ما يتحصل من القرآن الكريم بشأن عبادة البشر ، أن أكمل وصف للإنسان وأبرزه انه عبد الله . ومَرد ذلك ان كمال أي موجود يتمثل بحركته على أساس نظامه التكويني . وما دام هذا الموجود يفتقر إلى المعرفة الكاملة بمسير تلك الحركة وهدفها ، فينبغي أن يرشده الله ويهديه ، ويبيّن له حقيقة الإنسان والكون وطبيعة العلاقة فيما بينهما .
ان علاقة الإنسان بمختلف الظواهر من جهة ، وجهله بكيفية هذه العلائق من جهة أخرى ، هما اللذان يحتمان ضرورة هداية الإنسان وإرشاده من قبل العالِم المطلق.
وإذا عين الإنسان هذا الطريق بشكل سليم وصار عبداً لله ، وآمن بولاية الله ومولويته ـ وهو المطلع على جميع هذه الشؤون ـ فعندئذٍ سيبلغ أفضل صيغ الكمال. لذلك كله نجد أن أهم كمال يعرضه الله ( سبحانه ) في القرآن الكريم هو العبودية : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) ( ۱ ) .
وكما انَّ الاسراء والمعراج قائمان على أساس العبودية ، فكذلك نزول الكتاب الإلهي ، فإذا ما أراد الإنسان أن يكون له اسراء أو معراج ، وان يكون قلبه مهبطاً للوحي، فينبغي له أن ينطلق من منصة العبودية .
وهكذا تقوم : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) ( ۲ ) على أساس العبودية ، كما : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ( ۳ ) ، كما ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) ( ۴ ) فهذه ـ الحالات ـ جميعاً تقوم على أساس العبودية . ولا يختص الأمر بعلوم الشريعة وعلوم الظاهر ، فالذين يحظون بعلوم ولائية ويحكمون على أساس الباطن وينتهجون سبيل الخضر ، هم أيضاً بلغوا هذا المقام على أساس العبودية .
فعندما يذكر الله قصة الخضر ، يقول : ( فوجد عبداً من عبادنا ) ( ۵ ) ، وقد أمر موسى الكليم من قبل أن يستفيد من عبد من خواص عبيد الله له جهة ارتباط بالعلم اللدنّي .
فإذا ما كان الخضر يمثل نهجاً وسبيلاً ، وإذا ما كان نبي الإسلام كذلك ، فإنهما لم يبلغا هذا المقام إلا بسبب العبودية .
العبودية والعناية الإلهية :
اما النقطة التالية فتتمثل في ان العبودية شرط لازم وليست شرطاً كافياً لبلوغ مقام النبوة الرسالة الخلافة الامامة وأمثالها . فاللطف والعناية الإلهية وعلم الله بعواقب الأمور لها دور مؤثر أيضاً . وبذلك لا يصير الإنسان نبياً أو إماماً لمجرد أنه صار عبداً كاملاً . أجل سيكون ولياً لله ، أما رسولاً ونبياً فلا ، لأن : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( ۶ ) ، علاوة على ما يلزم أن يتوافر فيه من كمال العبودية . فأحياناً يهب الله بعض عباده العلم والمعنوية ، بل الكرامة أيضاً ، لكنهم لا يستفيدون من العلم على نحو صحيح ولا يوظفون الكرامة في مظانّها ، بل يبذلونها في غير مواطنها ، نظير : ( واتلُ عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) ( ۷ ) .
في ضوء ذلك ، لا يهب الله ( سبحانه ) المواقع الرئيسية نظير النبوة ، الرسالة، الخلافة ، الإمامة ، ونظائر ذلك إلا لأفراد خاصين . أما الكرامات وبعض ضروب الكشف والشهود والعلوم المعنوية فيمكن أن يتلطف بها لبقية الأفراد على سبيل الاختبار والامتحان .
وما دام الكمال الإنساني في العبودية ، واستحقاق العبودية منحصراً بالذات الإلهية المقدسة : ( وقضى ربُك أن لا تعبدوا إلا إياه ) ( ۸ ) ، فلا معبود سواه ، ولا يحق لأحد أن يعبد إلا الله .
ولاية الحق وولاية الأولياء :
إذا ثبت أن كمال الإنسان في العبودية ، وأنه عبد لله فقط لا لأحد سواه ، فإذن لن يكون أحد غير الله ـ مهما كان ـ مولىً أو ولياً حقيقياً لنقول :
إن الله هو أولاً وبالأصالة الولي والمولى ، وغيره مثل الأنبياء والأولياء هم ثانياً وبالتبع ، وعندما يكون قد اتضح ان ولاية الأنبياء والأولياء والأئمة ليست حقيقية ، فسيتضح مآل ولاية الفقيه ، لتنتفي من الأساس الكثير من الشبهات والإشكالات .
ما ينبغي أن يتضح ، هو : هل للإنسان أكثر من ولي ومولى حقيقي ينتظمون في طول بعضهم ، نظير ولاية الأب والجد على الطفل المحجور ، ولكن غاية ما هناك أن آية ما مارس ولايته أولاً لا يبقى موضعاً لولاية الآخر ؟ هل الولاية على المجتمع الإنساني هي شيء من هذا القبيل ؟ أو إن الولاية على الإنسان ولاية طولية، بمعنى أن بعضهم ولي قريب ، بعضهم أقرب ، وبعضهم ولي بعيد ، وبعضهم أبعد ؟ أو إن بعضهم ولي بالاستقلال والأصالة وبعضهم ولي بالتبع ؟ فهل الولاية على المجتمع الإنساني هي شيء من هذا القبيل ، أو ان أياً من الصيغ المذكورة لا تعبر عن تلك الولاية ؟
لقد كان مقتضى البرهان العقلي تؤيده آيات القرآن الكريم ، ان يتمثل كمال الإنسان بإطاعته لموجود مُطلع على حقيقة الإنسان والكون عارف بالعلائق المتبادلة بينهما ( من الجلي ان المقصود من الكون ليس عالم الطبيعة وحده ، بل ماضي الإنسان ومستقبله نظير البرزخ والقيامة والجنة والنار ) ، وليس هذا الموجود شيئاً غير الله .
وبذلك فإن العبادة والولاية منحصرة ضرورة به ، ولا ولي للإنسان سوى الله ، لا أن للإنسان عدة أولياء بعضهم بالأصالة وبعضهم بالتبع ، وبعضهم قريب وبعضهم بعيد ، بل للإنسان ولي حقيقي واحد هو الله .
الأدب التوحيدي هو أظرف ضروب الأدب ، وأدقها في سُنة الأنبياء ( ع ) وسيرتهم . وكل أفعال هؤلاء وأعمالهم وفق الآية الكريمة : ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( ۹ ) .
فرغم أن المخاطب بالآية هو نبي الإسلام ، بيدَ أنها لا تختص به ، بل غاية ما في الأمر أن مرحلة الكمال فيها لرسول الله ، وإلا فحياة جميع الأنبياء والمعصومين ومماتهم لله .
ومنطق القرآن الكريم في الوقت الذي ينسب فيه القدرة والقوة والعزة والرزق وأموراً أخرى لغير الله ، تراه يعود في نهاية المطاف ليستجمعها ويحصرها بالله وحده .
فبشأن العزة يقول : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ( ۱۰ ) بيد أنه يعود ليقول في سورة أخرى : ( العزة لله جميعاً ) ( ۱۱ ) .
وحيال القوة ، يقول : ( يا يحيى خُذ الكتاب بقوة ) ( ۱۲ ) ، ويخاطب بني إسرائيل بقوله : ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ( ۱۳ ) ، ومجاهدي الإسلام : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ( ۱۴ ) ثم يقول : ( إن القوة لله جميعاً ) ( ۱۵ ) .
وأما عن الرزق فيصف القرآن الله على أنه : ( خير الرازقين ) ، ومعنى ذلك أن ثمة رازقين آخرين غير خير الرازقين ، بيدَ أنه يعود في موضع آخر ليقول : ( ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) ( ۱۶ ) ، و”هو” ضمير فصل يفيد الحصر مع أداة التعريف ، بمعنى .
وبشأن الشفاعة ، فقد أثبت القرآن الكريم شفاعة الآخرين : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) ( ۱۷ ) . ومنه يتضح أن الشفعاء كثيرون ، بيد أنه يعود في آيات أخر ليقول أن لا أحد تحق له الشفاعة ما لم يأذن الله ، ومعنى ذلك أن الشفاعة الحقيقية لله تعالى .
كذلك الأمر حيال “الولاية “، ففي سورة المائدة يطالعنا قوله : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) ( ۱۸ ) ، ففي هذه الآية تثبت الولاية للنبي ، ولأهل البيت أيضاً بتتمة الرواية .
والأجلى مما مرَّ ـ في ولاية النبي ـ قوله تعالى في سورة الأحزاب : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ( ۱۹ ) ، في ضوء هذه الولاية للنبي يقول في سورة الأحزاب : ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ) ( ۲۰ ) .
ولكن مع نصوص : ( إنما وليكم الله ) و( والنبي أولى بالمؤمنين ) و( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ان يكون لهم الخيرة ) . جاء في الحصيلة الأخيرة ، وفي سورة “حم” ما يحصر الولاية بالذات الإلهية المقدسة .
تنص الآية التاسعة في سورة الشورى : ( أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي ) . وهي تدل على أن ولاية الرسول والمعصومين والأولياء ليست عِدلاً لولاية الله ، وما دامت الولاية منحصرة به ، فليست ولاية الله واسطة في ثبوت الولاية لغير الله ، بمعنى أن يكون أولياء الله أولياء في الحقيقة ، ولكن ثانياً وبالتبع كلا، بل ولاية أولئك بالعرض لا بالتبع .
وفي ضوء ذلك يتبين أن ولاية الله واسطة في عروض الولاية لأولئك ، لا أنها واسطة في الثبوت .
وفي إطار المثال ينبغي أن تتضح الفكرة كما يلي : إذا كان ثمة ماء إلى جوار النار ، فإن الماء سيسخن فعلاً ، وهذا القرب من النار هو واسطة للسخونة . وعندئذ فإن اتصاف الماء بالحرارة هو اتصاف واقعي ، وهذا القرب من النار هو واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض .
ولكن إذا وُضعت هذه النار أمام المرآة ، فستبدو شعلتها متوهجة في المرآة من دون أن يكون ثمة شيء بداخلها ، بل هي تعكس النار الخارجية وحسب ، لا أن باطن المرآة قد صار حاراً أيضاً .
