مهما تجبر الظالم وطغى في ظلمه لا بد من يوم ينتصر فيه المظلوم على الظالم، وتظهر الحقيقة للعيان، ويزيد بن معاوية كان الظالم والطاغي في زمانه، فقد ظلم الإمام الحسين (ع) أشد الظلم حيث قتله وقتل أهل بيته وأصحابه، ولكن الإمام الحسين (ع) انتصر ببذل دمه وبكل ما يملك في سبيل الله.
غلبة الدم على السيف
حصلت المعركة، ووقعت الملحمة في أرض الطف، ولكنها لم تنته فصولها، أجل، سقط قائد النهضة صريعاً على الثرى، وذبح عطشاناً من القفا، ورفع رأسه الشريف على السنا، ولكن المعركة لم ولن تنتهي.
أرادوا أن يحكموا بالظاهر، بأنّ الخليفة هو الظافر، كيف لا وقد قتل قائد المسيرة، وسبي أهله الذين حملوا مع رؤوس الشهداء أسارى من بلد إلى بلد، حتى وصلوا بهم إلى عاصمة المملكة، وأهلها فرحون مستبشرون، زاعمون أن ذلك أمارة الغلبة والظفر؟!
نعم، إنهم ارتكبوا المجازر التي تشمئز منها القلوب، وفعلوا ما يقرح الأكباد، ولكنهم نسوا شيئاً واحداً، وهو أنه هناك سنة الله وإرادته التي تغلب كل شيء!
أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وأبى الله ذلك: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[1].
أرادوا أن يغلبوا حجة الله وقد قال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[2].
تخيلوا أن الغلبة بالعدد والعُدّة فقط، وقد نسوا قوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٌ كَثِيرَةٌ بِإِذْنِ اللَّهِ)[3].
ومن هذا المنطق، ننطلق إلى سنة إلهية ثابتة في ساحة صراع الحق مع الباطل، وهي انتصار الحق على الباطل، لقد غلب الدم السيف، لأن الله يقول: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[4]، وقال تعالى: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[5].
كيف انقلبت المعادلة
إن مسألة انقلاب المعادلة وتغيّر الأوضاع وتبدّل كفتي الموازنة لم تحصل دفعة ودونما مقدّمات، بل هي حصيلة جهود كثيرة، ونتيجة مقاساة شدائد صعبة تحملها أهل بيت الحسين (ع) وعلى رأسهم الإمام علي زين العابدين (ع)، والسيدة زينب (س).
وابتدأت تلك الجهود بعد استشهاد الحسين (ع) مباشرة، واستمرت في الكوفة وفي الطريق إلى الشام، وأثمرت في دمشق، وامتدت حتى وصلت إلى بيت الطاغي ابن الباغي يزيد بن معاوية بحيث زعزعت أركان حكومته من الداخل والخارج.
هذا ما سنتناوله في هذه المرحلة ونركّز على بعض جوانبه وننظر إلى بعض زواياه.
نظرة إلى دور الإمام زين العابدين (ع)
فقد تمكن الإمام (ع) أن يكسر الحواجز ويهدم الموانع التي فرضتها السلطة الطاغية ويعبر جميع ذلك ويقوم بكسر الحواجز الإعلامية المفروضة على الناس ويبين الحقائق التي أخفيت عليهم.
فتارة يرى الإمام أناساً ساذجين قلبوا الأمر عليهم، فيواجههم برحابة صدره الشريف، كما حصل ذلك مع الشيخ الشامي الذي حمد الله على قتل الحسين وأهله! – في البدية – ولكنه حينما يسمع آيات قرآنية نازلة في شأن آل بيت رسول الله – كآية التطهير، والمودة في القربى وغيرها ـ يرجع إلى فطرته السليمة ويقول: اللهم إنّي تائب إليك ممّا تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللهم إنِّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمد من الجن والإنس[6].
ولم يتحمّل يزيد ذلك فأمر بقتل ذلك الشيخ الشامي[7].
