إنّ المشكلة السياسية واحدة من المشاكل التي عانت وتعاني منها الأمة الإسلامية منذ اللحظة الأولى التي ابتعدت فيها عن حكّامها الشرعيين _ الذين نصبهم الله عزّ وجلّ، وأوصى بهم رسوله (صلى الله عليه وآله) _ فدبّ الفساد بسبب هذا المرض في جسد الأمة الإسلامية، حتى استفحل ووصل إلى درجة لا يفيد معها العلاج، ولم يكن عصر بني العباس بعيداً عنه، خصوصاً وأنهم جعلوا الدين ستاراً يموّهون به على الناس، بالإضافة إلى قرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ إذ أنّهم أبناء العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويرون أنهم أصحاب هذا الحق والمقام الشرعي ـ
والحال ليس كما ظنوا ذلك، حيث أشاعوا بين الناس أنهم هم الولاة الشرعيون من قبل الله تعالى، ولا يجوز للناس أن ينتقدوهم أو يردوا عليهم، لأن الراد عليهم راد على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والراد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) راد على الله تعالى، والراد على الله يجب أن يعاقب أو يتوب من هذا الفعل القبيح.
وهذا الأمر لم يكن متعارفاً عليه في حكومة بني أُميّة مع جورها، لأن بني أميَّة لم تدّعِ مثل هذا الأمر مع علم الأُمّة أنهم لا حق لهم في خلافة المسلمين، ولكن طلاب الدنيا وأهل الأهواء والشهوات تابعوهم على ذلك، والقرآن عرفهم بالشجرة الملعونة، كما حكى حالهم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عند ذكر الرؤيا التي أراها الله له وهم ينزون على منبره نزو القرد ة .[انظر: تفسير القرطبي، ج۱۰ ص۲۸۳؛ فتح القدير، الشوكاني، ج۳ ص۲۳۸، تهذيب المقال، السيد محمد علي الأبطحي، ج۳ ص۱۵۷؛ تاريخ مدينة دمشق، ج۵۷ ص۲۶۶؛ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج۲ ص۱۰۸؛ البداية والنهاية، ابن كثير، ج۸ ص۲۸۴، تقوية الإيمان، ابن عقيل، ص۲۶۰٫]
وقد نخر هذا الفعل جسد الأُمّة وأنهك قواها، وأضعف كيانها، حتى أصبحت مسرحاً للثورات والانقلابات السياسية والدينية، وأرضية مناسبة لظهور الكثير من الفرق والمذاهب والمدارس المنحرفة، فباتت الأمة على وشك الانهيار والهلاك تلفظ آخر أنفاسها، خصوصاً في الفترة التي عاش فيها الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام)، وكان من نتائج تأزم هذا الوضع ظهور بعض الأمور، من قبيل:
أولاً: تعاطف المسلمين مع أهل البيت (عليهم السلام)
لقد أظهرت الأُمّة بعد كشف مؤامرة غصب الخلافة الشرعية من أهلها، ولاءها ومحبتها وتعاطفها مع أئمة أهل البيت الشرعيين، بالشكل الذي دعى ملوك بني العباس إلى تغيير سياستهم العدائية ضد أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً في زمن الإمام الرضا (عليه السلام) حينما دعوه للمشاركة معهم في الحكومة آنذاك، وعندما لم يجد الإمام بدّاً من ذلك قَبِلَ بولاية العهد في زمن خلافة المأمون بن هارون، كلّ ذلك ناتج من طبيعة معاملة وسيرة أهل البيت عليهم السلام مع الأُمّة التي قامت على أساس التآلف وإظهار المودة والمحبة والعطف على الأُمّة، وهذه السيرة لم تكن جديدة على أهل البيت عليهم السلام، بل كانت هذه سجيتهم، وكمال أنفسهم، ومقامهم عند الله تعالى وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وعند الأمة.