وبهذه المثابة ، ليس معنى : ( العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ) أو : ( العزة لله جميعاً ) ان النبي والمؤمنين والأولياء أعزة بعد الله حقيقة ، وأن عزة الله واسطة في ثبوت العزة لهم ، وإلا لغدت العزة الإلهية محدودة ، لأنه لو كانت هناك أكثر من عزة حقيقية ، فلا يمكن أن تكون أي واحدة منها مطلقة غير محدودة ، بحكم أن غير المتناهي لا يترك مجالاً لفردٍ آخر مهما كان هذا الفرد محدوداً ، بل العزة الإلهية تصير واسطة في عروض العزة لأولئك .
والتعبير القرآني ينطوي في هذا المضمار على ظرافة حينما يعبر عن ذلك بـ”الآيات” ، فإذا ما كان المؤمن عزيزاً فهو آية وعلامة لعزة الله ، وإذا ما كان النبي ولياً فولايته علامة على ولاية الذات الإلهية المقدسة ، وأولياء الله آيات الولاية الإلهية ، يُشيرون إلى الأوصاف الإلهية ، في حين إن الآخرين مظلمون لا يشيرون إلى الكمال الأسمى لا وصفاً ولا فعلاً .
كثيراً ما كان العلامة الطباطبائي ( قدس سره ) يكرر : ما يذهب إليه الدين من أن ليس ثمة موجود إلا وهو آية الحق ، هو تعبير دقيق جداً ، فما دام هو آية للحق فلا استقلال له من نفسه ، ولو كان له استقلال ذاتي لما كان علامة تُشير إلى الله وتدل عليه .
وهكذا يتضح أن : ( والله هو الولي ) أو( إنما وليكم الله ) هو الولي أولاً وبالذات ، ثم يأتي : ( ورسوله والذين آمنوا ) ثانياً وبالعرض ، لا ثانياً وبالتبع .
وبهذا التوضيح يتجلى معنى الآيات : ( يد الله فوق أيديهم ) ( ۲۱ ) ، ( الذين يبايعونك انما يبايعون الله ) ( ۲۲ ) ، ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) ( ۲۳ ) .
لقد سأل الله موسى الكليم : قد مرضتُ فلماذا لم تأتِ لعيادتي ؟ أجاب كليم الله : انك لا تمرض . قال ( سبحانه ) : إن العبد المؤمن الذي مرض هو مظهر لي فلو قدرته واحترمته تكون قد احترمتني . هذه ليست كناية ولا مجاز ولا استعارة ولا تشبيه ، بل رؤية الحق في مرآة المؤمن .
وعندئذٍ يفهم الإنسان أن الآخرين لا شيء ، والله لم يحل في شخص ، لأن الشمس أو شعلة النار لا تحل في المرآة ولا تتحد معها ، لجهة استحالة الحلول والاتحاد .
في إطار هذه الرؤية يعي ولي الله موقعه جيداً ويكون مدركاً للمعنى الذي تكون فيه الموجودات ” آيات “، تماماً مثلماً خاطب به الإمام الخميني قوات التعبئة الشعبية والمقاتلين ، عندما قال : اني أٌقبل أياديكم التي تعلوها يد الله وأفتخر بهذه القبلة . ومعنى هذا إني أقبل أياديكم التي هي مظهر وعلامة وآية لله ، أقبل : ( يد الله فوق أيديهم ) لا اليد التي هي مظهر غير الله .
الولاية على العقلاء :
ليست ولاية النبي والإمام على المجتمع البشري من قبيل الولاية على السفيه والمجنون والمحجور ، كما هو عليه الخلط الذي حصل مؤخراً في الكتابات والمحاضرات ، فمثل هذا الكلام هو إهانة للشعب وهتك لحرمة ولاية الفقيه .
وتوضيح ذلك : انَّ الشخص الذي تكون له ولاية على مجنون أو سفيه أو طفل قاصر ، تراه يدبر أمورهم وفق رأيه الخاص ، فينهض بأمور نومهم وطعامهم وترفيههم وغير ذلك بإرادته وما يراه . هذا هو معنى الولاية على المحجور .
اما ولاية النبي والإمام ونائب الإمام على المجتمع فليست من هذا القبيل ، بل ترجع ولايتهم لولاية الله ، وبالتالي فإن المبدأ والدين نفسه هو الذي يتولى قيادة المجتمع وتوجيهه . وما دامت للدين الولاية على الجميع فإن الشخصية الحقيقة للنبي وبقية المعصومين ( ع ) تندرج تحت ولاية الدين ، وكذلك شخصياتهم الحقوقية . وذلك لأن عصمة المعصوم تعود لكونه لا يملك شيئاً غير ما لديه من قِبل الله تعالى ، فلو أن النبي تلقى عن الله حكماً أو فتوى بعنوان انه رسول مؤتمن على الوحي الإلهي ومسؤول بإبلاغه إلى الناس ، فإن العمل بهذه الفتوى واجب على الجميع بما فيهم النبي نفسه . على سبيل المثال ، يقول تعالى : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) ( ۲۴ ) ، هذه فتوى الله عليك تبليغها إلى الناس ، وعندما تُنقل إلى الناس ، يكون العمل بها واجباً على الجميع بما فيهم النبي ( ص ) .
أما الأحكام الولائية من قبيل قطع العلاقة مع قومٍ ما ، أو إخراج اليهود من المدينة أو مصادرة أموالهم ، فإن العمل بها واجب ونقضها حرام حتى على النبي نفسه .
وكذا الحال بشأن الحكم القضائي ، فلوان متخاصمين حضرا عند النبي ، وفصل بينهما على أساس مبادئ الإسلام ، فسيكون العمل بهذا الحكم واجباً بعد إتمام القضاء وصدور الحكم ، ويعد نقضه حراماً حتى على النبي ذاته .
سيكون السؤال في ضوء ذلك : إذن ما هي الميزة التي للنبي حتى يكون ولياً على الناس ؟ هذا المعنى ـ الولاية ـ الثابت بعد النبي للإمام المعصوم ، وبعده لنائبه الخاص إذا كان له نائب خاص مثل مالك الأشتر ، مسلم بن عقيل وغيرهما ، وإذا لم يكن ثمة نائب خاص ، فهو ثابت للنائب العام .
وفي سياق السؤال ذاته : ما هي الميزة التي يحظى بها الإمام الخميني على الشعب الإيراني ، بحيث إذا أفتى يكون العمل بهذه الفتوى واجباً حتى عليه ؟ وإذا حكم بوجوب غلق سفارة “إسرائيل” يكون الحكم واجباً على جميع الشعب ، حتى الإمام نفسه ، يحرم عليه نقضه ؟ وهكذا في بقية الأحكام .
يتبين مما مر أن ولاية الفقيه ليست مثل الولاية على المجنون والسفيه والصغير ، بل معناها ولاية المبدأ والرسالة الذي يكون وليه الإنسان المعصوم أو نائبه العادل ، في حين يكون النبي نفسه جزءاً فيمن يتولاهم المبدأ والرسالة .
وتوضيح ذلك أن شخصية النبي الحقيقية تندرج مع بقية الناس في كونه جزءاً ممن يتولاه المبدأ ، أما بشخصيته الحقوقية فهو الولي .
كذلك الحال بشأن الأئمة ، فشخصيتهم الحقيقية تندرج في رديف المولّى عليه ، بيد أنهم أولياء بشخصيتهم الحقوقية . وهكذا يتضح أنه ليس هناك امتياز شخصي للقائد على الآخرين ، حتى يقال بأن الشعب الإيراني ليس محجوراً حتى يحتاج إلى ولي .
ولو اتضح معنى : ( والله هو الولي ) ( ۲۵ ) لما وقع خلل في التوحيد ، ولأضحى قبول ولاية الأولياء عين التوحيد ، لأن المجتمع الإنساني عبد لله تعالى على أساس قوله : ( وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلا إياه ) ( ۲۶ ) ، والله هو الولي الحقيقي عليه ، أما الأولياء فهم آية وعلامة لولايته ، مثلهم كمثل المرآة التي تعكس ولاية الله ، لا كمثل الماء المغلي الذي يغلي إثر حرارة النار .
وعندئذ سيفخر الإنسان بهذه الولاية ، لأنه منضو تحت ولاية دين الله . فلو رامت الشجرة أن تنمو فإنه يتحتم أن يتم لها ذلك تحت ولاية الماء والهواء السليم ، ومثل هذه الولاية للماء والهواء هي رصيد الحياة . ولو رامَ الإنسان شجرة طوبى فينبغي له أن يستفيد من هذا الطريق .
وما يؤكده الإمام الخميني ( قدس سره ) وهو يقول : “كونوا حماةً لولاية الفقيه حتى تحفظوا بلدكم” يعود إلى أن شجرة الإنسانية تنمو وتزدهر في إطار شروط سليمة .
وفي الحصيلة الأخيرة ينبغي أن يتسلم زمام الأمور مسلم عالم بالإسلام مؤمن به ، لكي يقول الذي يقوله ، فيعمل به أولاً ثم يعمل به الآخرون .
هذا هو معنى ولاية الفقيه الذي يرجع لولاية الفقاهة والعدالة ، وإلا ليس ثمة ولاية لشخص على آخر قط .
فلو كان لإنسان ولاية ، كولاية الأب على الابن مثلاً ، فما يأمر به الأب يجب أن يُطاع ولا حق للولد أن يقول للأب : اعمل بالأمر أنت أولاً ثم أعملُ به وأنفذه أنا بعد ذلك .
أما في مثل هذا الضرب من الولاية ، إذا ما أمر القائد بشيء فيتحتم عليه أن يعمل به مع الأمة ، وإذا تخلف عن ذلك فمن حق الأمة أن تعترض عليه .
وكان أمير المؤمنين علي ( ع ) يقول للأمة انه لا يأمرهم بشيء حتى يكون قد سبقهم للعمل به .
وهذا شعيب ( ع ) يحكي القرآن الكريم حاله : ( ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) (۲۷) .
فاذا كانت ولاية النبي والائمة بباعث شخصيتهم الحقوقية لا شخصيتهم الحقيقية فسيتضح ان ولاية الفقيه العادل هي بلحاظ شخصيته الحقوقية ، أي بباعث ما يحظى به من فقاهة وعدالة .