إن التمسك بالقرآن والاستدلال به هو أحسن طريق اتخذه الإمام (ع) للاحتجاج به في هذا المقطع، لأنهم منعوا نشر أحاديث فضل أهل البيت منعاً كاملاً، كما وضعوا في قبالها أحاديث في شأن مبغضيهم!
فتارة نرى الإمام إذا واجه الطاغية قابله وهاجمه بقوة الإيمان وصلابة البيان وإقامة البرهان بحيث لم يبق له إلا الخزي والخسران، ثم أوعده بالنيران لأنه تابع إمامه الذي ليس هو إلا الشيطان، ولكونه ثمرة عبدة الأوثان.
فلذلك واجهه بهذا الكلام: أنشدك بالله يا يزيد ما ظنك برسول الله (ص) لو رآنا مقرنين في الحبال؟ أما كان يرق لنا؟ فأمر يزيد بالحبال فقطعت وعرف الانكسار فيه[8].
فلم يبق في القوم إلا من بكى[9]، وحينما استشهد يزيد ـ المدعي خلافة رسول الله – ببيت لشاعر جاهلي يجيبه الإمام (ع) بآية قرآنية، فيثقل ذلك على يزيد[10]، ولم يجد إلا أن يلتجئ لآية شريفة في غير موقعها فيثبت الإمام (ع) له وللجميع عدم فقهه بالقرآن وعدم دركه معناه[11]، هذا وهو مدعي الخلافة الإسلامية؟
ومع الأسف الشديد فإن كثيراً من المؤرّخين لم يذكروا هذه القطعة الأخيرة.
هذا جانب مما نقل عن نشاط الإمام (ع) على صعيد مواجهة الطاغوت ومجابهته، وكسر كبريائه وسطوته، وكذا الأمر بالنسبة إلى مقابلة الإمام (ع) مع بعض الأشخاص، سواء كانوا من الساذجين المنخدعين منهم ـ كما مر في قصة الشيخ الشامي – أو غيرهم مثل ما ذكر حول تكلّم الإمام مع مكحول صاحب رسول الله (ص)[12]، أو منهال[13].
وأما على الصعيد الشعبي العام فنجد ذروة ذلك في خطبته الغراء التي ألقيت أمام حشد الجماهير مع حضور يزيد الملعون.
ونكتفي بذكر ما أورده السيد محمد بن أبي طالب عند ذكره الخطبة، قال: «فلم يزل يقول أنا أنا حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب والأنين وخشي يزيد اللعين أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقال: اقطع عليه الكلام»[14].
ومن هنا نعلم ما هو السر وراء قيام يزيد بحبس الإمام[15]، أو أمره باغتياله[16]، واقتراح بعض الصحابة[17]! ومشاوريه[18]؛ ذلك، وهذه الشواهد المتقنة تؤيد مدى نجاح نشاط الإمام (ع) وعمله في جوانب متعدّدة.
نظرة إلى دور زينب الكبرى (س)
لقد قامت السيدة زينب الكبرى (س) بواجبها الرسالي امتداداً للنهضة الحسينية وتجسيداً رائعاً لقيمها الراقية وأهدافها السامية.
إنها التي تغذت في حضن النبوة وتربت في كنف الولاية.
وهي التي رأت مصائب لم ولن يرى مثلها أحد!
لقد رأت بالأمس مظلومية جدّها رسول الله (ص) في آخر أيام حياته.
ثم رأت مظلوميّة أمّها الصدّيقة الشهيدة فاطمة الزهراء (س)، وهي التي حضرت المسجد مع أمها ونقلت تلك الخطبة الغراء التي ألقتها أمها[19].
وبذلك تعلمت كيف تواجه الحكام الظلمة بقوّة البيان وصلابة الإيمان، وإذا أردت أن تعلم جذور خطب زينب فارجع البصر إلى ما بعد وفاة الرسول تجدها ترجع إلى خطبة أمها الزهراء البتول (س).
ثم رأت غربة أبيها المظلوم علي بن أبي طالب واستشهاده، ثم الحسن عليهم سلام الله جميعاً.