وقد اعترف هارون عدو وقاتل الإمام الكاظم (عليه السلام) بالسم، وذلك حينما قال له: (أنت الذي تبايعك الناس سرّاً) [الإتحاف بحب الأشراف، ص۵۵، الصواعق المحرقة، ص۳۲۳، خلاصة عبقات الأنوار، السيد حامد النقوي، ج۴ ص۳۳۴٫]
وكان ذلك الأمر باعثاً على غضب هارون ونقمته وجريمته النكراء التي ارتكبها ضد الإمام الكاظم (عليه السلام)، وقد عاش الإمام الرضا (عليه السلام)، والإمام الرِّضا (عليه السلام) يرى بأم عينة ظلم هارون لأبيه الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكيف زجّه في السجن الطويل الذي انتهى بتسميمه وهو في سجن السندي بن شاهِك بعد تعرضه لمرات عديدة للاعتقال والسجن من قبل هارون وعملائه.
ثانياً: توالي الثورات والانتفاضات على الحكومة
لقد حظي عصر الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) بكثرة الانقلابات والثورات بين الحين والآخر، وكانت أغلب هذه الثورات مؤيدة من قبل الإمامين (عليهما السلام) لما عانته الأُمّة من آلام كبيرة نتيجة جور بني العباس وفسادهم الديني والأخلاقي والسياسي، كثورة الحسين بن علي بن الحسن بن الإمام الحسن (عليه السلام) المعروف بصاحب (فخ) الذي قاد ثورة مسلحّة ضد الوالي العبّاسي في المدينة والتي انتهت بمقتل الحسين الشهيد وأهل بيته (عليهم السلام).
وثورة يحيى بن عبد الله بن الحسن في سنة (۱۷۶هـ )، الذي أعطي الأمان عند الكف عن ثورته بعد محاربته بآلاف الجنود ولم يستطيعوا قهره، وقد فعل ذلك، ولكن غدروا به ولم يفوا له بالوعد والعهد الذي أعطي له، فحبس إلى أن مات في السجن. [انظر: الصواعق المحرقة، ابن حجر، ص۳۰۹٫]
فمن الطبيعي أن تقوم ثورات وانتفاضات عارمة على مثل هذه السياسات الجائرة، ولكن في الوقت الذي تحظى مثل هذه الثورات بمنحة القبول والرضا، هل يعني ذلك أنها لو انتصرت واستلمت سدة الحكم، أن يكون قادتها هم أولي الأمر، وأهل الحل والعقد ؟ أم أن الإمام كان على علم جازم إن أولئك لا يطلبون النصر لأنفسهم، وإنما كان لأجل إزالة الغيوم المكدرة عن وجه الأمة من جهة، ومن جهة أخرى إرجاع الحق إلى أهله من أئمة أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً وأنها قد نالت شرعية القيام بها من إمام زمانها المعصوم والإمام بالحق؟
أقول: من الطبيعي أن تقوم مثل هذه الثورات والانتفاضات الشعبية على هكذا حكام ظلمة لم تكن حكمومتهم بالنص أو باختيار من قبل الأمة، وإنّما كانت نتيجة الانقلابات والثورات على حكومات قد عرفت بفسادها وخيانتها لأبناء الأمة الإسلامية، وبعد ذلك أخذت تقود الأمّة بالإرهاب والقهر، والتوارث فيما بينهم والأمة مغلوب عليها. وهناك شواهد كثيرة تحكي لنا طبيعة التعسف والاستبداد والقهر والطغيان والفساد الذي مارسته حكومة بني العباس وقبلها حكومة بني أُميّة، وإذا لم يكن في بني العباس إلاّ السفاح العباسي لكفى، فكيف وفيهم هارون الذي كان مولعاً بالموسيقى والطرب، بالإضافة إلى قتله الإمام الكاظم عليه السلام، وثلّة كبيرة من المؤمنين، كيحيى بن عبد الله بن الحسن، وحميد بن قحطبة الطائي، ورميه لستين علوياً في البئر حينما كان في طوس، وكثيراً ما كان يتوعد الإمام الرضا عليه السلام بالفتك به كما فتك بأبيه الكاظم عليه السلام بالسم حال وجوده في سجن السندي الذي عانا فيه ما عانا من العذاب النفسي، حتى أنه كان لا يعرف ليله من نهاره، ولم يكن خافياً على الإمام الكاظم عليه السلام.