وعندئذ ليس هناك أي محذور ، وليس ثمة وجود لمحجور ، ولا يمكن ان يخدع الشعب بان يقال له : بانك محجور تحتاج الى ولاية فالشعب سيفهم عندئذ ويسأل : هل ولاية الفقيه هذه هى من باب الولاية على المحجور والسفيه والصبى والمجنون ام انها ولاية الشخصية الحقوقية على البشر الاحرار ؟
الولاية التكوينية والتشريعية :
تكون الولاية تارة في نظام التكوين ، بحيث يكون الاول وليا تكوينا والاخر مولى عليه تكوينا ، مثل الذات الالهية المقدسة التي لها الولاية على البشر والكون ، او كولاية النفس على قواها الداخلية .
فمن خلال هذه الولاية التي تحظى بها النفس تستطيع قواها الوهمية والخيالية كما لها الولاية أيضا على الاعضاء والجوارج السليمة ، وبمقتضى هذه الولاية تستجيب الباصرة او السامعة للامر الذي يصدر اليها . وهكذا يتبع العضو ولاية النفس ما لم يكن مشلولا او ناقصا .
هذا النوع من الولاية يرتد الى العلة والمعلول ، فكل علة هى ولى للمعلول ، وكل معلول مولى لولاية العلة .
وعلية العلة اما ان تكون على نحو الحقيقية او على نحو مظهر للعلة الحقيقية ، فاذا ما كانت العلة حقيقية فستكون ولايتها حقيقية ايضا ، واذا لم تكن حقيقية بل كانت مظهر للعلة الحقيقية على نحو من الانحاء ، فستكون ولايتها مظهرا للولاية الحقيقية .
الضرب الاخر من الولاية ، هو ولاية التشريع والقانون ، أي ان يكون شخص وليا على القانون ، وهذه الولاية يعود بعضها الى المسائل الفقهية ، وبعضها الى المسائل الاخلاقية وقسم آخر منها يعود الى المسائل الكلامية .
لا يمكن التخلف فى الولاية التكوينية ، فاذا ما ارادت النفس ـ مثلا ـ ان تنقش صورة شى فى الذهن فستكون ارادتها وارتسام نقش ذلك الشى فى الذهن شيئا واحدا .
ان النفس مظهر الهي : ( انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون ) (۲۸) مثلا اذا اراد الانسان ان يستحضر صورة حرم الامام الثامن على بن موسى الرضا (عليه السلام ) فى ذهنه ، ففى اللحظة التى يريد فيها ذلك ، ترتسم الصورة المطلوبة فى ذهنه وتحضر فيه فورا .
وبالتالى ليس بمقدور الجهاز الداخلى للانسان ان يتخلف عن ارادة نفسه ولا يطيعها اذا ما كان سليما معافى .
وكذا الحال اذا ما اراد الانسان ان ينظر الى مشهد معين ، فلا يمكن للعضو ان يتخلف عن هذه الارادة ما دام تابعا لولاية النفس ، ومادام سليما معافى .
اما ولاية التشريع والقانون ، فهى تقبل العصيان ، بمعنى ان الحكم القانونى التكليفى هو حكم خاضع للاطاعة والعصيان تماما . ومد ذلك ان الانسان خلق حرا ، وحريته هذه هى رصيد كماله .
ان جزءا من الولاية التشريعية معروض فى كتب الفقه ، فى كتاب الحجر ، حينما يحجر على بعض الانسان احيانا للقيم الافراد بداعى الصغر ، السفه ، الجنون ، والافلاس فيعين لهم قيم .
وقد يحتاج الانسان احيانا للقيّم على اثر الموت ، ومثاله الميت الذي يحتاج الى الولى ، او من تكون له الولاية على دم المقتول . هذه الولاية الفقهية يعرض لها فى ابواب الطهارة ، والحدود والديات وتبحث هناك.
اما الولاية التشريعية التى تطرح فى ولاية الفقيه فهى فوق هذه المسائل ، وليست من نوع الولاية التى تطرح فى كتاب الحجر ، الطهارة ، القصاص والديات .
ليست الامة الاسلامية ميتة ولا صغيرة ولا سفيهة ولا مجنونة ولا مفلسة حتى تحتاج الى وليّ . ثم ان جميع صيغ الهجوم التى تتجه من قبل كتاب الداخل والخارج الى ولاية الفقيه تنبع من هذا التصور الذي يرجع الولاية الى كتاب الحجر الفقهى ، فى حين انه لا صلة تذكر لولاية الفقيه بهذا الامر ، بل هى ـ هنا ـ بمعنى الوالى الذي يتولى الامر .
ان آية ( انما وليكم ) خطاب للعقلاء والمكلفين وليست خطابا للمحجورين او غير المكلفين ، فالله ( سبحانه ) لم يخاطب ابدا المحجورين والمجانين والصبيان والمفلسين ، بمثل قوله ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم ) (۲۹) ، و( انما وليكم الله ورسوله ) (۳۰) و( اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم ) (۳۱) الولاية هنا بمعنى الوالى ، المدير المدبر ، وروحها ترجع الى ولاية الشخصية الحقوقية للوالى لا شخصيتة الحقيقية . والشخصية الحقيقية للولى تنطوى هي ايضا فى اطار هذه الولاية .
فعلي بن ابي طالب ( عليه السلام ) الذي يذكر فى كتبه ان هذه الكتب تصل اليكم ـ مخاطبا الامة ـ من وليكم ، لجهة ان امير المؤمنين ( عليه السلام ) يستوى مع الاخرين ، وهو يندرج ـ كشخص حقيقي ـ فى اطار الولاية المستمدة من امامته . فاذا ما افتى الامام ، فان فتواه واجبة حتى على نفسه ، واذا ما قضى ، فان نقض هذا القضاء حرام حتى عليه ، والعمل به واجب حتى على ذاته .
واذا ما جلس على كرسى الحكومة ، فان ما يصدره من حكم ولائى من جهة كونه حاكما، يكون العمل به واجبا حتى على نفسه ونقضه حرام حتى عليه .
فمن هذه الجهة ـ الشخصية الحقيقية ـ يكون على بن ابى طالب مولى عليه ( خاضعا لولايته ) ومن جهة ثانية احتل فى غدير وامثاله موضع ( اولى بانفسكم ) فهو امير المؤمنين والولى . اذن هذه الولاية هى بمعنى كون الانسان واليا ورئيسا .
الولاية في البحث الكلامي :
يمكن البحث فى الولاية من جهتين : فقهية وكلامية .
يتمثل البحث الفقهى بما يلي : اذا كان ثمة وجود لمثل هذا القانون فهل العمل به واجب ؟ وهذا ما يطرحه الفقيه فى كتاب الفقه .
وهو يثير السؤال التالي : هل الطاعة علينا واجبة ام لا ؟ وهل ثمة حق لافراد معينين فى النظام الاسلامي ، بحيث يجوز لهم ان يمسكوا زمام الامور بايديهم ام لا ؟
هاتان مسالتان فقهيتان ، بمعنى ان ما يطرح حيال الوالى يطرح من جهة كونه مكلفا ، والمسالة التى يكون موضوعها فعل المكلف هى مسالة فقهية . وكذا الحال فى السؤال الذي فحواه : هل يجب على الشعب من جهة كونه بالغا ، عاقلا ، رشيدا ، ومكلفا اطاعة الوالي ام لا ؟
ايا ما كان الجواب على هذا السؤال ( سلبا ام ايجابا ) فهو فى نهاية الامر جواب فقهي .
اما البحث الكلامي حيال ولاية الفقيه ، ففحواه : هل امر الله بامر فى عصر الغيبة ام لا ؟ ان موضوع هكذا مسالة هو فعل الله ، ولازمه فعل المكلف فان كان الله قد امر بامر فيجب على الوالى ان يقبل ويمتثل كما يجب على الامة ايضا ، لان الامام امير المؤمنين ، يقول ( لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ) (۳۲) لما قبلت .
وتوضيح ذلك ، اننا اذا ما طرحنا مسألة فقهية فمن لوازم ذلك ان نحيط بمسالة كلامية ، فاذا ما اثبتنا فقهيا ان قبول ولاية الفقيه واجب على الشعب ، او اثبتنا ان على الفقيه مثل هذا الحق او الوظيفة او اتكليف ، فهذه المسالة وان كانت فقهية ، الا ان لازمها ان الله امر بمثل هذا الامر ، وبالتالي فهى تنطوي بالضمن على مسالة كلامية . والا ما لم يامر الله فلا تظهر مثل هذه الوظيفة للفقيه ، ولا يكون الشعب مكلفا.
نخلص فى ضوء ذلك الى انه اذا كان فعل الله هو موضوع المسالة فهي كلامية ، واذا كان موضوعها فعل المكلف فهى مسالة فقهية .
وما نذهب اليه من ان الامامية هى من اصول مذهبنا ، وما يذهب اليه اهل السنة فى عدم عدها من الاصول ، يرجع الى ما يذهبون اليه من انه ليس ثمة ما يجب ـ بشانها ـ على النبي والله ، بل ان الله لم يامر بشى حيال قيادة الامة بعد النبي ، بل ترك الامر الى الامة التى ينبغي لها ان تنتخب القائد . وبذلك صارت الامامة بالنسبة اليهم مسألة فرعية نظير سائر الفروعات الفقهية .
اما بالنسبة لنا نحن الذين نؤمن بالعصمة وامثالها ، فنقول ان هذا الامر فعل الله ، وهو الذي امر رسوله بنصب على من بعده .
والسؤال الان فيما عليه الحال فى عصر الغيبة . فالله ( سبحانه ) العالم بجميع ذرات الوجود ( لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ) (۳۳) وهو ( سبحانه ) العالم بان اولياءه لا يبقون الا لمدة محدودة ، وان خاتم الاولياء سيمضى فى الغيبة مدة مديدة ، تراه هل امر بشئ فى عصر الغيبة ، أو ترك الامة لحالها ؟ هذه مسالة كلامية .
فى ضوء ذلك ، عندما يطرح المفكرون الاسلاميون ولاية الفقيه بعنوان انها مسالة كلامية ، فهم يفعلون ذلك بهذا اللحاظ ، لا على اساس انهم يعدونها على حد النبوة وتوحيد الله .
فالهدف ان اية مسالة يكون فعل الله موضوعها هى مسالة كلامية ، لا ان أي شى صار كلاميا قد اضحى جزا من اصول الدين .
ثمة الكثير مما يطرح فى مضمار الكلام من قبيل : هل فعل الله العمل الفلانى ام لا ؟ هل يفعل الله فى القيامة العمل الفلانى ام لا ؟ وهذه شؤون جزئية فى المبدأ والمعاد ، وجزئيات المبدا والمعاد ليست من اصول الدين التى يلزم فيها العلم البرهانى والاعتقاد بها واجب ، ولا جزا من فروع الدين .
