ابن أبي الحَديد (1)
1ـ شرح نهج البلاغة : إنّه ( عليه السلام ) كان أولى بالأمر وأحقّ ، لا على وجه النصّ بل على وجه الأفضليّة ؛ فإنّه أفضل البشر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأحقّ بالخلافة من جميع المسلمين (2) .
2ـ شرح نهج البلاغة : ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنّه استولى بنو أُميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها ، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعّدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة ، أو يرفع له ذكراً ، حتى حظروا أن يسمّي أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً ، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عَرْفه ، وكلّما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حُجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة .
وما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حلبتها ، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى (3).
3ـ شرح نهج البلاغة – في ذيل الخطبة الثانية – : إن قيل : ما معنى قوله ( عليه السلام ) :” لا يقاس بآل محمّد من هذه الأُمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ” ؟
قيل : لا شبهة أنّ المنعم أعلى وأشرف من المنعَم عليه ، ولا ريب أنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله) وأهله الأدنَين من بني هاشم – لا سيّما عليّاً ( عليه السلام ) – أنعموا على الخلق كافّة بنعمة لا يقدّر قدرها ؛ وهي الدعاء إلى الإسلام والهداية إليه ، فمحمّد ( صلى الله عليه وآله ) وإن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده ، ونصرة الله تعالى له بملائكته وتأييده ، وهو السيّد المتبوع ، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة ، إلاّ أنّ لعليّ ( عليه السلام ) من الهداية أيضاً – وإن كان ثانياً لأوّل ، ومصلّياً على إثر سابق – ما لا يجحد ، ولو لم يكن إلاّ جهاده بالسيف أوّلاً وثانياً ، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصوّرة ، لكفى في وجوب حقّه ، وسبوغ نعمته ( عليه السلام ) .
فإن قيل : لا ريب في أنّ كلامه هذا تعريض بمن تقدّم عليه ، فأيّ نعمة له عليهم ؟
قيل : نعمتان :
الأُولى منهما : الجهاد عنهم وهم قاعدون ؛ فإنّ من أنصف علم أنّه لولا سيف عليّ ( عليه السلام ) لاصطلم المشركون ، من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره في بدر ، وأُحد ، والخندق ، وخيبر ، وحنين ، وأنّ الشرك فيها فَغَر فاه (4)، فلولا أن سدّه بسيفه لالتهم المسلمين كافّة .
والثانية : علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : ” لولا عليّ لهلك عمر ” . . . .
واعلم أنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان يدّعي التقدّم على الكلّ ، والشرف على الكلّ ، والنعمة على الكلّ ، بابن عمّه ( صلى الله عليه وآله ) ، وبنفسه ، وبأبيه أبي طالب ؛ فإنّ من قرأ علوم السير عرف أنّ الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئاً مذكوراً (5).
أبو جَعفر الإسكافيّ (6)
4ـ شرح نهج البلاغة : قال شيخنا أبو جعفر : . . . قد علمنا ضرورةً من دين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تعظيمه لعليّ ( عليه السلام ) تعظيماً دينيّاً لأجل جهاده ونصرته ، فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (7).
5ـ شرح نهج البلاغة : قال أبو جعفر : قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولاً أو ديناً لهوى ، فيحملون الناس على ذلك ، حتى لا يعرفوا غيره ، كنحو ما أخذ الناسَ الحجّاجُ بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأُبيّ بن كعب ، وتوعّد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أُميّة وطغاة مروان بولد عليّ ( عليه السلام ) وشيعته ، وإنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة ، فما مات الحجّاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها ؛ لإمساك الآباء عنها ، وكفّ المعلّمين عن تعليمها حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأُبيّ ما عرفوها ، ولظنّوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان ؛ لإلف العادة وطول الجهالة ؛ لأنّه إذا استولت على الرعيّة الغلبة ، وطالت عليهم أيّام التسلّط ، وشاعت فيهم المخافة ، وشملتهم التقيّة ، اتّفقوا على التخاذل والتساكت ، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم وتنقص من ضمائرهم ، وتنقض من مرائرهم ، حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كان يعرفونها .
