التزم الشيعة بوجود العلم بالغيب للنبي والإمام، فلابد للنبي (ص) أن يكون عالماً، لأن الجهل نقص ولابد فيه (ص) أن يكون أكمل الرعية حتى يستحق الانقياد له، وكذا الإمام (ع) لابد أن يكون عالماً حتى يستحق الخلافة عنه (ص) في الانقياد له.
دائرة العلم بالغيب
وقع البحث في دائرة العلم الذي يجب أن يتصف به النبي (ص) أو الإمام (ع) هل هو العلم بالأحكام فقط؟ أو العلم بالموضوعات الخارجة، وسائر الحوادث الكونية، بما في ذلك المغيبات الماضية والمستقبلية؟
فالتزام الإمامية بإمكان هذا العلم بنحو مطلق وعدم تخصيصه أو تقييده بشيء دون آخر من المعلومات في أنفسها، إلاّ ما دلّت الأدلة القطعية على إخراجه.
وجوه الاعتراض
واعترض على هذا الالتزام بعدة وجوه نختار منها وجهين، لأنهما المحورين الذين يدور عليهما رحى الجدل والحوار في الوسط الإمامي:
الوجه الأوّل
إنّ الرسول والإمام (ع) إذا كانا يعلمان الغيب فلابد أن يعرفا ما يضرّهما ويسوءهما، والعقل والشرع يحكمان بوجوب الاجتناب والابتعاد مما يسوء ويضرّ، بينما نجد وقوع النبي والإمام في ما أضرهما وأذاهما.
وقد جاء التصريح بهذه الحقيقة على لسان النبي محمد المصطفى (ص) في قوله تعالى: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[1].
ولو كان الأئمة (ع) يعلمون الغيب ما أقدموا على أعمال أدّت الى قتلهم وموتهم وورود السوء عليهم.
كما أقدم أمير المؤمنين (ع) على الذهاب الى المسجد ليلة ضربة ابن ملجم فاستشهد من ضربته.
وكما أقدم الحسين (ع) على المسير الى كربلاء، حيث قُتل وسُبيت نساؤه وانتُهب رحْلُه. فإن كل ذلك ـ لو كان مع العلم به ـ لكان من أوضح مصاديق الإلقاء للنفس في التهلكة، الذي نهى عنه الله في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)[2].
وقد اُثير هذا الاعتراض قديماً جداً، حتى إنّا نجده معروضاً على الأئمة (ع) أنفسهم، ونجده مطروحاً في القرون التالية مكرراً، وقد تعددت الإجابات عنه كذلك عبر القرون.
الوجه الثاني
لو فرضنا وجود تكليف خفي يدعوه الى اقتحام المهالك مع ثبوت علمه بالمصير، لكانت نهضة الإمام الحسين (ع) كأحد الأئمة (ع) الذين يمتلكون العلم بالغيب معطلة الجدوى، إذ لم يكن لديه خيار إلاّ السير نحو مصيره، بخلاف جهله بمصيره فعندئذ تكون النهضة من جملة الخيارات المتاحة له، والفرق بين الأمرين كبير.
وقبل الدخول في بحث تاريخية المسألة والمبتنيات التفسيرية لها لابد من تثبيت مقدمة تكون بمثابة جواب يحسم الجدل من أساسه.
مقدمة للجواب
ذلك أن الإمامة إذا ثبتت لأحد، فلابد أن تتوافر فيه شروطها الأساسية ومن شروطها عند الإمامية العصمة، وهي تعني الامتناع عن الذنوب والمعاصي بالاختيار، ومنها العلم بالأحكام الشرعية تفصيلاً.
فمن صحت إمامته واستجمع شرائطها، لم يُتصور في حقه أن يُقدم على مُحرم كالقاء النفس في التهلكة المنهي عنه في الآية، وكذا لا يقدم على فعل معطل الجدوى.
وحينئذ، لابد أن يكون ما يصدر منه مشروعاً.