فعلى الانسان ان يؤمن بوجود القيامة والجنة والنار ، اما ما هو عدد الجنان وما هى درجانها ، وما هو حال دركات جهنم ، فهى ليست جزا من الاصول التى تستلزم تحصيل البرهان عليها ، ويكون الاعتقاد بها واجبا على نحو التحصيل .
الولاية في الروايات :
احد معانى الولاية هى ادارة المجتمع وتدبير امره . ومن غير القرآن ، ثمة فى الروايات التى وصلتنا عن المعصومين استخدام مكثف لمصطلح ( الولاية ) فى المعنى المتقدم . وفيما يلى نستعرض كمثال عددا من هذه الروايات :
۱ ـ استخدم الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) فى مواطن مختلفة من نهج البلاغة ، الولاية بمعنى الادارة والتدبير ، منها على سبيل المثال :
أ ـ الخطبة الثانية من النهج يقول حيال اهل البيت ( هم موضع سرره ، وملجا امره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم اقام انحنا ظهره ، واذهب ارتعاد فرائصه ) ثم يذكر ان الكثير من المسائل تحل بآل النبي ـ وهم اساس الدين ـ حيث يقول :
( ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة ) يذكر الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) اهل البيت عليهم السلام بانهم يتحلون بخصائص الولاية ، ولكن ليس الولاية التكوينية التى هى مقام عينى لم ينصب فى الغدير ولم يغصب فى السقيفة ، بل هذا المقام غير قابل للنصب والغصب اساسا ، وانما هوفيض الهى لا يمكن سلبه من الانسان ، وبالتالي فان مقام ( سلوني قبل ان تفقدونى فاني بطرق السماء اعلم منى بطرق الارض ) (۳۴) ـ مثلا ـ لم يغصب فى السقيفة .
تحدث الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) عن نفسه فى خطبه بعنوان الوالى والوالى ، وقد وردت هذه الصيغ كثيرا ، وذكر فيها الامام ان له حق الولاية ، بيد ان ذلك لم يعن انى قيم عليكم وانتم ( الامة ) محجورون ، بل جاء بمعنى الحكومة وادارة شؤون الامة .
ب ـ في الخطبة رقم (۲۱۶) التى خطبها الامام فى صفين ، قال ( عليه السلام ) ( اما بعد فقد جعل الله سبحانه لى عليكم حقا بولاية امركم ) ثم ذكر فى الفقرتين السادسة والسابعة :
( واعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق ، حق الوالى على الرعية ،… فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية ) الكلام هنا عن الولى وولاية الولاة ياتى ناظرا لادارة المجتمع وتدبير امره .
ج ـ نقرأ فى قصة الكتاب (۴۲) من نهج البلاغة ، ان الامام علي ( عليه السلام ) عند ما اراد السير الى العدو ، كتب الى عمر بن ابى سلمة المخزومي ، وكان عامله على البحرين ، يستقدمه عليه بعد ان استعمل عليها غيره .
وقد ذكر له ان استقدامة اليه واستبداله بغيره لم يكن لذم او تثريب عليه ( فلقد احسنت الولاية واديت الامانة ) انما اراده الى جواره فى سفره الى الشام :
( فاقبل غير ظنين ، ولا ملوم ، ولا متهم ، ولا ماثوم ، فلقد اردت المسير الى ظلمة اهل الشام ، واحببت ان تشهد معى ، فانك ممن استظهر به على جهاد العدو ، واقامة عمود الدين ، ان شاء الله ) .
وفى عهده الى مالك الاشتر تكرر استخدام مصطح الولاية ، بمعنى الادارة والحكم وتدبير المجتمع ، من ذلك :
ج ـ ۱ : قوله ( فانك فوقهم ، ووالى الامر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ) .
ج ـ ۲ : قوله ( فان فى الناس عيوبا ، الوالى احق من سترها ، فلا تكشفن عما غاب عنك منها ) .
ج ـ ۳ : قوله ( ولا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم على ولاة الامور ، وقلة استثقال دولهم ) .
فى ضوء ذلك ، ليس من الصحيح القول ان الولاية وردت بمعنى القيم على المحجور فقط ، لانها استخدمت فى القرآن والروايات بمعنى الخلافة وادارة امور المجتمع .
۲ـ عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قال ( بني الاسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ) (۳۵) .
وهذه الولاية ـ المذكورة فى الحديث ـ تنطوى على مسائل ثلاث، مسالتان منها فقهيتان تاتى فى رديف الحج والصوم، والثالثة كلامية .فاذا ما قرر النبي صلى الله عليه وآله نصب الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الله ، لانه( سبحانه ) امره ان يقول ( من كنت مولاه ) ، فهذه مسالة كلامية .
ومادام النبي بلغ ما امر به بمقتضى قوله( يا آيها الرسول بلغ ما انزل اليك ) (۳۶) ، فان العمل بهذا الحكم واجب سواء على النبي او امير المؤمنين او الاصحاب او الاخرين . والا فهل يمكن للنبى ان لا يعد عليا خليفة ؟ النبي مكلف ، والامر واجب عليه ( آمن الرسول بما انزل اليه من ربه ) (۳۷) فى ان يعتبر على بن ابى طالب خليفة . وهذه الاخيرة مسالة فقهية ، وفى المسالة الفقهية لا فرق بين النبي وغيره ، وبين الامام والماموم .
فالوجهان الفقهيان فى المسالة ، هما :
اولا : يجب على الامام امير المؤمنين نفسه ان يقبل هذه السمة .
الثانى : يجب على الامة ان تقبل الامام واليا عليها ، لان موضوع هذه المسائل هو فعل المكلف .
ولكن لما كان الله ( سبحانه ) هو الذي امر النبي صلى الله عليه وآله ان يبلغ خلافة الامام ( عليه السلام ) فقد صارت المسالة كلامية لان موضوعها فعل الله .
۳ـ فى رواية ثانية عن حريز عن زرارة عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قال ( بنى الاسلام على خمسة اشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية . قال زرارة : فقلت : وأي شى من ذلك افضل ؟ قال : الولاية افضل ) (۳۸) .
ولكى يبتعد عن الحكومة والادارة وتكون بينة وبينهما مسافة ، يعتقد بعضهم ان الولاية تعنى الاعتقاد بامامة الائمة ومحبة اهل هذا البيت ( ما اسالكم عليه اجرا الا المودة فى القربى ) .
بيد ان زرارة يسال : وأي شى من ذلك افضل ؟ فيجيب الامام الباقر عليه السلام : الولاية .
لماذا ؟ ( لانها مفتاحهن والوالى هو الدليل عليهن ) وماذا يعنى الوالى ؟ انه يعنيى الحاكم .
يتضح مما مر اذن ان الولاية هى بمعنى الادارة والحكم ، وهى تدبير امور العقلاء الرشداء لا المجانين .
واذا ما اخضع الانسان المسالة للتحليل الدقيق ، فسيدرك ان للوالى شخصية حقيقية تتمثل بكونه مكلفا بالاحكام الفقهية ، كما له شخصية حقوقية كونه منصوبا من طرف الله ، وان الشخصية الحقيقية تكون فى نطاق الشخصية الحقوقية للولى ، وبالتالى لن يكون ثمة امتياز للوالى قط .
والا فأي عمل كان واجبا على النبي والامام ولم يكن واجبا على الامة ؟ واية معصية هى حرام على الامة . ليست حراما على النبي والامام ؟ وأي فتوى تجب على الامة دون النبي والامام ؟ وأي قضاء يحرم على الامة نقضه ولا يحرم على النبي والامام ؟ وأي حكم ولائي لا يجوز للامة نقضه ويجوز للنبى والامام ؟ ان الولى هو كاحد المكلفين .
ان الولاية فى الموارد التى ذكرت هى مطلب تشريعي ، وبمعنى ادارة المجتمع الانساني الرشيد .
وبازاء الولاية التشريعة ثمة للمعصومين ( عليهم السلام ) ولاية تكوينية ، من قبيل ما نقله الكلينى من ان الامام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) خرج فى بعض عمره ( من العمرة ) ومعه رجل يقول بامامته ، فنزلوا فى منهل من تلك المناهل تحت نخل يابس ، قد يبس من العطش ، ففرش للحسن تحت نخلة ، وفرش للرجل بحذائه تحت نخلة اخرى . فقال صاحب الامام وقد رفع راسه : لوكان فى هذا النخل رطب لاكلنا منه ، فقال له الامام الحسن : وانك لتشتهي الرطب ؟
اجاب الرجل : نعم .
فرفع الامام يده الى السماء ودعا بدعا فاخضرت النخلة ثم صارت الى حالها ، فاورقت وحملت رطبا .
فقال الجمال الذي اكتروا منه : سحر والله !
فقال الامام الحسن : ويليك ليس بسحر ، ولكن دعوة ابن نبى مستجابة .
لقد برزت هذة الكرامة للامام ، وكان هذا الظهور للولاية التكوينية فى الوقت الذي كان الصلح مفروضا عليه ، والحكومة قد غصبت منه .
دور مجلس الخبراء في الولاية :
ترى ما هو موقع مجلس الخبراء ؟
ينهض مجلس الخبراء فى ضوء الدستور بمهمة تشخيص الفقيه الذي نص الدستور على مواصفاته ويقدمه الى الشعب ، وللشعب دور تولى الفقيه لا توكيله .
لقد اقترح بعضهم اثناء تدوين الدستور عبارة ( الشعب ينتخب ) بيد انها اصلحت هناك بعبارة ( الشعب يقبل ) .
سئل وقتئذ : وما الفرق بين الصيغتين ؟
اجبنا : الاولى تعنى التوكيل والاخرى التولى . والشعب يقبل ولاية الفقه والعدل ، لا انه يوكل الفقيه وينتخبه .
واذا ما صار احدهم وليا للمجتمع فى الاسلام ، فينبغى ان تتوافر فيه مزايا ، ومن له الولاية فى الحقيقة هى تلك المزايا العلمية والعملية التى تعود الى ما يحظى به من حكمة نظرية وعملية .
وشخص الوالى والقائد يتساوى مع الشعب امام القانون . وفى الحقيقة ان ما يحكم هو فقهه وعدالته .