ولقد كان الحجّاج ومن ولاّه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أُميّة على إخفاء محاسن عليّ ( عليه السلام ) وفضائله وفضائل ولده وشيعته ، وإسقاط أقدارهم ، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأُبيّ ؛ لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم ، وفساد أمرهم ، وانكشاف حالهم ، وفي اشتهار فضل عليّ ( عليه السلام ) وولده وإظهار محاسنهم بوارُهم ، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم ، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله ، وحملوا الناس على كتمانها وسترها ، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلاّ استنارة وإشراقاً ، وحبّهم إلاّ شغفاً وشدّة ، وذكرهم إلاّ انتشاراً وكثرة ، وحجّتهم إلاّ وضوحاً وقوّة ، وفضلهم إلاّ ظهوراً ، وشأنهم إلاّ علوّاً ، وأقدارهم إلاّ إعظاماً ، حتى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء ، وبإماتتهم ذكرهم أحياء ، وما أرادوا به وبهم من الشرّ تحوّل خيراً ، فانتهى
إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدّمه السابقون ، ولا ساواه فيه القاصدون ، ولا يلحقه الطالبون ، ولولا أنّها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة ، وكالسنن المحفوظة في الكثرة ، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد ، إذا كان الأمر كما وصفناه (8).
6ـ شرح نهج البلاغة : قال أبو جعفر : وقد روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب :
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ( 9 ) ، وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن مُلجم ، وهي قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) ( 10 ) فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف فقبل ، وروى ذلك .
قال : وقد صحّ أنّ بني أُميّة منعوا من إظهار فضائل عليّ ( عليه السلام ) ، وعاقبوا على ذلك الراوي له ؛ حتى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله بل بشرايع الدِّين لا يتجاسر على ذكر اسمه ؛ فيقول : عن أبي زينب .
وروى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : وددت أن أُترك فأُحدِّث بفضائل عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوماً إلى الليل ؛ وأنّ عنقي هذه ضربت بالسيف .
قال : فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة ، لا نقطع نقلها للخوف والتقيّة من بني مروان مع طول المدّة ، وشدّة العداوة ، ولولا أنّ لله تعالى في هذا الرجل سرّاً يعلمه من يعلمه لم يروَ في فضله حديث ، ولا عرفت له منقبة ؛ ألا ترى أنّ رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ، ونسي اسمه ، وصار وهو موجود معدوماً ، وهو حيٌّ ميتاً (11).
أبو جَعفر الحَسَني (12)
7ـ شرح نهج البلاغة : كان [ أبو جعفر ] يقول : انظروا إلى أخلاقهما [ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعليّ ( عليه السلام ) ] وخصائصهما ، هذا شجاع وهذا شجاع ، وهذا فصيح وهذا فصيح ، وهذا سخيّ جواد وهذا سخيّ جواد ، وهذا عالم بالشرائع والأُمور الإلهيّة وهذا عالم بالفقه والشريعة والأُمور الإلهيّة الدقيقة الغامضة ، وهذا زاهد في الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها ، وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة وهذا مثله ، وهذا غير محبّب إليه شيء من الأُمور العاجلة إلاّ النساء وهذا مثله ، وهذا ابن عبد المطّلب بن هاشم ، وهذا في قُعْدده ( 13 ) ، وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطّلب ، وربّي محمّدٌ ( صلى الله عليه وآله ) في حِجْر والد هذا وهذا أبو طالب ، فكان جارياً عنده مجرى أحد أولاده .
ثمّ لمّا شبّ ( صلى الله عليه وآله ) وكبر استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام ، فربّا [ هُ ] ( 14 ) في حجره مكافأةً لصنيع أبي طالب به ، فامتزج الخلقان ، وتماثلت السجيّتان ، وإذا كان القرين مقتدياً بالقرين ، فما ظنّك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل ؟ فواجب أن تكون أخلاق محمّد ( صلى الله عليه وآله ) كأخلاق أبي طالب ، وتكون أخلاق عليّ ( عليه السلام ) كأخلاق أبي طالب أبيه ، ومحمّد ( عليه السلام ) مربّيه ، وأن يكون الكلّ شيمة واحدة ، وسوساً (15) واحداً ، وطينة مشتركة ، ونفساً غير منقسمة ولا متجزّئة ، وأن لا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لولا أنّ الله تعالى اختصّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) برسالته ، واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البريّة في ذلك ، ومن أنّ اللطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتمّ وأعمّ .
فامتاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بذلك عمّن سواه ، وبقي ما عدا الرسالة على أمر الاتّحاد ، وإلى هذا المعنى أشار ( صلى الله عليه وآله ) بقوله : ” أخصمك بالنبوّة ؛ فلا نبوّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ” وقال له أيضاً : ” أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ” فأبان نفسه منه بالنبوّة ، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركاً بينهما (16).
8ـ شرح نهج البلاغة – في ذكر كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبّة الناس لعليّ ( عليه السلام ) – : كان أبو جعفر لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون .
قلت له [ أبي جعفر ] مرّة : ما سبب حبّ الناس لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وعشقهم له ، وتهالكهم في هواه ؟ ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيّب منها .
فضحك وقال لي : كم تجمع جراميزك ( 17 ) عليَّ !
ثمّ قال : هاهنا مقدّمة ينبغي أن تُعلم ؛ وهي أنّ أكثر الناس موتورون من الدنيا ، أمّا المستحقّون فلا ريب في أنّ أكثرهم محرومون ، نحو عالم يرى أنّه لا حظّ له في الدنيا ، ويرى جاهلاً غيره مرزوقاً وموسّعاً عليه .
وشجاع قد أبلى في الحرب ، وانتفع بموضعه ، ليس له عطاء يكفيه ويقوم بضروراته ، ويرى غيره وهو جبان فشل ، يفرق من ظلّه ، مالكاً لقطر عظيم من الدنيا ، وقطعة وافرة من المال والرزق .
وعاقل سديد التدبير صحيح العقل ، قد قدر عليه رزقه ، وهو يرى غيره أحمق مائقاً تدرّ عليه الخيرات ، وتتحلّب عليه أخلاف الرزق .
وذي دين قويم ، وعبادة حسنة ، وإخلاص وتوحيد ، وهو محروم ضيّق الرزق ويرى غيره يهوديّاً أو نصرانيّاً أو زنديقاً كثير المال حسن الحال .
حتى إنّ هذه الطبقات المستحقّة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق لها ، وتدعوهم الضرورة إلى الذلّ لهم ، والخضوع بين أيديهم ، إمّا لدفع ضرر ، أو لاستجلاب نفع .
ودون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضاً ما نشاهده عياناً من نجّار حاذق ، أو بنّاء عالم ، أو نقّاش بارع ، أو مصوّر لطيف ، على غاية ما يكون من ضيق رزقهم ، وقعود الوقت بهم ، وقلّة الحيلة لهم ، ويرى غيرهم ممّن ليس يجري مجراهم ، ولا يلحق طبقتهم مرزوقاً مرغوباً فيه ، كثير المكسب ، طيّب العيش ، واسع الرزق . فهذا حال ذوي الاستحقاق والاستعداد .
وأمّا الذين ليسوا من أهل الفضائل ، كحشو العامّة ؛ فإنّهم أيضاً لا يخلون من الحقد على الدنيا والذمّ لها ، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم وجيرانهم ، ولا يرى أحد منهم قانعاً بعيشه ، ولا راضياً بحاله ، بل يستزيد ويطلب حالاً فوق حاله .
قال : فإذا عرفت هذه المقدّمة ، فمعلوم أنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان مستحقّاً محروماً ، بل هو أمير المستحقّين المحرومين ، وسيّدهم وكبيرهم ، ومعلوم أنّ الذين ينالهم الضيم ، وتلحقهم المذلّة والهضيمة ، يتعصّب بعضهم لبعض ، ويكونون إلباً ويداً واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا ، ونالوا مآربهم منها ، لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم وساءهم ، وعَضَّهم ومضّهم ، واشتراكهم في الأنفة والحميّة والغضب والمنافسة لمن علا عليهم وقهرهم ، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه .
فإذا كان هؤلاء – أعني المحرومين – متساوين في المنزلة والمرتبة ، وتعصّب بعضهم لبعض ، فما ظنّك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف ، جامع للفضائل محتو على الخصائص والمناقب ، وهو مع ذلك محروم محدود ، وقد جرّعته الدنيا علاقمها ، وعلّته عللاً بعد نَهَل من صابها وصبرها ، ولقي منها برحاً بارحاً ، وجهداً جهيداً ، وعلا عليه من هو دونه ، وحكم فيه وفي بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان في حسابه ، ولا دائراً في خلده ، ولا خاطراً بباله ، ولا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له ولا يراه له .
