، حسينٌ سبط من الأسباط” . (۳)
وعن سلمان الفارسي ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : “الحسن والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار على وجهه” . (۴)
وعن البراء بن عازب ، قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاملاً الحسين بن علي على عاتقه وهو يقول : “اللهم إني أحبّه فأحبّه” . (۵)
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا دخل الحسين ( عليه السلام ) اجتذبه إليه ، ثم يقول لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : “أمسكه” ، ثم يقع عليه فيقبّله ويبكي ، فيقول : يا أبه ، لم تبكي ؟
فيقول : “يا بنيَّ ، اُقّبل موضع السيوف منك وأبكي” . قال يا أبه ، وأُقتل ؟ قال : “إي والله ، وأبوك وأخوك وأنت” . قال : يا أبه ، فمصارعنا شتّى ؟ قال : “نعم ، يا بني” ، قال : فمن يزورنا من أُمتك ؟ قال : “لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصديقون من أُمّتي” . (۶)
وقال : “لعن الله قاتلك ، ولعن الله سالبك ، وأهلك الله المتوازرين عليك ، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك” . قالت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : يا أبت ، أي شئ تقول ؟
قال : “يا بنتاه ، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي ، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء ، يتهادون إلى القتل ، وكأني أنظر إلى معسكرهم ، وإلى موضع رحالهم وتربتهم” .
قالت : يا أبه ، وأين هذا الموضع الذي تصف ؟ قال : “موضع يقال له كربلا ، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأُمة ، ويخرج عليهم شرار أُمتّي ، لو أن أحدهم شُفّع له في السموات والأرضين ما شفّعوا فيه ، وهم المخلّدون في النار” . قالت : يا أبه ، فيقتل ؟ قال : “نعم يا بنتاه ، وما قُتل قتلته أحد كان قبله ، ويبكيه السموات والأرضون ، والملائكة ، والوحش ، والنباتات ، والبحار ، والجبال ، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس ، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ، ولا أقوم بحقّنا منهم ، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم ، أولئك مصابيح في ظلمات الجور ، وهم الشفعاء ، وهم واردون حوضي غداً ، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم ، وكل أهل دين يطلبون أئمتهم ، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا ، وهم قوّام الأرض ، وبهم ينزل الغيث” .
فقالت الزهراء ( عليها السلام ) : يا أبه ، إنا لله ، وبكت ، فقال لها : “يا بنتاه ، إن أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا ، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة ، يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً ، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها ، قتله أهون من ميتة ، ومن كتب عليه القتل ، خرج إلى مضجعه ، ومن لم يقتل فسوف يموت .
يا فاطمة بنت محمّد ، أما تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب ؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش ؟
أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه ؟ أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار ، يأمر النار فتطيعه ، يخرج منها ما يشاء ؟ ويترك من يشاء .
أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به ، وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله ؟ فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجّته على الخلائق ، وأُمرت النار أن تطيعه ؟ .
أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك ، وتأسف عليه كل شئ ؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان الله ، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله واعتمر ، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين ، وإذا مات مات شهيداً ، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي ، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا” ؟ قالت : يا أبه ، سلّمت ، ورضيت ، وتوكلت على الله ، فمسح على قلبها ومسح عينيها ، وقال : “إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرُّ عيناك ، ويفرح قلبك” . (۷)
وعن ابن عباس قال : لما اشتد برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرضه الذي مات فيه ، ضمّ الحسين ( عليه السلام ) إلى صدره يُسيل من عرقه عليه ، وهو يجود بنفسه ، ويقول : “مالي وليزيد لا بارك الله فيه ؟ اللهم العن يزيد” . ثم غُشي عليه طويلاً ، وأفاق وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان ، ويقول : “أما إنَّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ” . (۸)
ومن هنا ندرك كيف أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يهيّىء ولده الحسين ( عليه السلام ) لدور رسالي فريد ، ويوحي به ويؤكّده ، ليحفظ له رسالته من الانحراف والضياع ،
لذا نجد أن سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، هي من أبرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق وحفظ مصلحة الإسلام العليا ، التي اتّسمت بها أدوار أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، على رغم تنوّعها في الطريقة وتباينها الظاهري في المواقف ، وقد تمثّل في سيرة الإمام الحسين ( عليه السلام ) مبدأ حفظ مصلحة الإسلام العليا في أربعة مواقف كبرى ، شملت عهد إمامة أبيه ( عليه السلام ) وعهد إمامة أخيه الحسن ( عليه السلام ) وعهد إمامته ( عليه السلام ) .
۱ـ في عهد إمامة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
وقد جسّد الإمام الحسين ( عليه السلام ) فيه الطاعة التامّة والامتثال الكامل لأوامر إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، في الموقف من الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وخصوصاً أيام الفتنة الطخياء على عهد عثمان بن عفّان ، التي انتهت بقتله ، وكذلك في خوضه حروب الدفاع عن دولة الإسلام وخلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، التي كان أبرزها حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل ، وحرب القاسطين المعروفة بحرب صفّين ، وحرب المارقين المعروفة بحرب النهروان . وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً عند بياننا لمواقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والإمام الحسن ( عليه السلام ) في حفظ مصلحة الإسلام العليا .
۲ـ في عهد إمامة أخيه الحسن بن علي ( عليه السلام ) :
كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) ظهير أخيه الإمام الحسن ( عليه السلام ) الأمين وساعده الأيمن في مواجهه الباغية معاوية بن أبي سفيان ، ثم كان شريكه في دفع الفتنة الكبرى التي وقع فيها أصحابه وأتباعه بسبب الصلح ، الذي أملته الضرورة فأوقعه مع معاوية حقناً لدماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ودماء أصحابهم وأتباعهم التي مثّلت في حينها سناء مصلحة الاسلام في بقاء من يصدع بحق الثقلين ، ويذبّ عن أهل بيت النبوة والعصمة ، ويدفع عن الإسلام غائلة التحريف والتزوير . وقد أشرنا أيضاً إلى ذلك فيما سلف من ذكر المواقف الكبرى للإمام الحسن ( عليه السلام ) لحفظ مصلحة الإسلام العليا .