اما من هو الولى ، وفيما اذا كان زيد ام عمرو ، فهذه ليست مسالة علمية ، بل تدخل فى نطلق معرفة الموضوع وهي ترتبط بالخبراء . اذ يمكن ان يقول بعضهم ان زيدا هو الذي يتحلى بالشروط والمواصفات المطلوبة ، فى حين يذهب الاخرون الى غيره .
والمعارضون لولاية الفقيه لا شان لهم بزيد وعمرو ، بل هم يعارضون اصل الولاية .
ضرورة الولي في رؤية العقل :
فى البحوث التي تجرى مؤخرا حيال الدين والتنمية ، ذهب بعضهم الى انه ليس ثمة فى الدين رؤية حيال التنمية والادارة والقيادة ، بل تدخل هذه الامور فى نطاق العلم والعقل .
وهؤلاء يظنون ان العقل فى قبال الدين ومتعارض معه ، فى حين ان العقل والنقل هما مثل عينين للدين .
لقد ذكرت الكتب الاصولية باجمعها ان منابع الفقه هى : القرآن والسنة والعقل والاجماع ، مع ان الاجماع يرتد الى السنة ، فى حين يبقى العقل مستقلا .
ان التخطيط لعمران البلد وبنائه ، وتنظيم السياسات الداخلية والخارجية ، اذا تم بالاتساق مع العقل بعيدا عن الاهواء ، فهو ينتسب الى الدين ، ذلك لان المسائل والتفاصيل لم تات بصيغة نقلية باجمعها ، وانما تستكملها العين الاخرى للدين المتمثلة بالعقل .
ان الخطأ الذي وقع به هؤلاء يتمثل بحصر الدين فى القرآن والرواية (النقل) ، ثم انعطفوا ليضعوا الادارة العلمية فى قبال الادارة الفقهية وفى تعارض معها ، ثم راحوا يتحدثون ـ على هذا الاساس ـ عن نقائص الدين .
فى حين ان ما يذهب اليه الدين هو : ان كل ما يفهمه العقل المبرهن هو فتوأي . وكما ان الدليل النقلى يعنون تعبيران ، احدهما الواجب النفسى والاخر الواجب المقدمي .
طبيعي ان العقل الذي ثبتت حجيته فى اصول الفقه هو الذي يثبت بالبراهين اللفظية الاصولية . ان القيادة وادارة المجتمع هى ايضا امر عقلي وحتى لو افترضنا انه لم يات حيالها حكم صريح فى الايات والروايات ، فان العقل السليم يحكم بها على نحو واضح ، وحكم العقل هذا هو امر الله .
ان جميع الفقهاء الذين بحثوا فى فلسفة الفقه ، ادركوا ضرورة الوالي على نحو جيد .
ويمكن ان تنظروا ـ مثلا ـ الى كلام الامام الخمينى الراحل فى هذا المضمار ، او كلام صاحب الجواهر ، الذي يقول فى باب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، بعد ان عرض لمسالة القتال والامر بالمعروف والنهى عن المنكر :
( مما يظهر بادنى تامل فى النصوص ، وملاحظتهم حال الشيعة وخصوصا علما الشيعة فى زمن الغيبة ، وكفى بالتوقيع الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة ، وما اشتمل عليه من التجيل والتعظيم ، بل لو لا عموم الولاية لبقى كثير من الامور المتعلقة بشيعتهم معطلة ، فمن الغريب وسوسة بعض الناس فى ذلك ، بل كانه ما ذاق من طعم الفقه شيئا ) (۳۹) .
ان ما يؤكده هذا الفقيه الجليل هو مسالة عقلية . فبعد ان تامل بكثرة وافرة من الاحكام فى المجالات المختلفة وصل الى نتيجة مضمونها : ان هذه الاحكام والاوامر لا بد وان تحتاج الى متول ومجر ، والا امست امور الشيعة فى عصر غيبة الامام المهدي ( عليه السلام ) .
وفى نهاية المطاف تراه يؤكد على المسالة بما ذكره من ان من يوسوس بولاية الفقيه ، فكانه لم يذق طعم الفقه ، ولم يدرك سر كلمات الائمة المعصومين ( عليهم السلام ) بل تراه يذهب لما هو اكثر من ذلك حين يستبعد الا يكون للفقيه الجامع للشرائط ، الحق فى الجهاد الابتدائي .
وعندما ننتقل الى سماحة الامام الخميني قدس سره نراه لم يصل اولا الى تخوم هذا الموقع الرفيع ، اذ كان رآية ان فى الجهاد الابتدائي اشكالا بالنسبة للفقيه ، بيد انه وصل للمرحلة تلك فى النجف ، عندما سجل ان الجهاد الابتدائي هو من اختيارات الفقيه الجامع للشرائط فى اطهار اوضاع خاصة .
الولاية والسياسية :
يقال احيانا ان الولاية لا تتسق مع الحكومة ولا تتوام مع السياسة ، لان الولاية بمعنى القيمومة تنسب الى الشخص دائما ، لا الى المجتمع ومنهج ادارة البلد .
وفى الجواب ، نقول : بديهي ان الولاية بمعنى القيم على المحجور التى ورد ذكرها فى كتاب الحجر من مصنفات الفقه ، وكذلك الولاية ازاء تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه ، او ولاية ولى الدم ، لا تتسق مع الحاكمية على المجتمع .
ولا شان لها ب( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (۴۰) لان الولاية ـ الاخيرة ـ هى بمعنى الادارة والحكومة .
واذا ما كان خطاب ( انما وليكم الله ) يعنى ان الذي يتدبر امركم ويديره هو الله ، والنبي وامير المؤمنين ، فسيكون المخاطب بهذه الولاية هم اهل الرشد والمؤمنون والعلماء وذوو العقول واولو الالباب ، لا المجانين وغيرهم .
اذن الولاية بمعنى الادارة والتدبير ، هي اولا وبالذات لله ، لا فرق بين ان تكون فى نظام التكوين او نظام التشريع . يقول تعالى ( والله هو الولى ) وفى سورة الرعد يقول ايضا : ( وما لهم من دونه من وال ) (۴۱) .
ان الولاية التكوينية تختص بالذات الالهية المقدسة ، وهو القائل (عز شانه ) ان لا احد بمقدوره ان يرفع العذاب الا الله .
ولما كان الوالى التكوينى حقيقة هو الله ( والله هو الولى ) (۴۲) ، فان فى ذلك حصرا للولاء المطلق فى الذات الالهية المقدسة ، تكوينا وتشريعا ( ان الحكم الا لله ) (۴۳) ، وهى ثانيا وبالعرض ، للانبياء والاولياء والائمة ، ثم الفقهاء العدول الذين يعدون مظهرا لولاية كهذه .
وبه يتبين : اذا ما ذكر احدهم انه ليس لدينا ولاية بمعنى الحكم والتدبير ، فليس هذا كاملا صحيحا . واذا ما قال ان الولاية بمعنى القيم على المحجورين لا تليق بالمجتمع ، فهذا كلام صحيح ، لان القائلين بولاية الفقيه لا يذهبون الى ان الولاية التى نص عليها الدستور لفقيه بشان الامة الاسلامية ، هى ولاية كتاب الحجر او ولاية غسل الاموات او ولاية القصاص والحدود والديات ، لان أي واحدة من هذه الصيغ لا شان لها بادارة المجتمع .
انما الولاية التى تاتي بمعنى ادارة المجتمع وتدبير امره ، هى ولاية ( انما وليكم الله ورسوله ) ، وولاية الفقيه هى مظهر لها ، اذ تاخذ على مسؤوليتها النهوض بادارة المجتمع الاسلامى وفق موازين الاحكام والحكم والمصالح العقلية والنقلية .
دور الشعب في انتخابات الولي الفقيه :
يقال احيانا ان ولاية الفقيه هى جزء من غوامض الجمهورية الاسلامية المستعصية على الحل ، اذ يلزم من وجودها عدمها . أي اذا كان هناك وجود لولاية الفقيه فلا وجود لولاية الفقيه ، واذا لم يكن ثمة وجود لولاية الفقيه فولاية الفقيه موجوده !
وتوضيح ذلك : ان الشعب فى الجمهورية الاسلامية انتخاب قائدا اما بواسطة او بغير واسطة ، وبذلك اذا كان للشعب الحق فى الانتخاب وابدا الرأي ، فهو ليس محجورا اذن ولا يحتاج الى ولى . واذا كان الفقيه هو ولى الشعب ، فاذن ليس للشعب الحق فى الانتخاب وابدا الرأي .
وبذلك يكون الجمع بين ولاية الفقيه ورأي الشعب هو معضل لا ينحل ، لم يصل الى ادراكه احد ، لان الشعب صوت على ان لا يكون له رأي .
ينشا هذا الاشكال من واقع ما يذهب اليه اولئك من حصر الولاية فى كتاب الحجر ، اما عند ما تكون الولاية بمعنى اداره العقلاء واولى الالباب واهل الرشد ، نظير ماجاء فى آية ( انما وليكم الله ) وما جرى فى واقعة يوم الغدير ، وآية ( النبي اولى بالمؤمنين ) فسيرتفع الاشكال المذكور .
والا فهل جاءت ولاية الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) فى واقعة يوم الغدير بعنوان القيم على المحجورين ، او بعنوان ادارة اولى الالباب ؟
ليس معنى الولى ان يكون قيما على المحجورين ، بل معناه انه المسؤول على امور العقلاء فى المجتمع . وربما يكون حاكم مثل هذا معروفا للشعب ، وقد لا يكون معروفا فى بعض الاحيان . وعندئذ يتم الرجوع لاهل الخبرة فى معرفته .
ومثال ذلك ما جرى للنبى ، عندما اخذ على الامة اقرارها وتصديقها ، وهو يسالها فيما اذا كان قد بلغها ما انزل اليه من ربه ؟ فاجابت بالاثبات . ثم عاد ليسال : الست اولى بكم من انفسكم (۴۴) ؟ قالوا : بلى . عندئذ قال ( من كنت مولاه فعلى مولاه ) ، وقبلوا ذلك عنه .
والان ، هل بالمستطاع ان نقول : ان هذه الواقعه يستلزم من وجودها عدمها ومن عدمها وجودها ؟
اذا كانت الولاية محصورة فى معنى القيم على المجانين ، فلا يتسق عندئذ الجمع بين الولاية ورأي الامة ، لان ولاية الولى تثبت من رأي المحجورين ، فى حين انه ليس للمحجور الحق فى الرأي .
ان النبي نفسه هو الذي عرض الجمهورية الاسلامية والعودة الى رأي الامة ، حين اوضح ان : اسلامية النظام تقوم على اساس الوحى ، وشعبيته على اساس قبول الامة به .
