الدين والعرفان في نظر العلامة الطباطبائي

2016-12-14

293 بازدید

لا يخفى على الباحث مدى الاختلاف الكبير في الموقف من العرفان ، ففي حين اعتبره البعض جوهر الدِّين وأساسه جنح البعض الآخر إلى مخالفة هذا الرأي إلى حدّ اعتبار هذا النوع من التفكير وهذا العمل والسلوك ( أي العرفان بكلا قسميه ) ليس من الدِّين بشيء .

ولا يستطيع أحد أن ينكر مدى ما دخل هذا المصطلح أو المفهوم من تشويه وتحريف ، وعدم معرفة أصحاب كلّ واحد من الطرفين بموقف الآخر وحقيقته ، أو عدم الإحاطة والشموليّة والاطّلاع التامّ على الرأي الآخر هو ما أدّى إلى هذا الانزلاق المفرط لكلّ واحد تجاه الآخر .

والبحث التاريخي الموجز والمتقدِّم استطعنا من خلاله إثبات الجذور الدينيّة للعرفان في الإسلام وكونه ناشئاً من أسسه حتّى ولو كان موجوداً عند الأديان والمذاهب المتقدّمة عليه .

فلا يتنافى البحث عن معرفة النفس عند العرفاء الإسلاميّين مع ما نُقل عن حال الأمم الماضية وسيرتها وعقائدها من اشتغالها بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها ، وكون ذلك من المهمّات النفسيّة عند تلك الأمم التي كانت تبذل دونها أنفس الأوقات وأغلى الأثمان منذ العصور القديمة ، ويستعرض لنا السيّد الطباطبائي طريقة الديانات السابقة والمذاهب الفكريّة في عرفان النفس فيقول :

« فالأقوام الهمجيّة الساكنة في أطراف المعمورة ، كإفريقية وغيرها يوجد بينهم حتّى اليوم بقايا من أساطير السحر والكهانة والإذعان بحقيقتهما وإصابتهما .

والمذاهب والأديان القديمة كالبرهمانيّة والبوذيّة والصابئة والمانويّة والمجوسيّة واليهوديّة والنصرانيّة فضلاً عن الإسلام تعطي الأهمّية لمعرفة النفس وإن اختلفت جميعها في الطرق والأساليب .

فالبرهمانية – على سبيل المثال – التي تخالف الأديان الكتابية في التوحيد والنبوّة تدعو إلى تزكية النفس وتطهير السرّ خاصّةً للبراهمة أنفسهم .

وهكذا سائر الفرق والمذاهب وأصحاب الحكمة والروحانيّات وغيرهم ، فلكلّ طائفة منهم رياضات شاقّة عمليّة لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانيّة على النفس .

وأمّا البوذيّة : فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة ، وقد كان هذا هو الطريق التي سلكها بوذا نفسه في حياته ، فالمنقول أنّه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة ، وهجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه ، واعتزل الناس ، وترك التمتّع بمزايا الحياة ، وأقبل على رياضة النفس والتفكّر في أسرار الخلقة حتّى قذفت المعرفة في قلبه وسنّه إذ ذاك ستّة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة .

وأمّا الصابئون ونعني بهم أصحاب الروحانيّات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوّة غير أنّ لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانيّة طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيّين .

وأمّا المانويّة من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادّية المظلمة المسمّاة بالأبدان ، وإنّ سعادتها وكمالها في التخلّص من دار الظلمة إلى ساحة النور إمّا اختياراً بالترويض النفساني ، وإمّا اضطراراً بالموت الطبيعي ، معروف .

وأمّا أهل الكتاب ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدّسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها .

وأمّا الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات والأعمال النفسيّة كأصحاب السحر والسيمياء وأصحاب الطلسمات وتسخير الأرواح والجنّ وروحانيّات الحروف والكواكب وغيرها وأصحاب الإحضار وتسخير النفوس ، فلكلّ منهم ارتياضات نفسيّة خاصّة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس .

وجملة الأمر على ما يتحصّل من جميع ما مرّ : أنّ الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان والمذاهب والأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاشتغال بتطهيرها من شوق الأخلاق والأحوال غير المناسبة للمطلوب ( 1 ) .

ولكن هذا كلّه هل يعني أنّ الدِّين يساوي العرفان والتصوّف ونعني بذلك معرفة النفس ، أم أنّ ذلك جزء ممّا يدعو إليه الدِّين ؟

فالدِّين يهدف إلى سعادة الإنسانيّة وإنقاذ البشريّة عبر الدعوة إلى عبادة الإله الواحد الأحد سبحانه وتعالى ، وهذه السعادة لا يمكن تحصيلها ونيلها إلاّ بتطهير النفس من ألوان التعلّق بالمادّيات ورفعها عن مستوى الحيوانيّة ، ومن هنا يقول الطباطبائي : « إنّ الحاجة اقتضت إلى أن يُدرج – الدِّين – في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعدّ المنتحل به المتربّي في حجره للتلبّس بالخير والسعادة » ( 2).

فما ذهب إليه البعض من كون الدِّين هو العرفان بشكل يتساويان هو من الاشتباهات « كما توهّمه البعض من الماديّين فقسّم المسلك الدائر بين الناس إلى قسمين : المادّية والعرفان وهو الدِّين » ( 3 ) . نعم ، هناك علاقة أساسيّة تربط العرفان بالدِّين وهي رابطة الاقتضاء والاستلزام « فالدِّين أمر وعرفان النفس أمرٌ آخر وراءه ، وإن استلزم الدِّين العرفان نوعاً من الاستلزام » ( 4 ) .