۳ـ في عهد إمامته ( عليه السلام ) :
وفي هذا العهد ضرب الإمام الحسين ( عليه السلام ) المثل الأعلى في تجسيد روح الثبات والقدم الراسخة على مبادئ الإسلام ومصلحته العليا ، حيث كان له سلام الله عليه موقفان متواليان ، قد يُلحظان متخالفين ظاهرياً ، من الحكم الأموي منذ اليوم الأول لصيرورة الإمامة إليه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن ( عليه السلام ) : الأول من معاوية بن أبي سفيان ، والثاني من يزيد بن معاوية :
أـ موقفه من معاوية بن أبي سفيان :
وله في موقفه هذا من معاوية صورتان تكامليّتان ، كلاهما تحكيان مبدأيّته العصماء في لحاظ مصلحة الإسلام العليا :
الصورة الأولى : التزامه ( عليه السلام ) بعهد أخيه الامام الحسن ( عليه السلام ) ، ووفاؤه ببنود صلح أخيه المبرم مع معاوية بن أبي سفيان، لاعتقاده بأنّ المصلحة الإسلامية لا زالت في ذلك ، ولأن مبادئ الإسلام وأحكامه تأبى عليه نقض العهود والتحلّل من الوفاء بالعقود ، إلاّ إذا أُخلّ بشروطه أو انتهت مدته ، لقول الله تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ، (۹) وقوله أيضاً : ( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا ً) . (۱۰)
فممّا رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السِيَر قالوا : لمّا مات الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) تحرّكت الشيعة بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) في خلع معاوية والبيعة له ، فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة ، فإن مات معاوية نظر في ذلك . (۱۱)
الصورة الثانية : وفيها سلك الإمام الحسين ( عليه السلام ) مسلكاً تكامليّاً في مقابل التزامه بما تمليه عليه الحكمة الإلهية والمصلحة الإسلامية للصلح الذي عقده الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية ، والتي من أبرزها كشف حقيقة هذا الأخير وحقيقة حكومة بني أمية للمسلمين ، فانطلق الإمام ( عليه السلام ) من نفس هذه الحكمة الإلهية والمصلحة الإسلامية ، وعمل جهده لكشف هذه الحقيقة .
وهنا يتبيّن لنا السر في عدم التخالف بين موقفه في الصورة الأولى وموقفه في هذه الصورة الثانية ، فهما صورتان لموقف تكاملي هادف ، يحفظ في الأولى حدود الصلح المعلنة ، ويسعى في الثانية لتكميل تحقيق الأهداف المنشودة لهذا الصلح ، وذلك عن طريق إظهار الحق وإعلانه في وجه معاوية بن أبي سفيان ، والتصديّ له بالحجّة البالغة ، وتعرية انحرافه عن كتاب الله وسنّة نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) ، ودرء البدع التي أحدثها في الدين ، واستنكار الظلم والجور الذي أوقعه على صفوة الأصحاب والتابعين من شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وسفك دمائهم الطاهرة ، خلافاً لبنود الصلح المبرم مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) .
وممّا روي في ذلك :
۱ـ تصدّيه ( عليه السلام ) لأمر معاوية وولاته وعمّاله بلعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المنابر واضطهاد شيعته ، وقتل من يروي شيئاً من فضائله ، فعن سليم بن قيس قال : نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمّة ممّن يروي حديثاً من مناقب عليّ وفضل أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة ، لكثرة من بها من الشيعة ، فاستعمل زياد بن أبيه ، وضمّ إليه العراقين الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف .
يقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسمل أعينهم وطردهم وشرّدهم ، حتى نُفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور ، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد .
وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الأمصار أن لا تجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه ومحبّي أهل بيته وأهل ولايته ، والذين يروون فضله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته ، ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان ، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصِّلات والخِلَع والقطائع من العرب والموالي ، وكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في الأموال والدنيا ، فليس أحد يجيء من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ كتب اسمه وأُجيز ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثم كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه ، فإن ذلك أحبّ إلينا وأقرّ لأعيننا ، وأدحض لحجّة أهل البيت وأشدّ عليهم ، فقرأ كلّ أمير وقاض كتابه على الناس !! فأخذ الرواة في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل مسجد زوراً ، وألقوا ذلك إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا ذلك صبيانهم كما يعلّمونهم القرآن ، حتى علّموه بناتهم ونساءهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
وكتب زياد بن أبيه إليه في حقّ الحضرميّين أنهم على دين علي وعلى رأيه ، فكتب إليه معاوية أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ ورأيه ، فقتلهم ومثّل بهم!!
وكتب كتاباً آخر : أنظروا من قبلكم من شيعة علي واتّهمتموه بحبّه فاقتلوه ، وإن لم تقم عليه البيّنة ، فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة تحت كل حجر حتى أن الرجل لتسقط منه كلمة فتُضرب عنقه ، في حين كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر فلا يتعرّض له بمكروه بل يكّرم ويعظم !! وكان الرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان ، لا سيما الكوفة والبصرة ، حتى لو أن أحداً منهم أراد أن يلقي سرّاً إلى من يثق به خاف خادمه ومملوكه ، فلا يحدّثه إلاّ بعد أن يأخذ عليه الأيمان المغلّظة أن يكتم عليه ، حتى كثرت أحاديثهم الكاذبة ، ونشأ عليها الصبيان .
وكان أشدّ الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنّعون ، الذين يُظهرون الخشوع والورع ، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولّدوها ، فحظوا بذلك عند الولاة والقضاة وأدنوا مجالسهم ، وأصابوا الأموال والقطائع والمنازل ، حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقّاً وصدقاً ، فرووها وقبلوها وتعلّموها وعلّموها ، وأحبّوا عليها وأبغضوا من ردّها أو شكّ فيها ، فاجتمعت على ذلك جماعتهم ، وصارت في يد المتنسّكين والمتديّنين منهم ، فقبلوها وهم يرون أنها حق ، ولو علموا بطلانها وتيقّنوا أنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها ، ولم يبغضوا من خالفها ، فصار الحقّ في ذلك الزمان عندهم باطلاً ، والباطل عندهم حقّاً ، والكذب صدقاً ، والصدق كذباً .
فلمّا مات الحسن بن علي ( عليه السلام ) ازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق لله ولي إلاّ هو خائف على نفسه ، أو مقتول أو طريد شريد ، فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين ، حجّ الحسين بن علي ( عليه السلام ) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس معه .
وقد جمع الحسين بن علي ( عليه السلام ) بني هاشم ، رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، من حج منهم ومَنْ لم يحج ، ومن الانصار ممّن يعرفونه وأهل بيته ، ثم لم يدع أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ جمعهم ، فاجتمع عليه بمنىً أكثر من ألف رجل عامتهم التابعون وأبناء الصحابة ، والحسين ( عليه السلام ) في سرادقه ، فقام ( عليه السلام ) فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : “أما بعد ، فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم ، وإنّي أريد أن أسألكم عن أشياء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبت فكذّبوني . إسمعوا مقالتي واكتموا قولي ، ثم ارجعوا إلى امصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون ، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون” .
