من الأمور التي لا بدَّ من إدراكها هي علاقة الإمام المهدي عليه السلام بالشعائر الحسينية، تلك القضيّة التي كانت الشغل الشاغل لأهل البيت عليهم السلام من أجل النهوض بمستوى المعرفة الحقيقية بأهداف الإسلام ومبادئه، فقد حثَّ الأئمّة عليهم السلام على اعتبار هذه الشعائر من ضمن متمّمات الإيمان وكمالات الولاء الذي لا بدَّ أن يتَّصف بها شيعتهم،
لذا فإنَّك تجد الأئمّة عليهم السلام قد بذلوا جهوداً حقيقية من أجل التعريف بأهمّية هذه الشعائر، وقد سبقهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإقامة المأتم على ولده الحسين عليه السلام حتَّى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ضمن لفاطمة عليها السلام مأتم ولدها في المستقبل البعيد وعلى مدى كلّ الأجيال، فقد أخبرها بأنَّ الله تعالى سيخلق لهم شيعة((رجالهم يبكون على رجالنا ونساؤهم يبكون على نسائنا))
وهكذا صدقت النبوءة المحمّدية حينما تتوجَّه أفئدة الناس وأجسادهم إلى قضيّة الحسين ليحيوها بكلّ تفاصيلها المفجعة، ولم تزل فاطمة عليها السلام تبكي ولدها كلَّما تذكَّرت نبوءة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتدعو لشيعتها المحيين أمرهم.
وهكذا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقيم مأتمه في أرض الطف عند مروره عليها، ولم يزل أئمّة أهل البيت عليهم السلام يحيون هذه المجالس ويؤكّدون تلك الشعائر حتَّى كان شعارهم عليهم السلام:((أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا))، بل صارت هذه المقولة دافعاً قويّاً لشيعة أهل البيت عليهم السلام تدفعهم إلى إيجاد الشعائر بكلّ صورها تعبيراً عن ولائهم ومحبَّتهم لأئمّتهم عليهم السلام.
ولم يكن الإمام المهدي عليه السلام بعيداً عن هذا الهمّ فقد ورث عليه السلام أحزان آبائه الطاهرين وتفجّعهم على مصيبة الحسين عليه السلام حتَّى ورد عنه عليه السلام مخاطباً جدّه الحسين عليه السلام:((لأندبنَّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً)).
وكما ورد عنه عليه السلام:((حتَّى أموت بلوعة المصاب وغصَّة الاكتئاب))، وهذه العبارة توقفنا على مدى الحزن الذي يملأ قلب الإمام المهدي عليه السلام، بل ما خفي علينا أكثر.
إنَّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أكَّدوا على أهمّية هذه الشعائر وطلبوا من أتباعهم المواظبة عليها وتعاهدها، بل كان تعاهد قبر الإمام الحسين عليه السلام وزيارته من أهمّ وأعظم تلك الشعائر حتَّى لو كلَّفهم ذلك حياتهم، وما تعرض إليه زوّار قبر الحسين عليه السلام إبّان عهد المتوكّل وأمثاله من الطواغيت لم يحد من عزيمة الشيعة حيث كان ذلك بمرأى ومسمع الأئمّة عليهم السلام وكانوا يطَّلعون على أساليب النظام العبّاسي الذي يلاحق زوّار قبر الإمام الحسين عليه السلام ومدى القتل والترويع الذي يكابده الشيعة حتَّى عرَّض حياتهم إلى الخطر، إلاَّ أنَّنا لم نسمع نهياً ورد عن الأئمّة عليهم السلام حول زيارة قبر الحسين عليه السلام بحجّة أنَّ ذلك يضرّهم ويعرّضهم إلى الأذى، بل ورد عنهم عليهم السلام في الحثّ على زيارة القبر الشريف وبتعاهده على كلّ حال:((زره _ أي الإمام الحسين عليه السلام _ على خوف وعلى غير خوف))،
وهذا بذاته إقرارٌ من الأئمّة عليهم السلام على مطلوبية الزيارة ولو أدّى ذلك إلى الضرر، وبما أنَّ الزيارة جزءٌ من الشعائر الحسينية فإنَّ الشعائر مطلوبة على كلّ حال، هذه نظرة الأئمّة عليهم السلام للشعائر وهي ذات النظرة من قبل الإمام المهدي عليه السلام وذلك لأنَّ للشعائر الحسينية الأثر البالغ في حركة الإمام المهدي عليه السلام وذلك للأمور التالية:
أوّلاً:
إنَّ الشعائر الحسينية تبعث على ترقّي الإنسان نحو الكمال ووصوله إلى معارج المعرفة بالله تعالى وهذه المعرفة تتطلَّب بذل الوسع من أجل الرضا الإلهي، لذا فإنَّ الممارس لهذه الشعائر يسعى من أجل الوصول إلى ما يرضي الله تعالى، وإذا تشكَّلت هذه القواعد المعرفية ستنمو وبوتيرة متصاعدة قواعد أنصار الإمام المهدي عليه السلام التي ستدخل في معادلة تعجيل ظهوره المبارك.
