هل التكتف في الصلاة بدعة ام سنة. وما هي أدلة القائلين بمشروعيته؟ وما هي روايات مشروعيته؟ وما هي وجوه استحسانية التكتف؟ وما هي الروايات النافية عنه؟ ثم ما هو التكتف من منظار أهل البيت (ع)، ونتيجة البحث هو أن إسبال اليدين هو الأحوط، هذا ما سيتضح من خلال البحث.
مسألة التكتّف في الصّلاة
من جملة ما وقع الخلاف فيه بين مذهب أهل البيت (ع) وبعض المذاهب الاُخرى مسألة التكتّف في الصلاة، وقد تذكر بعناوين اُخرى، كالتكفير والقبض، وكلها تشير الى معنى واحد، وهو: وضع المصلّي يده اليمنى على اليد اليسرى، فوق السرّة أو تحتها في حال الصلاة.
تحرير محل النزاع
ولقد أجمع المسلمون بشتى مذاهبهم على عدم وجوب التكتف في الصلاة ثم دار الخلاف فيه بين المذاهب ـ بعد نفي الوجوب ـ على عدة آراء هي:
1ـ الاستحباب مطلقاً، في الصلاة الواجبة والمستحبة، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، وذكر النووي أن أبا هريرة وعائشة وآخرين من الصحابة وعدداً من التابعين مثل: سعيد بن جبير والنخعي وأبو مجلد، وعدداً من الفقهاء مثل: سفيان وإسحاق وأبو ثور وداود وجمهور العلماء على هذاالقول[1].
2ـ الجواز في الصلاة المستحبة، والكراهة في الصلاة الواجبة.
روى هذا الرأي ابن رشد القرطبي عن إمامه مالك[2].
وذكر النووي: أن عبد الحكم روى عن مالك الوضع، فيما روى ابن القاسم عنه الإرسال، وهو الأشهر[3]، ونقل السيد مرتضى عن مالك والليث بن سعد أنهما يريان القبض لأجل طول القيام في النافلة[4].
3ـ التخيير بين الوضع والإرسال، رواه النووي عن الأوزاعي[5].
4ـ الحرمة والمبطلية للصلاة وهو رأي الإمامية المشهور في المسألة، وادعى السيد المرتضى الاجماع عليه[6]، ونقل النووي في المجموع أن عبد الله بن الزبير والحسن البصري والنخعي وابن سيرين كانوا يرون الإرسال ويمنعون التكتف[7].
والآراء الثلاثة الاُولى يمكننا أن نعتبرها وجوهاً للجواز بالمعنى الأعم من الكراهة والاستحباب. فتكون مسألتنا دائرة بين قولين أساسيين هما: الجواز والحرمة، فإذا انتفت الحرمة وثبت الجواز أمكننا الانتقال بعد ذلك الى البحث في وجوه الجواز وما يتفرع عليها من القول بالكراهة والاستحباب والتخيير، وإذا انتفى الجواز وثبتت الحرمة لم يبق وجه للقول بالاستحباب والتخيير وانتفت الحاجة الى البحث فيهما.
وحينئذ، فالمفتاح الأساس للبحث في هذه المسألة هو السؤال التالي: ما هو الأساس في كون الشيء في العبادة جائزاً أو حراماً؟ وهل التكتف في الصلاة ينطوي على سبب للتحريم أم لا؟
التكتف في الصلاة بدعة أم سُنّة؟
لقد اتفق الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية على أن العبادات توقيفية لا يتم إثبات شيء منها إلاّ بدليل من الكتاب والسُنّة، فإذا تم الدليل القرآني أو النبوي على جزئية جزء في عبادة من العبادات فهو، وإلاّ كان إدخال ذلك الجزء في العبادة وإتيانه بقصد التقرب على أنه جزء حراماً قطعياً عند جميع فقهاء المسلمين، لصدق البدعة عليه، وكونه حينئذ من الافتاء بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى.
والبحث هنا يدور بين طرفين: أحدهما ينفي وجود دليل شرعي على التكتف، ويثبت بذلك كونه بدعة وتشريعاً محرّماً، وآخر يحاول أن يثبت وجود دليل شرعي عليه، بمعنى أن القائل بالحرمة قائل بكون التكتف في الصلاة بدعة وتشريعاً محرّماً، والقائل بجوازه أو استحبابه قائلاً بكونه سُنّة نبوية.