فلا يمكن الاستناد الى «حرمة الإلقاء في التهلكة أو الأعمال المعطلة الجدوى» لنفي علم الغيب عنه، لأن البحث عن العلم بالغيب له (ع) إنّما يكون بعد قبول إمامته وهي تنفي عنه الاقدام على الحرام.
وهذا يعني أن ما يُقدم عليه حلال مشروع، سواء علم الغيب أم لم يعلمه.
فلا يمكن نفي العلم بالغيب له (ع) بحرمة الإلقاء في التهلكة عليه وكذا اقدامه على عمل معطل الجدوى.
ومن هنا توصلنا الى أن الاعتراضين معاً لا يصدران ممّن يعتقد بشرائط الإمامة الحقّة المسلّمة الثبوت في كتب الكلام والإمامة، وما يوجد من صور الاعتراضين أو غيرهما في تراثنا إنّما هو افتراض بغرض دفع شبهة المخالفين وردّ اعتراضاتهم.
المرحلة الاُولى: في عصر الأئمة (ع)
شكل موضوع العلم بالغيب للأئمة (ع) أثناء حياتهم في الوسط الإمامي كظاهرة اعتقادية وعملية حيث كان موضع جدل ونقاش واستفهام فيما بينهم.
فالمتأمل في الأحاديث التي تنقلها كتب الحديث يجدها تكشف عن حجم أهمية هذا الموضوع في نظر الأئمة (ع) وحاجة الاُمّة إليه من الناحية التربوية وضرورة استيعاب مفهومه بغية التعامل معه بوعي تام.
لذا كانت أجوبة الأئمة (ع) بخصوص هذا الموضوع متعددة الوجوه، وتبتغي في الوقت نفسه علاجاً للضبابية المحاطة به ومخافة الإساءة إليه.
فمن ضمن تلك الأسئلة ما أجاب عنها الإمام الرضا (ع):
1ـ عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا (ع) إن أمير المؤمنين (ع) قد عرف قاتله والليلة التي يُقتل فيها والموضع الذي يُقتل فيه.
وقوله ـ لما سمع صياح الأوز في الدار ـ : «صوائح تتبعها نوائح!»
وقول اُمّ كلثوم: «لو صلّيت الليلة داخل الدار، وأمرت غيرك يصلي بالناس» فأبى عليها!
وكثّر دخوله وخروجه تلك الليلة، بلا سلاح!
وقد عرف (ع) أن ابن مُلجم لعنه الله قاتله بالسيف!
كان هذا ممّا لم يجز تعرّضه؟!
فقال: ذلك كان، ولكنه خُيّر في تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عزّ ([3]).
والمستفاد من هذا الحديث اُمور:
الأوّل: إنّ المشكلة كانت مطروحة منذ عهد الأئمة، وعلى المستوى الرفيع، إذ عرضها واحد من كبار الرواة وهو: الحسن بن الجَهْم بن بكير بن أعين، أبو محمّد الزُراري الشيباني، من خواصّ الإمام الرضا (ع)، وروى عن الإمام الكاظم (ع)، وعنه جمع من أعيان الطائفة، وقد صُرّح بتوثيقه، وله كتاب معروف رواه أصحاب الفهارس، وله حديث كثير في الكتب الأربعة[4].
وهو من كبار آل زرارة، البيت الشيعي المعروف بالاختصاص بالمذهب.
الثاني: إن علم الإمام (ع) ومعرفته بوقت مقتله، وما ذكر في الرواية من الأقوال والأفعال الدالّة على اختياره للقتل وإقدامه على ذلك، كلّها اُمور كانت مسلّمة الوقوع، ومعروفة في عصر السائل.
الثالث: إنّ الراوي إنّما سأل عن وجه إقدام الإمام (ع) على هذه الاُمور، وإنّه مع العلم بترتّب قتله على ذلك، كيف يجوز له تعريض نفسه له؟ وهو مضمون الاعتراض الثاني.
الرابع: إن جواب الإمام الرضا (ع)، بقوله: «ذلك كان» تصديق بجميع ما ورد في السؤال من أخبار «علم الإمام» والأقوال والأفعال التي ذكرها السائل، وعدم معارضة الإمام الرضا (ع) لشيء من ذلك وعدم إنكاره، كلّ ذلك دليل على موافقة الإمام الرضا (ع) على اعتقاد السائل بعلم الإمام بوقت قتله.