لقد اوضح للامة انه لبث بينها اربعين سنة ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله افلا تعقلون ) (۴۵) ، ولو كنتم عقلاء لقبلتم منطقي وآمنتم بأني الامين .
ان كلام النبي صلى الله عليه وآله فى قوله تعالى ( لقد لبثت فيكم عمرا ) يعكس البعد الجمهوري فى نظام الاسلام . لقد تامنت الامور جميعا من قبل الله . فالوحى قد نزل ، وتعينت صفتى كنبي ، بذلك توافرت الرسالة والنبوة والولاية بمعنى الادارة ، ولم يبقى غير قبولكم وايمانكم .
يعنى ان الاسلام موجود ولا نقص فيه ، والاسلام يستبطن فى داخله وجود الولايه ، والقيادة ، والنبوة والرسالة ، وقد بلغ كمال هذا النصاب ، ولا حاجة لكم لانتخاب قائد ، بل عليكم القبول فقط والعمل بذلك .
وبعد ان يذكر ان هذه معجزته ، يسالهم ان يظهروا ما لديهم ( وادعوا شهداكم من دون الله ) وشى مثل هذا لا ينطوى فى داخله أي تناقض ، فهذا الدين يتوافر على ماله شان بالقوانين ومن يفسرها ـ وهم اهل البيت انفسهم ـ وكذلك من ينهض ببيان الكتاب والحكمة وتعليمهما وتزكية النفوس ، كما يتوفر على من يقوم باجراء الحدود . الباقى هو قبول الامة فقط ، وهذا القبول له صل بتولى الام لا بتوكيلها ، وبالتالى لا يستلزم قبول الامة التناقض ابدا .
والمراد ان جميع المناصب الالهية التى يحظى بها المعصومون ( عليهم السلام ) ثابته لهم فى مقام الثبوت ، اما اثباتها العملي فله صلة برأي الامة .
وتفسير للولاية مثل هذا مصون من اضرار ما يتوهم انه تناقض .
تحريف المناصب وضرورة الرجوع للخبراء :
لما كانت المناصب الحقيقة كمال ، فستكون المناصب المجعولة ( المنتحلة ) بازائها كثيرة . سنمر على بعض المشاهد كامثله نبداها من مسار الربوبية حتى مسار الايمان ، حتى يتضح انه بازاء حق معين يوجد فى قباله باطل يدعى الحق .
بشان ربوبية الذات الالهية المقدسة ، رب العالمين ولا رب سواه ، سعى البعض ابتداء لمواجهة فكر الربوبية من الاساس . بيد ان هذا الفريق عندما رأي البشرية تحتاج الى الرب فى نهاية المطاف ، تراهم اذعنوا لهذه الحاجة ، وقالوا بوجود الرب فى العالم ، بيد انهم نفوا الربوبية عن الله ، واثبتوها لانفسهم ( انا ربكم الاعلى ) (۴۶) ، ( ما علمت لكم من اله غيري ) (۴۷) .
لم يدع فرعون هذا المنصب ابتدا ، بل عمد اولا لالغاء فكرة الربوبية ، ولكنه لما لم يجن شيئا ، تراه تحول لهذه الصيغة ، فاذعن اولا بحاجة المجتمع الى الرب ، ثم ادعى انه هو الرب ، وليس من يؤمن به البشر .
نصل بعد الربوبية الى النبوة . عندما بعث الله الانبياء ، فكرت رؤوس الكفر والظلم بمواجهة فكر النبوة والرسالة من الاساس ، ولكن عندما خابت مساعيهم ، رجعوا للقول بان النبوة حق ، وان الله ينصب هداة للبشر ، ولكن غاية ما هناك ان النبي ليس زيد ـ مثلا ـ بل هو عمرو . ولذلك تجد ان عدد مدعى النبوة ( المتنبين ) ليس اقل من عدد الانبياء نفسهم . ففى كل وقت يظهر فيه نبى مبعوث من السماء ، ترى بازائه عددا من ادعياء النبوة .
وعندما قيل لبعض رؤوس الجاهلية : لماذا لم تؤمنوا بنبي الاسلام مع جميع هذه المعاجز ، وآمنتم بمسيلمه الكذاب ؟ قالوا فى الجواب : لان الاخير من قبيلتنا ! وهكذا كان الحال بشان الخلافة والامامة . فقد ذكروا ابتدا ان النبي نفسه لم يعين احدا كولى وقائد ، ولكن لما تبين لهم انه لا يمكن ان يكون النبي قد بين كل شى وترك اهم امور الدين متمثله بالقيادة والخلافة ، تراهم عندئذ قد نقلوا ـ للاخرين ـ فضائل ومناقب كثيره ، وتحدثوا باخبار موضوعة عن خلافة البعض .
بعد الخلافة والامامة يصل التسلسل الى العلماء . لقد دخل الحكام الطغاة فى مواجهة عاتية مع العلماء ، وعندما لمسوا ان المجتمع لا يتخلى عنهم وان العلماء بمنزلة مؤسسة اصيلة وشعبية ، تراهم اصطنعوا واجهة جديدة باسم وعاظ السلاطين وعلماء البلاط ، كى يفتوا بما يرضى رغائبهم .
فى المشهد الخامس نصل الى جماهير الشعب ، لنتامل مسار ( الايمان ) بينهم . لقد بذل المنافقون سعيهم للوهلة الاولى فى مواجهة الايمان ما استطاعوا ذلك ، ولكن بعد ان ايقنوا ان للايمان مريدين فى المجتمع الاسلامي ، تراهم تلبسوه وتظاهروا به ( واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزئون ) (۴۸) .
لكم ان تلاحظوا ان المسار من الروبية حتى الايمان ، ومن الايمان حتى الربوبية ، كان بازائه دائما اتجاه مزور زائف فى قبال الاتجاه الاصيل .
والسؤال : فى الوقت الذي تنتحل فيه المناصب وتتعرض المواقع الحقة للتحريف ، ويتداخل الحق والباطل ، كيف يمكن للامة ان تميز بين الانسان المحق والمبطل ؟ ان رأي الشعب يراد لكى وتختار الحق والصواب . من هنا تنبثق ضرورة الرجوع لاهل الخبرة وتاسيس مجلس الخبراء . ورأي الامة وانتخاب اهل الخبره لا يعنى ( اللارأي بل يرجع الى مسالة التولى) .
لا ان رأي الشعب لا يجتمع مع ولاية الفقيه ، حتى يقال : اذا كانت ولاية الفقيه موجوده فلا وجود لولاية الفقيه ، واذا لم تكن ولاية الفقيه موجوده ، فهي موجودة !
او ان يقال : اذا كان الفقيه وليا فلا حق اذن لرأي الشعب ، واذا لم يكن ثمة حق لرأي الشعب ، فالفقيه ـ اذن ـ ليس وليا .
ان جميع هذه النقوض والاشكالات تنطلق من واقع حصر الولاية فى معناها الوارد بكتاب الحجر .
يثار احيانا السؤال التالي : اذا لم تكن ثمة خصوصية تميز ولي المسلمين عن غيره ، فما معنى ما يختص به النبي وما يختلف به عن الاخرين فى مسالة النكاح ؟
والجواب : ان المبدأ الالهي هو الذي اصدر للنبي مجموعي من الاحكام الخاصه ، من حيث كونه رسولا . وبديهى هذه الاحكام لا تشمل الفقيه ، بل هى عباره عن مجموعه من الاحكام الترخيصية او الالزامية مملاة لمصالح عامة ورفيعة ، كما هو الحال فى صلاة الليل التي تعد مستحبة للاخرين ، فيما هي واجبة على النبي ، او فى كراهة دخول الاخرين الى المساجد والمراكز الاجتماعية والدينية بافواه تفوح برائحة الثوم والبصل ، فى حين تتجاوز المسالة حد الكراهة بالنسبة الى النبي كما يذهب البعض لذلك ، لتصل حد الحكم الالزامي ، اذ لا يحق للنبى دخول المسجد وفمه يفوح برائحة الثوم او البصل .
امثال هذه التضييقات هى مما يختص به النبي ، والرسالة نفسها هى التي حددت هذه الرخص والتضييقات لمصالح رفيعه .
تناقض ولاية الفقيه ورأي الأمة :
يقال ان ولاية الفقيه تتناقض مع الديمقراطية وحاكمية ( سيادة الامة ) الشعب وحريته ولا تتسق مع الانتخابات وتشكيل مجلس الخبراء وامثال ذلك .
ومن هذه الجهة يعد النظام الذي يشيد على اساس ولاية الفقيه باطلا . وعندئذ تصبح آية معاهدة او اتفاقية تعقد معه باطلة شرعا سواء اكانت داخلية او خارجية ، وبالتالى يجوز لطرف العقد ان يستوفى حقوقه كامله متى اراد . ويستدلون لذلك بدليلين ، هما :
اولا : ما دامت الولاية تعنى القيمومة على المحجورين ، فهى اذن تتعارض مع رأي الشعب ، وانتخاب مجلس الخبراء وامثال ذلك فسواء انتخب الشعب الفقيه مباشرة او انتخبه له افراد بعينهم ( مجلس الخبراء ) فمعنى ذلك ان الشعب رشيد عاقل له الحق فى ابدا الرأي ، وبالتالى لا حاجه له الى الولى .
ومن الجهة الثانية ، اذا كان الفقيه وليا للشعب ، فلا رأي للشعب اذن ولا حق له بذلك ، مما يفضى الى التناقض بين صدر المساله وعجزها ، ويشير بالتالى الى ان النظام الذي يشيد على اساس ولاية الفقيه هو نظام متناقض .
ثانيا : فى المعاملات بمعناها الاعم ، يعد أي شرط مباين لمتن العقد ومخالف له ، فاسدا ومفسدا للعقد . ولكي تتضح فحوى الدليل ، نذكر له بعض الامثله .
محتوى العقد على اربعه ضروب ، هى : ملكيه العين ، ملكيه المنفعه ، ملكيه الانتفاع وحق الاستمتاع والافاده .
القسم الاول نظير البيع والشراء والمصالحة التى لها حكم الشرا والبيع . ومحتوى هذا العقد ان للبايع الثمن وللمشترى المثمن .
ومحتوى عقد البيع هى ملكية العين . اما فى الاجارة فمحتوى العقد يتمثل بملكية المنفعة لا العين فاذا ما اجر احدهم ملكا تجاريا او سكنيا فمعنى ذلك ان اصل الملك للمؤجر ، بيد ان المستاجر سيمتلك المنفعه بازاء المال الذي يدفعه للايجار .