وهنا نصل إلى الإجابة عن الموقف الحقيقي للدِّين من العرفان ، فمن قال بأنّ الدِّين لا علاقة له بالمطلق مع العرفان فإنّه وقع في اشتباه كبير ، وهكذا من قال بأنّ الدِّين هو العرفان لا غير فقد وقع في نفس الاشتباه .

نعم ، ما يقوم به البعض من الرياضات الروحيّة كجزء من العرفان ليس بالضرورة أن يكون مصيباً على الدوام إذ الحقّ « أنّ طرق الرياضة والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوّعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الارتباط » ( 5 ) .

فالعرفان وإن سلك فيه البعض مسلكاً يخالف الدِّين فذلك لأنّه اشتبه في التطبيق ، ولكن أصل السلوك هو من مستلزمات الدِّين ؛ لذا « لنا أن نقضي بأمر وهو أنّ عرفان النفس بأيّ طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنّما هو أمرٌ مأخوذ من الدِّين ، كما أنّ البالغ الحرّ يعطي أنّ الأديان على اختلافها وتشتّتها إنّما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة وهو دين التوحيد » ( 6 ) .

وينتهي الطباطبائي في تحليله لموقف الدِّين من عرفان النفس والعلاقة بينهما بعد أن يعتبر أنّ الدِّين يستلزم العرفان نوعاً من الاستلزام إلى أنّ الدِّين يدعو إلى العرفان دعوة طريقيّة لا غائيّة ، فالعرفان وسيلة وليس غاية في الدِّين « ثمّ إنّ الدِّين الفطري إنّما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصّل به إلى السعادة الإنسانيّة التي يدعو إليها وهي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده ، وبعبارة أخرى الدِّين إنّما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقيّة لا غائية فإنّ الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلاّ في سبيل العبودية ، وإنّ الدين عند الله الإسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقلّ بالمطلوبيّة ؟

ومن هنا يظهر أنّ العرفان ينتهي إلى أصل الدِّين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلاًّ تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة حتّى ينتهي فروعه وأغصانه إلى أصل واحد وهو العرفان النظري » ( 7 ).

وأمّا الكرامات التي يتناقلها المحدثون وسائر الناس عن بعض أهل العرفان فهي بنظر الطباطبائي منها ما لا مجال لإنكاره والاعتراف بحقيقته ووقوعه وذلك « كما يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدِّين أنّهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينيّة كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصّوا بها من بين أمثالهم كتمثّل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم ، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواسّ من دونهم من الناس ، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي

لا مطمع لنجاح المداواة فيه ، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة ، وقد يتّفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نيّة صادقة ونفس منقطعة ، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب وإنّما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسيط » ( 8 ).

وأمّا الموقف الحقيقي ورأي الطباطبائي في العرفان وأهله فهو ما يبيّنه من خلال تقسيم المشتغلين به في الجملة إلى طائفتين :

« إحداهما المشتغلون به بالاشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب والمسبّبات المادّية ، كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيّات الكواكب والموكّلين على الأمور والجنّ وأرواح الآدميّين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك ».

فهؤلاء لا يمكن اعتبار ما يقومون به موافقاً للدِّين والشريعة ، بل إنّ أعمالهم ممّا ينكره الإسلام ويعتبره من القضايا الخارجة عن جوهر الدِّين .

وأمّا الطائفة « الثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الأمور الخارجة عنها والانجذاب نحوها للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوّفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم » .

وهذه الفئة وإن كانت توافق في عملها الشريعة وهم أهل العرفان حقيقةً لكنّهم يصنّفون إلى طائفتين ; فمنهم من يسلك هذه الطريقة في المعرفة ولكنّه لا يحصل على تمام المعرفة لأنّهم في عملهم غفلوا عن الله تعالى ، ومنهم من وصل بعمله وطريقته إلى معرفته تعالى ، ولذا يقول عن الطائفة الأولى « فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتمّ لهم تمام المعرفة لها لأنّهم لمّا كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عزّ اسمه الذي هو السبب الحقّ الآخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها وكيف يسع الإنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصّةً السبب الذي هو سبب كلّ سبب ؟ وهل هو إلاّ كمَن يدّعي معرفة السرير على جهل منه بالنجّار وقدّومه ومنشاره وغرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير » (9) . , وهؤلاء يُطلق عليهم تسمية أهل الكهانة وهم ليسوا من العرفان بشيء « ومن الحريّ بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمّى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس وآثارها » ( 10 ).

وأمّا الطائفة المحقّة ، أهل العرفان الحقيقي فهم « طائفة منهم يقصدون معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الربّ تعالى ، وطريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدِّين في الجملة وهي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنّها آية من آيات ربّه وأقرب آية ، وتكون النفس طريقاً مسلوكاً والله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها * ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ) * » ( 11 ) .

فميزان العرفان الموافق للشريعة ليس هو بالضرورة طريق أولئك المشتغلين بمعرفة النفس مع الغفلة عن الخالق والموجد ، بل هو طريق من اشتغل بمعرفة النفس لتكون سبباً للوصول إلى معرفة الله تعالى .

هذا هو خلاصة ما وصل إليه فكر الطباطبائي في تحديده لموقف الدِّين من أهل العرفان .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1). انظر : الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ج 6 ، ص 183 – 185 .

(2). المصدر نفسه : ص 188 .

(3). الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 188 .

(4). الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 188 .

(5). الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 188 .

(6). المصدر نفسه : ص 188 – 189 .

(7). الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 190 .

(8) الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 190 .

(9) الميزان في تفسير القرآن ، مصدر سابق : ص 193 .

(10) المصدر نفسه .

(11)  المصدر نفسه : ص 194 .

المصدر: العرفان الشيعي