وحينئذ، ففي مناقشتنا لهذه المسألة لابد وأن نستعرض أدلة القائلين بالجواز والاستحباب، ثم ننظر هل أ نّها أدلة حقيقية تعود الى الكتاب والسُنّة أم لا؟!
أدلة القائلين بمشروعية التكتف في الصلاة
استدلّ القائلون بمشروعية التكتف واستحبابه في الصلاة بعدّة روايات، وببعض الوجوه الاستحسانية، كقول النووي: «قال أصحابنا: ولأن وضع اليد على اليد أسلم له من العبث، وأحسن في التواضع والتضرّع»[8].
ولابد من إلقاء نظرة على ما استدلوا به من تلك الروايات وهذه الوجوه بالنحو التالي:
1ـ روايات مشروعية التكتف في الصلاة
إن أهم ما استدلوا به من الروايات ثلاث روايات هي: حديث سهل بن سعد المروي في صحيح البخاري، وحديث وائل ابن حجر المروي في صحيح مسلم والذي أخرجه البيهقي في ثلاثة أسانيد، وحديث عبد الله بن مسعود المروي في سنن البيهقي.
وفيما يلي نصّ كل حديث منها مع ما أورد عليه من الملاحظات النقدية:
أ ـ حديث سهل بن سعد
روى البخاري عن ابن حازم، عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حازم: لا أعلمه إلاّ يَنمي ذلك الى النبي «ص»[9].
والكلام في دلالة هذا الحديث على المطلوب، فالراوي يقول في أول الحديث: كان الناس يؤمرون، تُرى من هو الآمر؟ النبي (ص) أم الصحابة؟ يجيب ابن حجر على هذا السؤال بقوله:
«إن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره الى من له الأمر وهو النبي «ص» لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع، ومثله قول عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم، فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي «ص»»[10]، وهذا هو رأي جمهور علمائهم.
وفي هذا التفسير مجازفة لا تخفى على اللبيب، خاصة عندما يجري تطبيقه على كل الحالات من كل الصحابة، فكيف يتأتى لنا إثبات أن قول الصحابي: «كنا نؤمر بكذا» يدل على أن النبي هو الآمر بذلك؟
فهذا قول مجمل، وليس هناك ما يدل على أن الصحابي قد جاء به لحكاية أوامر النبي (ص) فلعله يقصد به حكاية افتاءات سائر الصحابة له في اُمور لم يقف عليها هذا الصحابي فيراجع سائر الصحابة فيها فيقال له: افعل كذا كفتوى منهم في الأمر.
وكون الصحابي في مقام بيان الشرع وتعريفه يستلزم نسبة هذه الأوامر الى النبي (ص) مباشرة فإن الصحابي غرضه بيان الشرع ببيان الأوامر النبوية المباشرة وأوامر الصحابة الناشئة عن فهمهم لسُنّة النبي (ص) أو مروياتهم عنه.
وقول الصحابي: «كنّا نؤمر بكذا» أظهر دلالة في حكاية أوامر الصحابة من حكاية أوامر النبي (ص) لأن الصحابي يفتخر ويشعر بشرف النسبة الى الرسول حينما يصرح بأوامر النبي (ص) التي وجهها اليه، فلو كان يريد حكاية أوامر النبي (ص) فمن الأفضل بالنسبة اليه أن يصرّح بذلك ولا يأتي بكلام مجمل، وردّ السيوطي في تدريب الراوي على من تساءل: لِمَ لم يقل الصحابي في هذه الموارد قال رسول الله (ص) ؟ بأنهم ـ أي الصحابة ـ «تركوا الجزم بذلك تورعاً واحتياطاً»[11].
وردّه هذا ينفع السائل ولا ينفع السيوطي نفسه، فإن الصحابي في هذه الموارد إنّما تورع عن نقل النصّ ولم يتورّع عن الجزم بالحكم، فإذا كان جازماً بأن هذا الحكم قد قاله الرسول (ص) كان بإمكانه أن يقول: أمرنا النبي (ص) بكذا ولا يذكر نص قول النبي (ص).
وكم من حديث في الكتب الستة جاء بهذه الصياغة، فإعراض الصحابي عن ذكر النبي (ص) في هذه الأوامر يدل على وجود نكتة دفعته لذلك، وهو يشهد لصدورها عن غير النبي أكثر مما يشهد لصدورها عنه (ص) ولا أقل من الاجمال في ذلك، ومع ثبوت هذا الاجمال لا يجوز لنا نسبة هذه الأوامر الى الرسول (ص)، والنتيجة الفقهية المترتبة على ذلك أن أحاديث الأوامر لا يصح الاحتجاج بها كأدلة برأسها، وإنّما يصح الاستشهاد والاستئناس بها في تأييد أدلّة اُخرى.
