بالإضافة إلى أعمال المرأة الخاصّة من كونها زوجة وأُمّ ومربّية وحاضنة، لها أن تقوم بالأعمال العامّة إذا سنحت لها المكنة، فلا يوجد ردع شرعي عن مزاولة الأعمال خارج البيت في عفّة وطهارة منها.
وعلى ذلك خطابات عامّة حاثّة على العمل، تشمل الرجل والمرأة، وهناك إشارات قرآنية خاصّة بالمرأة، تُشير إلى حقّ المرأة في مزاولة العمل خارج نطاق البيت، فتشارك في الحياة العامّة بشرط العفة وعدم الانزلاق فيما لا يُرضي الله نتيجة أعمالها الاجتماعية، فالإسلام أقرّ عمل المرأة المهني كالرجل، كالتعليم والتمريض والطبّ والجراحة وأعمال الخير، بل هناك واجبات عامّة على الأُمّة والمجتمع، وهي الواجبات الكفائية على الأفراد إلّا أنّها واجبات عينية على الأُمّة، حيث يكون المخاطب بها المجموع، فتكون المرأة مشمولة بهذا الخطاب، وهذا يقتضي أن يعدّ المجتمع (رجالاً ونساءً) للقيام بأعباء الواجبات العامّة، من تعليم عليها وإعداد لها مع الستر والعفّة للنساء، والدليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}(1)، فهذه الآية دالّة على جواز اكتساب المرأة بالعمل (2).
2ـ عموم وإطلاق الأدلّة الأوّلية على إباحة العمل المهني والاجتماعي للإنسان لكسب المال، حيث قال تعالى: {هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(3)، والمشي في المناكب يُراد به العمل واستخراج الثورة وابتغاء الرزق، وهذا يشمل كلّ عمل لم يرد فيه تحريم من الشريعة، وغيرها من الآيات (4)، وهو خطاب لكلّ البشر، فيشمل النساء.
3ـ الآيات القرآنية الدالّة على جواز أخذ الأُجرة على عملية الإرضاع: قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}(5).
وقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(6).
وهاتان الآيتان صريحتان على أنّ الأب له الحقّ في استئجار امرأة لترضع له ابنه، فيدلّ بالضرورة على جواز إيجار المرأة نفسها لهذا العمل.
4ـ هناك روايات كثيرة تدلّ على جواز كسب المرأة:
منها: عن أبي عبد الله× قال: >دخلت ماشطة على رسول الله(ص) فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول الله، أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فانتهي عنه، فقال: أفعلي، فإذا مشّطت فلا تجلي الوجه بالخرق، فإنّه يُذهب بماء الوجه، ولا تصلي الشعر بالشعر< (7)، فهذه الصحيحة تدلّ على جواز كسب المرأة في عملية تجميل النساء، وبما أنّه لا خصوصية لهذه المهنة، فنستفيد جواز عمل النساء في كلّ مهنة لم تكن محرّمة.
منها: حسنة الحسين بن يزيد الهاشمي، عن أبي عبد الله× قال: >جاءت زينب العطّارة (الحولاء) إلى نساء النبي(ص) وبناته، فكانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبي(ص) فإذ هي عندهنّ، فقال النبي(ص): إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله، فقال رسول الله(ص): فإذا بعتي فأحسني ولا تغشي (ولا تغبني)، فإنّه اتقى لله وأبقى للمال< (8).
فهذه المرأة كانت تدخل البيوت وتختلط بالرجال والنساء، وقد أقرّها النبي(ص) على عملها، ولا حاجة بعد ذلك إلى سرد الأدلّة الكثيرة على جواز عمل المرأة المهني للكسب لوضوحه هذا الزمان.
قد يُقال:
إنّ عمل المرأة إذا كان في بيتها فلا بأس به، ولكن إذا كان ملازماً للاختلاط بالرجال ـ كما في المؤسّسات الحكومية والعامّة والدوائر والجامعات ما يتوفّر فيها الأُستاذ والأُستاذة، وقد يُؤدّي إلى الخلوـ فهو عمل لا يجوز، لأنّه يُؤدّي إلى الفساد، وإثارة الغرائز تحت ستار العمل.
فنقول:
إنّنا نفترض أنّ العمل إذا كان مختلطاً من الرجال والنساء في أوضاع موافقة لأحكام الشريعة (لا مخالفة كما في السفور والميوعة ووجود الريبة والاختلاط المحرّم)، فالاختلاط الحاصل في العمل إذا فُرض في حدود الشريعة الإسلامية وآدابها فلا دليل على إنتهائه إلى الفساد وإثارة الغرائز، فلا دليل على حرمته، على أنّ هذا إذا كان دليلاً على الحرمة فهو يدلّ على حرمة بيع الرجل للنساء في الأسواق الإسلامية.
بالإضافة إلى أنّنا نرى لابديّة أن يحرص ربّ العمل أو الجامعة أو الحكومة على تهيئة ظروف نقية عند حصول الاختلاط، بحيث لا يكون أيّ مناح للنزوات المريبة والممارسات غير الشرعية، واللقاءات المريبة البعيدة عن علاقات الدراسة أو العمل.
قد يُقال:
إنّ عمل المرأة المتزوّجة يخلّ بعملها في البيت الزوجي واهتمامها بالأولاد والزوج، وهو يتنافى مع الوظيفة المهمّة للمرأة في البيت الزوجي، فهو يُؤدّي إلى تفكيك الأُسرة التي اهتمّ بها الإسلام.
فيُقال:
إنّ الزوجة ملزمة باستجابتها للأُمور الجنسية المتعارفة، وتهيئة السكن اللازم للزوج، كما أنّه ملزم هو بذلك أيضاً، وهذا السكن (الاطمئنان) هو أكبر إنجاز للمرأة والرجل إذا تحقّق لهما، وبعد ذلك يأتي دور العمل خارج البيت، فهو جائز في صورة موافقة الزوج عليه بعد التشاور ومراعاة مصلحة الأُسرة والبيت الزوجي، فإذا اقتنع الزوج بعدم وجود ما يلكأ السكن الروحي لهما إذا عملت خارج البيت، فهو الذي يُجيز خروجها، لأنّه هو المدبّر لأُمورها والراعي لها والمدافع عنها.
وإذا رأى أنّ خروجها يُؤدي إلى الاعتداء عليها وتضييعها وتميّعها فله ا لحقّ في منعها، لأنّه القيّم عليها والمحافظ عليها والمدبّر لأُمورها، فهو المسؤول عن هداية البيت الزوجي لشاطي السلامة.
ـــــــــــــــــــــــــ
1ـ النساء: 32.
2ـ أقول: وزن اكتسب هو افتعل، ومعناه في الصرف: وهو المعاناة في تأثير الشيء والمبالغة لاحتيال فيه، والفرق بينه وبين كسب، أنّ ذلك تحصيل الشيء على أيّ وجه كان بخلاف الاكتساب، ولهذا قال عزّ وجل {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} راجع شرح النظّام: 58.
3ـ الملك: 15.
4ـ والآيات الأُخرى كـ (الحج: 65، لقمان: 20، الجاثية: 12 ـ 13).
5ـ البقرة: 233.
6ـ الطلاق: 6.
7ـ وسائل الشيعة، باب19، من أبواب ما يكتسب به، ح2.
8ـ وسائل الشيعة، باب4، من أبواب آداب التجارة، ح1.
الكاتب: الشيخ حسن الجواهري