ثانياً:
إنَّ ممارسة الشعائر الحسينية تخلق لدى الممارس لها حالة الشعور بالتضحية ونكران الذات من أجل المبدأ وهو ما يريده الإمام المهدي عليه السلام من توفّر هذا الشرط لبناء قاعدته الجماهيرية المناصرة له.
ثالثاً:
إنَّ الشعائر الحسينية مبنية على قاعدة العطاء، وهذه القاعدة لا تتوقَّف عند حدٍ معيَّن، بل هي تشمل كلّ ألوان العطاء، وأهمّها التضحية المتعلّقة بقناعات الفرد في أنَّ العطاء من أجل المبدأ هو أعظم غاية في العطاء، لذا فإنَّ القواعد الممارسة لشعائرها الحسينية تكون أكثر من غيرها مهيّئةً للعطاء والتضحية من أجل نصرة الإمام المهدي عليه السلام قبل ظهوره وأثنائه وبعده.
رابعاً:
بما أنَّ الشعائر الحسينية مبنيّة على بيان مظلوميّة أهل البيت عليهم السلام وذكر فجيعتهم فإنَّ ذلك سيخلق عامل انشداد بين القواعد وبين أهل البيت إذ ستكون مداومة الذكر لمصائبهم عاملاً مهمّاً على التمسّك بمبادئ أهل البيت عليهم السلام وستكون هذه القواعد ضمانة مهمّة لنصرة الإمام المهدي عليه السلام.
خامساً:
تتعهّد الشعائر الحسينية ببثّ الوعي والمعرفة والعمل على تثقيف الأمّة على مذهب أهل البيت عليهم السلام، فهي القناة الإعلامية التقليدية لثقافة أهل البيت ومعارفهم، وهو ما يعمل أهل البيت من أجله، ومن المؤكَّد أنَّ ذلك سيضمن التعريف بقضيّة أهل البيت عليهم السلام ومنها قضيّة الإمام المهدي عليه السلام واُطروحته.
المهدي عليه السلام سيحتجّ على العالم بقضيّة الإمام الحسين عليه السلام وبما جرى عليه من مظلومية وفجيعة وهذه المظلومية امتدَّت حتَّى شملت الإمام المهدي عليه السلام، والعقل والفطرة تحتّمان نصرة المظلوم، فلا بدَّ أن يطالب الإمام المهدي بمظلوميته ويسعى إلى إيجاد قواعده المناصرة له من خلال ذكر هذه المظلومية، والشعائر الحسينية هي الضمانة الأهمّ في المحافظة على هذه المظلومية وحفظها في ذاكرة الأمّة وأنَّها لم ولن تغيب.
هذه هي بعض معطيات الشعائر الحسينية وتأثيرها في القضيّة المهدوية.
إنَّ مسألة الشعائر الحسينية بات لها الأثر الواضح في قضيّة الانتظار للإمام المهدي عليه السلام إذ ممارسة الشعائر الحسينية تعكس مدى استعداد الأمّة للتضحية والإيثار وأنَّها في ممارساتها الشعائرية هذه تثبت على أنَّها وصلت إلى حالة الانشداد الروحي والمعنوي بقضيّة الإمام الحسين عليه السلام التي يمثّلها في المستقبل الإمام المهدي عليه السلام بكلّ أهدافها ودواعيها.
