للحج فلسفة غائية لو تعمق الإنسان في مضمونها لأدرك أنها رحلة التطهير من أوثان التعصب والتطرف والانضواء تحت هيمنة الخالق عز وجل والإقرار بالعبودية له، فحول الكعبة المشرفة يستغيث الخلائق بالله عزوجل راجين رحمته مسبحين في ملكوته طالبين الصفح والغفران، في هذا الحشد الهائل لا تفرق بين العربي والأعجمي,الأبيض والأسود , الغني والفقير ، الملك والعبد الكل في هذا الحرم المقدس سواسية، تتساقط كل الاعتبارات الدنيوية الزائفة وتذوب مقاييس التفاضل المادية وتلتحم الأجساد المخضبة بالعرق الزكي في عملاق بشري ينبض موحداً ربه مترعاً بدموع الحسرة والندامة.
فالبشرية تعيش أرقى تجلياتها الفكرية وسموها الروحي حيث الهدف الأسمى، وقد وحدهم الرداء الأبيض ونفض قلوبهم الصدئة بالمعاصي لترشح الأنا الجشعة، الأنا الظالمة، الأنا المستكبرة، الأنا المتجبرة، الأنا المتبطرة، وتنصهر في بوتقة الرحمة الإلهية منادية في انعتاق وتجرد عن كل براثن الطين المتآكلة ونزعة النفس المذنبة (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك..).
نعم.. لا شريك لله عز وجل، فكل الأصنام المصلوبة في كيان الإنسان وفكره تتلاشى، هوى النفس، المرجعيات الفكرية المفسدة لعقيدة التوحيد والمشككة لدينه فهنا لا غير حكم الله ونهجه، فلا مذهبية ولا طائفية ولا عنصرية ولا أي لون من ألوان الهمجية التي صبغت مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة بصبغة جاهلية حينما دقت على أسفين العصبية التي نبذها رسول الله (ص) في قوله أتركوها فهي نتنه , الفكر المتحجر الذي كفر ونفر , نحر وبتر وألغى الآخر وتواطىء مع أعداء الله ورسوله في نخر الوحدة وتآمر خلف الأبواب السريّة كي يزرع الفتن في أطياف المجتمعات الآمنة وغرس بذار الغل والحقد في صفوف الناس وشحن القلوب بالبغضاء فتبددت قواها شططا.
ففي الحج عبرة لأولي الألباب، فهو المحطة الخاتمة للسنة الهجرية والغربال الذي يصفي النفوس المثقلة بالذنوب لتتهيأ من جديد وتتزود بطاقة إلهية تشحذ فيها المحبة والسلام لتصفو فتصفى العاطفة نحو الأخوان، فلا سني ولا شيعي، إنهم يلتفون كأسراب حمام أبيض حول بيت الله الحرام، وفي عرفه يتراصون كصفوف المحشر معترفين بذنوبهم ونادمين ، كل خطوة من خطوات الحج المقدس إقرار وتأكيد على ثقافة الوحدة، فالطوق الإلهي المتين يحتضن البشرية حوله، هو المحور ونقطة الارتكاز التي مهما فرّ منها الإنسان فإنه يعود اليها , في ذهاب واياب , كما في قولنا (انا لله وانا اليه راجعون ).
والذي جسدته (هاجر) زوجة النبي اسماعيل في ذهابها (الصفا )وايابها (المروة ) بحثا عن الماء حتى تفجر نبع زمزم فالله سبحانه هو الهدف والغايه التي تشدنا دوما في مسارات حياتنا والمحور الذي تلتف حوله أقدارنا فيا أيها الإنسان أنت ذاهب إلى الله وراجع إليه، فلِمَا تهرب من حكمه وتتمرد على نهجه وترفض سننه ، هو من يحاسب ويعاقب هو من يجزي ويكافئ هو من يمتلك المعايير الأكمل, اذن فمن له الحق في أن يكفر طائفة أو يلغي أخرى أو حتى يقسّم الجنة والنار بمقتضى مزاجه وهوى نفسه؟ الله سبحانه ينظر إلى عباده نظرة موحدة شاملة، فلِمَ تأتي أيها الإنسان وتبدد الشمل وتخلق الفرقة وتعبث في الشرع والميزان وتهلك الحرث والنسل بمبررات أوهن من بيت العنكبوت.
إننا كبشر مستخلفون على هذه الأرض قد حملنا الله الأمانة والمسؤولية بعد أن أبت الجبال الراسيات حملها لعظيم ثقلها فحملها الإنسان القادر لأنه نفحة من روح الله عز وجل يمتلك العقل والإرادة كي يبني هذه الأرض ويعمرها ويقيم عليها حكم الله العادل وقد شرع الله لبني البشر منظومة حياة شاملة تهدف إلى التعارف والمحبة والتآلف مهما كان لون الإنسان ودينه ومذهبه وجنسه، كما في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/ ۱۳
الثقافة السماوية الداعية إلى البناء الحضاري والعيش في مودة وسلام ونبذ كل عوامل الفرقة والتناحر والبغضاء، كما في قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/ ۴۶ إذن الحج المقدس، الحج الإبراهيمي, الحج المحمدي الأصيل يعزز ثقافة الوحدة كنهج في حياة البشرية لتعيش في حالة من الأنسجام حول الهدف تتفاعل فيما بينها بشفافية وبزخم وحدوي عميق برغم كل الفروقات
ألا يكفي نداء الله الواحد القهار من أعلا سماواته :
بسم الله الرحمن الرحيم (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) والله أنها صيحة ترتعد لها الجبال الصماء وترتجف منها القلوب فزعا فمتى يستيقظ ضميرك أيها الغافل عن حكمة الله ؟!