بحث في وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى

بحث في وجود الغرض والغاية في أفعال اللّه تعالى

کپی کردن لینک

تتناول هذه المقالة مفهوم الغرض والغاية، موضحةً دلالاتهما اللغوية والاصطلاحية في السياق العقائدي، حيث يُنظر إليهما كأهداف وغايات يسعى الفاعل لتحقيقها من خلال أفعاله. كما تستعرض المقالة وجود الغرض والغاية في أفعال الله تعالى، مشددةً على أن الله لا يفعل شيئًا إلا لحكمة مقصودة. تُقدم الأدلة العقلية والنقلية التي تدعم هذا المفهوم، بالإضافة إلى مناقشة الغرض من خلق الإنسان. كما تتطرق إلى آراء الأشاعرة حول هذه القضية، مقدمةً تحليلًا نقديًا لأدلتهم.

المبحث الأوّل: معنى الغرض والغاية

في اللغة الغرض هو الهدف والقصد، والغاية هي أقصى الشيء ومنتهاه[1]. وفي الاصطلاح العقائدي يطلق الغرض والغاية اصطلاحاً على الشيء الذي يقصده الفاعل المختار من وراء عمله، وهي الفائدة التي ينظر إليها الفاعل قبل قيامه بالفعل، ثمّ يجعل الفعل وسيلة للظفر بتلك الفائدة، وهذه الفائدة التي يطلق عليها الغرض والغاية تصبح الهدف للقيام بالفعل، وهي التي يؤدّي الفاعل فعله من أجل الوصول إليها.

تنبيه: إنّ المراد من الغرض والغاية ليس الهدف والمقصود فحسب، بل المراد الهدف والمقصود النافع الذي يستحق عقلا القيام بالفعل من أجل تحقّقه، ومن هذا المنطلق، إذا قام شخص بفعل له هدف، ولكن لم يكن لهذا الفعل هدف عقلائي، فسيقول العقلاء حول هذا الفعل: إنّه عبث، ويتسامحون أحياناً في التعبير فيقولون: إنّه من دون هدف، أي: أ نّه ليس له هدف ذو قيمة.

المبحث الثاني: وجود الغرض والغاية في أفعال الله

إنّ اللّه تعالى لا يفعل شيئاً إلاّ لغرض وغاية وحكمة مقصودة.

تنبيهات

1- إنّ غرض الفعل الإلهي قد يكون واضحاً لعباده وقد يكون خفيّاً، ولكنّه تعالى في جميع الأحوال لا يفعل إلاّ لغرض وغاية وحكمة مقصودة.

2- إنّ غرض الفعل الإلهي يقتصر على نفع الغير لا إضراره، لأنّ الإضرار قبيح، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح.

3- إنّ غرض الفعل الإلهي لا يعود على اللّه تعالى بالمنفعة، لأ نّه تعالى غني بالذات وكامل من جميع الجهات، وهو غير محتاج لشيء، وإنّما تعود منفعة الغرض والغاية للمخلوقات.

المبحث الثالث: أدلة وجود الغرض والغاية في أفعال الله

الأدلة العقلية

1- إنّ نفي الغرض والغاية عن أفعاله تعالى يتنافى مع حكمته تعالى، لأنّ فعل الشيء من دون غرض أو غاية عبث، والحكيم لا يصدر منه العبث.

2 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي: عدم قصده تعالى جميع المنافع التي جعلها الله تعالى منوطة بالأشياء، فلا يكون خلق العين للإبصار، ولا خلق الأُذن للسماع، ولا اليد للعمل، ولا الرجل للمشي، بل يكون خلق جميع هذه الجوارح والأعضاء عبثاً، وهذا خلاف الواقع.

3 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي: عدم الجزم بصدق دعوى الأنبياء، لأنّ من أدلة إثبات صدق النبوّة: إظهار اللّه المعجزة على يدّ مدّعي النبوّة، فلو أنكرنا وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي، فسيكون إظهار اللّه المعجزة على يدّ النبي لغير غرض وغاية، ولا يكون غرض وغاية اللّه من هذه المعجزة إثبات صدق ادّعاء النبوّة.