فما ترك الحسين ( عليه السلام ) شيئاً أنزل الله فيهم (أهل البيت عليهم السلام ) من القرآن إلاّ قاله وفسّره ، ولا شيئاً قاله الرسول في أبيه وأمّه وأهل بيته إلاّ رواه . وفي كل ذلك يقول الصحابة : اللهم نعم ، قد سمعناه وشهدناه ، ويقول التابعون : اللهم قد حدّثنا من نصدّقه ونأتمنه ، حتى لم يترك شيئاً إلاّ قاله ، ثم قال : “أنشدكم بالله إلاّ رجعتم وحدّثتم به من تثقون به” ، ثم نزل وتفرّق الناس على ذلك . (۱۲)
۲ـ استنكاره ( عليه السلام ) على معاوية قتله لصفوة من صحابة رسول الله وتابعيهم من شيعة أهل البيت،
لقد روى صالح بن كيسان قال : لما قَتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حجّ ذلك العام ، فلقي الحسين بن علي ( عليه السلام ) فقال : يا أبا عبد الله ، هل بلغك ما صنعنا بحجر واصحابه وأشياعه وشيعة أبيك ؟ فقال ( عليه السلام ) : “وما صنعت بهم” ؟ قال : قتلناهم ، وكفّناهم ، وصلّينا عليهم . فضحك الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : “خصمك القوم يا معاوية ، لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم .
ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثم سلها الحق عليها ولها ، فإنْ لهم تجدْها أعظم عيباً ، فما أصغر عيبك فيك ، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترنّ غير قوسك ولا ترمينّ غير غرضك ، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلاً ما قدُم إسلامه ، ولا حدث نفاقة ، ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أو دع” ـ يعني عمرو بن العاص ـ . (۱۳)
وجاء في سيرة أهل البيت لأبي علم : إن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية ، وكان عامله على المدينة ، أمّا بعد ، فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، وأنه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك ، فكتب إليه معاوية : بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين ، فإيّاك أن تتعرّض له بشئ ، واترك حسيناً ما تركك ، فإنّا لا نريد أن نتعرّض له ما وفى ببيعتنا ، ولم ينازعنا سلطاننا ، فأمسك عنه ما لم يبدِ لك صفحته .
وكتب إلى الحسين ( عليه السلام ) : أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقاً فإني أرغب بك عنها ، ولعمر الله إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإن أحق الناس بالوفاء من هو مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فاذكر ، وبعهد الله أوفِ ، فإنك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن يردّهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأُمّة جدك ، ولا يستخفنّك السفهاء الذين لا يوقنون .
فكتب إليه الحسين ( عليه السلام ) في جوابه : “أما بعد ، فقد بلغني كتابك أنه بلغك عني أمور أن بي عنها غنىً ، زعمت أني راغب فيها ، وأنا بغيرها عنك جدير ، أمّا ما رقي اليك عنّي ، فإنه رقّاه إليك الملاّقون المشّاءون بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع ، كذب الساعون الواشون ، ما أردت حربك ولا خلافاً عليك . وأيمُ الله إني لأخاف لله عزّ ذكره في ترك ذلك ، وما أظنّ الله تبارك وتعالى براض عنّي بتركه ، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك وفي أولئك القاسطين الملبّين حزب الظالمين ، بل أولياء الشيطان الرجيم” .
ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة وأصحابه الصالحين المطيعين العابدين، كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبدع ويؤثرون حكم الكتاب ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، ولا بإحنة تجدها في صدرك عليهم ؟!
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه ، ونحّلتْ جسمه ، بعد أن أمّنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العُصم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال ، ثم قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ واستخفافاً بذلك العهد ؟!” .
“أولست المدّعي زياد بن سميّة ، المولود على فراش عبيد عبد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك ؟ وقد قال رسول الله : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنة رسول الله واتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثم سلّطته على أهل العراق فقطع أيدي المسلمين وأرجلهم وسمل أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمّة وليسوا منك” ؟!
“أولست صاحب الحضرميّين الذين كتب إليك فيهم ابن سميّة أنهم على دين عليّ ورأيه ، فكتبت إليه اقتل كلّ من كان على دين علي ( عليه السلام ) ورأيه ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ؟! ودين عليّ ـ والله ـ وابن عليّ للذي كان يضرب عليه أباك ، وهو أجلسك بمجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرّحلتين اللتين بنا منّ الله عليكم فوضعهما عنكم .
وقلت فيما تقول : أنظر نفسك ولدينك ولأمّة محمد ( صلى الله عليه وآله ) واتقِ شقّ عصا هذه الأمّة وأن تردّهم في فتنة . فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها ، ولا أعلم نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدي أفضل من جهادك ، فإن فعلته فهو قربة إلى الله عزّ وجلّ ، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أُموري” .
“وقلت فيما تقول : إن أنكرك تنكرني ، وإن أكدك تكدني . وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خلقت ؟ فكدني ما بدا لك إن شئت ، فإني أرجو ألاّ يضرّني كيدك ، وألاّ يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، على أنك تكيد فتوقظ عدوّك وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثّلت بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا . وتعظيمهم حقّنا بما به شرفت وعرفت ، مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا . أو ماتوا قبل أن يدركوا” .
“أبشر يا معاوية بقصاص ، واستعد للحساب ، واعلم أنّ الله عزّ وجلّ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله تبارك وتعالى بناس أخذك بالظِنة وقتلك أولياءه بالتهمة ، ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام من الغلمان ، يشرب الشراب ، ويلعب بالكعاب . لا أعلمك إلاّ قد خمّرت نفسك ، وشريت دينك ، وغششت رعيتك ، وأخزيت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت التقي الورع الحليم” .
قال : فلمّا قرأ معاوية كتاب الحسين ( عليه السلام ) قال : لقد كان في نفسه غضب عليّ ما كنت أشعر به ، فقال ابنه يزيد ، وعبد بن أبي عمير بن جعفر : أجبه جواباً شديداً تصغر إليه نفسه ، وتذكر أباه بأسوأ فعله وآثاره . فقال : كلاّ ، أرأيتما لو أنّي أردت أعيب عليّاً محقّاً ما عسيت أن أقول ؟ إن مثلي لا يحسن به أن يعيب بالباطل وما لا يعرف الناس ، ومتى عبت رجلاً بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئاً ، وما عسيت أن أعيب حسيناً وما أرى للعيب فيه موضعاً إلاّ أني قد أردت أن أكتب إليه وأتوعّده وأهدده وأجهله ثم رأيت ألاّ أفعل . (۱۴)
۳ـ إظهاره وإعلانه لفضائل أهل البيت ( عليه السلام ) وحقهم في ولاية المسلمين
فعن موسى بن عقبة أنه قال : لقد قيل لمعاوية إنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب ، فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة . فقال لهم معاوية : قد ظننّا ذلك بالحسن ، فلم يزل حتى عظم في أعين الناس وفضحَنا ، فلم يزالوا به حتى قال للحسين : يا أبا عبد الله لو صعدت المنبر فخطبت ، فصعد الحسين ( عليه السلام ) المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فسمع رجلاً يقول : من هذا الذي يخطب ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : “نحن حزب الله الغالبون ، وعترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الأقربون ، وأهل بيته الطيبون ، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى ، الذي فيه تفصيل كل شئ ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعوّل علينا في تفسيره ، لا يبطينا تأويله ، بل نتبع حقايقه ، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة ، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة . قال الله عزّ وجلّ : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) ، وقال : ( ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً )” .