فقد قال عندما وصله خبر هارون: (ليس عليّ منه بأس )، [قرب الإسناد، الحميري القمي، ص۳۳۰، الخرائج، قطب الدين الراوندي، ج۱ ص۳۱۵٫]
وقال أيضاً عندما دعاه هارون للمثول أمامه: ( لا يدعوني في هذا الوقت إلاّ لداهية، فو الله لا يمكنه أن يعمل بي شيئاً أكرهه)، وفعلاً ثبت ما أخبر به الإمام (عليه السلام)، فما أن دخل على هارون إلاّ قام مرحباً به، وطلب من الإمام أن يكتب حوائجه وحوائج أهله ليقضيها له ولهم، ولما خرج الإمام (عليه السلام) سُئل هارون عن علّة ذلك، فقال: (أردت وأراد الله وما أراد الله خير ).[بحار الأنوار، ج۴۹ ص۱۱۶، المصدر نفسه، ج۹۱ ص۳۴۴٫]
وهكذا بقي الإمام تحت رقابة مُشدّدة من قبل عيون وجواسيس هارون، فكانت تنقل عنه الصغيرة والكبيرة إلى هارون، فكانت حنكته السياسية وسعة معرفته واطلاعه بعواقب الأمور وبحقيقة ما يلزم فعله وما لا يلزم فعله طريقاً؛ لأن يكون شديد الحذر من هارون وجلاوزته القتلة.
وبهذا النحو من السياسة والحنكة والتدبير الصحيح استطاع الإمام (عليه السلام) أن يحفظ وجوده المقدّس، وقد كان لموقفه هذا وقع خاص في نفوس المؤمنين من أبناء الأمّة الإسلامية، ولكن يد الغدر والخيانة لم تتركه يُكّمل مسيرته التي سار بها على أساس مسيرة جده المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله)، حيث كانت قائمة على أساس التوعية والتربية النفسية.
وهكذا قام الإمام الرِّضا (عليه السلام)في العمل على تربية الأمّة وتوعيتها؛ وذلك منذ اللحظة الأولى التي أشرف فيها للدخول لمدينة طوس، وفي منطقة تقرب منها بيّن بصراحة واضحة للجميع أن أساس الحركة التوحيد لا تستمر ولا تثمر من دون الاتكاء والاستناد إلى ركن قويم يتمثّل بالتمسّك بولاية الحق لأهل البيت (عليهم السلام)، فقال معلناً عنها مصرحاً بها،( لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي )، وما أن همّ أن يتحرك حتى أخرج رأسه من المحمل الذي كان فيه، قائلاً: (بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها) [عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق ج۱ ص۱۴۵، ثواب الأعمال، الصدوق ص۷، معاني الأخبار، الصدوق ص۳۷۱٫] وكأنه يريد القول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية )، [العمدة، ابن بطريق، ص۴۷۱، وقريب منه في مسند أحمد، ج۴ ص۹۶، الكافي، ج۱ ص۳۷۷، مجموع الزوائد، الهيثمي، ج۵ ص۲۸۱٫] فمن مات مشركاً أو كافراً مات ميتة جاهلية، ومن مات موحداً ولم يعرف إمام زمانه ـ وأنا من شروطها ـ مات ميتة جاهلية.
ولم يكن للإمام طمع في حب الدنيا وزخارفها كما يتصور البعض أصحاب العقول البسيطة المليئة بالأوهام والخرافات والجاهليات القديمة، أن قبول الإمام الرضا عليه السلام بولاية العهد في حكومة المأمون؛ إنما كان لأجل ذلك، والحق ليس هو كذلك، لأنّه أجلّ من أن يطلب الدنيا للدنيا، أو أن يطلب الدنيا لأجل نفسه، ولكن عندما فرضت عليه ولاية العهد وجدها فرصة مناسبة لأن يطلق صوت الحق من أعلى منابر طوس ليدوّي في ربوع العالم، حيث كانت طوس تضم آلاف العلماء والمجتهدين وطلاب العالم والمعرفة من مختلف المذاهب والطوائف الفكرية والفقهية، وعن طريقها يتم له تسليط الضوء على مسيرته وهدفه عليه السلام، وكيفية تحقيق ذلك تتبين عند قراءة دور الإمام ومكانته الشامخة في مرحلة ما بعد قبول ولاية العهد المطروحة عليه بالقهر من قبل المأمون العباسي.