ثمّ كان في آخر الأمر أن قُتل هذا الرجل الجليل في محرابه ، وقُتل بنوه بعده ، وسبي حريمه ونساؤه ، وتتبّع أهله وبنو عمّه بالقتل والطرد والتشريد والسجون ، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم ، وانتفاع الخلق بهم .
فهل يمكن ألاّ يتعصّب البشر كلّهم مع هذا الشخص ؟ ! وهل تستطيع القلوب ألاّ تحبّه وتهواه ، وتذوب فيه وتفنى في عشقه ، انتصاراً له ، وحميّةً من أجله ، وأنفة ممّا ناله ، وامتعاضاً ممّا جرى عليه ؟ ! وهذا أمر مركوز في الطبائع ، ومخلوق في الغرائز ، كما يشاهد الناس على الجرف إنساناً قد وقع في الماء العميق ، وهو لا يحسن السباحة ؛ فإنّهم بالطبع البشري يرقّون عليه رقّة شديدة ، وقد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه ، يطلبون تخليصه ، لا يتوقّعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر ، ولا ثواباً في الآخرة ، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة ، ولكنّها رقّة بشرية ، وكأنّ الواحد منهم يتخيّل في نفسه أنّه ذلك الغريق ، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق ، كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسيّة .
وكذلك لو أنّ ملكاً ظلم أهل بلد من بلاده ظلماً عنيفاً ، لكان أهل ذلك البلد يتعصّب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك ، والاستعداء عليه ، فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر ، جليل الشأن ، قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إيّاهم ، وأخذ أمواله وضياعه ، وقتل أولاده وأهله ، كان لياذهم به ، وانضواؤهم إليه ، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم ؛ لأنّ الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب الاضطراري ، ولا يستطيع الإنسان منه امتناعاً .
وهذا محصول قول النقيب أبي جعفر ، قد حكيته والألفاظ لي والمعنى له ؛ لأنّي لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها ، إلاّ أنّ هذا هو كان معنى قوله وفحواه (18).
أبو عَليٍّ ابن سينا (19)
9ـ معراج نامه: قال أشرف البشر وأعزّ الأنبياء وخاتم الرسل لمركز دائرة الحكمة وفلك الحقائق ، وخزانة العقول أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : ” يا عليّ ، إذا رأيت الناس مقرّبون إلى خالقهم بأنواع البرّ تقرّب إليه بأنواع العقل تسبقهم ” (20)
ولا يستقيم هذا الخطاب لأحد إلاّ لعظيم كهذا ، الذي محلّه بين الناس نظير المعقولات بين المحسوسات ؛ فقال له : يا عليّ ، أتعب نفسك في تحصيل المعقولات كما أنّ الناس يُتعبون أنفسهم في كثرة العبادات ؛ كي تسبق الجميع .
ولمّا كان إدراكه للحقائق ببصيرة العقل استوت عنده المحسوسات والمعقولات وكانت عنده بمنزلة سواء ، ولهذا قال ( عليه السلام ) : ” لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينا ” .
ولا ثروة أعظم من إدراك المعقولات ؛ فإدراك المعقولات هو الجنّة بتمام نعيمها بزنجبيلها وسلسبيلها . وأمّا الجحيم بقيودها وعذابها فهو متابعة متعلّقات الأجسام وشؤونها ، وهذه المتابعة هَوَت بالناس في جحيم الهوى ، وأسرتهم بقيد الخيال ومرارة الوهم (21).
أبو الفَرَجِ الأصفَهاني (22)
10ـ مقاتل الطالبيّين : قد أتينا على صدر من أخباره فيه مقنع ، وفضائله ( عليه السلام) أكثر من أن تُحصى ، والقليل منها لا موقع له في مثل هذا الكتاب ، والإكثار يخرجنا عمّا شرطناه من الاختصار . وإنّما ننبّه على من خمل عند بعض الناس ذكره ، أو لم يشع فيهم فضله .
فأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بإجماع المخالف والممالي ( 23 ) والمضادّ والموالي ، على ما لا يمكن غمطه ولا ينساغ ستره من فضائله المشهورة في العامّة لا المكتوبة عند الخاصّة ، تغني عن تفضيله بقول والاستشهاد عليه برواية (24).
أبو قَيس الأوْدِي (25)
11ـ الاستيعاب عن أبي قيس الأودي : أدركت الناس وهم ثلاث طبقات :أهل دين ؛ يحبّون عليّاً ، وأهل دنيا ، يحبّون معاوية ، وخوارج (26).