هذا من ناحية عامة، ومن ناحية اُخرى خاصة بهذا الحديث نجد فيه شاهداً اضافياً يشهد لعدم صدور هذا الأمر عن النبي (ص) وهو قول أبي حازم في ذيل ذلك الحديث: لا أعلمه إلاّ ينمي ذلك الى النبي.
فإن كلام أبي حازم هذا يفيد أن حديث سهل بن سعد في نفسه لا يثبت كون الأمر المذكور فيه صادراً عن النبي (ص)، فقد يكون صادراً عنه (ص) وقد يكون صادراً عن غيره، ولكي يقطع هذا الترديد احتاج أبو حازم الى هذا الذيل ليبين قناعته الشخصية بأن غرض سهل بن سعد من هذا الحديث نسبة الأمر المذكور فيه الى النبي محمد (ص)، ويغلق احتمال صدوره عن غيره.
وهذا يؤكد أن الأصل في أحاديث الأوامر انها مجملة، وان نسبة هذه الأوامر الى النبي تحتاج الى دليل، وأبو حازم لم يبين دليله فيما ذهب اليه، فكلامه حجة على نفسه، ولا يصح أن يكون حجة لغيره في اثبات ذلك، فلا يصح الاحتجاج بحديث سهل بن سعد في هذه المسألة.
ب ـ حديث وائل بن حجر
وقد روي هذا الحديث بصور متعددة:
روى مسلم، عن وائل بن حجر: أ نّه رأى النبي رفع يديه، حين دخل في الصلاة كبّر، ثم التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبّر فركع[12].
وفي سند الحديث «همام» ولو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطّان لا يعبأ بـ «همام» وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال ابو حاتم: ثقة صدوق في حفظه.
وورد الحديث نفسه عن وائل بن حجر في مصادر اُخرى مثل سنن البيهقي[13] بدون هذه الشواهد، أورد ثلاثة أحاديث ينتهي سندها بوائل بن حجر، الأول منها يقع همام في سنده وقد مضى الكلام عليه.
الثاني منها في سنده عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه، متّفق على ضعفه[14].
والثالث منها في سنده عبد الله بن رجاء، قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف، ليس بحجّة[15].
ج ـ حديث عبد الله بن مسعود
روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود أنّه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي (ص) فوضع يده اليمنى على اليسرى[16].
يلاحظ عليه: ـ مضافاً الى أ نّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أ نّه من السابقين في الإسلام ـ أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس[17].
هذه أهم الروايات التي أوردوها في هذه المسألة، وهناك روايات اُخرى لا تخلو كذلك من مناقشة في سندها أو متنها.
2ـ وجوه استحسانية التكتف في الصلاة
أما ما استدلّوا به من وجوه استحسانية كقولهم: وضع اليد على اليد أسلم له من العبث وأحسن في التواضع والتضرع، فإن الشريعة لو كانت تثبت بمثل هذه الأقوال لاضمحل الدين، فالإنسان إنّما وظيفته التعبد بالشريعة، ولو جعل مذاقه هو المقياس للحلال والحرام أصبحت النتيجة عكسية وهي تبعية الشريعة للإنسان بدلاً عن تبعية الإنسان للشريعة، وقد يستحسن الإنسان وجهاً وتخفى عليه وجوه اُخرى أهم وأكبر، فمن أين نثبت أن الشريعة قد أمضت هذا الوجه ولم تمض وجهاً استحسانياً آخر خفي علينا وربّما كان أهم وأكبر؟ كالقول الذي ذكره القرطبي في رد التكتف: بأنه من باب الاستعانة وأنه ليس مناسباً لأفعال الصلاة بسبب ذلك[18].
نعم، الوجوه الاستحسانية تنفع في تقرير وتثبيت وتأييد ما أثبتته الشريعة بأدلة من الكتاب والسُنّة، فالاستحسان ليس دليلاً وإنّما هو يأتي في مرحلة ما بعد الدليل.