الخامس: جواب الإمام الرضا (ع) عن السؤال بتوجيه إقدام الإمام (ع)، وعدم الاعتراض على أصل فرض علم الغيب، دليل على قبول هذا الفرض، وعدم ثبوت الاعتراض الأوّل.
2ـ بسنده عمّن اُدخل على الإمام موسى الكاظم (ع): فأخبر أنّه قد سُقي السُمّ وغداً يُحتضر، وبعد غد يموت. ودلالته على علم الإمام بوقت موته واضحة[5].
3ـ عن الإمام جعفر الصادق (ع)، عن أبيه الباقر (ع): أنّه أتى أباه عليّ بن الحسين السجّاد (ع)، قال له: إنّ هذه الليلة التي يُقبض فيها، وهي الليلة التي قُبض فيها رسول الله (ص)[6].
ودلالته على علم الإمام بليلة وفاته واضحة.
المرحلة الثانية: ما بعد غياب المعصوم (ع)
ونبدأ بعرض آراء بعض العلماء الأوائل ممن تعرض للمسألة.
1ـ الشيخ المفيد
يرى الشيخ المفيد (ره) أن العلم بالغيب الأئمة (ع) ثابت لهم من دون كونه صفة ذاتية لهم ولا وجوب عقلي له، بل إنّما هو كرامة من الله لهم، وأنّ السمع قد ورد به.
وقد نسب هذا القول الى جماعة أهل الإمامة، ولم يستثن إلاّ شواذاً من الغُلاة :
«إنّ الأئمة من آل محمد (ع) قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ويعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم، وإنّما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك يإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع، فأما اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلاّ لله ـ عزّ وجل ـ وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ مَن شذّ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة»[7].
وأثبت في كتابه «الإرشاد» نماذج من الروايات الواردة في إخباراتهم الغيبية، سواء عن الماضيات أو المستقبلات، وحتى عن أحوال المخاطبين وما يكنونه في أنفسهم، ذكر ذلك في الدلالة على إمامة كلّ واحد من الأئمة (ع) في فصل أحواله.
2ـ الشيخ الطوسي
أما رأي الشيخ الطوسي في المسألة فيتّضح من خلال سؤال طُرح عليه بعد فرض العلم بالغيب للأئمة (ع)، وأن الإمام علي بن أبي طالب (ع) يعلم بمقتله في تلك الليلة، وكذا الإمام الحسين (ع) إلاّ أنّهما اُمرا بالصبر على ذلك؟
فأجاب رحمة الله عليه: قيل: اختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من أجاز ذلك[8] وقال: لا يمتنع أن يُتعبّد بالصبر على مثل ذلك، لأنّ ما وقع من القتل ـ وإن كان ممّن فعله قبيحاً ـ فالصبر عليه حَسنٌ، والثواب عليه جزيلٌ.
بل، ربّما كان أكثر، فإن مع العلم بحصول القتل ـ لا محالة ـ الصبرُ أشقّ منه إذا جوّز الظفر وبلوغ الغرض.
ومنهم مَن قال: إن ذلك لا يجوز، لأن دفع الضرر عن النفس واجبٌ عقلاً وشرعاً، ولا يجوز أن يُتعبّد بالصبر على القبيح، وإنّما يُتعبّد بالصبر على الحسن، ولا خلاف أنّ ما وقع من القتل كان قبيحاً، بل من أقبح القبيح.
وتأوّل هذا القائل ما رُوي عن الإمام أمير المؤمنين (ع)، من الأخبار الدالّة على علمه بقتله، بأن قال: كان يعلم على سبيل الجملة، ولم يعلم بالوقت بعينه، وكذلك عَلِمَ الليلة التي يُقتل فيها بعينها، غير أنّه لم يعلم الوقت الذي يحدُث فيه القتلُ.
وهذا المذهب هو الذي اختاره المرتضى (ره) في هذه المسألة.