إنَّ مظلومية الإمام الحسين عليه السلام يجب أن تكون شاخصة وحيّة في قلوب الناس، وهذه الحيوية تعتمد على مدى انفعال الناس بهذه المظلومية وانشدادهم لها والمتأتّية من خلال الشعائر الحسينية، وأهمّيتها تنطلق من أهمّية إبقاء القضيّة المهدوية تعيش في ضمائر الأمّة ويتطلَّع لها الناس كما يتطلَّعون إلى مستقبلهم السعيد وغدهم المشرق، إنَّ الترابط بين قضيّتي مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وبين حركة الإمام المهدي عليه السلام وظهوره تستوجب فهم العلاقة بين الطرفين،
فالإمام المهدي وبحسب بعض الروايات يستخدم شعار:(يا لثارات الحسين) في أثناء حركته المباركة وإذا كانت قضيّة الإمام الحسين عليه السلام حيّة تعيش في نفوس الناس وضمائرهم فإنَّ استجابة الناس لنصرة الإمام المهدي ستكون سريعة وممكنة، أمَّا إذا لم تفعل مظلومية الإمام الحسين عليه السلام فعلها في النفوس فلا أثر لنداء الإمام المهدي وشعاره:(يا لثارات الحسين).
إذن فلا بدَّ من الإبقاء على حيوية مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وهذه لا تُضمن إلاَّ بانفعالها وحركيَّتها الدائمة، والشعائر هي الآلية التي من خلالها تُبقي قضيّة الإمام الحسين عليه السلام حيّة في ضمائر الأمّة.
وإذا كانت العناية الإلهية في شأن حفظ القضيّة المهدوية من أجل بلوغ أهدافها، فإنَّ العناية الإلهية أثبتت رعايتها لقضيّة الإمام الحسين عليه السلام وتجدّد ذكراه في قلوب المؤمنين، فكم من محاولات للظالمين حاولت إيقاف حركة الشعائر الحسينية أو إلقائها، وكم من أسلوب وأسلوب حاول الطغاة استخدامه من أجل منع هذه الشعائر إلاَّ أنَّنا نجد العكس حيث تتصاعد هذه الشعائر يوماً بعد آخر وتتوهَّج وتتقد في قلوب أتباع أهل البيت عليهم السلام، وما تجربة النظام الدكتاتوري البائد ببعيد حيث أرهب وأرعب ونكل بالقائمين على هذه الشعائر إمعاناً منه في إلغائها إلاَّ أنَّها عادت من جديد وبإصرار أكبر وبقوّة أكثر ممَّا تصوَّر الجميع، وهكذا فإنَّ الشعائر الحسينية تنمو باطراد مع تقادم الزمن، وهذا يعني العلاقة بين هدفية الشعائر الحسينية وبين قضيّة الإمام المهدي عليه السلام.
إنَّ مسألة الشعائر باتت رسالة تبليغ لمذهب أهل البيت عليهم السلام فلا بدَّ من رعايتها والحفاظ على أصالتها وهي الرابط بين الأمة وبين إمامها المهدي عليه السلام، فلا يجوز التفريط بها أو الاستهانة بقدسيتها، كما أنَّ التمسّك بهذه الشعائر هو تمسّك بهوية الأمّة الإسلاميّة فلا يمكن إغفالها أو إلغائها.
إنَّ أصالتنا تحتّم علينا الوفاء لأهل البيت عليهم السلام الذين أنعم الله علينا بهم كما أنَّ المودّة التي نُسأل عنها:(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، تفرض علينا الالتزام بتقاليدنا وسنتنا الحسينية وأن لا نستمع إلى ما يُقال وما قيل في شأن الشعائر الحسينية بقدر ما هي قضيّة تخصّ تكليفنا اتّجاه أئمّتنا عليهم السلام وكذلك الحفاظ على هويتنا.
إنَّنا يجب أن نثبت لإمامنا المهدي عليه السلام حقيقة مودّتنا له ولآبائه الطاهرين وكذلك حقيقة استعدادنا لنصرته وتهيّؤنا لاستقباله وهذا لا يتمّ إلاَّ بفرض الولاء الذي تعكسه ممارساتنا الحسينية في إقامة الشعائر، كما أنَّ هذه الشعائر هي دلائل الوفاء والعهد الذي نقطعه على أنفسنا من أجل نصرة الإمام المهدي قولاً وفعلاً، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم، و(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
والحمد لله ربّ العالمين