“وأحذرّكم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم ، فإنّه لكم عدوّ مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جارٌ لكم ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم ، فتلقون للسيوف ضرباً وللرماح ورداً وللعمد حطماً وللسهام غرضاً ، ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً” . (۱۵)
ب ـ موقفه من يزيد بن معاوية :
جسّد الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا الموقف الرسالي الفريد أحد أبرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق مصلحة الإسلام العليا في أدوار أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، رغم تنوّعها وتباينها في الطريقة والأساليب ، حين نهض ( عليه السلام ) في وجه الفاجر يزيد بن معاوية مسترخصاً كل شئ في سبيل مصلحة الإسلام العليا .
إن من أبرز مصاديق الحكمة في نهضة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في سبيل تحقيق مصلحة الاسلام العليا هي :
۱ـ إن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وبذلك أصبح الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمام أمر مستحدث يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة الإسلام العليا .
۲ـ ان تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية خليفة للمسلمين سيصبح أكبر قضية تهدّد أساس العقيدة الإسلامية بالمحق ، ويعرّضها للزوال ، وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي سيطر على مسألة الحكم الإسلامي وخلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فإن تنصيب مثل يزيد للخلافة ـ وهو المتجاهر بالفسق والفجور والزنا وشرب الخمور ، وبتلك الطريقة التي سلكها معاوية ، وهي إخراج الخلافة عن أصولها حتى عن مبنى الخلافة الراشدة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجعلها وراثية في بني أمية على أسس الجاهلية ومقولاتها ـ يعني على أقل تقدير وقوع الحكم الإسلامي في خطر التحوّل الجذري ، والانقلاب الكلّي في الحكم الإلهي الذي جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وما يقوم على أساسه من عدل وقسط وصلاح ، إلى عصبيّات الجاهلية القبلية ، وحكم الطاغوت الوراثي الذي سيكون للهوى والرأي المستبد الملاك التام والمقياس الفصل بين قيامه وحاكميّته على المسلمين .
۳ـ إن مشكلة الانحراف الجذري في مسألة الخلافة آنذاك لم تكن في إدراك مجمل هذه الحقيقة ، فقد كان المسلمون المخلصون حينئذ ، وعلى رأسهم كبار الصحابة والتابعين من الموالين لأهل البيت ( عليه السلام ) ومحبّيهم ، مدركين لها ولخطورتها ، إلاّ أنّ الإرادة العامة للمسلمين لم تكن بمستوى هذا الإدراك ، مما دفع الإمام الحسين ( عليه السلام ) لتحمل هذه المسؤولية الكبرى ، فانبرى لبذل دمه ودماء أهل بيته وأصحابه لتكون وقوداً ساخناً لإلهاب تلك الإرادة الهامدة ، وتعرية حقيقة الجاهلية الكامنة في خلافة يزيد بن معاوية ، التي استبدل فيها حاكمية كتاب الله وسنّة نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، بحاكمية الجاهلية وسنة القبيلة والآباء والأجداد من بني أمية وأبي جهل، وبدأت منذ نهضته وبعد استشهاده ( عليه السلام ) مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخطّ المنحرف ، ليقوم للدين عود ولتستقيم كلمته في العباد .
ولتصديق ذلك لابد لنا من إلقاء نظرة على نماذج من الوقائع الخاصة لنهضة الإمام الحسين ( عليه السلام ) الكبرى ، لنتلمس من خلالها المحتوى المبدئي في حفظ مصلحة الإسلام العليا ، ورعايتها التي ضحّى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بنفسه وأهل بيته وأصحابه من أجلها ، منها :
۱ـ لا بيعة ليزيد ( شارب الخمور وقاتل النفس المحرّمة والمعلن بالفسق ) :
فقد جاء في كتب التاريخ أن معاوية لما هلك بدمشق في منتصف رجب سنة ستين هجرية ، وكان ابنه يزيد في حوران ، قام الضحاك بن قيس بتكفينه ثم صلى عليه ودفنه بمقابر باب الصغير ، وأرسل البريد إلى يزيد يعزّيه بأبيه ، ويطلب منه الإسراع في القدوم ليأخذ بيعة مجدّدة من الناس ، (۱۶) فسار يزيد إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة أيام من دفن معاوية ، وأقبل الناس عليه يهنّئونه بالخلافة ويعزّونه بوفاة أبيه ، فقال يزيد : . . . أبشروا يا اهل الشام ، فإن الخير لم يزل فيكم ، وستكون بيني وبين أهل العراق ملحمة ، وذلك أنّي رأيت في منامي منذ ثلاث ليال كأن بيني وبين أهل العراق نهراً يطّرد بالدم جرياً شديداً ، وجعلت أجهد نفسي لأجوزه فلم أقدر حتى جازه بين يدي عبيد الله بن زياد وأنا أنظر إليه .
فصاح أهل الشام : إمض بنا حيث شئت . معك سيوفنا التي عرفها أهل العراق في صفين ، فجزاهم خيراً وفرّق فيهم أموالاً جزيلة .
وكتب إلى العمال في البلدان يخبرهم بهلاك أبيه وأقرّهم على عملهم ، وضم العراقين إلى عبيد الله بن زياد بعد أن أشار عليه بذلك سرجون مولى معاوية ، وكتب إلى الوليد بن عتبة وكان على المدينة : أما بعد ، فإن معاوية كان عبداً من عباد الله ، أكرمه واستخلصه ومكّن له ، ثم قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته .
عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني بالحذر من آل أبي تراب لجرأتهم على سفك الدماء ، وقد علمت يا وليد أن الله تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان من آل أبي سفيان ، لأنهم أنصار الحق وطلاب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة .
ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها : خذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ، ومن أبى فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه . (۱۷)
وقام العامل بهذه المهمة ، فبعث إلى الحسين ( عليه السلام ) وابن الزبير في منتصف الليل رجاء أن يغتنم الفرصة بمبايعتهما قبل الناس ، فوجدهما رسوله عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان بن عفان (۱۸) في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فارتاب ابن الزبير من هذه الدعوة التي لم تكن في الوقت الذي يجلس فيه للناس . (۱۹)
واتّضح لابن الزبير ما عزم عليه الحسين من ملاقاة الوالي في ذلك الوقت ، فأشار عليه بالترك حذار الغيلة ، فعرّفه الحسين ( عليه السلام ) القدرة على الامتناع (۲۰) ، وصار إليه الحسين ( عليه السلام ) في ثلاثين (۲۱) من مواليه وأهل بيته وشيعته شاكّين السلاح ، ليكونوا على الباب فيمنعوه إذا علا صوته (۲۲) ، وبيده قضيب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولما استقر المجلس بأبي عبد الله ( عليه السلام ) نعى الوليد إليه معاوية ، ثم عرض عليه البيعة ليزيد ، فقال ( عليه السلام ) : مثلي لا يبايع سراً . فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً . (۲۳)
فاقتنع الوليد بكلامه ، ولكن مروان ابتدر قائلاً : إنْ فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم ، ولكن احبس الرجل حتى يبايع أو تضرب عنقه . فقال الحسين : “يابن الزرقاء (۲۴) ، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت وأثمت” . (۲۵)
ثم أقبل على الوليد وقال : “أيها الأمير ، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أَيُّنا أحق بالخلافة” . (۲۶)
فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات ، فهجم تسعة عشر رجلاً قد انتضوا خناجرهم وأخرجوا الحسين ( عليه السلام ) إلى منزله قهراً (۲۷) ، فقال مروان للوليد : عصيتني ! فو الله لا يمكنك على مثلها .
قال الوليد : ( ويح غيرك ) يا مروان ! اخترت لي ما فيه هلاك ديني . أقتل حسيناً أن قال لا أبايع ؟! والله لا أظن امرئاً يحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة (۲۸) ، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم . (۲۹)
۲ـ الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان :
وفيها دلالة على حرمة الخلافة على أساس قبلي جاهلي ، فقد نقلت كتب التاريخ أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد أن رفض بيعة يزيد ، لقيه مروان عند صباح اليوم الثاني ، فدار بينهما كلام ( نصح ) فيها مروان الإمام ( عليه السلام ) ببيعة يزيد ، فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) وقال : “على الاسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان (۳۰) .
فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه ، وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا ، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق” . وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً (۳۱) .
۳ـ لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً لما بايعت يزيد :
فقد جاء أن محمّد بن الحنفية قال للإمام الحسين ( عليه السلام ) : يا أخي ، أنت أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك ، وأنت أحق بها . تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى الناس ، فإن بايعوك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك .
وإني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم ، فطائفة معك وأخرى عليك ، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً .
فقال الحسين : “فأين اذهب” ؟ قال : تنزل مكة ، فإن اطمأنّت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير إليه أمر الناس ، فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً ، حين تستقبل الامور استقبالاً ، ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً . (۳۲)
فقال الحسين : “يا أخي ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوىً لما بايعت يزيد بن معاوية” . فقطع محمد كلامه بالبكاء . فقال الحسين : “يا أخي ، جزاك الله خيراً . لقد نصحت وأشرت بالصواب . وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيّأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي ، أمرهم أمري ورأيهم رأيي . وأما أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم ، لا تخفي عنّي شيئاً من أمورهم” . (۳۳)
۴ـ إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي محمّد ( صلى الله عليه وآله ) :
كتب الحسين ( عليه السلام ) قبل خروجه من المدينة وصيّة قال فيها : “بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد بن الحنفية ، أن الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده ، وأن الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .
وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي صلّى الله عليه وآله . أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين .
وهذه وصيّتي إليك يا أخي ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب” . ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمد . (۳۴)
۵ـ ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله
فقد ذكر المؤرخون أن الحسين ( عليه السلام ) وافته في مكة كتب أهل الكوفة ، من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة ، يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام ، ولم يجتمعوا مع النعمان بن بشير في جمعة ولا جماعة ، وكثرت لديه الكتب ، حتى ورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب ، واجتمع عنده من نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ، وفي كل ذلك يؤكدون الطلب وهو لا يجيبهم . وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج ، ومحمد بن عمير بن عطارد ، وفيه :
إن الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل يابن رسول الله ، فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار ، فأقدم إذا شئت ، فإنما تقدم على جند لك مجنّدة . (۳۵)
ولما اجتمع عند الحسين ما ملأ خرجين كتب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى هانئ بن هانئ السَبُعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ، وكانا آخر الرسل .
وصورته : “بسم الله الرحمن الرحيم : من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين .
أما بعد ، فإن هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله . فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس نفسه على ذات الله . والسلام” . (۳۶)
۶ـ رضا الله رضانا أهل البيت :
فقد ورد أن الحسين ( عليه السلام ) لما بلغه أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر ، وأمّره على الحاج ، وولاّه أمر الموسم ، وأوصاه بالفتك بالحسين ( عليه السلام ) أينما وجد (۳۷) ، عزم على الخروج من مكة قبل إتمام الحج ، واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة البيت . (۳۸)
وقبل أن يخرج قام خطيباً فقال : “الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله . خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ! وخير لي مصرع أنا لاقيه . كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا ، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً . لا محيص عن يوم خطّ بالقلم . رضا الله رضانا أهل البيت . نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين .
لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده . ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى” . (۳۹)
وكان خروجه ( عليه السلام ) من مكة لثمان مضين من ذي الحجة ، ومعه أهل بيته ومواليه وشيعته من أهل الحجاز والبصرة والكوفة ، الذين انضمّوا إليه أيام إقامته بمكة ، وأعطى كل واحد منهم عشرة دنانيز وجملاً يحمل عليه زاده . (۴۰)
۷ـ نحن اهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر :
فقد جاء أن الحسين ( عليه السلام ) بعد خروجه من مكة سار حتى نزل في شراف ، وعند السحر أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا ، وفي نصف النهار سمع رجلاً من أصحابه يكبّر ، فقال الحسين : “لم كبرت” ؟ قال : رأيت النخل ، فأنكر من معه أن يكون بهذا الموضع نخل وإنما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال الحسين : “وأنا أراه ذلك” ، ثم سألهم عن ملجاً يلجأون إليه ، فقالوا : هذا ذو حسم (۴۱) عن يسارك فهو كما تريد فسبق إليه الحسين وضرب أبنيته .