فيكون النبي ـ في هذه الحالة ـ كاذباً في ادّعائه بأنّ اللّه تعالى أظهر على يده المعجزة لغرض التصديق به، لأنّ لقائل أن يقول له: بأنّ أفعال اللّه ليس لها غرض وغاية، والمعجزة من فعل الله، فكيف أصبح لها غرض وغاية لتدّعي أنّ الغرض والغاية منها إثبات نبوّتك؟ فلا يكون ـ بعد هذا ـ سبيل لتصديق دعوى الأنبياء، وهذا باطل.

4 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن فعله تعالى أن لا تكون: إثابة اللّه المطيع لطاعته، ولا معاقبة اللّه العاصي لعصيانه، بل يكون ثواب اللّه تعالى وعقابه من دون غرض، فلهذا لا يكون عند اللّه فرقٌ بين المؤمن وبين الكافر في الثواب والعقاب، وهذا ما ينافي العدل الإلهي.

5 ـ يلزم نفي الغرض والغاية عن الفعل الإلهي: أن يكون تكليفه تعالى للعباد لغير إفادتهم في الدنيا أو الآخرة، فيكون اللّه عزّ وجلّ ظالماً للعباد، وهو تعالى منزّه عن ذلك.

6- يلزم نفي الغرض والغاية في الفعل الإلهي مخالفة الكتاب العزيز وتكذيب القرآن الكريم، لأنّ اللّه تعالى بيّن في محكم كتابه العديد من الآيات الدالة على وجود الغرض والغاية في أفعاله تعالى.

الآيات القرآنية الدالة على وجود الغرض والغاية في أفعال الله

القسم الأوّل: الآيات العامة

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ[2]،[3]، 2- وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ[4]* ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ[5]، 3- وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً[6]،[7]، أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً[8]،[9].

القسم الثاني: الآيات الخاصة

إنّ هذه الآيات تضمّنت تعيين غرض وغاية لبعض أفعال اللّه تعالى، ومن هذه الآيات:

وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ[10]،إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ[11]،وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[12]، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها[13]، 5- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ[14]،هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[15]،مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ[16].

8- لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ[17]، 9- فَبِظُلْم مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً[18]، 10- كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ[19]، 11ـ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً[20]، 12ـ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً[21]، 13ـ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً[22]، 14ـ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ[23]، 15ـ لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى[24]، 16ـ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا[25]، 17ـ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى[26].

المبحث الرابع: غرض وغاية الله من خلق الإنسان

1ـ الرحمة: قال الله تعالى: إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ[27]، وقال الإمام جعفر الصادق (ع) حول تفسير هذه الآية: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبوا به رحمته، فيرحمهم[28].

2ـ العبادة: قال الله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ[29].

3 ـ المعرفة: ورد في الحديث القدسي المشهور: كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف[30].

وورد عن الإمام الحسين (ع): إنّ اللّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه[31].

4ـ إظهار قدرته وحكمته: سُئل الإمام جعفر الصادق (ع): لِمَ خلق اللّه الخلق؟ فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته، فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد[32].

وفي حديث آخر: سُئل الإمام الصادق (ع): لأيّ علّة خلق اللّه عزّ وجلّ الخلق وهو غير محتاج إليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث بنا؟ قال (ع): خلقهم لإظهار حكمته[33].

النتيجة: إنّ اللّه تعالى خلق العباد إظهاراً لقدرته وحكمته، وخلقهم ليرحمهم، فكلّفهم بمعرفته والإقرار بوجوده والامتثال لأوامره ونواهيه، ليكون التزامهم الاختياري بهذا التكليف سبباً لمعيشتهم في ظل الرحمة الإلهية المتمثّلة بجنة النعيم التي أعدّها للمتقين والرضوان الإلهي الذي أعدّه لأصحاب الدرجات العليا.

تنبيهان

1ـ خلق اللّه تعالى الأرض والسماء لأجل الإنسان، وذلك لقوله تعالى: أوّلا: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[34]، ثانياً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ[35].

2- إنّ الغرض والغاية من خلقه تعالى للبشر ـ كما ذكرنا ـ هو التكليف بالعبادة من أجل التكامل ونيل الرحمة الإلهية، ولكن البعض من الناس لا تتوفّر لهم الأجواء المناسبة في هذه الدنيا لاجتياز مرحلة الاختبار الإلهي، وهؤلاء من قبيل الأطفال الذين يموتون قبل البلوغ، أو المجانين، أو غيرهم ممن لم تتوفّر فيهم شروط التكليف في هذه الدنيا، ولهذا يؤخّر اللّه تعالى اختبار هؤلاء، ويجعله في يوم القيامة، ليحدّد هؤلاء مصيرهم في ذلك الموقف، ويعيّنوا اتّجاههم إلى الجنة أو النار.