3ـ التكتف من موارد الابتلاء اليومي
إن مسألة التكتف في الصلاة من موارد الابتلاء اليومي المتكرر، وقد عاش المسلمون مع الرسول (ص) أكثر من عقدين من الزمن يصلي معهم وبحضورهم كل يوم ما لا يقل عن خمس مرات، ولو كان النبي (ص) يصلي بهذه الكيفية للزم من ذلك وضوح المسألة لدى الصحابة بما فيه الكفاية، والأمر ليس كذلك، فإن روايات التكتف في الصلاة محصورة بعدد من الصحابة.
ويكتنفها الغموض ومبتلاة بأسانيد نوقش في أكثرها. وبإزاءها روايات معارضة أنكرت ذلك. ومع حالة كهذه كيف يتاح لنا التصديق بأن النبي (ص) كان يقبض بيمينه على شماله في كل صلواته أو أكثرها كما يقتضي القول باستحباب ذلك في الصلاة؟
4ـ روايات تنفي التكتف في الصلاة
وردت في مقابل أحاديث القبض أخبار تنفيه حتى قال القرطبي في بداية المجتهد: «أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى… ورأى قوم أن الأوجب المصير الى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة لأنها أكثر…»[19].
وعلى هذا فقه مالك الذي يُعتبر فقيه المدينة لشدة تأكيده على عمل أهل المدينة باعتباره عملاً متلقى عن الصحابة، وهو في مظنة الإصابة.
ومن جملة الروايات المعارضة للقبض في الصلاة حديث أبي حميد الساعدي الذي رواه غير واحد من المحدّثين، ونحن نذكره بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبد الله الحافظ:
فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله (ص)، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلى، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله «ص» إذا قام الى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثم يكبر حتى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ ثم يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كلّ عظم منه الى موضعه معتدلاً.
ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي الى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله اكبر، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلاً حتى رجع أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلاً، ثم يصنع في الركعة الاُخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما فعل أو كبّر عند افتتاح الصلاة، ثمّ يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقّه الأيسر، فقالوا جميعاً: صدق، هكذا كان يصلّي رسول الله «ص»[20].
والذي يوضح صحة الاحتجاج الاُمور التالية:
أ ـ تصديق أكابر الصحابة وبهذا العدد لأبي حميد يدلّ على قوّة الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلّة.
ب ـ إنّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله (ص)، بل قالوا جميعاً: صدقت هكذا كان رسول الله (ص) يصلّي، ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة.
ج ـ الأصل في وضع اليدين هو الإرسال، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.
د ـ لا يقال إنّ هذا الحديث عام وقد خصّصته أحاديث القبض، لأنّه وصف وعدّد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم.
هـ ـ بعض من حضر من الصحابة هذه الحادثة قد روى أحاديث القبض، ولم يعترض على أبي حميد الساعدي لعدم ذكره القبض.
التكتّف من منظار أهل البيت (ع)
يتّضح مما سبق أن القول بالتكتف لم يثبت عليه أثر دال من الكتاب ولا السُنّة، وحينئذ فتوقيفية العبادات وهي أمر يسلّم فقهاء المسلمين جميعاً به تقتضي حرمة التكتف لكونه تشريعاً محرّماً.
وإذا نظرنا في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) في المقام وجدناها تؤكد على نفي التكتف عن الصلاة ونسبته الى عمل المجوس بما يعمّق حرمته، ويجعلها تشريعاً محرّماً من جهة، وتشبّه بالكفار من جهة ثانية.
فقد روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر (ع) قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة، وحكى اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يُفعل.
وروى زرارة عن محمد الباقر (ع) أنّه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس.
وروى الصدوق بإسناده عن علي (ع) أنّه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي الله عزّوجل، يتشبّه بأهل الكفر، يعني المجوس[21].
هذا من الناحية السلبية، ومن الناحية الايجابية وردت روايات عن الأئمة تبيّن صفة الصلاة ولم يرد فيها ذكر للتكتف.
وتبعاً لهذه الأدلة أفتى فقهاء أهل البيت (ع) بحرمة التكتف في الصلاة.
قال السيد المرتضى: «وحجتنا على صحة ما ذهبنا إليه: ما تقدم ذكره من اجماع الطائفة ودليل سقوط الصلاة عن الذمة بيقين، وأيضاً فهو عمل كثير في الصلاة خارج عن الأعمال المكتوبة فيها من الركوع والسجود والقيام، والظاهر أن كل عمل في الصلاة خارج عن أعمالها المفروضة أنه لا يجوز»[22].