وطلع عليهم الحر الرياحي (۴۲) مع ألف فارس ، بعثه ابن زياد ليحبس الحسين ( عليه السلام ) عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده ، أو يقدم به الكوفة ، فلما رأى سيد الشهداء ( عليه السلام ) ما بالقوم من العطش ، أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل ، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم .
وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر ، فجاء آخرهم وقد أضرّ به العطش ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : “أنخ الرواية” ، وهي الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال له : “أنخ الجمل” . ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء ، فقال له ريحانة الرسول : “أخنث السقاء” . فلم يدر ما يصنع لشدة العطش ، فقام ( عليه السلام ) بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه .
ثم إن الحسين ( عليه السلام ) استقبلهم فحمد الله وأثنى عليه وقال : “إنها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، وإني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت بها عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم ، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم” .
فسكتوا جميعاً . وأذّن الحجاج بن مسروق الجعفي لصلاة الظهر ، فقال الحسين للحر : “أتصلي بأصحابك” ؟ قال : لا ، بل نصلّي جميعاً بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام ) .
وبعد أن فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقال : “أيها الناس ، إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ، وإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم ، انصرفت عنكم” .
فقال الحر : ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها ؟ فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجين مملوّين كتباً . قال الحر : إني لست من هؤلاء ، وإني أُمرت ألاّ أفارقك إذا لقيتك حتى أُقدمك الكوفة على ابن زياد . فقال الحسين : “الموت أدنى إليك من ذلك ، وأمر أصحابه بالركوب ، وركبت النساء فحال بينهم وبين الانصراف إلى المدينة” . (۴۳)
۸ـ من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله:
فقد ورد أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) خطب في أصحاب الحر في البيضة (۴۴) ، فقال بعد الحمد لله والثناء عليه : “أيها الناس ، إن رسول الله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله .
ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيَّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكم فيّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته” . (۴۵)
۹ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً :
لقد كان نزول الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين ، (۴۶) فجمع ولده وإخوته وأهل بيته ، ونظر إليهم وبكى وقال : “اللهم إنا عترة نبيّك محمد ، قد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ، وتعدّت بنو أمية علينا . اللهم فخذلنا ، بحقنا ، وانصرنا على القوم الظالمين” .
وأقبل على أصحابه فقال : “الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الدّيانون” . (۴۷)
ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمد وآله وقال : “أما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صُبابة كصُبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً” . (۴۸)
۱۰ـ لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق :
عندما بعث الحر بن يزيد الرياحي إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، كتب ابن زياد إلى الحسين ( عليه السلام ) : أما بعد يا حسين ، فقد بلغني نزولك كربلاء ، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يزيد ألاّ أتو سدّ الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد . والسلام .
ولما قرأ الحسين ( عليه السلام ) الكتاب رماه من يده وقال : “لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق” . وطالبه الرسول بالجواب فقال : “ماله عندي جواب . لأنّه حقّت عليه كلمة العذاب” .
وأخبر الرسول ابن زياد بما قاله أبو عبد الله ( عليه السلام ) ، فاشتد غضبه ، (۴۹) وأمر عمر بن سعد بالخروج إلى كربلاء لقتال الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
۱۱ـ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد :
عندما أقبل عمر بن سعد نحو الحسين ( عليه السلام ) في ثلاثين ألفاً ، دعا الإمام الحسين ( عليه السلام ) براحلته فركبها ، ونادى بصوت عال سمعه جلهم : “أيها الناس ، اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم : ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) . ( إن وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين )” .
ثم قال : “الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخّيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربنا وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استخوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتّباً لكم ولما تريدون ! إنا لله وإنا إليه راجعون . هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين . (۵۰)
أيها الناس أنسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله ، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي ؟ أوليس جعفر الطيار عمّي ؟ أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟ فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فو الله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك ، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي” ؟!
ثم قال الحسين ( عليه السلام ) : “فإن كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكّون أني ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة” ؟ فأخذوا لا يكلمونه ، فنادى : “يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة” ؟ فقالوا : لم نفعل .
قال : “سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم . ثم قال : أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض” ، فقال له قيس ابن الأشعث : أو لا تنزل على حكم بني عمك ؟ فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .
فقال الحسين ( عليه السلام ) : “أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله ، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد . عباد الله ، إني عذت بربّي وربكم أن ترجمون . أعوذ بربّي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب” .
ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها . (۵۱)
۱۲ـ هيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون :
وخطب الإمام الحسين ( عليه السلام ) خطبته الثانية فيمن جاء لقتاله ، حيث ركب فرسه وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء القوم وقال : “يا قوم ، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (۵۲) .
ثم استشهدهم على نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودرعه وعمامته ، فأجابوه . بالتصديق ، فسألهم عما أقدمهم على قتله ، فقالوا : طاعة للأمير عبيد الله بن زياد . فقال ( عليه السلام ) : “تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا وآلهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم ؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ لكم الويلات! تركتمونا والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبى ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها ، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الإثم ، ونفثة الشيطان ومطفئي السنن! ويحكم! أهؤلاء تعضدون ، وعنا تتخاذلون ؟ أجل والله ، غدر فيكم قديم ، وشجت عليه أصولكم ، وتأزّرت فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر ، شجىً للناظر ، وأكلة للغاصب .
ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام . ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر .
أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور . عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) ، ( إني توكّلت على الله ربّي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم )” . (۵۳)
ثم رفع يديه نحو السماء وقال : “اللّهم أحبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُصبِرة ، فإنهم كذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير . (۵۴)
والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه ، قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، وإنه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي” . (۵۵)
۱۳ـ يا أمّة السوء !! بئسما خلفتم محمداً في عترته :
فقد روي أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) عندما ودّع عياله أمرهم بالصبر ولبس الأُزر ، وقال : “استعدّوا للبلاء ، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكّوا ، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم” . (۵۶)
ثم صاح بالقوم بصوت عال : “يا أمّة السوء !! بئسما خلفتم محمداً في عترته ! أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي . وايم الله ، إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون” . فقال الحصين : وبماذا ينتقم لك منا يابن فاطمة ؟ قال : “يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم ، ثم يصبّ عليكم العذاب صبّاً” . (۵۷)
۱۴ـ اللهم احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيّك ( صلى الله عليه وآله ) :
وحتى اللحظات الأخيرة التي كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يجود فيها بنفسه ، وهو مضمّخ بدمه على أرض كربلاء ، لم يغفل أبداً عن مبدأيته الرسالية ، فكانت آهاته وآلامه ، وهو في تلك الحالة ، هي تسليم لأمر الله ، ونظرٌ إلى مستقبل الرسالة والأمة ، وبيان لحقيقة موقفه وموقعه من الرسالة التي حملها ، والدور الذي اضطلع به ، فمما روي أن هلال بن نافع قال : كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه ، فوالله ما رأيت قتيلاً قط مضمّخاً بدمه أحسن منه وجهاً ، ولا أنور ، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله ، فاستقى في هذه الحال ماء فأبوا أن يسقوه ، وقال له رجل : لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها ، فقال ( عليه السلام ) : “أنا أرد الحامية ؟ وإنما أرد على جدّي رسول الله ، وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأشكوا إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي” ، فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً” . (۵۸)
ولما اشتد به الحال رفع طرفه إلى السماء وقال : “اللّهم متعال المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غنيّ عن الخلايق ، عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النعمة ، حسن البلاء ، قريب إذا دُعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت ، تدرك ما طلبت ، شكور إذا شُكرت ، ذكور إذا ذُكرت ، أدعوك محتاجاً ، وأرغب إليك فقيراً ، وأفزع إليك خائفاً ، وأبكي مكروباً ، وأستعين بك ضعيفاً ، وأتوكل عليك كافياً . اللّهم احكم بيننا وبين قومنا ، فإنهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ، ونحن عترة نبيّك ، وولد حبيبك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي اصطفيته بالرسالة ، وائتمنته على الوحي فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين” . (۵۹)
صبراً على قضائك يا ربّ لا إله سواك يا غياث المستغيثين ، (۶۰) مالي ربّ سواك ولا معبود غيرك ، صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له ، يا دائماً لا نفاد له ، يا محيي الموتى يا قائماً على كل نفس بما كسبت ، أحكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين” . (۶۱)
المأساوية المروعة لواقعة كربلاء عنصر أساسي في تحقيق مصلحة الإسلام العليا :
لقد كان للصورة المأساوية التي تميّزت بها واقعة الطف الدامية في كل وقائعها ومفرداتها ، دور مرسوم وأثر بليغ شاءه الله سبحانه لتتحقق للإمام الحسين ( عليه السلام ) أهدافه الإلهية من خلال نهضته الكبرى ، والمتصفّح لكتب التاريخ التي تسرد تفاصيل واقعة الطف الأليمة سيهتز ضميره ويعتريه الحزن والألم الشديد ، بل تجري دمعته مع كل مفردة من مفردات الواقعة المأساوية ، منذ حركة الإمام الحسين ( عليه السلام ) بأهل بيته وأصحابه من مكّة المكرمة ، حتى استشهاده على أرض كربلاء المقدسة ، وسبي نسائه وأطفاله فيما بعد ، وفي الوقت نفسه يستعر غضباً وغيضاً على الطاغية يزيد وابن زياد وعمّالهما من قتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لشدة قسوتهم وظلمهم الذي لا حدّ له في طريقة مواجهة الإمام ( عليه السلام ) ، وقتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نساء عترة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأطفالهم .
ولقد فعلت هذه المأساة فعلها في تأجيج عواطف المسلمين ، خصوصاً أهل الكوفة وغيرها في حواضر العراق والحجاز ، وخلقت الأرضية الواسعة لأيّة مبادرة تعبوية لمواجهة الخلافة الأموية ، وكسر هيبتها ، وفضح تستّرها بستار الخلافة الإسلامية ، ولهذا نجد أن مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخط المنحرف قد بدأت منذ أن بدأت النهضة الحسينية الكبرى ، واشتدت بعد استشهاده ( عليه السلام ) ، وكلها تنادي بشعار الرضا من آل محمد ( عليه السلام ) ، وهو شعار الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشهير ، الذي أطلقه في نهضته حيث قال : “رضا الله رضانا أهل البيت” .
ولم أجد أبلغ من وصف الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمسأة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد روى أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) أن الحسين دخل على أخيه الحسن ( عليه السلام ) في مرضه الذي استشهد فيه ، فلما رأى ما به بكى ، فقال له الحسن : “ما يبكيك يا أبا عبد الله” ؟ قال : “أبكي لما صُنع بك” . فقال الحسن ( عليه السلام ) : “إن الذي يؤتى إليّ سمّ يدس إليّ فأقُتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدّعون أنهم من أمّة جدنا محمد ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رماداً ودماً ، ويبكي عليك كل شئ حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار” . (۶۲)
ولم يقف الأثر التعبوي للنهضة الحسينية عند حدٍّ مقطعي من مسيرة الأمّة ، بل تواصل بنمو نوعي وكمّي مطّرد عبر العصور ، حتى إننا نستطيع القول : إن من أبرز الأدلّة الواقعية على الأثر الدائم لهذه النهضة الخالدة في أعماق المسلمين ، وتحقيقها للهدف الشامل في تقويم المصلحة الإسلامية العليا على مستوى الرسالة والأمّة جمعاء ، هو هذا الإجماع المطلق في جميع العصور على تأييدها والتفاعل مع معطياتها ، والإدانة المطلقة ليزيد بن معاوية موقفاً ومنهجاً ، فهذه كتب الحديث والتاريخ والسِيَر لكل المذاهب والفِرَق الإسلامية تجمع على ذلك ، وهذه كتب المحدّثين من إسلاميّين وغير إسلاميّين ، ممن تناول قيام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ونهضته بالدرس والتحليل ، تُجمع على ذلك أيضاً ، حتى لقد جاء على لسان أحدهم ، وهو الزعيم الهندي المعروف ( غاندي ) قوله : “لقد عرف الحسين كيف يكون مظلوماً فينتصر” .
ــــــــــ
۱ـ البحار ۴۴: ۲۲۵، ح ۵ .
۲ـ الطبرسي ، إعلام الورى بأعلام الهدى: ۲۱۷٫ الطبري ، دخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ۱۱۹ . الخوارزمي، مقتل الحسين ۱: ۸۷ و ۸۸ .
۳ـ الفيروز آبادي ، فضائل الخمسة ۳: ۲۶۲ . صحيح الترمذي ۲: ۳۰۷٫
۴ـ الطبرسي ، إعلام الورى : ۲۱۹ .
۵ـ ابن الصباغ المالكي ، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة (ع) : ۱۷۱ .
۶ـ البحار ۴۴: ۲۶۱ ، ح ۱۴ .
۷ـ البحار ۴۴: ۲۶۴ و ۲۶۵، ح ۲۲ .
۸ ـ المصدر نفسه ۲۶۶، ح ۲۴ .
