تتجاذب الإنسان التوجهات والنظريات السياسية المتعددة الصادرة من الشرق والغرب بما تحويه مضمون السياسة من القدرة على إدارة دفة الحكم وتسيير شؤون الناس، ومما يلفت نظر الإنسان – أيّ إنسان – سيرة أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إدارته البلاد الاسلامية التي كانت آنذاك تضم أكثر من خمسين دولة حسب التقسيمات الحالية، بمعنى أنها دولة عظمى عدداً وعدة.
لكن لماذا حكومة علي (عليه السلام) ؟ ولماذا سياسة علي (عليه السلام) ؟ ولماذا إدارة علي (عليه السلام) ؟ ولماذا ولماذا …يأتي جواب ذلك في أمرين :
الأمر الأول: لأن علي (عليه السلام) مع القرآن والقرآن مع علي، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (الله أكبر.. الحمد الله الذي أنزل الآيات البينات في أبي الحسن والحسين) فهو الترجمان الحق للدين ولحكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولخلافة الله سبحانه في الأرض، هذا من جهة.
الأمر الثاني: ما جرى في أيام حكومته من أحداث جسام وفتن كبرى على الاسلام، وقدرته الفائقة على إبطال مفعول تلك الفتن وفضح أصحابها للتاريخ والاجيال، فلا نجد مثيله لا في التاريخ الغابر ولا الحاضر، أطوِ ما شئت وكيفما شئت من صفحات التاريخ، لن تجد مثل المزايا والصفات الرائعة والناصعة في جبين الدهر إلا في حكومته وحكومة أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبله، وهنا سنذكر بعض تلك المزايا التي – بالفعل وبالقوة – تمثل خلافة الله سبحانه في الأرض، فمنها:
۱- لا وجود لجائع في حكومته..
ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: (أ أقنع من العيش أن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الحياة وأكون أسوة لهم في جشوبة العيش، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع أو لا طمع له بالقرص)؟ وكلمة (لعل) هي محور الحديث، حيث ذكر الإمام (عليه السلام) ذلك وهو مقيم بالكوفة عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك، والتي ينقل أرباب التاريخ أنها كانت تضم أربعة ملايين نسمة.
وهذا يعني أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان متأكداً وقاطعاً من عدم وجود الجائع في الكوفة الحاوية لهذا العدد الكبير والدليل قوله (لعل)، وهل هذا يدل على وجود جائع أو محتاج في الحجاز أو اليمامة في ظل حكومته ؟ الظاهر أيضاً من ذات الكلمة (لعل) أنه لا وجود لهذا الوصف في الواقع الخارجي لصدور ذلك من ثنايا المعصوم، والفرق ظاهر، وأن معناها ومرادها حين تصدر منه (عليه السلام) وهو العالم بأمر الناس والولي والخليفة من الله جل وعلا عليهم، فقوله (لعل) يبدو منه أيضاً عدم الوجود.
فهل ترى في جبين التاريخ أو في الحال الحاضر، وهل سمعت أذناك أو رأت عيناك دولة تظم أربعة ملايين نسمة لا يوجد فيها فقير أو محتاج أو من لا يملك منزل أو دابة أو طعام أو غير ذلك، بل ربما يمكن ويصح القول أن هذا لا يمكن تعقله، لا أقل في زمننا الحاضر، بل حتى في مستقبلنا القريب! ومما يؤكد رغد العيش تحت ظل حكومته الإلهية قوله (عليه السلام) : ( ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعماً، وإن أدناهم منزلة ليأكل البر، ويجلس في الظل، ويشرب من ماء الفرات).
۲- الحرية في حكومته (عليه السلام):
كانت الحرية في عهد الأمير مبسوطة كل البسط وعلى كل المستويات، سواءً الحرية العقائدية أو الثقافية أو السياسية، مبنية على أسس منها (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا) و (الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) ولم يكن لها قيد أو شرط سوى (مالم تمس حريات الآخرين) وكنماذج لذلك:
النموذج الأول: الحرية السياسية:
فقد ورد أن الإمام علي (عليه السلام) لم يقطع عطاء الخوارج من بيت المال على أنهم يمثلون المعارضة، وكذلك ما نقله التاريخ أن عمر بن حريث مع سبعة نفر لما خرجوا إلى مكان يسمى الخورنق فخرج إليهم ضب وبايعوه بإمرة المؤمنين! ناكثين بذلك بيعة الإمام (عليه السلام) مستهزئين، ثم افلتوه فقدموا المدائن والامام (عليه السلام) يخطب في المسجد، فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) من فوق المنبر وقد قطع حديثه فقال: أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسر ألي ألف حديث… وأني سمعت الله جل وعلا يقول “يوم ندعو كل أناس بإمامهم” وأني أقسم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب ولو شئت أن أسميهم لفعلت، فسقط عمر بن حريث على الأرض حياء ولؤماً.
فأنظر كيف تعامل زعيم دولة عظيمة مع أفراد ونماذج مثل عمر بن حريث وغيرهم، فبدلاً من يعاقبهم ويخزيهم أمام الملأ، فسح لهم أجواء الحرية ليبدوا آرائهم بكل حرية شريطة أن لا يلحقوا الضرر بالآخرين.
النموذج الثاني: حرية المعتقد:
كان اليهود والنصارى والمخالفين لإمامته (عليه السلام) ينعمون بحريتهم ويمارسون طقوسهم الدينية، فها هو (عليه السلام) الرئيس الأعلى للبلاد يدعو المسلمين إلى أن يقيموا نوافل شهر رمضان فرادى كما أمر بها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولكن بعض المسلمين خالفوه وخرجوا بمظاهرات ضده (عليه السلام)، قلم يجبرهم لا بالقوة ولا بغيرها على أتباع أمره بل أمر أن يتركوا ليفعلوا ما يشاؤون !!
وهناك نماذج كثيرة تمثل صوراً بل أروع صور الحرية التي لم نسمع أو نرى لها مثيلاً لا في بطون الكتب ولا في بلدان الحرية والديمقراطية ولا في غيرها، حرية لا تطبق إلا عند أولياء الله وخلفائه.. فأين الساسة من هذه الصفات والميزات العظيمة؟