وقال الشيخ الطوسي: «لا يجوز أن يَضَع اليمين على الشمال ولا الشمال على اليمين في الصلاة لا فوق السرّة ولا تحتها…. دليلنا اجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في أن ذلك يقطع الصلاة، وأيضاً أفعال الصلاة يحتاج ثبوتها الى الشرع وليس في الشرع ما يدل على كون ذلك مشروعاً، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك لأنه لا خلاف أن من أرسل يده فإن صلاته ماضية. واختلفوا إذا وضع إحداهما على الاُخرى، فقالت الإمامية: أن صلاته باطلة فوجب بذلك الأخذ بالجزم»[23].
وأخيراً
إن أشهر الأحاديث التي اعتمدت عليها المذاهب الأربعة في القول باستحباب القبض في الصلاة إما ضعيفة سنداً، أو غير تامة من حيث الدلالة، وعلى فرض وجود أحاديث اُخرى خالية عن إشكال سندي أو دلالي، فهي مما لا يسوغ العمل بها لوجود أحاديث صحيحة معارضة لها كحديث أبي حميد الساعدي الذي مرّ ذكره، وعند التعارض يتساقط المتعارضان ونرجع الى الأصل، وهو إسبال اليدين، لأن القبض تكلّف زائد على الطبيعة ولم يثبت عليه دليل باتّ.
ومما لا اشكال فيه أن إسبال اليدين هو الأحوط، لأن القائل بالقبض لا يوجبه، وإنّما يقول باستحبابه وقد وقع الخلاف فيه، ولم يقع خلاف في جواز إسبال اليدين، فضلاً عن أن القول بعدم جواز القبض هو الثابت في فقه العترة الطاهرة التي أمر المسلمين باتّباعها دون غيرها.
الاستنتاج
أن المسلمين بشتى مذاهبهم اجمعوا على عدم وجوب التكتف في الصلاة ثم دار الخلاف فيه بين المذاهب هل هو مستحب في الصلاة أو مبطل لها، وذكر القائل بالاستحباب روايات هي إما ضعيفة سنداً أو غير تامة من حيث الدلالة، أما ما ورد عن ائمة أهل البيت (ع) فهو يدل على بطلان التكتف وأنه بدعة لم يشرع في الدين.
الهوامش
[1] النووي، المجموع، ج3، ص313.
[2] القرطبي، بداية المجتهد، ج1، ص137.
[3] النووي، المجموع، ج3، ص312.
[4] السيّد المرتضى، الانتصار، ص140.
[5] النووي، المجموع، ج3، ص312.
[6] السيد المرتضى، الانتصار، ص142.
[7] النووي، المجموع، ج3، ص311.
[8] النووي، المجموع، ج3، ص313،
[9] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج2، ص224، باب وضع اليمنى على اليسرى.
[10] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج2، ص224، باب وضع اليمنى على اليسرى.
[11] السيوطي، تدريب الراوي، ص119.
[12] مسلم، صحيح مسلم، ج1، ص382، باب 15 من كتاب الصلاة.
[13] البيهقي، السنن الكبرى، ج2، ص43.
[14] لاحظ: ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج5، ص174، حرف العين، رقم 298.
[15] لاحظ: ابن حجر العسقلاني، هدي الساري، ج1، ص437.
[16] البيهقي، السنن الكبرى، ج2، ص44.
[17] ابن حجر العسقلاني، هدي الساري، ج1، ص449.
[18] القرطبي، بداية المجتهد، ج1، ص137.
[19] القرطبي، بداية المجتهد، ج1، ص137.
[20] البيهقي، السنن الكبرى، ج2، ص105، ح2517.
[21] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص265، باب 15، من أبواب قواطع الصلاة، ح1 وح2 وح7.
[22] السيّد المرتضى، الانتصار، ص142.
[23] الطوسي، الخلاف، ج1، ص321.
مصادر البحث
1ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، تهذيب التهذيب، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
2ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
3ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، هدي الساري مقدّمة فتح الباري، المكتبة السلفية، بلا تاريخ.
4ـ البيهقي، أحمد، السنن الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1414ه.
5ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
6ـ السيّد المرتضى، علي، الانتصار، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي، طبعة 1415 ه.
7ـ السيوطي، عبد الرحمن، تدريب الراوي، في شرح تقريب النواوي، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1420 ه.
8ـ الطوسي، محمّد، الخلاف، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي، طبعة 1407 ه.
9ـ القرطبي، محمّد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه.
10ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
11ـ النووي، محيي الدين، المجموع شرح المهذّب، بيروت، دار الفكر، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، القبض في الصلاة (التكتف)، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1425 ه.