۹ ـ المائدة : ۱٫
۱۰ـ الإسراء : ۳۴٫
۱۱ـ الشيخ المفيد ، الإرشاد: ۲۰۰٫
۱۲ـ راجع الاحتجاج للطبرسي ۲: ۲۹۵ ـ ۲۹۶٫
۱۳ـ الطبرسي ، الاحتجاج ۲: ۲۹۶ ـ ۲۹۷٫
۱۴ـ الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر ۲: ۴۵٫ والطبرسي ، الاحتجاج : ۲۹۷ ـ ۲۹۸ .
۱۵– الطبرسي ، الاحتجاج ۲ : ۲۹۸ ـ ۲۹۹ .
۱۶ـ راجع ابن كثير الدمشقي ، البداية والنهاية ۸: ۱۴۵ .
۱۷ـ مقتل الخوارزمي ۱ ۱۷۸ ـ ۱۸۰ ط . النجف .
۱۸ـ تاريخ ابن عساكر ۴: ۳۲۷ .
۱۹ـ تاريخ الطبري ۳: ۲۷۰ .
۲۰ـ الكامل لابن الأثير ۴: ۱۵٫
۲۱ـ اللهوف للسيد رضي الدين بن طاووس .
۲۲ـ مقتل الخوارزمي ۱: ۱۸۳ ، الفصل ۸ .
۲۳ـ تاريخ الطبري ۳ : ۲۷۰ .
۲۴ـ في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ۲۲۹، طبع ايران ، والآداب السلطانية للفخري: ۸۸، أنّ جدّة مروان كانت من البغايا، وفي كامل ابن الأثير ۴: ۷۵ ، أن الناس كانوا يعيّرون ولد عبد الملك بن مروان بالزرقاء بنت موهب، لأنها من المومسات ومن ذوات الرايات .
۲۵ـ تاريخ الطبري وكامل ابن الأثير والإرشاد وإعلام الورى .
۲۶ـ مثير الأحزان لابن نما الحلّي من أعلام القرن السادس .
۲۷ـ مناقب ابن شهر آشوب ۲ : ۲۰۸٫
۲۸ـ تاريخ الطبري ۳ : ۲۷۰٫
۲۹ـ اللهوف : ۱۴٫
۳۰ـ اللهوف : ۱۳٫ ومثير الأحزان: ۱۰٫
۳۱ـ مقتل الخوارزمي ۱ : ۱۸۵، الفصل ۹ .
۳۲ـ تاريخ الطبري ۳ : ۲۷۱ ، والكامل لابن الأثير ۴: ۷ .
۳۳ـ مقتل محمد بن أبي طالب ، ولم يذكر أرباب المقاتل هذا العذر، واعتذر العلاّمة الحلّي في أجوبة مسائل ابن مهنّا بالمرض ، وفي أخذ الثار لابن نما الحلّي، ص ۸۱، إصابته بقروح فلم يتمكّن من الخروج مع الحسين (ع) .
۳۴ـ مقتل العوالم : ۵۴ ، ومقتل الخوارزمي ۱ : ۱۸۸، الفصل ۹ .
۳۵ـ ابن نما ، مثير الأحزان: ۱۱٫
۳۶ ـ تاريخ الطبري ۳: ۲۷۸٫ والأخبار الطوال: ۲۳۷٫
۳۷ـ المنتخب : ۳۰۴، الليلة العاشرة .
۳۸ـ ابن نما ، مثير الأحزان: ۸۹٫ وتاريخ الطبري ۳: ۲۹۵٫
۳۹ـ اللهوف : ۳۳ ، وابن نما، مثير الأحزان: ۲۰ .
۴۰ـ نفس المهموم : ۹۱٫
۴۱ـ حسم (بضم الحاء المهملة وفتح السين بعدها ميم): جبل كان النعمان بن المنذر يصطاد به .
۴۲ـ في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص ۲۱۵: الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب الردف بن هرمي بن رياح يربوع، وقيل لعتاب الردف لأن الملوك يردفونه .
۴۳ـ إرشاد المفيد . وابن شهرآشوب في المناقب ۲: ۱۹۳ .
۴۴ـ البيضة : ما بين واقعته إلى عذيب الهجانات ، وهي أرض واسعة لبني يربوع بن حنظلة .
۴۵ـ تاريخ الطبري ۳: ۳۰۷ .
۴۶ـ نص عليه الطبري في تاريخه ۳: ۳۱۰، وابن الأثير في الكامل ۴: ۲۰، والمفيد في الإرشاد .
۴۷ـ البحار ۱۰: ۱۹۸٫ ومقتل الخوارزمي ۱: ۲۳۷ .
۴۸ـ هذا في اللهوف، وعند الطبري في تاريخه ۳: ۳۰۷ أنه خطب فيهم بذي حسم، وفي العقد الفريد ۲: ۳۱۲، وحلية الأولياء ۳: ۳۹، وتاريخ ابن عساكر ۴: ۳۳۳ مثل ما في اللهوف، وفي مجمع الزوائد ۹: ۱۹۲، وذخائر العقبى، ۱۴۹، وحلية الأولياء ۲: ۳۹، والعقد الفريد ۲:۳۱۲ ما يظهر منه أنه خطب بذلك يوم عاشوراء، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ۳: ۲۰۹ لما نزل عمر بن سعد بالحسين خطب أصحابه .
۴۹ـ البحار ۱۰ : ۱۸۹، ومقتل العوالم: ۷۶ .
۵۰ـ مقتل محمد بن أبي طالب .
۵۱ـ تاريخ الطبري ۳ : ۳۱۹ .
۵۲ـ تذكرة الخواص : ۱۴۳ .
۵۳ـ تاريخ ابن عساكر ۴: ۳۳۴٫ ومقتل الخوارزمي ۲: ۷ واللهوف: ۵۴ .
۵۴ـ اللهوف : ۵۶ ط. صيدا ، ومقتل الخوارزمي ۲: ۷ .
۵۵ـ مقتل العوالم: ۸۴ .
۵۶ـ جلاء العيون للمجلسي (بالفارسية).
۵۷ـ مقتل العوالم : ۹۸ ، ونفس المهموم : ۱۸۹ ، ومقتل الخوارزمي ۲ : ۳۴ .
۵۸ـ ابن نما ، مثير الأحزان: ۴۹ .
۵۹ـ مصباح المتهجّد والإقبال وعنهما في مزار البحار : ۱۰۷، باب زيارته يوم ولادته .
۶۰ـ أسرار الشهادة: ۴۳۳ .
۶۱ـ رياض المصائب: ۳۳ .
۶۲ـ أمالي الصدوق: ۱۰۱، المجلس ۲۴٫
الكاتب: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي