تربية الإمام الحسن المجتبى (ع)

2015-01-20

479 بازدید

مقدمة :

يحتاج الطفل – أي طفل – إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته ، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه .

ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقاها ، والحضارة التي يتطبع عليها ، والتربية التي ينشأ عليها .

إنه عالم قائم بنفسه ، يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغّرة ، في صخبها وأمنها ، في سعادتها وشقائها ، في ذكائها وبلادتها ، في صفائها وحقدها ، في تفوّقها وتأخّرها ، في إيمانها وجحودها ، في حربها وسلمها ، إلخ .

وهذا ما أشغل العلماء والباحثين ، فراحوا يعدون البحوث ، ويلقون المحاضرات ، ويؤلفون الكتب ، ويوردون النظريات في مسألة ( تربية الطفل ) .

ونشأ من بينهم عِدَّة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه ، ورأى عكس ذلك آخرون .

فأرجعوا كل أنماط السلوك الفردي والإجتماعي إلى البيئة والمحيط ، والتربية والتنشئة ، وأنكروا كل أثر إلى الوراثة ينسب .

وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلا وجدته إلى إحدى المدرستين يميل ، وعن أحد الرأيين يدافع ، مفنداً الرأي الآخر .

ولعلك تسأل : أي الرأيين أصح ؟ وأي العاملين في سلوك الطفل أهم : الوراثة أم التربية ؟!

فبدلاً من أن نجيبك على سؤالك هذا ، نسأل بدورنا أيضاً : أيهما أهم للسيارة : المحرك ، أم الوقود ؟! هذه هي مشكلة التربية .

وسنلقي الضوء في السطور القادمة على الآثار المترتبة لسيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) من خلال هذين الجانبين المهمين .

الأول : الوراثة :

ليس هناك من شك بأن للوراثة أثرها الكبير في صياغة الفرد صياغة مكيَّفة بالبيئة التي انبعث منها وخلق فيها .

وبيتُ أبناء أبي طالب ، كان خير البيوت لإنشاء الإنسان الكامل ، فكيف وقد وُلد الحسن ( عليه السلام ) من عبد المطلب مرّتين ، مرة من علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وأخرى من فاطمة ( عليها السلام ) بنت النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) بن عبد الله بن عبد المطلب ؟ .

كما كان علي ( عليه السلام ) مولوداً عن هاشم مرّتين ، ولا نريد أن نشرح مآثر بيت هاشم ، وبالخصوص أسرة عبد المطلب فيهم ، فإنها ملأت السهل والجبل ، بل نقول : ناهيك عن بيت بزغ منه الرسول الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، والوصي العظيم الإمام علي ( عليه السلام ) .

وحسب علمِ حساب الوراثة أن التأثير قد يكون من جهة الأب ، فيستصحب كلَّ سماته وصفاته ، وقد يكون من جانب الأم ، وقد تحقق في الحسن ( عليه السلام ) هذا الأخير .

فقد برزت فيه سمات أمّه الطاهرة لتعكس صفات والدها العظيم محمد (ص) ، فكان أشبه ما يكون بالنبي منه بالإمام ، وطالما كان يطلق النبي قوله الكريم : ( الحسن منّي والحسين من علي ) .

وقد يمكن أن نجد تفسيراً لهذه الكلمة في الأحداث التي جرت بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وطبيعة الظروف التي قضت عند الحسن ( عليه السلام ) أن يتخذ منهج الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أُسوةً له ، دقيقة التطبيق شاملة التوفيق .

فيعطي ( عليه السلام ) الناس من عفوه وصفحه ، ويعطي أعداءه من صُلحه ورِفقه ، مثلما كان يعطي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تماماً .

كما اقتضت عند الحسين ( عليه السلام ) أن يبالغ في شِدَّته في الدين ، وغيرته عليه ، ويبدي من منعته ورفعته في أموره ، ما جعـل تشابهاً كبيراً بينه وبين عهد علي ( عليه السلام ) مع المشركين والكافرين والضالين .

الثاني : التربية :

لقد أولى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، والوصي ( عليه السلام ) ، والزهراء ( عليها السلام ) ، من التربية الإسلامية الصالحة ما أهَّل الإمام الحسن ( عليه السلام ) للقيادة الكبرى .

فإن بيت الرسالة كان يربّي الحسن ( عليه السلام ) وهو يعلم ما سوف يكون له من المنزلة في المجتمع الإسلامي ، كما يوضح للمؤمنين منزلته وكرامته .

فكان النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) يرفعه على صدره ، ثم يقيمه لكي يكون منتصباً ، ويأخذ بيديه يجره إلى طرف وجهه الكريم جرَّاً خفيفاً وهو ينشد قائلاً : ( حزقَّةً حزقَّة تَرَقَّ عينَ بَقَّة ) .

ومعنى الحزقَّة : القصير الذي يقارب الخطو .

فكان ( صلى الله عليه وآله ) يلاطفه ويداعبه ، ثم يروح يدعو : ( اللَّهُمَّ إني أُحبه فأَحبَّ من يُحبه ) .

ويقصد ( صلى الله عليه وآله ) أن يسمع الناس من أتباعه لكي تمضي سيرتُه فيه أسوة للمؤمنين ، بكرامة الحسن ( عليه السلام ) واحترامه .

وذات مرة كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يصلي بالمسلمين في المسجد ، فيسجد ويسجدون ، يرددون في خضوع : سبحان ربي الأعلى وبحمده ، مرة بعد مرة ، ثم ينتظرون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن يرفع رأسه ولكن النبيَّ يطيل سجوده ، وهم يتعجبون : ماذا حدث ؟ .

ولولا أنهم يسمعون صوت النبي لايزال يَبعث الهيبة والضراعة في المسجد لظنوا شيئاً .

ولا يزالون كذلك حتى يرفع النبي ( صلى الله عليه وآله ) رأسه ، وتتم الصلاة ، وهم في أحَرِّ الشوق إلى معرفة سبب إبطائه في السجود فيقول لهم : ( جاءَ الحسنُ فركبَ عُنقي ، فأشفقت عليه من أن أُنزله قسراً ، فصبرت حتى نزل اختياراً ) .

وحيناً : يصعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) المنبر ويعظ الناس ويرشدهم ، فيأتي الحسنان ( عليهما السلام ) من جانب المسجد فيتعثَّران بـثَوْبَيهما ، فإذا به ( صلى الله عليه وآله ) يهبط من المنبر مسرعاً إليهما حتى يأخذهما إلى المنبر ، يجعل أحدهما على وركه اليمنى ، والآخر على اليسرى ، ويستمر قائلاً : ( صدق الله ورسوله : ( أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) الأنفال : ۲۸ .

نظرت إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) .

وكان ( صلى الله عليه وآله ) يصطحبهما في بعض أسفاره القريبة ، ويُردفهما على بغلته من قُدَّامه ومن خَلْفه ، لئلا يشتاق إليهما فلا يجدهما ، أو لئلا يشتاقا إليه فلا يجدانه .

وكان ( صلى الله عليه وآله ) يشيد بذكرهما ( عليهما السلام ) في كلِّ مناسبة ، ويظهر كرامتهما إعلاناً أو تنويهاً .

فقد أخذهما ( صلى الله عليه وآله ) معه يوم المباهلة ، وأخذ أباهما ( عليه السلام ) ، وأمّهما ( عليها السلام ) ، فظهر من ساطع برهانهم جميعاً ما أذهل الأساقفة .

ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دار فاطمة ( عليها السلام ) ، وسَلَّم ثلاثاً على عادته في كلِّ دار ، فلم يجبه أحد .

فانصرف إلى فناء ، فقعد في جماعة من أصحابه ، ثم جاء الحسن ( عليه السلام ) ووثب في حبوة جَدِّه ، فالتزمه جدُّه .

ثم قبَّله في فيه ، ثم راح يقول : ( الحَسَن مِنِّي والحسينُ مِن عَلي ) .

وكثيراً ما كان الناس يتعجبون من صنع الرسول هذا ، كيف يعلنها لإبْنَيهِ إعلاناً .

فذات مرَّة شاهده أحد أصحابه وهو ( صلى الله عليه وآله ) يقبل الحسن ويشمُّه ، فقال – وقد كره الصحابي هذا العمل – : إن لي عشرة ما قبَّلت واحداً منهم .

فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَن لا يَرحَم لا يُرحَم ) .

وفي رواية حفص قال : فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى التمع لونه ، وقال للرجل : ( إن كان الله نزع الرحمة من قَلبِك ما أصنع بك ؟ ) .

ثم لما رأى مناسبة سانحة أردف قائلاً : ( الحسن والحسين ابناي ، مَن أَحبَّهما أحبَّنِي ومن أحبَّني أحبه الله ، ومن أحبه الله أدخله الجنة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار ) .

ثم أخذهما هذا عن اليمين ، وذاك عن الشمال ، مبالغة في الحب .

ولطالما كان يسمع الصحابة قولته الكريمة : ( هذان ابناي وابنا بنتي ، اللَّهُمَّ إني أُحبهما ، وأُحب من يُحبُّهما ) .

أو كلمته العظيمة يقولها وهو يشير إلى الحسن ( عليه السلام ) : ( وأُحبُّ مَن يُحبُّه ) .

ويرى أبو هريرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد وفاة جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيقول له : أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل ، ثمّ قبّل سرّته .

ومن ذلك يظهر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يعلن ذلك إعلاناً ، حتى يراه الناس جميعاً .

وقد بالغ النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) في مدح الحسنين ، حتى لكان يُظن أنهما أفضل من والدهما علي ( عليه السلام ) ، ممّا حدا به إلى أن يستدرك ذلك فيقول : ( هُمَا فاضلان في الدنيا والآخرة ، وأبوهُمَا خَيرٌ مِنهُما ) .

وطالما كان يرفعهما على كتفيه ، يذرع معهما طرقات المدينة ، والناس يشهدون ، ويقول لهما : ( نِعْمَ الْجَمل جَمَلُكما ، ونِعْمَ الراكبان أنتما ) .

وطالما كان ينادي الناس فيقول ( صلى الله عليه وآله ) : ( الحَسَنُ والحُسَين سيدا شباب أهل الجنة ) .

أو يقول ( صلى الله عليه وآله ) : ( الحَسن والحسين رَيحَانَتَاي مِن الدنيا ) .

أو يقول ( صلى الله عليه وآله ) : ( الحَسنُ والحُسين إِمامان إنْ قَاما وإِن قَعَدا ) .

ولقد قال ( صلى الله عليه وآله ) مَرَّة : ( إذا كان يوم القيامة ، زُيِّن عرشُ رَبِّ العالمين بكلِّ زينة ، ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مِائة ميل ، فيوضع أحدهما عن يمين العرش ، والآخر عن يسار العرش ، ثم يؤتى بالحسن والحسين ، فيقوم الحسن على أحدهما ، والحسين على الآخر ، يزيِّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه ، كما يُزَيِّنُ المرأةَ قرطاها).

وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الوَلَدُ رَيحانة ، وَرَيحانَتَاي الحسن والحسين ) .

وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من أحبَّ الحَسَن والحسين فقد أحَبَّني ، ومن أبغضهُمَا فقد أبغَضَني ) .

وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : ( الحَسَنُ والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة ) .

وروى عمران بن حصين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال له : ( يا عمران بن حصين ، إن لكلِّ شيء موقعاً من القلب ، وما وقع موقع هذين من قلبي شيء قط ) .

فقلت : كل هذا يا رسول الله ؟!!

قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( يا عمران ، وما خفي عليك أكثر ، إن الله أمَرَني بِحُبّهما ) .

وروى أبو ذر الغفاري قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقبِّل الحسن بن علي ( عليهما السلام ) وهو يقول : ( من أحب الحسن والحسين وذُرِّيتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه ، ولو كانت ذُنُوبه بعدد رمل عالج ، إلاَّ أن يكون ذنباً يخرجه من الإيمان ) .

وروى سلمان فقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول في الحسن والحسين ( عليهما السلام ) : ( اللَّهُمَّ إنِّي أُحبُّهما ، فأَحبَّهما ، وأَحبِبْ من أحبَّهما ) .

وما إلى ذلك من أقوال مضيئة نعلم – علم اليقين – أنها لم تكن صادرة عن نفسه ، بل عن الوحي الذي لم يكن ينطق إلاَّ به .

ولا زالت عناية الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تشمل الوليد حتى شبَّ ، وقد أخذ من منبع الخير ومآثره ، فكان أهلاً لقيادة المسلمين .

وهكذا رآه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ومن قبله إله الرسول ، إذ أوحى إليه أن يستخلف عليّاً ، ثم حسناً وحسيناً.

فطفق يأمر الناس بمودَّتهم واتِّباعهم واتخاذ سبيلهم ، ولئِنْ شككنا في شيء فلن نشكَّ في أن من رَبَّاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، كان أولى الناس بخلافته .

الكاتب: السيد محمد تقي المدرسي