يتمثل القسم الثالث بمالكية الانتفاع ، فاذا ما وقع عقد العارين يستعير المستعير وعا من المعير ، ويكون المعير قد اعطى هذا الوعا عاريه للمستعير . ويتم ذلك اما باللفظ اوبالفعل ، بالمعاطاه او باللفظ ، بحيث ينتهى العقد من الوعا ، ولكنه لا يملك المنفعه .
مثال ذلك ما يحصل فى الاوعية التى تكرى ، فالذي يكتري الاوعية من صاحب المحل ، يكون فى الحقيقة قد استاجر الوعاء واكتراه وصار مالكا للمنفعة . اما الذي يستعير وعاء من جاره ، فهو مالك الانتفاع لا مالك المنفعة . وفى العلاقة الزوجية ، يصير الرجل مالكا لحق التمتع والاستمتاع بعقد النكاح ، وبابرامة تحل له المراة وتغد وحريمه .
والسؤال الان : هل الشرط الحرام الذي لا يخالف مقتضى العقد ، مفسد للعقد ام لا ؟ ذهب بعضهم الى ان الشرط الحرام وان كان مخالفا لكتاب الله وفاسدا ، بيد انه لا يفسد العقد .
ولكن لا خلاف لاحد فى ان الشرط المخالف لصريح متن العقد ( لا المخالف لاطلاق العقد او للازمه العقد ) هو فاسد ومفسد للعقد ايضا ، كان يشترط الشخص فى عقد البيع والشراء ـ مثلا ـ ان يبيع احدهم بيتا للاخر بشرط ان لا يصير المشترى مالكا للبيت ، او بشرط ان لا يصير البائع مالكا للثمن .
مثل هذا الشرط الذي يختلف مع مقتضى العقد فاسد ومفسد للعقد ايضا . او ان يؤجر احدهم محلا تجاريا او سكنيا بشرط او لا يملك المستاجر منفعه تلك الوحدة السكنية او التجارية ، وان لا يملك المؤجر ثمن الاجار .
ومن امثلته ان يعطى احدهم وعاء عارية بشرط ان لا يكون للمستعير حق الانتفاع ، او يصار عقد النكاح بصيغه تتضمن شرطا لا تحل معه الرجل .
امثال هذه الشروط مخالفه لمقتضى العقد وهى فاسده ومفسده له .
يذهب هذا الصنف من المعترضين الى ان ولاية الفقيه هى شى من هذا القبيل بمعنى : ان افراد الأمة يتعهدون للفقيه الجامع للشرائط من خلال الاستفتاء ويبرمون معه عقدا من خلال التصويب على ان يكونوا بلا رأي ، ويمضون معه عقدا على الا يتدخلوا بأي عقد ، لان معنى الولاية هى ان تكون جميع الصلاحيات بيد الولى ، ويكون الشعب مولى عليه ، محجورا لا حق له فى الكلام ولا رأي له فى الامور .
ولما كانت هذه الاستفتاءات وصيغ التصويب مخالفة لمحتوى العقد والالتزام المتقابل ، فهى فاسدة ، وستكون مفسدة ـ للعقد ـ بالضرورة .
وهكذا تنتهى قناعة هؤلاء الى ان الاستفتاات وصيغ التصويب التى تمت حتى الان فاسدة ومفسدة ، وبالتالي فان الحكومة الناشئة عنها باطلة ، وتبطل ـ بالتبع لذلك ـ كل عقود البيع والشراء والتبادل التجاري الداخلي والخارجي .
الجواب صحيح ان العقد المخالف لمقتضى العقد فاسد ومفسد ، ولكى ينبغي رعاية النقطتين التاليتين :
اولا : ان الولاية بمعنى الادارة التدبير ـ ومنها الوالي ـ هى امر متميز عن ولاية كتاب الحجر . واذا ما تحدث الانسان عن قضايا الحكومة الاسلامية ، والسياسة الاسلامية وولاية الفقيه فيتعين عليه ان يصرف النظر تماما عن الولاية على الصبيان والاموات وامثال ذلك ، ويفكر ب ( انما وليكم الله ) فقط .
ان أي خطاب يتضمن ( انما وليكم الله ) فهو للانبياء بالاصالة ، وبعدهم للامام المعصوم ، وبعد ذلك وبالعرض لنائبهم الخاص مثل مسلم بن عقيل ، ومالك الاشتر ، ثم يثبت من بعدهم لذوى النصب العام من امثال الامام الخمينى قدس سره .
ثانيا : قبل المعارضون والمؤيدون لولاية الفقيه ، صيغتين من ولاية الفقيه الجامع للشرائط هما :
الاولى : عندما تقبل الامة مرجعيه احد مراجع التقليد ، فهل تقبله على انه وكيل تنتخبه ام على اساس انه ولى فى الفتوى ؟
فى الحقيقة ان الدين هو الذي نصب الفقيه الجامع للشرائط فى هذا الموقع ، بصرف النظر عن رجوع الامة اليه او عدم رجوعها ، بيد ان لاكتساب المنصب لصفته العملية الفعلية صلة بقبول الامة .
فقد يكون هناك فقيه جامع للشرائط يجوز تقليده ، ولكنه لم يطرح نفسه او ان الامة لم تكتشفه لأي سبب من الاسباب ، وعندئذ لا تكتسب مرجعيته صفة الفعل وتصير عملية . وفى المقابل تقبل الامة فقيه يتحلى بالشروط العلمية ذاتها .
والسؤال : هل الشخص الثاني الذي رضيته الامة مرجعا هو وكيل لها او انه منصوب من قبل الله فى هذا الموقع ، وغاية ما هناك ان الامة لمست فيه هذه الاهلية ورجعت اليه ؟
انه ليس وكيلا للامة بأي شكل من الاشكال ، لانه ليس للوكيل أي موقع قبل ان تنشى الامة معه عقد الوكالة .
ان ثبوت الوكالة مشروط بانشاء التوكيل من قبل الموكلين . ولكن ثبوت المرجعية ليس كذلك ، بحيث يمنح المقلدون المرجعية للمرجع .
الثانية : النموذج الاخر لولاية الفقيه الجامع للشرائط التى يقر بها المعارضون المؤيدون لولاية الفقيه ، تعود الى قضاء الجامع للشرائط فى عصر الغيبة فالجميع يذعن بان لمثل هذا الفقيه حق القضا شرعا .
والسؤال : هل الفقيه الجامع للشرائط هو وكيل الامة فى موقع القضاء الذي يتحلى به ، ام ان الدين الاسلامي هو الذي نصبه لهذا الموقع ؟ فهو قاض ولم تهبه الامة أي منصب بهذا الشان .
واذا ما رجعت اليه الامة وقبل ، فسيصير قضاؤه ناجزا فعليا .
هذان مثالان ليسا من سنخ الوكالة ، بل هما طرف من الولاية . أي ان الفقيه الجامع للشرائط الذي يكون مرجعا للتقليد ، هو ولى الفتوى لا وكيل الامة فى الافتاء ، تجب طاعته على من يقلده . وكذلك الحال فى القضاء فالفقيه المستوفى للشرائط قاض لكن مع فرق ، ان للاول الاخبار مثل الفقيه الذي يلي الافتاء ، وللثانى الانشاء مثل الفقيه الجامع للشرائط الذي يجلس على كرسي القضاء للحكم .
فالامة اذن ترجع للمناصب التى منحها الدين للفقهاء المستوفين للشرائط ، بحيث يتعين الفقيه من خلال هذا الرجوع وتقبله الامة .
واذا ما حاز الفقيه المستوفى للشروط على شهرة عالمية نظير ما حصل مع الشيخ الانصاري قدس سره فلا حاجة عندئذ للسؤال عن البينة والشاهدين ، بل للمقلد ان يرجع اليه مباشرة . اما اذا تساوى عدد من الفقها فى العداله ، او كان احدهم اعلم من الاخرين ولكنه غير مشهور ، فللامة ان ترجع الى اهل الخبرة تسالهم عن الاعلم ، او عن المتساوين فى العداله .
يتضح مما مر ان الانسان عندما يعود الى العالم فى مثل هذه الموارد ، فهو فى الحقيقه قد قبل مرجعيته ، لا انه منحه المرجعية ، وان الفقيه المستوفى للشروط صار وكيل الامة فى الافتاء او القضاء .
ان اقبال الامة هذا هو تعبير عن قبول الولاية ولا يعد ضربا من الوكالة . على سبيل المثال اذا قبلت الامة مرجعية احدهم بشرط ان تلتزم الصمت ازاء فتاواه الفقهية ، فقل يعد هذا الشرط مخالفا لمقتضى هذا العقد ؟ واذا ما قبل بعضهم قضاء احد الفقهاء المستوفين للشروط ، وذكروا فى ضمن قبولهم :
اننا نعتمد على قضائك بشرط ان نلتزم الصمت فى قبال الاحكام التى تصدر عنك ، فهل يعد هذا الشرط معارضا لمقتضى مثل هذا العقد ؟ واذا ما اختارت الامة عددا بوصفهم من اهل الخبرة ، لكى يعينوا ؟ لهم مرجع التقليد اللائق ، فهل يتعارض هذا الانتخاب مع قبول المرجعية والاذعان لفتواها ، بحيث يصير معارضا لفحوى الالتزام ؟
يتضح اذن ان المعارضين يقبلون بضربين من ولاية الفقيه الجامع للشرائط ، بيد انهم يثيرون الشبهة على نموذجها الثالث المتمثل بولاية المجتمع وتدبير امره وتولى امور السياسة ، ويرون ان هذا الضرب من اعطاء الرأي للفقيه هو بمعنى اللا رأي ، وان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد .
ونحن نقول : لوصار الفقيه الجامع للشرائط وليا للمجتمع وقبل الشعب الرشيد العاقل ولايته ، وقال ان الامر فى ( انما وليكم الله ) هو للامام المعصوم بالاصالة ، وبعده للنائب الخاص ، ومع عدم وجود النائب الخاص ، تصل النوبة الى الولى العام ، ثم قبل الشعب ولاية هذا الفقيه على اساس العمل بكتاب الله وسنة رسوله ، فهل معنى ذلك ان آية معامله ينجزها الفقيه الولى تعد فضولية ؟ وتكون جميع عقوده وما يبرمه باطلا ؟
الحقيقة ان الشعب قبل الدين وآمن به ، وهو لا رأي له ازاء الدين الذي آمن به ، ولانه رشيد وعاقل ، فلا يصدر برأي ازاء كلام الله ولا يجتهد فى قبال النص .