ولي ـ في هذه المسألة ـ نظر[9].
فقد حصر الشيخ الطوسي (ره) أقوال أتباع مدرسة أهل البيت (ع) في مسألة العلم بالغيب للأئمة (ع) بين قولين فقط، ولم يختلفا في أصل العلم بالغيب للأئمة (ع)، وإنّما اختلفا في معرفة وقت القتل بين التفصيل والإجمال، واتفقا على العلم بغير ذلك بالتفصيل فإنّه يقتضي أن يكون الإمام عالماً بالأحكام.
ونسب الشيخ الطوسي (ره) القول بالعلم الإجمالي الى السيد المرتضى مما يقتضي عدم مخالفته للطائفة في التزام العلم في غير هذا، ومنه الأحكام.
3ـ العلاّمة الحلّي
وبعد طرح السؤال المذكور أجاب (ره): يحتمل أنّه (ع) أخبر بوقوع القتل وفي تلك الليلة، ولم يَعلم أنّه في أي وقت من تلك الليلة!
أو أنّه لم يَعلم في أي مكان يقتل!
أو أن تكليفه (ع) مغاير لتكليفنا، فجاز أن يكلف مهجته الشريفة ـ صلوات الله عليه ـ في ذات الله تعالى، كما يجب على المجاهد الثبات وإن أدّى ثباته الى القتل فلا يُعذَلُ في ذلك[10].
والظاهر أن العلاّمة (ره) إنّما أخذ في الاعتبار في جوابه فرض السائل أن إلقاء الشبهة ليس من قبل من يعتقد بالإمامة ومستلزماتها، بل من رجل من المخالفين لا يعتقد بإمامة الإمام، ولا يلتزم بشرائطها المعروفة من العصمة والعلم بالغيب وغير ذلك.
وعلى ذلك، فلو اُريد إلزامه بعلم الإمام وتصديق الأخبار الدالّة على معرفته بمقتله ـ والتي وردت ولم تُنكر ـ فلابدّ من الخروج بأحد الوجوه التي ذكرها العلاّمة:
إمّا بالالتزام بتحديد الخبر الواصل إليه، وأنّه عن أصل القتل وشخص القاتل، دون زمانه المحدّد.
أو بالالتزام بتحديد الخبر بما دون مكان معيّن.
وعلى هذين الفرضين فلا يُنافي اقدام الإمام على قتله، لأنّه لم يُخْبَرْ بالزمان والمكان الخاصّين، حتى يُكلّف باجتنابهما، فلا يَرِدُ اعتراض أنّه أقدم على الهلكة.
وأمّا الجواب الثالث، فهو مناسبٌ حتى للسائل المعتقد بالإمامة، وهو أن يكون الإمام متعبّداً بتكليف خاص، وهو مثل المجاهد المأمور والمكلّف بالجهاد حتى الشهادة.
فالإمام (ع) كالمجاهد الذي يُستشهد ـ لا يُعاتَب ولا يُعذَل ـ لأن فعله طاعة، وليس حراماً ولا معصيةً، ولا يقال في حقّه: إنّه ألقى بيده الى التهلكة.
المرحلة الثالثة: عند العلماء المتأخرين
تناول العلماء المتأخرون تلك المسألة بمزيد من التحليل والبيان نذكر على سبيل الاختصار:
1ـ الإمام كاشف الغطاء
فقد أثبت (ره) للإمام الحسين (ع) علماً بمصيره على نحو يسمح لقانون البداء بالتدخل والسريان فيه وقلبه، وبعبارة اُخرى: فإن لوناً شاحباً وصورة باهتة عن الوضع مكشوفة له، يقول:
«لاشك أنهم سلام الله عليهم كانوا يعلمون بكل ذلك بإخبار النبي وحياً، ولكن يحتملون فيه أن يتطرق إليه البداء يكون من لوح المحو والإثبات وأن يكون ثابتاً خلافه في العلم المخزون المكنون الذي استأثر الله سبحانه به لنفسه»[11].