أبو نَعيم الأصفهاني (27)
12ـ حلية الأولياء : سيّد القوم ، محبّ المشهود ، ومحبوب المعبود ، باب مدينة العلم والعلوم ، ورأس المخاطبات ومستنبط الإشارات ، راية المهتدين ، ونور المطيعين ، ووليّ المتّقين ، وإمام العادلين ، أقدمهم إجابة وإيماناً ، وأقومهم قضيّة وإيقاناً ، وأعظمهم حلماً ، وأوفرهم علماً ، عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه .
قدوة المتّقين وزينة العارفين ، المنبئ عن حقائق التوحيد ، المشير إلى لوامع علم التفريد ، صاحب القلب العقول ، واللسان السؤول ، والأُذن الواعي ، والعهد الوافي ، فقّاء عيون الفتن ، ووقيٌّ من فنون المحن ، فدفع الناكثين ، ووضع القاسطين ، ودمغ المارقين ، الأُخيشن في دين الله ، الممسوس في ذات الله (28).
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) هو عزّ الدين أبو حامد ابن هبة الله بن محمّد بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني : أحد جهابذة العلماء وأثبات المؤرّخين ، ممّن نجم في العصر العبّاسي الثاني ، أزهى العصور الإسلاميّة إنتاجاً وتأليفاً . وكان فقيهاً أُصوليّاً ، وله في ذلك مصنّفات معروفة مشهورة ، وكان متكلّماً جدليّاً نظّاراً ، اصطنع مذهب الاعتزال ، وعلى أساسه جادل وناظر ، وحاجّ وناقش ، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف . وكان أديباً متضلّعاً في فنون الأدب ، متقناً لعلوم اللسان . وكان شاعراً عذب المورد ، مشرق المعنى ، كما كان كاتباً بديع الإنشاء ، حسن الترسّل ، ناصع البيان ، وله مصنّفات كثيرة .
ولد بالمدائن ونشأ بها وتلقّى عن شيوخها ، ودرس المذاهب الكلاميّة فيها ، ثمّ مال إلى مذهب الاعتزال ، وتوفّي سنة 656 أو 655 ( راجع شرح نهج البلاغة : المقدّمة ص 13 ، سير أعلام النبلاء : 23 / 372 / 265 ) .
( 2 ) شرح نهج البلاغة : 1 / 140 .
( 3 ) شرح نهج البلاغة : 1 / 16 .
( 4 ) أي فَتَح فاه ( لسان العرب : 5 / 59 ) .
( 5 ) شرح نهج البلاغة : 1 / 140 .
( 6 ) أبو جعفر محمّد بن عبد الله السمرقندي ، أحد متكلّمي المعتزلة : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء وصيانة النفس ونبل الهمّة والنزاهة ، بلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد من نظرائه . وكان المعتصم يعظّمه جدّاً .
قال ابن أبي الحديد : وهو الذي نقض كتاب ” العثمانيّة ” على أبي عثمان الجاحظ في حياته .
ودخل الجاحظ الورّاقين ببغداد . فقال : من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنّه تعرَّض لنقض كتابي !
وأبو جعفر جالس ، فاختفى منه حتى لم يَرَه . وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد ، ويبالغ في ذلك ، وكان علويّ الرأي ، محقّقاً منصفاً ، قليل العصبيّة . مات سنة أربعين ومائتين .
وتعبير ابن أبي الحديد في حقّ هذا الرجل ب ” شيخنا ” مع وجود الفاصلة الزمنيّة الكبيرة بينهما لكونه من المعتزلة ، وكثيراً ما يعبّر في شرح نهج البلاغة عن شيوخ المعتزلة ب ” شيخنا ” ( راجع شرح نهج البلاغة : 17 / 133 ، والمعيار والموازنة : 4 وسير أعلام النبلاء : 10 / 550 / 182 ) .
( 7 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 285 .
( 8 ) شرح نهج البلاغة : 13 / 223 .
( 9 ) البقرة : 204 و 205 .
( 10 ) البقرة : 207 .
( 11 ) شرح نهج البلاغة : 4 / 73 .
( 12 ) أبو جعفر بن أبي زيد الحسني : نقيب البصرة ، أحد مشايخ ابن أبي الحديد .