المبحث الخامس: مناقشة رأي الأشاعرة حول غرض وغاية الفعل الإلهي

رأي الأشاعرة: إنّ أفعال اللّه تعالى ليست معلّلة بالأغراض. أدلة الأشاعرة على إنكار وجود الغرض في أفعال الله تعالى:

 

الدليل الأوّل:

 لو كان لفعله تعالى غرض، لزم أن يكون الباري عزّوجلّ ناقصاً بذاته ومستكملا بتحصيل ذلك الغرض، ولكن اللّه تعالى غني بذاته، ولايجوز له الاستكمال، ويرد عليه:

1- إنّ الاستكمال يكون فيما لو كانت أغراض وغايات الفعل الإلهي تعود على اللّه تعالى بالمنفعة، ولكن الأمر ليس كذلك، وإنّ منفعة هذه الأغراض والغايات تعود للمخلوقات، فلهذا لا يلزم وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي الاستكمال له تعالى.

تنبيه: قد لا يكون الغرض من الفعل الإلهي منفعة العبد، وإنّما يكون ذلك لاقتضاء نظام الوجود.

مثال ذلك: إنّ من أمثلة اقتضاء نظام الوجود: خلود أهل النار في النار، لأنّ خلودهم لا نفع فيه لهم، ولكنه من قبيل اقتضاء أعمالهم السيئة، لأنّ الإنسان يخلّد في الآخرة مع أعماله التي قام بها في الدنيا، والأعمال السيئة تتحوّل إلى نار، فيعيش معها، وبعبارة أُخرى: إنّ منشأ خطأ الأشاعرة هو الخلط بين:

أ ـ غاية الفاعل، ب ـ غاية الفعل، والمنفى عنه تعالى هو غاية الفاعل، لأنّ وجود الغاية للفاعل تعني: أنّ الفاعل ناقص، فيصل إلى الكمال عن طريق الغاية، وهذا لا يجوز بالنسبة إلى اللّه تعالى، والثابت للّه تعالى هو غاية الفعل، وهذا لا يستلزم وجوده النقص للّه تعالى، بل يؤدّي إلى نفي العبث عن أفعاله تعالى.

2 ـ إنّ احتياج الفعل الإلهي إلى الغرض والغاية ليس من قبيل: الاحتياج الدال على نقصه تعالى،

بل هو من قبيل: احتياجه تعالى في كونه رازقاً إلى مَن يرزقه، وهذا الاحتياج ليس نقصاً، والأصح عدم تسميته احتياجاً، بل هو شرط من شروط وجود الفعل أو شروط كماله، فمن شروط كونه تعالى رازقاً أن يكون في الواقع الخارجي مَن يرزقه، ومن شروط كمال الفعل الإلهي أن يكون هذا الفعل ذا غرض وغاية حكيمة.

 

الدليل الثاني: إنّ أداء الفعل من أجل الغرض والغاية يعني الوقوع تحت تأثيرها، فيكون اللّه تعالى محكوماً لا حاكماً، واللّه تعالى منزّه عن المحكومية.

يرد عليه: إنّ وجود الغرض والغاية لا يعني وجود عامل خارجي يجعل اللّه تعالى متأثّراً بهذا العامل ومحكوماً ومقيّداً به، بل يعني ذلك: أنّ مقتضى كماله تعالى وحكمته أن يكون فعله ذا غرض وغاية حكيمة.

بعبارة أُخرى: إنّ وجود الغرض والغاية في فعله تعالى لا يعني كون الغرض والغاية قيداً لهذا الفعل، وإنّما يكون وجود الغرض والغاية من شروط كمال الفعل الإلهي، لأنّ الفعل الفاقد للغرض والغاية يكون فعلا متّصفاً بالعبث واللغو، واللّه تعالى منزّه عن ذلك.