أما اليوم! فقد أصبحت بطلة المعركة الكبرى، ولقد أدت واجبها بأحسن وجه، وعبر مواقف؛ منها:
1ـ متابعتها لإمام زمانها وابن أخيها علي بن الحسين، الذي عرفته أمام يزيد بقولها هو المتكلم[20].
2ـ وقوفها الصلب أمام الطاغية يزيد.
3ـ تأثير كلامها في أوساط المجتمع الشامي، وخاصة في مجلس يزيد.
4ـ تأثيرها البالغ في قلب العاصمة وفي بيت يزيد ـ كما يأتي تفصيل ذلك ـ.
5ـ موقفها العاطفي أمام رأس أخيها الحسين بحيث قلبت المجلس إلى حدّ قالوا: فأبكت والله كل من كان[21].
6ـ إلقاء خطبتها الغراء في مجلس يزيد التي تضمنت معاني عالية ومضامين راقية وبراهين متقنة.
نظرة إلى دور سائر أهل البيت وأثره
كانت لأهل البيت مواقف صلبة في مواضع مختلفة ومواطن متعدّدة.
منها: الموقف الذي اتخذته أمّ كلثوم أمام طلب الرجل الشامي من يزيد[22].
ومنها: ما قامت به سكينة في تعريف هذه الأسرة الطاهرة بقولها: «نحن سبايا آل محمد»[23]، فهذا الكلام يثير سؤالاً في أذهان الناس فحواه أنه لو كانوا هم من آل محمد فلماذا السبي؟! وهل هذه هي المودة في القربى التي جعلها الله أجراً لجدهم رسول الله (ص)؟
وهي التي كشفت القناع عن باطن يزيد بقولها: «والله ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه ولا أجفى منه»[24].
وهي التي أذلت يزيد بقولها: يا يزيد، بنات رسول الله سبايا[25]؟
ومنها: الموقف الذي اتخذته فاطمة بنت الحسين (ع) بحيث حينما دخلوا بيت يزيد ما وجدوا فيهن سفيانية إلا وهي تبكي[26].
قال ابن نما: وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد بنات رسول الله سبايا؟! فبكى الناس وبكى أهل داره حتى علت الأصوات»[27].
فإن المتأمل في جميع ذلك ـ وهو شيء قليل مما وصل بأيدينا، وما أخفته الأعداء حقداً وبغضاً وحسداً أكثر، والله العالم – يجد أن هذه المسيرة حققت أهدافها، ووصلت إلى بلغتها ونالت مناها من استيقاظ الناس وكشف النقاب عن سريرة أصحاب الزمرة الطاغية، وإصلاح أمر الأمّة، لكي تكون معركة كربلاء أعظم وأشرف معارك الحق ضدّ الباطل على مدى الدهور والأعصار.
نظرة إلى مواقف بعض الصحابة
إن بعض الصحابة كان لهم الدور الإيجابي تجاه الفاجعة العظمى التي حصلت في أرض كربلاء، وجرى الحق على ألسنتهم، وتكلموا بالواقع واتخذوا مواقف جليلة، ولا نعني بذلك تبرئتهم عن عدم نصرتهم الحسين، بل المقصود أن اتخاذ هذا الموقف نفسه قد أثر في أوساط الناس وانقلاب المعادلة، ومن هؤلاء:
1ـ سهل بن سعد، فهو الذي قال هذه الكلمة – حينما علم بورود سبايا أهل البيت الشام ومعهم رأس الحسين (ع) -: واعجباه يُهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟![28].
2ـ واثلة بن الأسقع، فإنّه لما سمع أن رجلاً من أهل الشام قام بلعن الحسين وأبيه – وقد جيء برأسه الشريف – قال: والله لا أزال أحبّ عليّاً والحسن والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله (ص) يقول فيهم ما قال…[29].
3ـ أبو برزة الأسلمي، هو الذي اعترض على يزيد حينما رآه ينكت رأس الحسين بالخيزران بقوله: يا يزيد ارفع قضيبك، فوالله لطالما رأيت رسول الله (ص) يقبّل ثناياه[30].