إلاّ أن هذا اللون من العلم الذي يمكنه أن يصبح جهلاً وأن يكون الواقع غيره لا يمكن إطلاق العلم عليه إلاّ مسامحة، إذ ليس العلم إلاّ الكاشف عن الواقع أما ما يتراءى أنه من الواقع فعلاً وأنه علم فذاك يقبع في مرتبة الظن ولا يرتقي الى مرتبة العلم إلاّ إذا تغير نمطه وخرج عن أن يطاوله قانون البداء، فتأمّل مليّاً.
فالذي خلصنا إليه أن النظرة المذكورة لم تستطع على القول بذاك النمط من العلم إرجاع كثرة المسألة الى الوحدة.
2ـ السيد الشهيد الصدر
يذهب (ره) الى تعليل مسألة العلم بالغيب للإمام الحسين (ع) وحتمية مقتله في كربلاء، يرجع الى كون القرار السياسي والاجتماعي لا ينفك عن القرار الغيبي وهو تبع له، فلا يفصل بين الواقعين الغيبي والاجتماعي. وبيّن الشهيد الصدر بأنّ الإمام الحسين (ع) قد طرحها ضمن شعارات وَجَهد في تثقيف الاُمّة آنذاك على وعيها.
الشعار الأوّل: حتمية القتل
كان الإمام الحسين (ع) يُعترض عليه، ويقال: لِمَ تخرج؟ يعترض عليه عبد الله بن الزبير وغيره، فيقول له: بأنّي أنا اُقتل على كلّ حال سواء خرجت أو لم أخرج، إنّ بني اُمية لا يتركونني، ولو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني، إنّ بني اُميّة يتعقبوني أينما كنت، فأنا ميّت على أي حال سواء بقيت في مكة أو خرجت منها، ومن الأفضل أن لا اُقتل في مكة لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف.
فتراه طرح هذا الشعار، وهذا الشعار بالرغم من واقعيّته منسجم مع أخلاقية الاُمّة المعاشة أيضاً، فأخلاقية الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلامية لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرك من الإمام الحسين (ع)، فهو (ع) يقول: «أنا مقتول على كل حال».
والظواهر كلّها تشهد بذلك، الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُميّة قد صمّموا على قتل الإمام الحسين (ع) ولو عن طريق الاغتيال ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. إذاً فطرح مثل هذا الشعار لأجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقية الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعياً في نفس الوقت.
الشعار الثاني: غيبية قرار التحرك
يأتي أشخاص آخرون إليه يعترضون عليه، يقولون: لِمَ تتحرّك، يأتي محمد بن الحنفية ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة فيقول له: أنظر، اُفكر فيما تقول، فيذهب محمد بن الحنفية وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين قد تحرك، فيسرع إليه ويأتي ويأخذ براحلته ويقول له: يا أخي قد وعدتني أن تفكر، قال: «نعم، ولكني بِتُّ في هذه الليلة فرأيت رسول الله (ص)،ـ في المنام ـ فقال: إنّك مقتول»[12].
فتراه (ع) يجيب هذا الجواب، يجيب بقرار غيبي ]صادر [من أعلى، وهذا القرار الغيبي من أعلى لا يمكن لأخلاقية الهزيمة أن تنكره مادام صاحب هذه الأخلاقية مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين، طبعاً هو لم يحدث بهذه الرؤيا، عبد الله بن الزبير الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين، بل حدث بذلك محمد بن الحنفية وأمثال محمد بن الحنفية.
فهذا شعار آخر كان يطرحه وهو شعار حتمية الموت ]الصادرة[ من أعلى، وأنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحي، أن يغامر، أن يقدم على هذه السفرة التي تؤدّي الى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان بالرغم من واقعيته ينسجم مع أخلاقية الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعار واقعي.
الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة
وكان (ره) في مرّة ثالثة يطرح شعاراً ثالثاً، كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكة الى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه الى العراق، كان يقول لهم: إنّي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوة للذهاب إليهم، وقد تهيأت الظروف الموضوعية في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقاً واُزيل باطلاً، فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنها ردّ فعل، وأنها تعبير عن إجابة طلب، أنّ الاُمّة تحركت وأرادت، وأنه قد تمّت الحجّة عليه، ولابدّ له أن يتحرك.