 

الدليل الثالث: إنّ القول بوجود الغرض في الفعل الإلهي يعني: عدم حصول الفعل الإلهي إلاّ بتوسّط الغرض، وعدم حصول الفعل الإلهي إلاّ تبعاً للغرض، ولكن اللّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ومن دون توسّط شيء.

يرد عليه: إنّ غرض الفعل الإلهي ليس شيئاً خارجاً ومنفصلا عن وجود فعله تعالى ليكون واسطة لتحقّق الفعل الإلهي، وإنّما الغرض هنا عبارة عن الأمر الذي يُخرج الفعل من العبث واللغو، وهذا الأمر عبارة عن:

1ـ الحكمة الكامنة في هذا الفعل، 2ـ الأهداف المطلوبة من هذا الفعل.

مثال: إنّ الغرض والغاية من خلقه تعالى للعالم ليس أمراً خارجاً عن وجود هذا العالم، بل هو عبارة عن:

1ـ الحكمة الكامنة في خلق هذا العالم، 2ـ الأهداف المطلوبة من خلق هذا العالم، وهذه الحكمة وهذه الأهداف هي بلوغ العالم بأجزائه إلى الكمال الممكن، وهذا الكمال خصوصية موجودة في نفس العالم، وليس الغرض والغاية الإلهية هنا شيئاً مفصولا وخارجاً عن خلقه تعالى للعالم، ولهذا لا يوجد أي تناف بين الأمرين التاليين:

1ـ وجود الغرض والغاية في الفعل الإلهي، 2ـ فعل اللّه الأشياء ابتداءً ومن دون توسّط شيء خارج عنها.

 

الدليل الرابع: لو قلنا بضرورة وجود الغرض في جميع الأفعال الإلهية، فينبغي القول بأنّ هذا الغرض أيضاً يجب أن يكون له ـ حسب هذه القاعدة ـ غرض آخر، ومن هنا تتسلسل الأغراض إلى ما لا نهاية لها، فنضطر إلى الاعتراف بانتهاء أفعاله تعالى إلى فعل لا غرض له، فيثبت وجود فعل إلهي ليس له غرض، وهذا يتنافى مع قاعدة ضرورة وجود الغرض لجميع الأفعال الإلهية.

يرد عليه: إنّ الغرض لا يحتاج إلى غرض آخر، وعندما نقول: إنّ الغرض من التكامل هو حسن التكامل، هذا الحُسن لا يحتاج إلى غرض يحسّنه، بل هو حسن بذاته، ويكون الغرض منه نفس وجوده.

 

الدليل الخامس: إنّ بعض الآيات القرآنية تدل على نفي وجود الغرض في الفعل الإلهي منها:

لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ[36]، ويلاحظ عليه: إنّ هذه الآية لا تدل على نفي وجود الغرض في الفعل الإلهي، بل تدل على:

أوّلا: عدم وجود آمر وناه عليه تعالى حتّى يسأله عن فعله كما يُسأل الناس عن أفعالهم.

ثانياً: لا معنى للسؤال عن فعله تعالى، لأ نّه حكيم، ولا يفعل إلاّ ما تقتضيه الحكمة.

سُئل الإمام محمّد بن علي الباقر (ع) حول أفعاله تعالى: كيف لا يُسأل عما يفعل؟ قال (ع): لأنّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة وصواباً[37].

يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ[38]، يَحْكُمُ ما يُرِيدُ[39]، ويلاحظ عليه: إنّ مفاد هاتين الآيتين إطلاق مشيئته تعالى وإرادته، وليس فيهما أيّة دلالة على عدم وجود الغرض والغاية في فعله تعالى وحُكمه.

فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ[40]، ويلاحظ عليه: غنى الله تعالى يعني الغنى عن الغرض والغاية التي تعود بالمنفعة إليه تعالى، ولكن الأغراض والغايات الإلهية ـ في الواقع ـ لا تعود بالمنفعة إليه تعالى، وإنّما تعود بالمنفعة إلى غير اللّه عزّ وجلّ، وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الأغراض والغايات التي تعود بالمنفعة إلى غير اللّه تعالى.

رأي التفتازاني حول وجود الغرض والغاية في أفعال الله تعالى: اختار التفتازاني قولا وسطاً بين العدلية والأشاعرة، وهو تعليل بعض أفعاله تعالى بالغاية دون الجميع فقال: والحقّ أنّ تعليل بعض الأفعال لاسيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك، والنصوص أيضاً شاهدة بذلك … وأمّا تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله تعالى عن غرض فمحل بحث[41].