واذا ما قبل الانسان الدين فمعناه انه قبل الحق . فعند ما شخص الانسان ان الدين حق ، فآمن به وقبله ، فمعنى ذلك ان فتاوى هذا الدين حق ، وهو أي لا يقف بمواجهه الحق ، وانا لا اجتهد بازاء النص .
ترى هل ان المؤمنين الذين قبلوا ولاية الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) فى واقعة يوم الغدير وآمنوا بها ، فعلوا ذلك على ان يكون الامام وكيلا لهم انتخبوه ، ام انهم ارتضوه وليا ؟
لقد بلغ ( سبحانه ) نبيه ، بالقول ( بلغ ما انزل اليك من ربك ) (۴۹) ، فما كان منه صلى الله عليه وآله الا ان بلغ البيان الالهى ، عندما قال ( من كنت مولاه فهذا على مولاه ) وعندئذ قبل الناس ولاية الامام ، وبايعوه ، وهم يقولون ( بخ بخ لك يا امير المؤمنين ) .
والسؤال : هل ان الامة عدت الامام امير المؤمنين فى هذه الواقعة وكيلا لها ، بحيث لا يملك الامام ( عليه السلام ) من دون رأي الامة هذا أي منصب وموقع ، ام انها قبلته وارتضت به وليا ؟
اذا كان علي بن ابى طالب وكيلا للامة ، فلا حق له ما لم تمنحه الامة رآيها وتبرم ـ العقد معه ـ . ولكن ما دام قد نصب من قبل الله ، فهو يحظى بحق التدبير والادارة ، وقد شخصت الامة ان ذلك حق فارتضت به وقبلته .
وبذلك فان أي عقد يبرمه الوالى المسلم ـ او يبرم من قبله ـ انما يكون على اساس طيب خاطر الشعب . لان الشعب شخص مشروعية هذا المبداء وصوت له ايجابا ، وصار الشخص العارف بالمبدا المعتقد به ، والمنفذ له ، مسؤولا عن العمل . وفى الحقيقة يكون الشعب ـ فى اطار هذه الممارسة ـ قد قبل مسؤولية الوالى لا انه منحه الوكالة . ومثل هذا الشرط لا يتعارض ابدا مع مقتضى العقد .
ويتضح مما مر ما يلي :
اولا : ان الوكالة تفترق عن الولاية .
ثانيا : ان للولاية اقساما .
ثالثا : ان الولاية التى تعرض بشان قضية الحكومة ، هى ليست من سنخ ولاية كتاب الحجر ، بل هى من سنخ ولاية ( انما وليكم الله ) .
رابعا : ولكن غاية ما هناك ان واحدة بالاصالة ، والاخرى بالنيابة . فاذا ما قيل ان الفقيه الجامع للشرائط هو وكيل الامام ، فهذا كلام صحيح ، واذا ما قيل انه وكيل ونائب او منصوب من قبل الامام المهدي ولى العصر ، فهذا صحيح ايضا . ولكن ليس من الصواب ان يقال انه وكيل للامة او منصوب من قبلها . والفرق بين هذه النقاط الاربع ، ان الامام المعصوم والامام المهدي ولى العصر ـ ارواحنا فداه ـ بمقدوره ان يفعل شيئين ،
الاول : ان يعطى الوكالة ، اذ يقول لاحدهم انت وكيلي فى انجاز هذا العمل ، وبذلك يصير هذا الانسان وكيل الامام ونائبه . وهذا امر صحيح .
والثانى : بمقدور الامام المعصوم ( عليه السلام ) ان يجعل الولاية لانسان ما ، كان تكون هناك اموال موقوفة بدون متول ، كان يكون المتولى عليها قد توفى اوغير ذلك ، فعندئذ يجعل الامام المعصوم متوليا على رقبات الوقف ، وهذا الجعل جعل ولاية بالنسبة اليه .
لو اعطى مرجع التقليد الوكالة لبعده ، فان وكالة هؤلاء تبطل بوفاته ، لان وكالة الوكيل تنتفى بموت الموكل . اما لو نصب المرجع احدهم كمتولى للوقف ، فان المنصوب يبقى على ولايته حتى مع ولاه المرجع .
والخلاصة ان جعل الوكالة هو غير جعل الولاية . هذان عملان يمكن ان يقوم بهما الامام المعصوم ، اذ يمكن ان ينصب له وكيلا ، كما بمقدوره ايضا ان يجعل الولاية لاحدهم من طرفه .
ولكن ليس للامة أي شى من هذين العملين حيال المسائل الدينيه . فليس للامة ان تصبر مرجع التقليد وكيلها ، كما ليس لها ان تجعل له الولاية .
فالامة لا تجعل للفقيه الجامع للشرائط وكالة فى القضاء ، بحيث يكون وكيلا عن الامة حتى يصير قاضيا ، كما انها لا تجعل الولاية فى القضاء للفقيه الجامع للشرائط حتى يكون متوليا للقضاء ، له ولاية على القضاء من قبل الامة .
وانما الذي وهب الفقهاء الجامعين للشروط هذه السمات والمواقع هو الدين ، قبل الناس ذلك ام لم يقبلوه . فللفقيه هذا الحق ثبوتا . غاية ما هناك ان الامة الرشيده المؤمنة تتعرف على الاشخاص الذين فى هذه المواقع ، ثم تقبل الجامع للشرائط ، تماما كما هو الحال فى المرجعية ، اذ هناك قبول لا توكيل ، وكذلك حال الفقيه الذي يكون واليا على الامة ، اذ هناك القبول وليس التوكيل .
تقبل الامة احيانا الولى النائب الخاص ، كما قبلت فئة ولاية مسلم بن عقيل ومالك الاشتر ، وقد تقبل ولاية النائب العام . وبهذا يتضح ان ولاية الفقيه ليست شرطا فاسدا ومفسدا ، وان العقود والمعاهدات الداخلية والخارجية للنظام الاسلامى فضولية .
ما ننتهى اليه ان الولاية فى القرآن والاحاديث تاتى تارة بمعنى التصدى لامور الاموات او من هم فى عدادهم ، وتاره اخرى تاتى بمعنى التصدى لامور المجتمع الاسلامي .
نذكر كامثله بعض آيات القرآن الكريم التى تشير الى المعنيين المتفاوتين . بشان الايات التى تتحدث عن المعنى الاول نقرا قوله تعالى ( من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف فى القتل) (۵۰) ، ( لنبيتنه واهل ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك اهله ) (۵۱) .
فالولاية فى هاتين الايتين هى بمعنى التصدى لامور الموتى . اما الولاية بمعنى التصدى لامور المحجورين الذين هم فى عداد الموتى ، فيشير اليها قوله تعالى( فان كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يملل هو فليملل وليه بالعدل ) (۵۲) .
اما الولاية بالمعنى الثانى الذي تنطوي على تولي المجتمع الانساني ، فمن آياتها ( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) (۵۳) و ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم ) (۵۴) .
ان لكل ضرب من الولايتين الانفتين ، احكاما ذكرت اجمالا . وولاية الفقيه هى من القسم الثانى .
وبذلك ليس هناك أي كلام ابدا عن محجورية المجتمع الاسلامي ، كما لا تجري عليها أي من احكام الولاية على المحجورين التى تطرح فى الفقه ، سواء فى باب تجهيز الاموات ، او القصاص ، او التخفيف ، او العفو ، او الديي ، او ولى دم المقتول ، او احكام باب الحجر .
ــــــــــــــــــ
۱ ـ الكهف :۱٫
۲ ـ الاسراء:۱٫
۳ ـ النجم:۱۰٫
۴ ـ الكهف :۱٫
۵ ـ الكف :۶۵٫
۶ ـ الانعام :۱۲۴٫
۷ ـ الاعراف :۱۷۵٫
۸ ـ الاسراء:۲۳٫
۹ ـ الانعام :۱۶۲٫
۱۰ ـ المنافقون :۸٫
۱۱ ـ فاطر :۱۰٫
۱۲ ـ مريم:۱۲٫
۱۳ ـ البقرة:۶۳٫
۱۴ ـ الانفال:۶۰٫
۱۵ ـ البقره:۱۶۵٫
۱۶ ـ الذاريات :۵۸٫
۱۷ ـ المدثر:۴۸٫
۱۸ ـ المائده:۵۵٫
۱۹ ـ الاحزاب :۶٫
۲۰ ـ الاحزاب :۳۶٫
۲۱ ـ الفتح :۱۰٫
۲۲ ـ الفتح:۱۰٫
۲۳ ـ الزخرف:۵۵٫
۲۴ ـ النسا :۱۷۶٫
۲۵ ـ الشورى:۹٫
۲۶ ـ الاسراء:۲۳٫
۲۷ ـ هود:۸۸٫
۲۸ ـ يس:۸۲٫
۲۹ ـ الاحزاب :۶٫
۳۰ ـ المائده:۵۵٫
۳۱ ـ النساء :۵۹٫
۳۲ ـ نهج البلاغه، الخطبه رقم (۳) .
۳۳ ـ يونس:۶۱٫
۳۴ ـ نهج البلاغه، الخطبه رقم (۱۸۹) .
۳۵ ـ وسائل الشيعه، ج۱٫
۳۶ ـ المائده:۶۷٫
۳۷ ـ البقره:۵۸٫
۳۸ ـ وسائل الشيعه، ج۱، ص۴۰، اصول الكافى، ج۱، باب مولد الحسن بن على، الحديث(۴)،ص۴۶۲
۳۹ ـ جواهر الكلام، ج۲۱، ص۳۹۷٫
۴۰ ـ المائده :۵۵٫
۴۱ ـ الرعد :۱۱٫
۴۲ ـ الشورى:۹٫
۴۳ ـ يوسف:۴۰٫
۴۴ ـ اصول الكافى، كتاب الحجه.
۴۵ ـ يونس:۱۶٫
۴۶ ـ النازعات :۲۴٫
۴۷ ـ القصص :۳۸٫
۴۸ ـ البقره:۱۴٫
۴۹ ـ المائده :۶۷٫
۵۰ ـ الاسراء :۳۳٫
۵۱ ـ النمل :۴۹٫
۵۲ ـ البقره: ۲۸۲٫
۵۳ ـ المائده :۵۵٫
۵۴ ـ الاحزاب:۶٫
الكاتب: الشيخ عبد الله الجوادي الآملي