الإمام الحسين (ع) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهادية هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، وإلاّ لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبية بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذاك الجانب، لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقية الهزيمة.
ماذا تقول أخلاقية الهزيمة أمام شخص يقول لها: بأنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرك نحو الداعي، وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائياً وإنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته، فهناك قول: أخلاقية الهزيمة، إنّ هذا متسرع، وإنّ هذا لا يفكر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر.
أمّا حينما يكون العمل إجابة لدعوة من جماهير قد هيّأت كل الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الأخلاقية المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرّك: إنّه عمل طائش إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.
هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين (ع) كانت كلّها واقعية، وفي نفس الوقت كانت منسجمة مع أخلاقية الاُمّة المهزومة روحياً وفكرياً ونفسياً.
الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضد السلطان الجائر
وكان (ره) يطرح أيضاً الى جانب كل هذه الشعارات الشعار الواقعي حينما كان يؤكّد على أنّ رسول الله (ص) قال: «من رأى سلطاناً جائراً... ثم لم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».
فكان (ره) الى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعية على عمله في مستوى أخلاقية الاُمّة كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعي الحي الذي لابد وأن يكون هو الأساس للأخلاقية الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الاُمّة الإسلامية[13].
الاستنتاج
التزم الإمامية بأن العلم بالغيب الذي يجب أن يتصف به النبي أو الإمام، هو العلم بالموضوعات الخارجة وسائر الحوادث الكونية بالإضافة للعلم بالأحكام.
ونوقش بعض الاعتراضات الواردة في هذه المسألة زمن الأئمة (ع) حيث كانت إجاباتهم كلّها تؤكد امتلاكهم العلم الحضوري، الذي لا يتعارض مع مقولة الالقاء بالتهلكة أو عدم وجود الجدوى في أفعالهم، كما لا خلاف بين ما يذهب إليه الشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو العلاّمة الحلي، وكذا سائر العلماء المتأخرين، وإنما وقع الاختلاف في تفسير المسألة ليس إلاّ.
الهوامش
[1] الأعراف، 188.
[2] البقرة، 195.
([3]) الكليني، الكافي، ج1، ص359.
[4] الجلالي، معجم الأعلام من آل أعين الكرام، ص204، رقم 12.
[5] المجلسي، بحار الأنوار، ج48، ص247، مضمون ح56.
[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص313.
[7] المفيد، أوائل المقالات، ص77.
[8] علّق محقّق «تلخيص الشافي»: يقصد بذلك الشيخين المفيد والكليني.
[9] الطوسي، تلخيص الشافي، ج4، ص188.
[10] الحلّي، أجوبة المسائل المهنائية، ص148.
[11] كاشف الغطاء، جنة المأوى، ص42.
[12] ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف، ص128.
[13] المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مجلة الفكر الإسلامي، عدد 17، ص70.
مصادر البحث
1ـ ابن طاووس، علي، اللهوف في قتلى الطفوف، قم، أنوار الهدى، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
2ـ الجلالي، محمّد رضا، معجم الأعلام من آل أعين الكرام، قم، مركز البحوث والتحقيقات الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1411 ه.
3ـ الحلّي، الحسن، أجوبة المسائل المهناوية، قم، مطبعة الخيّام، الطبعة الأُولى، 1401 ه.
4ـ الطوسي، محمّد، تلخيص الشافي، قم، محبّين، الطبعة الأُولى، 1382 ه.
5ـ كاشف الغطاء، محمّد حسين، جنة المأوى، تحقيق محمد علي القاضي الطباطبائي، قم، دليل ما، الطبعة الأُولى، 1429 ه.
6ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
7ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
8ـ المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مجلة الفكر الإسلامي.
9ـ المفيد، محمّد، أوائل المقالات في المذاهب المختارات، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الموسوي، عبد الرحيم، علم الأئمة الاثني عشر (ع) بالغيب، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.