يلاحظ عليه: إنّ مسألة الغرض والغاية ليست من التعبّديات ليمكننا الاقتصار على الأدلة النقلية فقط، بل هي من الأُمور العقلية، وملاكها لزوم وجود العبث في الفعل الإلهي فيما لو نفينا الغرض عن أفعاله تعالى، وهذا يعمّ التكوين والتشريع سواء علمنا بالغاية أم لا.

تنبيه: قالت الأشاعرة في الصعيد الفقهي بحجّية القياس، ولا يخفى بأنّ القياس لا يثبت إلاّ بعد الاعتقاد بوجود الغرض الإلهي في تشريعه تعالى لكلّ موضوع، ليمكن قياس الموضوع الآخر عليه، وتسرية الحكم الشرعي من الموضوع الأصلي إليه، وهذا القول يتنافى مع رأيهم في الصعيد العقائدي ويتنافى مع قولهم بعدم وجود الغرض في الأفعال الإلهية.

الاستنتاج

نستنتج أن الغرض والغاية يمثلان مفهوميْن أساسيين في فهم الأفعال الإلهية والوجود الإنساني. توضح المقالة أن الله لا يفعل شيئًا عبثًا، بل لكل فعل غرض وحكمة مقصودة، مما يعكس كماله وحكمته. كما تُبرز الأدلة العقلية والنقلية التي تدعم وجود الغرض في أفعال الله، مما يتعارض مع آراء الأشاعرة التي تنفي ذلك. تُبين المقالة أيضًا أن الغرض من خلق الإنسان هو لتحقيق المعرفة والعبادة، ولإظهار رحمة الله وحكمته.

الهوامش

[1] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة غرض وغيا.

[2] كلمة الحقّ في هذه الآية تعني: الفعل ذو الهدف القيّم اللائق بالفاعل.

[3] الأنعام، 73.

[4] اللعب عبارة عن مجموعة حركات منظّمة تودّى من أجل هدف يرضي خيال الإنسان فقط، ولا تكون للنتيجة حقيقة واقعية.

[5] الدخان، 38 ـ 39.

[6] كلمة الباطل في هذه الآية تعني: الفعل الفاقد للهدف القيّم اللائق بالفاعل .

[7] آل عمران، 191.

[8] العبث هو الفعل الفاقد للهدف الصحيح.

[9] المؤمنون، 115.

[10] الذاريات، 56.

[11] هود، 119.

[12] هود، 7.

[13] الأنعام، 97.

[14] يونس، 5.

[15] البقرة، 29.

[16] المائدة، 32.

[17] المائدة، 78.

[18] النساء، 160.

[19] إبراهيم، 1.

[20] الحاقة، 12.

[21] الفرقان، 49.

[22] النبأ، 15.

[23] محمّد، 31.

[24] طه، 15.

[25] الإسراء، 1.

[26] طه، 23.

[27] هود، 119.

[28] الصدوق، التوحيد، باب 12، ح10، ص392.

[29] الذاريات، 56.

[30] هذا الحديث مجهول السند، ولكن معناه صحيح، وهو مستفاد من قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ، أي: ليعرفوني كما فسّره ابن عباس.

[31] الصدوق، علل الشرائع، باب 9، ح1، ص9.

[32] الصدوق، علل الشرائع، باب 9، ح2، ص9.

[33] الطبرسي، الاحتجاج، احتجاجات الإمام الصادق (ع)، احتجاج رقم 223، ص217.

[34] البقرة، 29.

[35] البقرة، 22.

[36] الأنبياء، 23.

[37] الصدوق، التوحيد، باب 61، ح13، ص386.

[38] إبراهيم، 27.

[39] المائدة، 1.

[40] إبراهيم، 8.

[41] التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، مقصد 5، فصل 5، مبحث 5، ص302.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه‍.

3ـ التفتازاني، سعد الدين، شرح المقاصد، تحقيق عبد الرحمن عميرة، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1412 ه‍.

4ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

5ـ الصدوق، محمّد، علل الشرائع، النجف، منشورات المكتبة الحيدرية، طبعة 1385 ه‍.

6ـ الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، العدل عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، طبعة 1432ه‍. ص89-108