4ـ زيد بن أرقم، فإنّه اتخذ موقفاً مشابهاً لموقف أبي برزة الأسلمي بقوله: كف عن ثناياه، فطالما رأيت رسول الله (ص) يقبلها.
فقال يزيد: لولا أنك شيخ خرفت لقتلتك[31].
5ـ النعمان بن بشير، روى الخوارزمي بإسناده عن عكرمة بن خالد قال: «أُتي برأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بدمشق فنصب، فقال يزيد: عليَّ بالنعمان بن بشير، فلما جاء قال: كيف رأيت ما فعل عبيد الله بن زياد؟ قال: الحرب دول. فقال: الحمد لله الذي قتله! قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين ـ يعني به معاوية ـ يكره قتله، فقال ذلك قبل أن يخرج، ولو خرج على أمير المؤمنين والله قتله إن قدر.
قال النعمان: ما كنت أدري ما كان يصنع ثم خرج النعمان، فقال (يزيد): هو كما ترون إلينا منقطع، وقد ولاه أمير المؤمنين ورفعه، ولكن أبي كان يقول: لم أعرف أنصارياً قط إلا يحبّ عليّاً وأهله ويبغض قريشاً بأسرها»[32].
هذا مع أن ابن أبي الحديد قد صرّح بانحرافه عن علي بقوله: وكان النعمان بن بشير منحرفاً عنه، وعدوّاً له، وخاض الدماء مع معاوية خوضاً، وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله[33].
ولقد أثر اتخاذ هذا الموقف من بعض الصحابة، بحيث لم يتحمله يزيد وقال: لولا صحبتك رسول الله (ص) لضربت والله عنقك، فقال: ويلك تحفظ لي صحبتي من رسول الله ولا تحفظ لابن رسول الله بنوته؟ فضج الناس بالبكاء وكادت أن تكون فتنة[34].
بعض الموالين لأهل البيت في الشام
حينما نريد أن نحلل الواقع الاجتماعي لابد أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي أن المستفاد من بعض النصوص وجود بعض الموالين لأهل البيت في الشام وفي قلب عاصمة الدولة الأموية، وهذا أمر لا يمكن أن نتغافل عنه في هذا المقطع.
مما يؤيد هذا المطلب هو ما رواه سهل بن سعد، قال: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعلّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟
قالوا: یا شیخ نراك غريباً! فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله (ص) وحملت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها؟ قلت: ولم ذاك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين عترة رسول الله (ص) يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الآن…[35].
وهذا الخبر يدلّ على وجود ضمائر حية عارفة بالأمور وتميز الحق عن الباطل، فلابد أن نجعل لهم سهماً في دعم النهضة الحسينية وإيقاظ الناس، وإن لم نعلم تفاصيله.
يزيد يواجه المشاكل في بيته
إن عمق المأساة أثر في نفوس الكل، حتى دخل بيت يزيد، الذي لم يتمكن من السيطرة على الوضع، وبين يديك الشواهد التأريخية التي تثبت ذلك:
1ـ بكاء نساء الأسرة الأموية
قال البلاذري: وصيّح نساء من نساء يزيد بن معاوية وولولن حين أُدخل نساء الحسين عليهن[36].
قال ابن فتّال: ثمّ أدخل نساء الحسين على يزيد بن معاوية، فصحن نساء أهل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن وأقمن المأتم[37].
قال ابن الصباغ: قال (يزيد ): ادخلوهم إلى الحريم، فلما دخلن على حرمه لم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهنّ وأظهرنّ التوجّع والحزن على ما أصابهنّ وعلى ما نزل بهن[38].
2ـ موقف زوجة يزيد
نقل الخوارزمي بعد أحداث ورود أهل بيت الحسين (ع) بيت يزيد، قال:
وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد ـ وكانت قبل ذلك تحت الحسين بن علي ـ فشقت الستر وهي حاسرة، فوثبت على يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة مصلوب على باب داري؟ فغطّاها يزيد وقال: نعم! فاعولي عليه یا هند، وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله[39]!».