( 13 ) القُعدد : قريب من الجَدّ الأكبر ( لسان العرب : 3 / 361 ) .
( 14 ) الزيادة منّا لتتميم العبارة .
( 15 ) السُّوْس : الأصل والطبع والخُلُق والسَّجيّة ( لسان العرب : 6 / 108 ) .
( 16 ) شرح نهج البلاغة : 10 / 221 . راجع : عليّ عن لسان النبيّ / المناقب المعدودة / تخصم الناس بسبع .
( 17 ) الجَراميز : قيل : هي اليدان والرجلان ، وقيل : هي جُملة البدن ( النهاية : 1 / 263 ) .
( 18 ) شرح نهج البلاغة : 10 / 223 .
( 19 ) الشيخ الرئيس إمام الحكماء أبو حسين بن عبد الله بن حسن بن عليّ ، المعروف بابن سينا . من نوابغ البشريّة . ولد سنة ( 370 ه ) ، وتوفّي في همدان سنة ( 428 ه ) . طلب العلم في بخارى ، وحفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره . تتلمّذ عند أبي عبد الله النامقي في المنطق والهندسة والنجوم ففاق أُستاذه في هذه العلوم . ثم سعى في تحصيل علوم الطبّ وما وراء المادّة . ثمّ اطّلع على مؤلّفات الفارابي ، وأخذ في تحصيل الفلسفة . . . .
من كتبه : القانون في الطبّ ، والشفاء والإشارات في الفلسفة .
(20) لم نعثر على هذا النصّ بعينه وإنّما عثرنا على نصوص مقاربة له ، منها ما ورد في حلية الأولياء :1 / 18 : ” يا عليّ إذا تقرّب الناس إلى خالقهم في أبواب البرّ فتقرّب بأنواع العقل ، تسبقهم بالدرجات والزلفى عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة ” وفي مشكاة الأنوار : 439 / 1476 : ” يا عليّ إذا تقرّب العباد إلى خالقهم بالبرّ فتقرّب إليه بالعقل تسبقهم ، إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم ” .
(21) معراج نامه ( بالفارسيّة ) : 94 .
(22) أبو الفرج عليّ بن الحسين بن محمّد القرشي الأُموي الأصبهاني الكاتب : مصنّف كتاب ” الأغاني ” ، وله تصانيف عديدة منها ” مقاتل الطالبيّين ” وكتاب ” أيّام العرب ” في خمسة أسفار و ” الأخبار والنوادر ” و ” جمهرة أنساب العرب ” و ” مجموع الأخبار والآثار ” و ” الغنم ” و . . . قيل : والعجب أنّه أُمويّ شيعيّ . ولد في سنة ( 284 ه ) ومات في ذي الحجّة سنة ( 356 ه ) وله اثنتان وسبعون سنة ( راجع سير أعلام النبلاء : 16 / 201 / 140 ، ومقاتل الطالبيّين : 5.
( 23 ) مالأَته : عاونته وصرت من مَلَئِهِ ؛ أي : جَمْعه نحو : شايَعته . أي : صرت من شيعته ( مفردات ألفاظ القرآن : 776 ) .
( 24 ) مقاتل الطالبيّين : 42 .
( 25 ) عبد الرحمن بن ثروان ، أبو قيس الأودي الكوفي : ذكره ابن حبّان في الثقات . وقال ابن أبي عاصم :
مات سنة عشرين ومائة ( راجع تهذيب التهذيب : 3 / 329 / 4453 ) .
( 26 ) الاستيعاب : 3 / 213 / 1875 .
( 27 ) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى ، أبو نعيم المهراني الأصبهاني الصوفي : صاحب ” الحلية ” . ولد سنة ( 336 ه ) ومات سنة ( 430 ه ) وله أربع وتسعون سنة . ومصنّفاته كثيرة جدّاً ، منها :
” معجم ” شيوخه وكتاب ” الحلية ” و ” المستخرج على الصحيحين ” و ” تاريخ أصبهان ” و ” صفة الجنّة ” وكتاب ” دلائل النبوّة ” وكتاب ” فضائل الصحابة ” وكتاب ” علوم الحديث ” وكتاب ” النفاق ” . . . ( راجع سير أعلام النبلاء : 17 / 453 / 305 ) .
( 28 ) حلية الأولياء : 1 / 61 .
المصدر: موسوعة الإمام علي (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ / الشيخ محمد الريشهري