إقامة عزاء الحسين (ع) في بيت الطاغية
إن أهل بيت الحسين (ع) بدلوا بيت يزيد إلى موضع إقامة العزاء والمأتم على الحسين، حيث صرّح بعض المؤرخين بقوله: «وأقمن المأتم»[40]، وذلك بعد ورودهن بيت يزيد.
وصرّح بعض آخر بأنّهنّ أقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيام[41].
وانقلب الأمر على اللعين يزيد بن معاوية حتى التجأ هو لإقامة المأتم على الحسين (ع) ثلاثاً!!
والمستفاد من بعض النصوص أن مأتم الحسين استمر أكثر من ذلك ـ ولعلّ التحديد بثلاثة أيام راجع إلى ما أمره يزيد بإقامة المأتم.
يزيد يبكي تصنعاً
وآل الأمر إلى أن يُظهر يزيد البكاء أمام الناس تصنعاً ورياء، حتى أن ابن قتيبة قال: «فبكى يزيد حتى كادت نفسه تفيض وبكى أهل الشام حتى علت أصواتهم»[42].
ولقد بالغ ابن قتيبة فيما رواه، فما ذكره فهو راجع إما إلى حسن تصنعه! أو ناش عن مدى نصرة ناصريه في الرواية، حشرهم الله معه.
يزيد يأمر بتقديم بعض الخدمات
إن خوف زوال الملك وحصول الفتن أوجب على يزيد أن يغير معاملته مع أهل البيت (ع)، فلقد ذكرنا في توصيف سكنى أهل البيت أنهم أسكنوا داراً لا يكنهم من حر ولا برد حتى أقشرت وجوههم[43]، ولكن انظروا إلى ما فعله بعد ذلك.
قال ابن قتيبة: ثم قال ـ يزيد بعد بكائه التصنّعي -: «خلوا عنهم، واذهبوا بهم إلى الحمام، واغسلوهم، واضربوا عليهم القباب»، ففعلوا، وأمال عليهم المطبخ وكساهم، وأخرج لهم الجوائز الكثيرة من الأموال والكسوة[44].
ولكن مع ذلك لم نستبعد وقوع شيء من الكذب في تقديم هذه الخدمات الواهية، فالظنّ الغالب أنها من أكاذيب أنصار بني أُميّة خذلهم الله.
يزيد يُظهر الندامة ويلعن ابن مرجانة
واضطر يزيد إلى أن يُظهر الندامة على ما ارتكبه في شأن قتل الإمام الحسين وأصحابه الكرام الأوفياء، وبادر بلعن عامله على الكوفة عبيد الله بن زياد؛ بقوله: «لعن الله ابن مرجانة! لقد بغضني إلى المسلمين وزرع لي في قلوبهم البغضاء»[45]، «لعن الله ابن مرجانة.. لقد زرع لي ابن زياد في قلب البر والفاجر والصالح والطالح العداوة»[46].
فظهر أن تظاهر يزيد بالندامة ولعنه ابن مرجانة ما كان إلا خوفاً على زوال ملكه وفناء نفسه الخبيثة، ولم يكن إلا عن مكر وخدعة وكذب وزور.
الاستنتاج
كان دور الإمام زين العابدين (ع) ودور السيدة زينب الكبرى (س) ودور سائر أهل البيت (ع)، وبعض الصحابة وبعض الموالين لأهل البيت (ع) في الشام له أثره الإيجابي في بيان أن الإمام الحسين (ع) هو المظلوم، وأن يزيد بن معاوية هو الظالم، فأخذ يُظهر الندامة على فعله، ويلعن ابن مرجانة على قتله الحسين (ع)، وذلك خوفاً على زوال ملكه
الهوامش
[1] التوبة، ٣٢.
[2] المجادلة، ۲۱.
[3] البقرة، ٢٤٩.
[4] الصافات، ۱۷۱ـ ۱۷۳.
[5] المائدة، 56.
[6] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص183.
[7] ابن طاووس، اللهوف، ص211.
[8] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص83.
[9] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص262.
[10] الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص109، ح2806.
[11] القمّي، تفسير القمي، ج2، ص352.
[12] الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص134.
[13] القمّي، تفسير القمي، ج2، ص134.
[14] المجدي، تسلية المجالس، ج2، ص395.
[15] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص173.
[16] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص173.
[17] ابن عساكر، تاریخ مدينة دمشق، ج19، ص420.
[18] المسعودي، إثبات الوصية، ص145.
[19] الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص253.
[20] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص173.
[21] الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص123.
[22] المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص137.
[23] الحميري، قرب الإسناد، ص26، ح88.
[24] الصدوق، الأمالي، ص230.
[25] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ص83.
[26] ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج5، ص132.
[27] ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص99.
[28] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص60.
[29] ابن الأثير، أسد الغابة، ج2، ص20.
[30] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص261.
[31] الراوندي، الخرائج والجرائح، ج2، ص58.
[32] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص59.
[33] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص77.
[34] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص58.
[35] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص60.
[36] البلاذري، أنساب الأشراف، ج3، ص417.
[37] فتّال النيشابوري، روضة الواعظين، ج1، ص191.
[38] ابن الصبّاغ، الفصول المهمة، ص195.
[39] الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص73.
[40] الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص355.
[41] الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص353.
[42] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص8.
[43] الصدوق، الأمالي، ص231، مجلس 31، ح243.
[44] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص8.
[45] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص265.
[46] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص261.
مصادر البحث
1ـ ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1378 ه.
2ـ ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأُولى، 1411 ه.
3ـ ابن الأثير، علي، أسد الغابة، بيروت، دار الفكر، طبعة 1409 ه.
4ـ ابن الجوزي، يوسف، تذكرة الخواص، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
5ـ ابن الصبّاغ، محمّد، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، قم، مؤسّسة دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1422 ه.
6ـ ابن سعد، محمّد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
7ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
8ـ ابن طاووس، علي، اللهوف في قتلى الطفوف، قم، أنوار الهدى، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
9ـ ابن عبد ربّه، أحمد، العقد الفريد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
10ـ ابن عساكر، علي، تاریخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه.
11ـ ابن قتيبة، عبد الله، الإمامة والسياسة، تحقيق طه محمّد الزيني، بيروت، دار المعرفة، بلا تاريخ.
12ـ ابن نما الحلّي، محمّد، مثير الأحزان، النجف، منشورات المطبعة الحيدرية، طبعة 1369 ه.
13ـ البلاذري، أحمد، أنساب الأشراف، تحقيق محمّد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، طبعة 1959 م.
14ـ الحميري، عبد الله، قرب الإسناد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
15ـ الخوارزمي، الموفّق، مقتل الحسين (ع)، تحقيق محمّد السماوي، قم، أنوار الهدى، الطبعة الثانية، 1423 ه.
16ـ الراوندي، سعيد، الخرائج والجرائح، قم، مؤسّسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
17ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
18ـ الطبراني، سليمان، المعجم الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1405 ه.
19ـ الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه.
20ـ الطبري، محمّد، تاريخ الأُمم والملوك، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الرابعة، 1403 ه.
21ـ فتّال النيشابوري، محمّد، روضة الواعظين وبصيرة المتعلّمين، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الثانية، 1375 ش.
22ـ القمّي، علي، تفسير القمّي، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثالثة، 1404 ه.
23ـ المجدي، محمّد، تسلية المُجالس وزينة المَجالس، تحقيق فارس حسّون كريم، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
24ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
25ـ المسعودي، علي، إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، قم، انتشارات انصاريان، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
مصدر المقالة
الشاوي، علي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، قم، مركز الدراسات الإسلامية، طبعة 1421 ه.
مع تصرف بسيط.